بسم الله الرحمن الرحيم
صاحبة الجلالة في قيودٍ من حرير.
خليفة السمري – المحامي.
ورد في صحيفة الصحافة، في عددها الصادر في 28 ديسمبر 2010م ((أن وزيرة الدولة للإعلام، أعلنت أن الحكومة أقرت في اجتماع ضم مسؤولين وخبراء وأساتذة إعلام، سياسةً جديدةً تجاه الصحافة في البلاد،تشمل محفزاتٍ لدمج الصحف في مؤسسات كبيرة،ودعم صناعتها،وقالت الصحيفة أيضاً أن الوزيرة صرحت في برنامج (حتى تكتمل الصورة) الذي تبثه قناة النيل الأرزق، بأن السياسة الجديدة ستعالج مشاكل صناعة الصحافة والطباعة والتوزيع والإعلان والضرائب والرسم ،وتشمل برنامجاً متدرجاً يستمر عامين عبر مصفوفةٍ من المجتمع الدولي (ناشرين وصحفيين) ،موضحةً أن مشاكل الصحافة تتطلب تدخلاً عاجلاً من الدولة)) انتهى ، والرأي عندي أن الحكومة بدعوتها إلى دمج الصحف في مؤسسات كبيرة على النحو الوارد في هذا الخبر ،ستفرغ الصحافة من أهدافها وغاياتها، في نقد العمل العام، وتوجيهه بالنقد البَنَّاء إلى ما فيه الخير والرشاد ، وبمثل هذه الهيكلة المقترحة فإن دور الصحافة لا محالة سيكون معطوباً،خاصةً إذا ما كان تعيين مجالس إدارات المؤسسات المقترحة يتم بمعرفة الحكومة، فالصحافة ما وجدت إلا لمراقبة الحكومة ولفت نظرها إلى أخطائها والتقريب بين نبض الشارع وبين سياساتها، فإن حيل بينها وبين هذا الدور، فإنها تصبح مجرد أوراق صفراء، طابعها نفخ الأبواق، وحرق البخور، وتزييف الحقيقية ،وتزيين الأمور للحاكم على نحوٍ يخالف الواقع ،مع أن سداد الحاكم لا يكون إلا في الصحافة الناقدة، التي تبصره بمواضع الخلل في سياسته، وتقرب بينه وبين وجدان شعبه ، وفي هذا المعني يقول السيد بول فاليري (( إن البشرية في جملتها اليوم لا تقرأ شيئاً غير الصحف ،وأنه يجب تعليم تلاميذ المدارس أن يطالعوا الصحف،ولست أمزح، ذلك أن الشعب – إذا كان هو الحاكم- فإن للحاكم أن يتسلم في كل صباحٍ تقريراً عن حالة ملكه وحالة العالم، وهذا التقرير موجود في الصحف، وكذلك ينبغي أن يتعلم كيف يستخرج هذا التقرير منها)) ، فإذا كانت حكومتنا هي الشعب – كما تزعم – ،فلماذا تريد أن تكتب تقريرها عن نفسها بيدها ، بدلاً من أن تقرأه مكتوباً بيد طرفٍ متخصصٍ يكون لها بمثابة المرآة للناظر، ترى فيها عيوبها ،وتحاول إصلاحها قدر المستطاع، ولا أعتقد أن مثل هذه الغاية يمكن إدراكها بالتدخل في شؤون الصحافة أو بهيكلتها ودعمها وتمويلها من قبل الدولة، أو برقابتها قبلياً أو بعدياً ، اللهم إلا رقابة القانون الذي هو كفيلٌ بردع من يتجاوز حدود حرية التعبير ، ولا يكون هذا التجاوز إلا باقتراف جريمة من جرائم النشر، أو القذف، أو إشانة السمعة التي نص عليها القانون الجنائي، أو التورط في أمرٍ مما يقع تحت طائلة المادة (26/1) من قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2009 ، التي وضحت واجبات رجل الصحافة بصورةٍ فيها من الجلاء ما يجعل جهازنا القضائي كافياً ومغنياً لنا عن رقابة الدولة على الصحافة، وإن كنا فعلاً نريد للصحافة صلاحاً وفلاحاً فلنبدأ بمعالجة القصور في قانون الصحافة والمطبوعات ،خاصةً نصوص المواد التي جعلت من الحكومة صاحبة القول الفصل في مسألة الصحافة عبر المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية، فالمادة (7/1) مثلاً وضعت المجلس تحت إشراف رئاسة الجمهورية ، فضلاً عن هذا الإشراف، فإن المادة (10/1) من القانون المذكور خولت رئيس الجمهورية الحق في تشكيل مجلس الصحافة والمطبوعات،والأكثر غرابة أن ستة من أعضاء المجلس يعينهم رئيس الجمهورية وخمسة آخرين ينتخبهم المجلس الوطني(البرلمان) من بين أعضائه،فإذا علمنا أن جمعية الصحافيين لها بموجب المادة 10/1 أن تنتخب ثمانية أعضاء تزج بهم للمجلس ،ويكون لجمعية الناشرين أن تنتخب اثنين فقط،فإن الأغلبية الآلية في التكوين المذكور تجعل من الحكومة وبرلمانها المتحكم صاحب القول الفصل في المجلس ،خاصةً وأن الأمين العام للمجلس بصلاحيتاته الخطيرة التي نصت عليها المادة (19) يتم تعيينه هو الآخر بواسطة رئاسة الجمهورية ، فقل لي بالله عليك هل بعد ذلك تستطيع الصحافة أن تلعب أي دور خارج نطاق ما حددته الحكومة ورضيت عنه في ظل هذه القيود المفروضة بنص القانون؟.
إن إحالتنا القارئ الكريم إلى نصوص القانون،رغم علمنا بجمود لغته وتجرده من حيوية الكتابة الصحفية،كان بدافع أن نبرهن على أن ما بشرت به وزيرة الدولة للاعلام ليس في حقيقته إصلاحاً للصحافة ،وإنما هو السعي لبسط هيمنة الحكومة على ما تبقى من هامش حرية، ولكن هذ المرة بقيودٍ من حرير،وبسياسةٍ ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، ذلك أن الإصلاح الحقيقي في نظري يبدأ برفع القيود عن الصحافة، وتعديل القانون بما يضمن للصحافيين انتخاب كامل عضوية مجلسهم، أو على الأقل ضمان أن يكون نصاب الأغلبية في أيديهم ،وإلا فإن دورهم في توجيه العمل العام يظل محدوداً بما تريده الحكومة ، ومن المعلوم ضرورةً أن أي تأثير سالب على مفهوم توزانات القوة أو مبدأ (check and balance) فيما يتعلق بالسلطات الثلاث،سينعكس سلباً على الرقابة المطلوبة لإصلاح العمل الحكومي، وبما أن صاحبة الجلالة هي السلطة الرابعة في كل بلاد الله المتحضرة ، فإن إصلاحها أبداً لن يكون بإعادة هيكلتها في بيوتٍ نخرة، أو بوضعها في مؤوسساتٍ ضخمة تشارف أبراجها عنان السماء، وإنما يكون إصلاحها بأن نوفر لها أوكسجين حياتها (الحرية) ، وأن نكفل لها غذاء نموها وازدهارها، بتوفير كل ما يكسبها الثقة بنفسها للعب الدور المنوط بها في إصلاح العيوب وعلاج الأدواء ،ولنا في تجارب الهيكلة والمأسسة السابقة،وفي تجارب الآخرين خير عظة، فقد سبقتنا دول عربية كثيرة إلى وضع الصحافة في مؤسسات ضخمة وذات تمويل كبير، وطباعةٍ فاخرة ، لكنها لم تنتج بذلك صحفاً ،وإنما انتجت أوراقاً ميتة، وسولفاناً لا يصلح إلا للف الأشياء والحاجات ، ولنا أيضاً في صحافة العهد المايوي خير نذير،وكذلك صحافة بداية عهد الإنقاذ التي تمأسست فيها الصحف على النحو الذي نعرف ،وصادرت فيها الدولة الكلام إلا لمن يرى رأيها، وينطق بمثل ما تقول، واعتقد في هذا الصدد أن ضوابط المادة (20) من قانون الصحافة والمطبوعات فيها ما يكفي وما يغني عن المؤسسات المقترحة التي بشرتنا بها وزيرة الدولة للإعلام، فجميلٌ جداً ،وصوابٌ جداً في نظري،أن تصدر تراخيص الصحف لشركات القطاع الخاص والتنظيمات السياسية والهيئات الاجتماعية والمؤسسات العلمية ..إلخ ما جاء في المادة المذكورة، وجمال ذلك وصوابه، أنه يجعلها بمنأى عن هيمنة الحكومة ، ويوفر لها من الحرية القدر اللازم للعب الدور المنوط بها، فإذا أبينا عليها ذلك،فلا بديل إلا علاقة التابع والمتبوع،والخادم والمخدوم، وما بمثل ذلك تنهض الصحافة،ولا بمثل ذلك يكون نجاحها وفلاحها، والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،،
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة