الجنوب.. تحديات نظام الحكم
خالد فرح
قالها بصراحة متناهية، على الرغم من مرارة وقعها على جنوب السودان الذي ينعم هذه الأيام بنشوة فرح إستقلال يصفونه بـ (أحلام العمر).. قالها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، مدير مركز كارتر الدولي الذي راقب عمليات الإنتخابات والإستفتاء، قالها قبل يومين فقط من إنتهاء عمليات الإقتراع في استفتاء جنوب السودان، مختزلا توقعاته بمستقبل الحكم في جنوب السودان بعبارة: (الجنوبيون ستتبخر نشوة فرحتهم بالإنفصال ،عقب إعلان النتيجة) ودعم كارتر مخاوفه على مسقبل الدولة الوليدة بالرهان على التحديات التي ستواجه الجنوب في أزمة الحكم، معتبرا أن القبلية والتناحر السياسي وإنهيار البنية التحتية عوامل أساسية دعته للتشاؤم نحو مستقبل الحكم في الجنوب.
جنوب السودان الذي يمثل الدولة رقم (193) في قائمة الدول المنضوية لميثاق الأمم المتحدة، يخطو هذه الأيام خطوات حثيثة تجاه تكوين دولته الجديدة، ويبحث دبلوماسيا في جمع أكبر قدر من الدول للإعتراف به بعد أن ضمن إعتراف شمال السودان، حيث تعتبر الخطوة هي الأهم في تحديد استقرار الجنوب الذي لن يتم بمعزل عن الشمال، وفي الأثناء يرى المراقبون أن الجنوب في المرحلة المقبلة سيكون في حاجة ملحة للشمال نظرا لحاجته الماسة لكوادر تقود العملية التنموية والتعليمية التي توصف بالمتهالكة.
ولكن قبل ذلك تبرز عدة إستفهامات تحتاج لإجابات شافية حول كيفية حكم جنوب السودان نفسه في ظل تعقيدات العلاقات وتفشي القبلية والظروف السياسية الجديدة؟ وماهي النظم الأنسب لحكم الجنوب حتى يتجنب الأزمات المتكررة في دول العالم الثالث من إنقلابات وإضطرابات سياسية؟
في كل الأحول يرى مراقبون أن الجنوب يواجه تحدياَ كبيراَ فى كيفية الخروج بنظام حكم يستوعب الكم الهائل من التعددية القبلية والسياسية، وتواثق نحو (22) حزبا جنوبيا في مؤتمر عقد بمدينة جوبا في أكتوبر الماضي، على ضرورة إجراء إنتخابات جديدة بعد تحقيق الإنفصال، إلى جانب إعادة صياغة الدستور وتشكيل حكومة إنتقالية لفترة ما بعد الإنفصال لحين إجراء تلك الإنتخابات، ولكن قبل ذلك ظهرت بودار خلافات سياسية حول طبيعة الحكم في الجنوب، حيث طالب ناشطو حقوق إنسان ومنظمات مجتمع مدني الحركة الشعبية باستعجال وضع دستور جديد يستوعب المتغيرات الجديدة، ويراعي التعدد الثقافي والإثني لجنوب السودان، واتهم فارسكولي بيتر الناشط في منظمات المجتمع المدني بالجنوب الحركة الشعبية والجيش الشعبي بمحاولة الإنفراد بحكم الجنوب، وانتقد في حديثه لـ (الرأي العام) التضييق الذي صاحب عملية الإنتخابات والإستفتاء، حيث أبعد الجيش الشعبي المعارضة الجنوبية تماما من المشاركة السياسية -على حد قوله.
وتقول المؤشرات إن الجنوب مقبل على مرحلة من باب (يكون او لا يكون)، وتسعي حكومة الجنوب جاهدة في وضع دستور يلائم طبيعة التحديات آنفة الذكر، ولكن اي الوجهتين سيسلكها الجنوب في تحديد حكم شعبه: النظام البرلماني أم الرئاسي؟، وأيهما أنسب لفك طلاسم دولة تواجه وضعا سياسيا معقدا؟ ويقول د. محمد أحمد سالم خبير القانون الدستوري، إن النظام الرئاسي أنسب لدولة مثل جنوب السودان، الذي تتجذر فيه القبلية والأزمات السياسية، وينصح في حديث لـ (الرأي العام) حكومة الجنوب باختيار النظام الرئاسي، لكن شريطة أن تتوخى مراعاة التمثيل الأنسب للتعددية القبلية، وأن يكون الحكم وفقا لأسس سليمة تراعي الديمقراطية والعادات والتقاليد وتأسيس البنية التحتية وبسط الأمن والأستقرار الذي يمثل أكبر تحد للنظم الرئاسية. وأبان سالم أن جنوب السودان أكثر تعقيدا من شماله، وبما أن النظام البرلماني أثبت فشله في الشمال وكافة دول العالم الثالث فلذلك على حكومة الجنوب مراعاته كأساس لبسط سيادة القانون والحريات وعدم الإنغلاق المفرط على السلطة وحجر الحريات والدكتاتورية التي كانت سبباً في إنهيار العديد من الأنظمة، ويضيف: ما يحدث في تونس ومصر دليل واضح على فشل الرئاسة التي لا تراعي الأسس آنفة الذكر. ويشير سالم إلى أن نجاح النظم البرلمانية يحتاج إلى مجتمعات واعية مثل أروبا وأمريكا، ويوضح بأن أمريكا من أكثر الدول التي استفادت من ميزات الحكم البرلماني، وأن على دولة الجنوب الإستفادة من المآخذ والملاحظات التي وقعت فيها أنظمة أفريقية مجاورة.
ولكن المعارضة الجنوبية، ترى أن الخطر ليس في نظام الحكم وحده، وتحذر من مغبة إمساك الجيش الشعبي بمفاصل الأمور بانحيازه للحركة الشعبية، وتقول إنه يتعامل باعتباره المالك الأساسي لتحقيق إنجاز دولة الجنوب، حيث انعكس ذلك على التعامل في قمعه للمعارضة الجنوبية وإسكات المنادين بالوحدة إبان عملية الإستفتاء. ويطالب د. واني تومبي أستاذ العلوم السياسية بجامعة جوبا، حكومة الجنوب بعدم الرهان على العقلية الآحادية في الحكم، ويشير إلى أن المرحلة المقبلة تتطلب مرونة في الحكم والإستعانة بخبراء دستوريين وقانونيين في وضع دستور جديد يراعي تعقيدات شعب الجنوب. ويعبر تومبي عن قلقه ازاء الأمية التي تمثل (99%) من شعب الجنوب، وينبه إلى أن مثل هذه الأمية ستعوق التنمية وتعوق إستيعاب الحرية والديقراطية التي يتطلبها النظام الرئاسي.
ويلفت تومبي إلى أن القبلية لا تقل خطورة عن تحديات البنية التحتية المنهارة، ويحذر من مغبة سيطرة الجيش الشعبي علي مفاصل الحكم في الجنوب، ويضيف: نخشى أن يمتد ما حدث بمنزل باقان وربيكا من حريق إلى مناطق أخرى في الجنوب، ويمثل مؤشرا خطيرا قد ينعكس سلباَ على الأمن والإستقرار. وينصح بأن النظام البرلماني يناسب طبيعة التعدد الإثني والقبلي الذي هو اقوى من الأحزاب نفسها، ولكنه يضيف بأن الجنوب سيأتي بحكومة لم يسمع بها أحد حيث لا هي رئاسية ولاهي برلمانية، وإنما ستتأثر بنفوذ الجيش الشعبي.
وفي السياق، طالب أنطوني جرافيك العضو البرلماني للمؤتمر الوطني، بضرورة إستيعاب أكبر قدر من التنوع فى حكومة الجنوب القادمة. وقال انطوني لـ (الرأي العام) إن الجنوب يواجه تحديا وامتحانا يتطلب إستيعاب أكبر قدر من القوى السياسية فى مواعين الحكم الجديد ونبذ القبلية والجهوية، حتي لا يكون الجنوب استمرارا لعمليات إدمان الفشل السياسي الذي لازم البلاد منذ الإستقلال. وأشار إلى أن الحكم يمكن أن يكون رئاسيا برلمانيا بإستيعاب البرلمان لأكبر قدر من التنوع الحزبي والأقليات المسلمة وغير المسلمة حتى لا تنتقل للجنوب عدوى فشل الدول الأفريقية، وأضاف: الفشل السياسي في الجنوب سيخلف كارثة أمنية كبيرة نظرا لإنتشار المليشيات والامية وغيرها.
وبالعودة لدكتور واني تومبي فإنه يختتم بأمنية افتراضية، ويقول: (لو كنت مسؤولاً من حكومة الجنوب سأبني حكومة من قاعدة جماهيرية حزبية قبلية، تستوعب كافة الأقليات حتى نضمن إستدامة الأمن والإستقرار الذي يمثل أهمية أكبر من المعادن والثروات التي يراهن عليها الجميع بالنسبة للجنوب).
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة