الدكتور فرانسيس دينق: "أيها السودانيون: تفاءلوا بالخير تجدوهـ"
إعداد: فخرالدين كرار
الدكتور/ فرانسيس دينق مادينق ماجوك
غلاف الكتاب على موقع أمازون دوت كوم
السودان على المحك: تقرير المصير والوحدة الوطنية
أصدر الدكتور فرانسيس مادينق دينق مجوك، هو واحد من أشهر الباحثين السودانيين والدبلوماسي الأممي الرفيع، كتابه الأخير بعنوان:
(Sudan at the Brink: Self-determination and National Unity)
(السودان على المحك: تقرير المصير والوحدة الوطنية)
ومن جانبي فقد فضلت تجنب الترجمة الحرفية للعنوان (السودان على شفير الهاوية) التي هي الأقرب إلى الأصل، وذلك لأن محتوى الكتاب يدعو المتشائمين والمتشائلين على حد سواء إلى التفاؤل بالمستقبل، حيث يرى الكاتب إمكانية "إعادة توحيد السودان على أسس جديدة"، وكأنه بهذا يتحدى الحكمة التقليدية في الحوار أو قل الجدل المحتدم هذه الأيام حول مستقبل السودان. والدكتور فرانسيس دينق من أشد المؤمنين برؤية السودان الجديد التي طرحها الزعيم الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور لحل الأزمة السودانية التي أناخت بركابها، وأقعدت بالسودان ردحاً من الزمن؛ بل إن الدكتور فرانسيس يعتقد جازماً بحتمية عودة الروح إلى هذه الرؤية خلال المدى القريب، على الرغم من أن الانفصال بات واقعاً ملموساً عقب إعلان النتائج الأولية للاستفتاء على تقرير المصير الذي مارسه مواطنو جنوب السودان. ولا بد من التنويه بأن الدكتور فرانسيس قد أعلن في تصريحات صحفية بأنه يؤيد انفصال الجنوب في ظل استمرار الوضع القائم كما هو منذ ما قبل الاستقلال، وقال إنه صوت بنفسه لصالح الانفصال، على الرغم من أن أهله في أبيي لم ينالوا هذا الحق حتى الآن في ظل الصراع الدائر بين طرفي معادلة الحكم حول تحديد أحقية أي من مواطني الإقليم والمقيمين فيه بالتصويت في الاستفتاء والاختيار بين البقاء ضمن الشمال الجغرافي أو الالتحاق بالدولة الوليدة في الجنوب. والمعروف أن الدكتور فرانسيس هو ابن الزعيم القبلي التاريخي الراحل المقيم دينق مجوك، زعيم قبيلة الدينكا نقوك (أو دينكا نوك كما النطق الشائع) التي تستوطن في منطقة أبيي منذ أن تم ترحيلها إليها في عام 1905، أو قبل ذلك ربما.
ولأن "الغناء سمح في خشم سيدو" كما يقول السودانيون، فإنني سوف استعرض الملخص الذي أورده الصحفي النابه مادينق نقور في عدد يوم 21 يناير بصحيفة (ذا نيو سودان فيجن NSV) مع خالص شكري وتقديري للزميل الصحفي النشط مجوك نكديمو الذي تفضل بإرسال النص الإنجليزي الذي شجعني على اقتناء الكتاب.
يقول الدكتور فرانسيس: "مثلما تم "حذف" أو بالأحرى استبعاد خيار الوحدة في السودان، فهو يرى أن "الأوان لم يفت بعد للحوار حول مزايا الوحدة واستحقاقاتها، وإمكانية توفيق مآلات تقرير المصير مع الحفاظ على الوحدة الوطنية" في وقت لاحق، ويعتقد البروفيسور فرانسيس دينق أن العلاقات بين الشمال والجنوب قد تتحسن بعد الانفصال وربما تصل إلى نقطة "إعادة توحيد" شطري السودان على أسس جديدة، وهذه دعوى قد يراها البعض "تترنح" في ظل الوضع الحالي، غير أنها مصدر وحي وإلهام يتمسك به د. فرانسيس بشرط تحقق بعض الاستحقاقات التي طال انتظارها!
وما من شك في أن الوحدة ظلت تمثل الهدف الذي أنفق الدكتور فرانسيس دينق معظم حياته في الدعوة إليه، "ولكن على أساس المساواة الكاملة والإحساس المشترك بالانتماء إلى أمة واحدة بكل الفخر والاعتزاز والكرامة لجميع مواطنيها" حسبما أشار إليه في الكتاب. وبعبارة أخرى فإن الدكتور فرانسيس من أشد المدافعين عن رؤية السودان الجديد التي تبنتها الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهي الرؤية ذاتها التي وضعها الدكتور جون قرنق، مؤسس الحركة وزعيمها الراحل وقاتل من أجلها لنحو أربعة عقود ونيف، وتدعو هذه الرؤية، التي صيغت على أساسها اتفاقية السلام الشامل الموقعة في نيفاشا عام 2005، إلى وحدة السودان على أساس المساواة بين مواطنيه كافة بدون تمييز على أساس قبلي أو عرقي أو ديني أو سياسي. ويؤيد د. فرانسيس منح حق تقرير المصير للجنوب في حالة الانتهاء إلى وضع سلبي لا تتحقق فيه الوحدة التي ارتأتها رؤية السودان الجديد، كما يرى أن تحقيق الاستقرار الدائم في السودان، يتطلب من الشمال ألا ينظر إلى الانفصال الحتمي (في ظل استمرار الوضع القائم بدون أي تغيير) بشيء من "العداء"، بل يجب على الشمال أن يلتزم بالتطبيق الكامل لما تبقى من استحقاقات اتفاقية السلام الشامل لعام 2005. وبالإضافة إلى ذلك يرى الدكتور فرانسيس دينق أن على الشمال والجنوب السعي معاً للوصول إلى انفصال ودي عن طريق تبني صيغة متكافئة وعادلة تتيح لهما تقاسم النفط وريعه، وموارد المياه، والاستفادة من التجارة البينية عبر الحدود، والحفاظ على حرية التنقل والحركة للسكان، وحرية اختيار الانتماء والمواطنة، ومن ثم الاستناد إلى هذه الركائز من أجل تهيئة الأرضية مستقبلاً لتوحيد الوطن وتحقيق الاندماج بين شطريه أو دولتيه المستقلتين مستقبلاً.
ولعل هذا الكتاب قد أتى في وقته، حيث أشارت النتائج التي أعلنتها مفوضية استفتاء جنوب السودان إلى أن الجنوبيين قد صوتوا لصالح الانفصال بنسبة تجاوزت 99%، وأن انفصال البلد الذي كان أهله يباهون بأنه أكبر دولة في أفريقيا أضحى واقعاً لا مفر منه. ويستند هذا الكتاب على محاضرتين قدمهما المؤلف في الخرطوم، أحدهما في مؤتمر "الحوار حول قضايا السلام" عام 1989، بعيد انقلاب الجبهة الإسلامية القومية بقيادة العميد عمر حسن أحمد البشير (المشير عمر البشير حالياً) والأخرى عام 2009 في مؤتمر برعاية بعثة الأمم المتحدة في السودان، وهذه المرة حول قضايا "الوحدة والانفصال"!
الهدف المنشود: يشغل الدكتور فرانسيس دينق منصباً دولياً رفيعاً في هيئة الأمم المتحدة، فهو يتولى منصب المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الحماية من الإبادة الجماعية، غير أنه يؤلف كتبه بصفته الشخصية، ويقول إنه يأمل في أن يسهم هذا الكتاب في الحفاظ على أمل الوحدة "كي تظل هدفاً منشوداً، حتى ولو أفضت مآلات الاستفتاء الحالي 2011 إلى الوحدة أو الانفصال."
وعلى الرغم من أن المؤلف الذي ألف وأصدر أكثر من (30) كتاباً يقر بأن الجنوب سيصوت للانفصال، وهو ما جرى فعلاً، فإنه يظل شخصياً متمسكاً برأيه في أن من مصلحة البلاد على المدى البعيد أن تواصل الإصرار على إقامة سودان يتمتع بقدر أكبر من الديمقراطية الحقة والتمثيل النيابي الحر، وألا يُوصد الباب نهائياً أمام إمكانية إعادة توحيد السودان على أسس جديدة، وفي هذا الخصوص يقول الدكتور فرانسيس: "إن شطري البلاد سيظلان على جوارهما الجغرافي، وسوف يستمران في التداخل، وبطرق متنوعة سوف يصبحان أكثر اعتماداً على بعضها البعض عما كانا عليه في السابق".
وفرانسيس دينق الذي ينتمي إلى منطقة أبيي يرى إرثه في سياق الدور التاريخي الذي قامت به أسرته المعروفة على نطاق السودان ككل، والتي يرى أنه كانت مثل "الإبرة والخيط" التي نسجت عرى العلاقة الوثيقة بين الشمال والجنوب. وعلى الرغم من أن نبرته ظلت متفائلة إلى حد كبير بشأن المستقبل، فإن الدكتور فرانسيس يتوقع أن يظل انفصال الجنوب عُرضةً للأخطار بدون "حل أزمة الهوية الوطنية، وإنشاء حكم راشد وعادل في الشمال."
ويوضح الدكتور فرانسيس أن الذي يبقي جذوة أزمة الهوية مستعرة في السودان الشمالي هو أن حزب المؤتمر الوطني (الجبهة الإسلامية القومية سابقاً) قد أحكم قبضته على مفاصل السلطة وأجهزة الدولة التي يتشبث بها كي يحكم البلاد كدولة إسلامية وعربية، حتى وإن كان واقع الحال يقول إن معظم شعوب السودان، ومناطقه ككل، ليسوا عرباً أو مسلمين بأكملهم، وهو الأمر الذي أثار حنق المجموعات المهمشة مثل النوبة في كردفان الكبرى، والدارفوريين والأنقسنا وأجج رفضهم "للسودان القديم". ويستطرد مؤلف الكتاب في هذا السياق ويقول: "سوف يستمر النضال من أجل المساواة في كنف سودان جديد، وفي هذا سوف تتطلع حركات التحرير الإقليمية الشمالية إلى دولة الجنوب من أجل الحصول على "الدعم"، ولكنّ الدكتور فرانسيس يرى أنه "إذا قدّم الجنوب المساعدة للمجموعات الشمالية المعارضة، فإن الشمال قد يرد على هذا التصرف باستغلال الخلافات القبلية في الجنوب وتسخيرها من أجل إضعاف استقرار الجنوب وتقويض استقلاله." ويقول الدكتور فرانسيس: "وبالتالي، فإنه على الرغم من أن الدولتين ستنفصلان سياسياً، إلا أن حجم النفوذ الذي ستحتفظ به كل واحدة منهما في الأخرى سوف يستمر، وربما يؤدي إلى قدر اكبر من عدم الاستقرار مقارنة بما كان موجوداً في ظل الوضع القائم قبل الانفصال." واعتقد أن تحليل الدكتور فرانسيس في هذا الصدد قد أصاب كبد الحقيقة، لأن التواصل والتصاهر واللحمة القائمة بين البشر لن تلغيها خرائط الجغرافيا.
التقسيم الودي
ويطالب د. فرانسيس دينق بأن تصبح الوحدة خياراً قابلاً للتحقيق في المدى البعيد، وهو يقول في هذا، "ينبغي على الشمال والجنوب العمل على إعداد الترتيبات التي ستوفق الانقسام مع تحديات الوحدة المتواصلة." ويقول: "على سبيل المثال، في السودان القديم، كانت القضايا المثيرة للانقسام تتضمن تقاسم السلطة، وتقاسم الموارد أو الثروة القومية، وطبيعة الحكم والدولة، والعلاقة بين الدين والدولة، ومشكلات الهوية الوطنية، والقضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية." ويستطرد قائلاً: "إن الوحدة، وهي مرغوبة كما نعلم، لا يمكن تحقيقها أو ضمان استمراريتها إلا في ظل سودان يستوعب التنوع الكبير في هذا البلد ضمن إطار عام من المساواة، وبدون أي تمييز على أساس قبلي أو عرقي أو ديني أو ثقافي أو نوعي، وهذه هي رؤية السودان الجديد بعينها."
غير أن الدكتور فرانسيس دينق يرى أن الجنوب سيحتاج إلى تضحيات كبيرة كي يحقق رؤية السودان الجديد التي قد تكون عصية على الفهم في ظل الواقع الحالي، خاصة وأن حزب المؤتمر الوطني سيعارض مثل هذا التغيير الشامل داخل خندقه الأيدلوجي الذي يتمترس به. ومع ذلك، يقول الدكتور فرانسيس إنه ينبغي التمسك بالوحدة حتى وإن انتهى الاستفتاء إلى الانفصال. ويقول: "إن الوحدة والانفصال هما درجتان متفاوتتان من العلاقات التي يمكن تعزيزها أو إضعافها عن طريق العوامل النوعية المساهمة في ذلك." ويخلص د. فرانسيس إلى القول: "ينبغي عدم استبعاد إمكانية إعادة توحيد السودان، وربما من الأفضل أن يعمل المختصون على تضمينها بنصوص صريحة في اتفاقيات الانقسام أو الانفصال الودي." أو كما قال صاحب "طائر الشؤم" منذ أجل بعيد، له التجلة والتقدير الكبير مني.
فخرالدين كرار
دبلوماسي سابق
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة