كأننا والاستفتاء أمامنا، قومٌ أمامهم انفصال
محمد الأمين نافع
عند الانتشار في فجاج الأرض بعد صلاة الجمعة، غالباً ما تقابلك في صحن المسجد أو حواليه هدايا الأخذ والعطاء، فهناك من يتلقى الناس بالهدايا والعطايا من بليلة، بلح، حلويات من مختلف الصناعات والتركيبات المحلية والاقليمية والدولية، وهناك من يقف سائلاً في حياءٍ سودانيٍّ مطبوع التكرم عليه أو نقده بما يتيسر من المال، وخارج الصحن يقف الباعة المتجولون ينادون هم الآخرون علي بضاعتهم بحياءٍ ودون ضجيج في الموقع المقدسة بالذات، أيضاً هناك من يترصد المنتشرين من الصلاة ويسد عليهم الدروب والمخارج بالمنشورات السياسية والدينية والدنيوية من شتى الشؤون والشجون، وكل ذلك تراث سوداني أصيل ومكون أساس من مكونات الهوية السودانية وصانع معتبر من عوامل صناعة وإنتاج الشخصية السودانية الاعتبارية وهي في كامل وعيها وحالتها المعتبرة شرعاً وعرفاً. وفي الجمعة الماضية التي كانت آخر جمعة وآخر يوم من أيام العقد النضيد، العقد الأول من الألفية الثالثة، تلقانا شباب منبر السلام العادل بمنشور إعلاني يخبرنا بندوة سياسية ( كبرى طبعاً ) في الثالث من يناير 2011م بميدان المولد الخرطومي وليس الامدرماني، عنوان الندوة ( هوية السودان بعد الانفصال والقضايا العالقة )، وبما أن هذا العنوان يلخص تلخيصاً موجزاً ووافياً فكرة الندوة وحديث خطبائها البالغ عددهم الثلاث، قابلين للزيادة حسب أجواء الندوة، فقد فهمت فحوى الندوة وكل ما سيلقى فيها من هذا العنوان وهي بعد في رحم الغيب.
مثل هذا العنوان وغيره كثير من موضوعات ومقالات ومقولات وتنبؤات الساعة لا حديث لها هذه الأيام سوى أن هناك استفتاء في الجنوب وأن هذا الاستفتاء سوف لن يتمخض إلا عن فأر الانفصال، علماً أن الفأر هذا من عندي وفي اعتقادي أنا فقط، أما عند الكثيرين وعلي رأسهم جماعة المنبر المذكور أسدٌ هصور، فإذا لا سمح الله حدث الانفصال، فسوف يكون الانفصال للجميع فأراً بل وصفراً كبيراً، إذ إن الشمال الذي سوف يفقد ربع أراضي السودان التي هي الجنوب وثلث سكانه الذين هم سكان جنوبه يكون بهذا الانفصال قد خاب وخسر، فالانفصال ليس فتحاً ولا قمحاً وتمني ولا ناياً وريح صبا، ولا ثناءاً عاطراً تعدو به الريح فتختال الهوينى، فيا إخوتي لا تغنوا لنا بالانفصال ولا تمدحوه في ميادين موالدكم، فهو الخسران المبين. والأمر بالنسبة للجنوب، أمر الانفصال، لا يقل سوءاً عما يحدث لأخيه الشمال، فالجنوب أيضاً سوف يفقد ثلاث أرباع أرضه التي سوف تبقى في الشمال والكثير من البشر الذين يربطه بهم ألف رابط ورابط لا يربطه بآخرين من أباعد وأقارب، وبالتالي فهو بالانفصال يكون قد ضيق علي نفسه واسعاً واختار ضيقاً علي رحب ولن يجديه نفعاً أو يعيد اليه حبله السري الذي يربطه بالشمال بعد الإقدام علي الانتحار بالانفصال ما تهتف به أبواقه في الشمال من أمصال ودربات الوقاية والإسعاف من آثار الانفصال.
أما ما يعدُّه البعض فتحاً وربحاً، من خلوص وصفاء ونقاء العرق والهوية وخلو اقليمه المتبقي من منغصات تعدد الألوان والأشكال واللغات والثقافات والأديان، فهو علي عدم صحته ولا واقعيته حتى في أضيق الأطر لن يكون بالأمر المتحقق، فالخلاف المذهبي في الدين الواحد والفرقة الواحدة والتصاهر والمصاهرة التي تربط الواحد منا بانتماءات عرقية وثقافية متشعبة لن تترك لنا طريقاً الي التمتع بتذوق سيمفونية واحدة للإيقاع، وإذا كان شرط الانسجام والعزف علي والاستماع لإيقاع واحد فقط وجود أكبر قدر من توافق وترابط الأمزجة وتناسخ الأرواح وتآلفها، فليس من سبيل الي هذا الشرط المستحيل، فالناس في دنيا اليوم مختلفون في كل شيء اختلاف بصماتهم، وها هي تهديدات مصير الجنوب تطل من كل حدبٍ وصوب فيما سوف يتبقى من أقاليم السودان وجهاته الأربع في حال الانفصال، وما لم يكن الجميع مستعداً للاستماع للآخر والتفاهم معه والتنازل له لن ينعم أحد بصفاء جو ولا خلو حياةٍ من المنغصات، والناس اليوم لم يعد يهمهم في شيء ما إذا كانوا يدينون بهذا الدين أو ذاك أو ينتمون الي هذا العرق واللون أو ذاك بقدر ما يهمهم أن يكونوا محل الصدارة والاعتبار في قرار البلاد السياسي، الاقتصادي، الثقافي، الاجتماعي، الرياضي .....الخ. وما تغتر به اليوم الأصوات الجنوبية العالية أو بالأحرى المسموح لها بالعلو والهيمنة في هذا الظرف بالذات من ادعاء بتحقيق الانفصال لما تتشدق به من خلوص الهوية والانتماء وتتنطع وتتنبر به من الخصوصية والاختلاف عن بقية اقاليم السودان سوف يغرق في شبر أول قطرات تمطرها سماء الانفصال، وأنصح هؤلاء بالقراءة المتمعنة والمتأنية مراراً وتكراراً لتجربة الحكم الاقليمي الذاتي لجنوب السودان التي حكاها لنا بأمانة وصدق شاهدٌ من أهلها، مولانا أبيل ألير في كتابه عن تلك التجربة، فالكتاب رغم عنوانه الموحي بالتحامل علي الشمال وتحميله مسئولية نقض العهود في كل العهود، إلا أن ذلك لم يثنه عن نقد الذات الجنوبية عندما تحقق لها بعض أو معظم ما أرادت أو ما سمحت به اتفاقية أديس أبابا، وبما أنني شخصياً غالباً ما أتفاءل وأرجح صوت العقل والمعقولية لدى الجميع ولدى القادة ورجال الدولة والمفكرين بالذات، ما زلت علي يقيني المتفائل في أن الأقدار لا تخبئ لنا إلا خيراً، ويا السودان الوطن الواحد إنت ما شبه الانفصال وما يصيبك إلا خير.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة