مدن في الذاكرة
قبل أكثر من عشرين عاماً كنت عائداً من المملكة المغربية إلى السودان براً، وقبل مغيب شمس ذلك اليوم، توقفت بنا الحافلة في وهران حاضرة الغرب الجزائري، بعد رحلة استمرت أربع ساعات من مدينة وجدة المغربية.. وهران هذه، أو كما يسميها بعضهم «باريس الثانية»، مدينة جميلة من أميز المدن العربية، تصدح بموسيقا الراي، وتتزين بفنون العمارة الإسبانية والفرنسية. تجوَّلتُ في شوارعها وأزقتها التي تفوح منها رائحة أشجار المندرين، فتنتعش بعبق المكان ويأسرك الزمان حيث ليالي الصيف.. ذهبت إلى الفندق، لكنني اضطررت إلى مغادرته في منتصف الليل لألحق بالقطار الذي يتجه شرقاً إلى العاصمة.
مع شروق الشمس كنت على موعد مع حسناء على شاطئ المتوسط، حيث الجزائر بمبانيها الشامخة البيضاء، ومآذنها التي تعانق السماء. وضعتُ حقيبتي في مكتب الأمانات بالمحطة، ثم توجَّهتُ إلى أقرب شارع وأخذت مكاني في أحد المقاهي المنتشرة هناك، التي تذكرك بمقاهي كازا بلانكا المغربية على ساحل الأطلسي. لم يكن هناك أحد غيري في المقهى، فالوقت لا يزال باكراً، تناولت كوباً من الحليب مع قطعة حلوى، ثم بدأ الزبائن يتوافدون، وكلما عبرتْ نسمة من نسمات الصباح الباردة انتشرت رائحة الزيتون والنعناع والخبز البلدي. أدار صاحب المقهى موجات الراديو، فشاركته الاستماع إلى نشرة الأخبار، وحمدت الله لم أسمع شيئاً عن عالمنا العربي يكدر الخاطر في ذلك الصباح. انتهت نشرة الأخبار وبدأت ميادة الحناوي تشدو من عذب الكلام..
عدتُ إلى محطة القطار لمعرفة موعد الرحلات التي تغادر إلى تونس، فوجَّهني أحد الموظفين إلى صالة بها موظف لم يكن أمامه أحد، لكنه كان مشغولاً بقهوة الصباح وبترتيب بعض الأوراق، فلم أشأ أن أكون ضيفاً ثقيلاً عليه مع بداية يومه، فانشغلت بجدول مواعيد رحلات القطارات القادمة إلى العاصمة والمغادرة إلى بعض المدن الأخرى. وحين تأكد لي أن الرجل لملم أوراقه و«عَدَلَ» مزاجه بالقهوة، تقدمت نحوه مبتسماً، فتبادلنا التحايا ثم وضعت أمامه جواز سفري، وقلت له أريد تذكرة إلى تونس في أقرب رحلة. استلم الموظف الجواز وقلَّب صفحاته، وربما كان يختلس النظرات أحياناً ليتبيَّن ملامحي.. وضع الجواز جانباً ثم قال لي: أنت من السودان الشقيق؟ قلت له: نعم، قال: طبعاً جئت لتشجع فريق الموردة الذي لم يستطع أمس أن يصمد أمام مولودية وهران، فتلقى هزيمة قاسية، ولولا أنه حلَّ ضيفاً علينا لمزقنا شباكه ولشهدت المباراة مهرجاناً من الأهداف!! شعرت بالضيق، ولم أرد على تعليقه.. فاغتاظ مني وأحسَّ بتجاهلي له، لكنه كان صاحب خلق كريم، فأدرك أنه لم يكن لطيفاً مع ضيفه، فبادر معتذراً معبِّراً عن شديد أسفه، فأخذ الجواز مرة أخرى وسألني: هل معك السند المالي؟ «يقصد ورقة الحوالة المالية التي تفيد بأني تحصلت على العملة الجزائرية بطريقة رسمية»، فأجبته بالنفي، فتحدث معي طويلاً شارحاً أهمية هذا السند، وأنه لا يستطيع إصدار تذكرة إلا بعد أن يطلع على هذا السند، لكنه نصحني بأن أراجع سفارة بلدي لتساعدني على تجاوز هذه العقبة، ولذلك تردَّدتُ على سفارتنا أملاً في أن أجد ما يذهب همي!
كانت الجزائر تعيش في عهد الشاذلي بن جديد، في ذلك العام لم يكن يمضي على تأسيس اتحاد المغرب العربي سوى أشهر قليلة، كان الناس في شمال أفريقيا يتنقلون بين دولهم بكل سهولة ودون عوائق، بفضل هذه المنظومة المغاربية الرائعة، قبل أن تعصف بها الخلافات السياسية فيما بعد..
فشلت محاولاتي العديدة مع السفارة، وأصبحت تونس عصية، وهي محطتي الثانية في طريقي إلى الخرطوم، وأخيراً قررت أن أبقى في محطة القطار عسى الله أن يأتي بالفرج. وعلى الرغم من شدة الزحام، وحركة المسافرين، إلا أنني انزويت في مكان قصي وتوسَّدتُ شنطتي ونمت نوماً عميقاً.. صحوت مفزوعاً بعد أن امتدت يد أحد المسافرين تربت على كتفي، ظن أنني من المغادرين في الرحلة التي أُعلن عن قيامها قبل قليل.. نظرتُ إليه فوجدته شاباً أبنوسياً، حسبته من جنوبنا الحبيب، فطار قلبي فرحاً، نهضتُ لمصافحته فبادرني بالإنجليزية مُرحِّباً، تجاذبنا أطراف الحديث، فعرفتُ أنه من غرب أفريقيا، من غانا، اسمه إبراهيم، لقيته شخصاً طيباً ودوداً مولعاً بكرة القدم.
أطلعتُ الشاب الغاني على الصعوبات التي واجهتني، فقدَّم لي اقتراحاً بأن أسافر معه إلى عنابة، حيث يعمل هناك مدرساً للغة الإنجليزية في إحدى المدارس الثانوية، وهي مدينة قريبة من الحدود التونسية، على أمل أن تكون إجراءات السفر هناك أكثر مرونة، فاستحسنت الفكرة وانشرحت لها نفسي.. تناولنا الغداء معاً، وما فتئ إبراهيم يحدثني عن كرة القدم الأفريقية وعن أفذاذ الكرة المغاربية، فحدثني عن مادجير وعن هدفه الشهير في مرمى ألمانيا في المونديال، وكيف أنه معجب بالزاكي والتيمومي وطارق دياب، وواصل حديثه عن الاحتراف في الأندية الأوروبية.. غير أن تعليقات موظف التذاكر على فريق الموردة ما زالت عالقة في ذهني، ولذلك لم أحتمل حديث صاحبي المتواصل في كرة القدم خوفاً من أن يذكِّرني هو الآخر بهزيمة الموردة، فقاطعته قائلاً: لماذا لا نتحدث في السياسة قليلاً؟
أحسَّ إبراهيم بأني قد مللتُ حديثه في كرة القدم، وسرعان ما أدركت أني قد سبَّبت له حرجاً، فكان يجب عليَّ أن أتحلى باللياقة، وأن يتسع صدري له، خصوصاً وهو صاحب فضل عليَّ، إذاً لا بد أن أعتذر إليه.. في هذه اللحظة سمعنا نداءً بقرب موعد قطارنا الذي سيغادر إلى عنابة، فأسرعنا إلى القطار، ووضعنا حقائبنا، وجلس كل منا في مقعده. ما زلت أفكر في الاعتذار إلى إبراهيم، فقلت له: معذرة يا عزيزي، لم أكن محقاً، آمل أن تكمل حديثك السابق!! قال لي: لا، لا، لقد تسبَّبتُ في إزعاجك، أعذرني، لم أكن أعلم أن الحديث في كرة القدم يضايقك، لأنه، حسب علمي، هناك أندية كثيرة في الخرطوم من بينها ناديان مشهوران لهما ملايين المشجعين، فحسبتك واحداً من هذه الملايين، وأمس تلقى نادي الموردة السوداني هزيمة ثقيلة من مولودية وهران، وكنتُ أظنك من مشجعيه وجئت لمؤازرته، خصوصاً عندما علمتُ أنك قادم من وهران.. قلت في نفسي: «هذا الذي كنت أخشاه»!! ذهلتُ من معلوماته، وهممت بمقاطعته مرة أخرى، لولا أنه انشغل بالحديث مع شخص آخر، استأذنه ليفسح له المجال ليضع حقيبته.
من نافذة القطار لمحتُ الشمس في لحظة غروبها وهي تتدلى من الأفق كقلادة في عنق حسناء.. مشهد ساحر، لكنه أثار في نفسي بعض الشجون، ولا أدري لماذا خطر ببالي هذا البيت لخليل مطران:
ولقد ذكرتك والنهار مودِّع **** والقلب بين مهابة ورجاء
كان مدرس الأدب في المرحلة الثانوية كثيراً ما يسألنا عن وجه الشبه بين بيت مطران السابق وبيت عنترة بن شداد الذي يقول فيه:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني **** وبيض الهند تقطر من دمي
فكنت من ضمن المعجبين ببيت عنترة العبسي، لكنه إن أعاد السؤال في هذا المساء لكانت حقاً إجابتي مختلفة!!
انطلق بنا القطار يطوي الأرض طياً.. فانتظم الناس في أماكنهم، وهدأت الحركة، وأرخى الليل سدوله على السهول والجبال! شرد ذهني يسترجع تفاصيل هذا اليوم الحافل بالأحداث، لكن لم يمض وقت طويل حتى دهمني النعاس واستسلمتُ لسلطان النوم. كان صديقي إبراهيم أحياناً يفسد عليَّ متعة النوم بارتفاع شخيره، وحين يحبس أنفاسه للحظات ويتوقف شخيره، تأتي من بعيد أصوات الباعة، أصحاب الشاي والقهوة والسجائر، فتعم الفوضى المكان!! وظللت على هذه الحالة في ليل طالت ساعاته بين شخير إبراهيم وأصوات الباعة، حتى بدأ القطار يهدئ من سرعته، وانشغل الناس بتفقد أمتعتهم استعداداً للنزول في مدينة عنابة.
توقف القطار، نزلتُ حاملاً شنطتي.. وتقدمتُ خطوات بعيداً عن الرصيف أنتظر صاحبي لأودعه، لأني أعلم أنه وصل محطته الأخيرة، وحتماً سنفترق هنا في هذه المدينة!
رأيته يتحدث إلى شاب جزائري أنيق، من مظهره وربطة عنقه تعرف أنه موظف له مكانته.. طال انتظاري وبدا لي أن الأمر ليس سلاماً عابراً، ربما يكون صديقي قد أفحم الشاب بثقافته الواسعة في كرة القدم، فهي شغله الشاغل. تحرَّك إبراهيم ومعه الشاب مسرعين تجاهي، وكأنَّ إبراهيم يريد أن يقول لي شيئاً مهماً قبل أن يصلني، وقف أمامي الشاب الجزائري يفيض حيويةً مُرحِّباً، ثم قال لي: لقد حدثني صديقك عن الصعوبات التي واجهتك في الجزائر وتسببت في تأخير سفرك إلى تونس، عموماً لا تقلق يا أخي، كن مطمئناً، لن أدخر جهداً في سبيل تحقيق رغبتك.. ثم أكمل الحديث إبراهيم قائلاً: يا عزيزي، الأستاذ أحمد من أعز أصدقائي في هذه المدينة، وهو يعمل مديراً للعلاقات العامة في إحدى الشركات الكبيرة، بعلاقاته سيحجز لك في إحدى الرحلات التي ستغادر إلى تونس اليوم، ما عليك إلا أن تعطيه الجواز وقيمة التذكرة.. وصلنا إلى صالة كبيرة مزدحمة بالناس، استأذن أحمد وتركني مع صويحبي تغمرني الفرحة، وما هي إلا لحظات حتى رأيته خارجاً من أحد المكاتب يحمل التذكرة والجواز.. شكرته، وما زلت أكرر له عبارات الشكر، حتى اختفى عن ناظري.. ظل إبراهيم واقفاً يتابعني بنظراته، فهو شاب مشحون بالعواطف، سريع التأثر، يخاف لحظات الوداع هذه، فقلت له: حقاً أنا عاجز عن شكرك، سأفتقدك يا صديقي، ففاضت عيناه واحتضنته بحرارة، ثم أسرعتُ نحو القطار..
غادر القطار عنابة، آخر مدينة حدودية في بلد المليون شهيد، لم تساعدني الظروف على معرفة هذه المدينة التي تبدو وديعة وهادئة، ولم أحمل معي من ذكريات عنها إلا دموع إبراهيم!
كانت تجلس بجواري سيدة ترتدي ملابس أنيقة ومحتشمة، تظهر عليها الراحة والدعة، تبدو في الأربعينات من عمرها.. استأذنتني بلطف لتجلس في مكاني قرب النافذة، فقلت لها كما تحبين سيدتي، فشكرتني ثم تناولتْ من حقيبة صغيرة، بالقرب منها، كتاباً متوسط الحجم، بدأت تقلِّب صفحاته على مهل، تبحث عن صفحة بعينها، كأنها تريد أن تواصل قراءة سابقة. كان الفضول يدفعني دفعاً لمعرفة اسم هذا الكتاب الذي اختارت له الجلوس قرب النافذة وبدأت تقرأ سطوره بشغف.. تمعَّنتُ غلاف الكتاب، فإذا به الرواية الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، وقبل أن يذهب تفكيري بعيداً، فوجئتُ بها تسألني: من أي البلاد أنت؟ قلت لها: من بلد الطيب صالح، لم تستطع أن تخفي استغرابها ودهشتها من إجابتي، فقالت: في الحقيقة أنا من تونس، كنت في المغرب برفقة زوجي لحضور مهرجان أصيلة الثقافي، حيث نحرص كل عام على حضور هذا الموسم في تلك الضاحية المغربية الجميلة، فتخلَّف عني زوجي في مدينة عنابة لإنجاز بعض الأمور الخاصة، وفي اليوم الختامي للمهرجان وزَّعت لنا اللجنة المنظمة بعض كتب الأدب والروايات، فكانت رواية الطيب صالح، لحسن حظي، من نصيبي، وليس هذا فحسب، بل انظر إلى هذه الصفحة، فهي تحمل توقيع كاتب الرواية!!
كانت تونس حافلة بالأحداث في تلك الفترة، أبرزها اغتيال الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية «أبو جهاد» في أبريل عام 1988، عقب انتقال المنظمة إلى تونس بعد أحداث لبنان عام 1982. كان أبو جهاد يشكل قلقاً للقادة الإسرائيليين، فهو العقل المدبر لعدد من العمليات الفدائية داخل إسرائيل، من أشهرها عملية «دلال المغربي»، الفتاة الفلسطينية التي لم يتجاوز عمرها العشرين ربيعاً، استشهدت دلال في هذه العملية مع أحد عشر فدائياً، بعد أن قتلت أكثر من ثلاثين إسرائيلياً وخلَّفت وراءها عشرات الجرحى..
تسللت مجموعة من الموساد الإسرائيلي إلى منزل أبي جهاد في تونس، بعد أن تخلصوا من حرسه، سمع الرجل حركة مريبة في فناء منزله، فدخل غرفة نومه ليأخذ مسدسه، فجاء أحدهم وأطلق عليه عدة أعيرة نارية أمام مرأى من زوجته وابنه الصغير، ثم جاء الثاني وأمطره بوابل من الرصاص، ثم الثالث، حتى قالت لهم زوجته: «كفى» !!
اقترب القطار من محطته الأخيرة، وما زالت «الست» ممسكة بالرواية طيلة هذه الساعات، عاكفة على قراءتها، حريصة كل الحرص على أن تستمتع بتفاصيلها المثيرة وتنهي فصولها فيما تبقى من سويعات الأصيل، قبل أن تصل إلى تونس وتشغلها الحياة.. هكذا كان يقول لسان حالها، وفعلاً كان لها ما أرادت، فحين توقف القطار، رأيتها وهي تطوي آخر صفحة من الرواية، التي حتماً ستظل محفورة في ذاكرتها إلى الأبد، وقد كتبتْ عليها بقلم الرصاص: «أتممتُ قراءتها يوم الأحد الثاني من تشرين الأول عام 1989 وأنا على مشارف تونس الحبيبة، حيث كنتُ عائدة بالقطار من عنابة الجزائرية».. نظرتُ إليها وهي تعيد الرواية بكل هدوء إلى مكانها في الحقيبة، وقلت في نفسي: يا للعجب، فقد شغل الطيب صالح الناس في حلهم وترحالهم!!
ازدحمت الممرات بالناس، انتصبت السيدة قائمة بكل خفة وهي تمرِّر يديها على ثنيات وكسرات على أطراف فستانها، تناولتْ حقيبتها ثم نظرت إلى ساعتها وقالت لي: لقد تأخر القطار عن موعد وصوله عشرين دقيقة، سيكون شقيقي في انتظاري خارج المحطة، أشكرك مرة أخرى، فقد منحتني فرصة لأجلس قرب النافذة، أرجو أن تنال تونس إعجابك وتقضي أوقاتاً ماتعة فيها..
محمد التجاني رملي، أكتوبر 2010
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة