منطقة التفاصيل
بقلم / نوري حمدون – الأبيض - 2011
الشريعة الاسلامية مثل الديمقراطية لا يفهم منها شيء محدد الا اذا تم ذكر التفاصيل . أما قبل الخوض في التفاصيل فتجد أن الجميع متوحدين حول الكلمة و مطالبين بتطبيقها و يقدمون من أجل ذلك الغالي و الرخيص . هذا ما يفعله دعاة الشريعة و دعاة الديمقراطية على السواء . و هم في الغالب الأعم على طرفي نقيض . فالذى يدعو لهذه غالبا لا يدعو للأخرى و ربما يقف منها على العداء . و لكن ما أن يأتي الوقت للحديث عن التفاصيل حتى يتفرق هؤلاء و اولئك لدرجة قد تندلع بينهما الحرب التي لا تعرف الهوادة . التفاصيل التي تثير الحرب بين دعاة الديمقراطية لحسن الحظ لا تتعلق بقواعد الديمقراطية ذاتها . انها تتعلق بظروف و مصالح الجماعات الحزبية التي أتت لتطبق الديمقراطية . يكون الخلاف حول الوزن الحزبي .. و الحجم الشعبي للحزب .. و من يتقلد ماذا .. و ماذا من الوزارات أو الادارات يكون من نصيب من .. و ما هو القانون المطلوب لتنظيم التجارة .. و ما هو القانون المطلوب الغاؤه و نحو ذلك مما ليس من صلب قضايا الديمقراطية المتعلقة بنظم ادارة العمل السياسي في كافة المستويات الحزبية و الحكومية . أما التفاصيل المثيرة للحرب بين دعاة الشريعة فالحق يقال أنها ليست فقط كبيرة و انما أيضا خطيرة . فكيف يكون الحال في الخلاف بين دعاة الشريعة و دعاة اللا شريعة . و لهذا السبب غالبا ما تتوتر الأجواء عندما تبدأ المطالبة بتطبيق الشريعة ثم لا تلبث أن تندلع الحرب . و العكس صحيح , فان الغاء الشريعة أو المطالبة بابعادها عن الحياة يوتر الأجواء و يشعل الحرب التي ربما لا تنتهي الا بعد القضاء على أحد الطرفين . يحدث ذلك في كافة البلاد الاسلامية و كذلك في السودان . ان التقلب بين حالتي التوتر و الحرب التي يعيشها السودان منذ اعلان تطبيق الشريعة عبر ما عرف بقوانين 1983 ما زال مستمرا و متواترا . و في اعتقادي أن الشريعة هي احدى الأسباب التي أدت لانفصال الجنوب . ألم يتحول التصدى للمتمردين الى جهاد في سبيل الله ؟ ألم يطالب الجنوبيون بجعل الخرطوم عاصمة علمانية ؟ ألم يؤكدوا في نهاية المطاف على استثناء الجنوب من تطبيق الشريعة ؟ و بعد الانفصال .. ألم يعلن الرئيس عن رغبته في استكمال تطبيق الشريعة بعد زوال الاسباب المانعة ؟
و لكي لا يستحكم التوتر ولا تتكاثر دواعي الحرب ترفع المعارضة شعار الديمقراطية التي احدى قواعدها عدم التمييز بين الناس على أساس ديني و أن المواطنة هي الجامع للأمة و أن الحاكمية للشعب . و هذا يجعل الديمقراطية دائما في مواجهة مع الشريعة . فدعاة الديمقراطية يرون أنهم ليسو ضد الشريعة و لكنهم في الحقيقة يطالبون بتطبيق كل الشرائع و ليس الشريعة الاسلامية وحدها . و غالبا ما يرد دعاة الشريعة بأن الشريعة ليست ضد الشرائع الأخرى . و يذكرون أن الشريعة تعترف بأهل الكتاب بل و تحمي دور عبادتهم و لا تغلق دونهم باب المشاركة في كافة مناحي الحياة . الا أن دعاة الديمقراطية يشيرون الى مسألة أخرى مختلفة تمام الاختلاف يسمونها الحرية الدينية و تعني ضمن ما تعني حق تغيير الدين فيما يعرف في الشريعة بالردة . و يقولون أن الردة لا تلغي فقط الحرية الدينية و انما أيضا حرية التفكير و التعبير . ألم يقتل محمود محمد طه بسبب التفكير و التعبير ؟ انها المرحلة التي يتحول الحديث فيها من منطقة الأحكام العامة الى منطقة التفاصيل . و من هذه المنطقة يحدث أحد أمرين : اما المفاصلة القاطعة و البينة و اما المواصلة الواضحة المرتكزة على المعرفة التامة بلآخر . الا أن المؤسف أن المختلفين عموما و بالذات أهل الديمقراطية و أهل الشريعة غالبا ما يتوقف الحوار بينهم حال الوصول الى هذه المنطقة , منطقة التفاصيل . أو بالأحرى , انهم غالبا ما يفضلوا عدم الخوض في التفاصيل و الانكفاء كل على ما يعتقد أنه معتقدات الآخر المرفوضة . و هذا الوضع يعمل على صب المزيد من الزيت في النار المشتعلة أصلا . و بحسب رأيى فلن يتسنى لنا أبدا الوصول الى تسوية المشاكل القاتلة الا بعد الخوض في التفاصيل . و هذا يعني اعداد العدة للانغماس في فكر الآخر و التحاور معه من الداخل بغية احراز الفهم الكامل المؤدي الى ازالة الغموض أو اللبس أو سوء الفهم . اذا أصغينا لبعضنا البعض و أحسنا فهم بعضنا البعض فغالبا ما نكتشف عظم المساحة المشتركة بيننا و نكتشف امكانية التعايش مع اختلافاتنا التي كانت في وقت من الأوقات خلافات قاتلة . اذا فعلنا ذلك يتحقق مبدأ أهل الديمقراطية عن الاعتراف بالتعدد و التنوع و الاختلاف . و يتحقق مبدأ أهل الشريعة عن أن الله خلقنا شعوبا و قبائل لنتعارف و أن أكرمنا عند الله أتقانا . و التقوى ليست في الديمقراطية و ليست في الشريعة . انها ها هنا في القلب و في الفطرة التي فطر عليها الانسان منذ أن كان فكرة في الخاطر .
نحن اذن نقدم دعوة لدخول منطقة التفاصيل الخاصة بأهل الشريعة التي لا يرغب المخالفون في الاقتراب منها و لا يرضى أصحابها بكشفها . أولئك يكتفون بالقول أن الأمور تعرف بثمارها و هؤلاء يرون أنك لا تهدي من أحببت . و تكبر المفاصلة بينهما يوما بعد يوم . و أرجو فيما يلي من سطور البدء بالخوض في تفاصيل الشريعة محاولا عرضها كما هي في الواقع لا كما يروج لها أصحابها . و سأرتكز في هذا العرض على الضوابط المقررة في أصول الفقه الاسلامي نفسه و التي يؤمن بها كافة أهل الشريعة . قد يبدو أن عملي ذلك أشبه بمن يجعل أحدهم الخصم و الحكم في نفس الوقت . و أوكد اننا لسنا في حالة عداء مع أي أحد أو أي شي . اننا نبحث عن الحقيقة . و قبل أن نحكم على الشئ من خارجه يجب أن نحكم عليه من داخله أولا . ان الشريعة بناء ضخم لم يتكون بين ليلة و ضحاها . ان بناة الشريعة يتجاوز عددهم العشرات الى المئات و ربما الألوف أو عشرات الألوف . هذا البناء الضخم استغرق العمل فيه ما يزيد على الألف عام . و قد جاء البناة من مختلف الاثنيات و الأعراق و من مختلف المناطق الجغرافية و الخلفيات الثقافية . تفاعل البناء مع الكثير من الأحداث السياسية من حوله و أثرت فيه الحروب المختلفة التي كان هو وقودها أحيانا و أحيانا أخرى كان ضحيتها . دونت حول هذا البناء العملاق المدونات المطولة التي اجتهدت من أجل البقاء عبر الزمن بينما تعرص بعضها لعوامل التعرية و التغيير و تعرض البعض الآخر للتشويه بالتحريف حينا و بالحرق حينا آخر . هذا البناء عمل و يعمل على حمايته الصادقون في ايمانهم و المنافقون العتاة و الأعداء المتربصون على قدم المساواة . هذا البناء يدعي ارثه عدد هائل من سكان الكرة الأرضية تنازعوه و تقاتلوا عليه و تفرقوا فيه حتي عد منهم أكثر من 73 فرقة . هذا البناء العملاق الذي لم تعرف البشرية مثيلا له في المقدار الذي بلغه ما كتب عنه و فيه ولا حجم التقديس الذي يكنه المؤمنون به و لا عظمة الرجل الذي قام البناء أول ما قام على أكتافه قبل أكثر من ألف عام في بيئة لم تعرف غير الهواء و التراب و الحجر . أن منطقة التفاصيل التي ندعو لدخولها لم يأت بها العبث و لم توجدها الصدفة و لم يستطع أن يتفاداها القدر .
أقسام الشريعة ثلاث : العقائد و العبادات و المعاملات . العقائد و العبادات لا تقبل المناقشة لأنها متعلقة بالغيب من ناحية و بالفرد في علاقته بذلك الغيب من ناحية أخرى . أحكام الشريعة المتعلقة بالعقائد و العبادات لا شأن للآخرين بها و لا تخص الا المؤمنين بها و لم تكن يوما من الأيام محل خلاف دنيوي بين أهل الشريعة والناس عموما أو بين أهل الشريعة و أهل الديمقراطية . ان محل الخلاف هو الثلث المتبقي و الخاص بالمعاملات و التي كما يدل اسمها تختص بتنظيم تفاعل الناس مع بعضهم البعض خصوصا الجانب المتعلق بالحقوق و الواجبات و فض النزاعات و ارساء الأمن العام . انبثق عن هذا الثلث مجموعة أحكام المعاملات .
أحكام المعاملات تتعلق بقضايا مثل : الأحوال الشخصية و الحدود و البيع و الحكم و ما شابه . و هي كما ترى القضايا التي تتقاطع مع قضايا الديمقراطية . أحكام المعاملات مأخوذة أصلا من النصوص الحاكمة و هي كل ما نسب للرسول من قرآن أو حديث . ان مبدأ أن الحاكمية لله معناها لا مشرع لحكم الا الله . و حيث أن حكم الله نتبينه من خلال النصوص فالقاعدة يعاد صياغتها لتصبح لا حكم الا للنص المنسوب للرسول قرآنا أو حديثا . و لكن الواقع يقول ان أحد مصادر الأحكام هو الاجتهاد الذي يقوم به من هم في نهاية المطاف من البشر . فهل تقوم الشريعة على القرآن و الحديث و الاجتهاد ؟ نحن نعتقد ان الشريعة اذا كان معناها حكم الله فلا مكان لحكم البشر الذي هو الاجتهاد . و لحسن الحظ أن أصول الفقه تقف الى جانب فهمنا حين تقول أن الاجتهاد غير ملزم الا لصاحبه . كما توضح أصول الفقه أن الاجتهاد لا يقوم الا حين لا يكون هناك حكما للمسألة في كتاب الله أو حديث الرسول . فالشريعة هي حكم الله فقط الوارد في الكتاب و السنة . كما أن أصول الفقه تمضي شوطا آخر حين تقول أن النص القرآني أو الحديثي لا يفيد حكما لله اذا لم يكن قطعي الثبوت و الدلالة . و توضح الأصول أن النص متى ما كان ظني الثبوت و الدلالة فهو لا يفيد الا حكم الاجتهاد الذي قطعا هو ليس حكم الله . تعتبر نصوص القرآن قطعية الثبوت عن الرسول لأن نقلها تم بالتواتر و معناه أن رواتها يكاد يكون عددا بلغ حد الاجماع . و لكن نصوص القرأن بعضها فقط هو القطعي الدلالة بمعني ان عباراتها واضحة و صريحة في افادة الحكم المعين دون الحوجة للتمعن أو التأويل أو الاستحسان بغلبة الظن . و هذا القطعي الدلالة يكاد يكون محصورا في ما يتعلق بالعقائد و العبادات و يمثل أقل من عشر مجموع آيات المصحف . أما الحديث فليس كله قطعي الثبوت و ليس كله قطعي الدلالة . و قطعي الثبوت منه هو المتواتر الذي نقل بنفس شروط و طريقة نقل القرآن الكريم . ثم ان القطعي الدلالة منه بعد ذلك يخضع لعباراته , فمنه ما هو قطعي الدلالة و الذي لا يمثل أكثر من عشر المقطوع بصحته . و يمكننا القول بعد هذا الحديث أن الشريعة هي حكم الله المستفاد من القطعي الثبوت و الدلالة من القرآن و الحديث . و هذا التعريف يخرج أكثر من تسعين بالمائة من نصوص القرآن و الحديث و يدخله في باب آخر مواز للشريعة أسمه الاجتهاد . ان أهل الشريعة لم يتفرقوا شيعا و أحزابا الا لهذا الخلط ما بين الشريعة و الاجتهاد . و الكثير من خلافات أهل الشريعة مع غيرهم ما كان لها أن توجد لولا هذا الخلط ما بين الشريعة و الاجتهاد . ان الشريعة النقية من شوائب الاجتهاد لا نجد فيها مثلا نظاما للحكم اسمه ( الخلافة ) و لا نجد فيها جهازا للنظام العام اسمه ( الحسبة ) . ان الشريعة المبرأة من دعاوى المجتهدين اذ تمنع ( الخلوة ) المشبوهة فانها لا تمنع ( الاختلاط ) المنضبط بالعفة . كما أن الشريعة غير المختلطة بالاجتهاد لا تمنع (التصوير و لا الغناء و لا المعازف) و لا تقف ضد حق المرأة في ( الولاية ) الصغرى أو الكبرى . ان الشريعة البعيدة عن الاجتهاد لا تحجر على الفكر و لا تمنع الرأي و لا تنكر التعدد الثقافي و الديني و العرقي .
ان الاجتهاد صنعة الفقهاء هو الذي فرق بين المؤمنين و هو الذي وأد الحريات و هو الذي أشعل الحروب و دمر المجتمعات . لقد وجد الاجتهاد في الأصل ليشبع حاجة طرأت لتشريع حكم ليس له وجود في الكتاب و لا في السنة . و قد حرص الفقهاء كي لا يبتعدوا عن روح الشريعة السمحاء أن يكون استنباطهم من ذات النصوص المحكمة . فطفقوا يقيسون الأحكام الى بعضها و يعملون آراءهم في المسائل . و صارت أحكامهم جزء من التشريع العام للدولة ثم ما لبثت أن صارت بعد ذلك جزء من الشريعة لكونها مقيسة و مستنبطة من الأحكام الثابتة في الشريعة . لقد تمادي الفقهاء بعد ذلك في التماهي مع النصوص حتى أنهم أوجدوا أحكاما لمسائل افتراضية لم و لن تحدث . كما أن بعضهم بدأ يسخر مواهبه الاستنباطية في مجاراة أهواء الحكام يميلوا معهم حيث يميلوا . ان الطهارة التي هي النظافة في البدن و الثوب و المكان صارت بابا كاملا في مؤلفاتهم . و ان الصلاة التي هي قيام و ركوع و سجود و خشوع صارت فصلا ضخما تعد صفحاته بالعشرات . و صارت مؤلفات الفقهاء من الضخامة بحيث انبرى لها علماء آخرون يختصرونها و يوجزونها بينما ذهب آخرون يضيفون اليها ضخامة على ضخامتها باضافة الشروح و ايراد المزيد من الشواهد و اضافة الجديد المبتكر من المسائل حتى صار الفقه عملاقا تشد لمعرفته الرحال و تنشأ لأجله المعاهد و الجامعات . بينما ضاع أصل الشريعة التي هي حكم الله حتى اتضح لنا أن البناء الضخم الذي يغطي بظله ملايين الهكتارات من العقول ليس الا الاجتهاد و ان الشريعة التي كنا نظن أنها هي ذلك البناء ليست سوى حجرة صغيرة في ركن مظلم مطل على الواجهة الخلفية للبناء . و لأن الأصل أن الاجتهاد ليس من الشريعة فلقد آن الأوان أن نفض الاشتباك و ان نعيد ما لله لله و ما لقيصر لقيصر . يجب أن نحرص على أن لا نقدم باسم الشريعة الا ما هو حكم الله الثابت بالمقطوع به من القرآن و الحديث . ثم أن نترك ما عدا ذلك من اجتهادات الفقهاء للبشر يتناولونه بالنقد و بالجرح و بالتعديل أو القبول أو الرفض شأنه في ذلك شأن أى حكم وضعى لا قدسية له عند أحد . أقول قولي هذا و استغفر الله لي و لكم و لا حول و لا قوة الا بالله .
منطقة التفاصيل
بقلم / نوري حمدون – الأبيض - 2011
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة