سودانياتٌ قبل قرار ٍقابل ٍفي الأوَطان
"الثورة انطلقت"
من أناشيد الموسيقار محمد الأمين
محجوب التجاني*
الجمعة: 21 يناير 2011
لفرسان الجبهة المعادية للإستعمار ما قبل الإستقلال، وُصناع ثورة أكتوبر الشعبية في الستينيات، وأجيال إنتفاضة أبريل الثورية في الثمانينات حقٌ وأيما حق للإفتخار بحركتهم الجماهيرية العتيدة، المتأججة دوماً تحت رماد الطغاة والمستبدين، القابلة للإشتعال بطاقتها الكبريتية الخاصة – معدنا شعبيا نفيسا من سيّر الأمهات والآباء والأجداد لإزالة الإستبداد ومحاسبة الجناة بالعدل والقسطاس، ووقفاتهم التاريخية المأثورة في نقوش الهّبَات الترويعية لتأديب سارقي حرياتهم السنية وآكلي حقوقهم المرعية.
ومن حق أجيالنا الوطنية الصاعدة، العاملة علي صون الوطن الغالي ورفع راياته المستقلة وأخلاقياته الشهمة ومبادئه الديمقراطية المجيدة، أن تهنأ بهذا التراث الوطني الجليل، النابت من تربة السودان الوطن الواحد، والشعب الواحد، وأن تمد أياديها القوية التي قاومت الديكتاتورية في بيوت الأشباح ومجزرة العيلفون ومذابح الحرب الأهلية الظلومة وفساد الحكم والغلاء الطاحن وإنقسام المجتمع إنقساما طبقيا طفيليا تافها بلا رأسمالية منتجة، أو إقتصاديات مفلحة في مركز الحكم وأقاليم الوطن المختلفة. والذي نعالجه هذا الأسبوع شيئاً ما يميز حركة الجماهير السودانية الفاعل الرئيس للتغيير السياسي والإجتماعي المحتوم عن نظائرها في البلدان الأخري، علي مستوي المنطقة والقارة والعالم.
الثورة السودانية أفقٌ بارق
أعمق خاصية للثورة السودانية التي أبدعت في إحداثها الحركة الجماهيرية السودانية، وأحسنت تصويرها كاميرات الأجانب قبل أقلام السودانيين في المهدية وأكتوبر وإبريل – إنتفاضات شعبنا العملاق التي لم يؤت مثلها شعبٌ في القرنين الماضيين هّبَاتٍ ماضية أسقطت بها الإرادة الوطنية الغالبة قوي التسلط والإثم والعدوان بالعمل المدني السلمي - هي خاصية التكتل الوطني والإجماع الحديدي علي الحرية والوحدة الوطنية التي لم يقوي علي الوقوف في وجهها باطش ولا غاطش في اللحظة الثورية التاريخية: لحظة الإسقاط الشامل لشرور الحكم وعنجهية السلطان.
قال تاريخ شعبنا منذ آلاف السنين أن الشعب قرر الخلاص من طاغوت الكهنة بإسم الدين. تدفقت الجموع كالسيل الهادر تصهر في طريقها كل لحم ٍ، ونباتٍ، وحجر. وتلفح بقوةٍ أصنام السلطة المنتفخة، تحيلها ركاماً كأن لم تكن يوما، ولم تحكم أحدا. وكما ُتنبت الثورة براعمها، وتشرق أنوارها، ُتبرز حُداتها، وُتخرج من بين سيقانها الطويلة عضلات قيادية فتية. في كل شريحةٍ نساء سودانيات ورجال سودانيون. تختلط ألوانهم، وتتحد آمالهم، ثم تنطلق في أفق الثورة برامجهم. قد يعترض انطلاقها عصيان مضاد أو تآمر الأضداد، لتحتجب في الأفق من جديد، ثم لتعود أقوي عودا، وأكبر تجربة، وأصغي يقظة، وأحكم فكرا. وهكذا، يعيد المشهد في الأيام رسمه. يلهم الشعراء والأدباء والفنانين في كل مرسم ٍ ولحن ٍ وصوت. فما أروعه سوداناً! وما أكرمه شعبا!
بنية وطننا وقوي شعبنا
حقا، لكل وطن ٍبنيته. ولكل شعب خصائصه. وبنية سوداننا من سُدة الإتفاق مع الإختلاف؛ صيغة من أعقد ما تميزت به أمةٌ من أمم الأرض. أسقطت الحركة الجماهيرية في أكتوبر 1964 ديكتاتورية نوفمبر. وتولت ريادة الدولة جبهة الهيئات من كل فصائل الثورة – أيديولوجيات مختلفة. كذا فعلت الجماهير في أبريل 1985 حين أسقطت ديكتاتورية مايو، فتولي إدارة الدولة مجلسان متعارضان. ولا يجب أن يعتمل جزع أو إشفاق علي تزاوج النقيضين في محطات الثورة السودانية. فالطريق طويل. والمنحنيات علي جانبيه. والبطن من خير وشر. وحكمة الأمر أن التجربة تضيف إلي كل دفعةٍ طاقة جديدة، ودرسا مستمدا. الكون دائرٌ بأمر ربه الأعلي، لا يعطل دورانه ما به من تفاعل. والثورة تمضي بأفعالها، يناغم مشيها أفقها البعيد، متئدة أو مسرعة الخطي، لا يمنع حركتها إنس.
تظن أنظمة السوء ومفكروها والخانعون أن الثورة السودانية عبارة تكتيكية ترفعها لافتات حزبية تقتنص من جهد الجماهير عرقا لتزدرد لقمة. فما أجهله ظنا! وما أبعده عن حقائق التاريخ والحاضر المعاش في بلادنا! فلنقرأ عن فوران شعبنا في ضوء ناموس ثورته السودانية: التكتل والإجماع لإسقاط الظلم وإقامة العدل. ولنحتكم بإنصاف الرأي لبنية وطننا وقوي شعبنا. وهل لبنية وطننا مكون خلاف أركانه الأربعة، وهل يملك شعبنا رصيدا أغلي من حركته الجماهيرية، الوعاء الأكبر لكل أحزابه الكبيرة ونقاباته السديدة وجماعات نضالاته الكثيرة؟
جماعات التقدم الحزبية وهيئاتها النقابية الممثلة لإرادة الشعب، المستقلة بالضرورة عن كل سلطة رسمية، سمقت في سماوات الثورة السودانية شرطا أساسيا للقيام بمهامها. هي أول مَن طرح في تاريخ السودان الحديث فكرة الثورة السودانية، أفكارها ومثقفيها، قواعدها وقياداتها، إستراتيجياتها وتكتيكاتها، برامجها وتطبيقاتها، وتقويماتها ومتابعاتها. الشاهد علي ذلك وافر البينة. حزبا الوسط، الإتحادي والأمة، إنتقلا بتكويناتهما الروحية والإجتماعية العريضة إلي التنظيم المدني الحديث بإستيعاب شرائح هامة من المثقفين لقيادة النشاط الحزبي وتفعيله، منذ تفتق ثقافة سياسية حصيفة في مؤتمر الخريجين. آثرت زعامات المجتمع الروحية آنذاك شرف الإرشاد الشعبي لملايين التابعين علي سلطة الدولة المحدودة بحكم السلطة والقانون، وما فقدوا شيئا في إدارة شؤون الحكم في أعلي أبراجها. فما أحكمهم قيادة!
سودنة فكر الغرب الثوري
الحزب الشيوعي السوداني أول من خاطب قضايا التغيير الإجتماعي من مدخل الإقتصاد السياسي التحليلي الحديث الذي أدخل به في الساحة السياسية مناهج الغرب الصناعي المتقدم في تشكيل المجتمع وإدارة الدولة - معجماً من المصطلحات والمفاهيم "الغريبة" علي أذن التشكيلات التنظيمية السائدة وتقاليدها المبجلة، وإن إستهدفت ثقافته الجديدة في الأساس أوسع الجماهير العمالية والفلاحية حاجة لها.
ولقد إستفادت القوي الوطنية إستفادة كبيرة من قدرات التحديث التنظيمي الشيوعي، أخذوا منه اللجان المركزية وأماناتها وشعبها في العمل والسكن، وأفاضوا علي ما أخذوا روحانياتهم الخاصة بهم وبمشروعاتهم المناسبة لأنصارهم وختميتهم وإتحادييهم. هذا أخذ شامل. فلم يبخل أعداء شعبنا، الإسلاميون الإنقلابيون، علي تنظيمهم الإرهابي بتلك المعرفة الحديثة حين اغتنموا سوانح السلطة في نهاية أعوام الديكتاتورية المايوية، وحين ضربوا الشعب في مقتل ٍبدولة فسادهم الإنقلابية الحالية. علمهم بعض قادتهم المرتدين علي علمانية التحديث كيف يتقنون بها لعبتهم السلطانية، تماما مثلما أتقنوا في مصارفهم "الإسلامية" تكنيز الأرباح السمينة من هياكل العملاء العظمية. وفي حالتي علمنتهم التنظيم وتديينهم المال، الدين بُرآء، والشيوعيون بُرآء.
لا يضيرن هول هذا التحديث الخطير مدي حجم المريدين للتقدميين أصحاب الإمتياز الكشفي وإخوتهم في الوطنية الصميمة، المناضلين من الأحزاب الشعبية، يكفيهم نفاذ التنظيم الحديث وجذبه الفكري للألوف من حملة النياشين والأوسمة النضالية في سجون الطغاة ومعتقلاتهم التي يشعون بها ثوب الثورة الهصور. وليزيدن الإشتراكيين وزنا ووسامة في عين البحاثة والأكاديميين في علم الثورة الإجتماعية أن حزبهم هو أول حزب وطني سودّن فكر الغرب الثوري، بأخذٍ مباشر ٍمن علم الثورة الإجتماعية المدروسة، ومساهمات تجاربها الوطنية والقارية والدولية الخصيبة، يسرون بها شعبنا إلي جانب سودنة الأحزاب الشعبية الكبيرة، الأمة والإتحاديين، للخدمة المدنية والعسكرية، وتوليهما إدارة السودان أول عهده بالإستقلال، بعد ستة عقود عسفاً من قهر الإستعمار، وعهودا بعده.
الإتفاق مع الإختلاف
ساهمت الأحزاب الأخري في مختلف أنحاء القطر في تحديث الحياة العامة بالفكر والتنظيم. الجمهوريون بزعامة المفكر الفريد محمود محمد طه نشروا فكرا وبرنامجا "غريبا" إبان ظهوره. نادوا بتغيير المجتمع وإزالة تناقضات حياته الإقتصادية والثقافية بفهم ٍعصري للإسلام العظيم، دين أغلبية السودانيين. والليبراليون في الشمال، وقوي عديدة في الجنوب، وتنظيمات مطلبية في الشرق والغرب، أصدروا وثائق وبرامج تقف دليلا علي توقد العقل السياسي السوداني بالوعي، واستعداد المجتمع لحوار الأقران سواءا بسواء، وتبنيه صيغة التعايش السلمي بالإتفاق علي الإختلاف، وضبط الإختلاف مع الإتفاق.
لقد عرفت الساحة حالات من النزاع بين هذه القوي المتنافرة، ومواقف من الإتفاق والإئتلاف. غير أنه أيام المصائب القومية المتتالية علي أيدي الأنظمة الديكتاتورية، أخرجت الحركة الجماهيرية الملتحمة بصفوف السودانيين الوطنيين والديمقراطيين قانونا شعبيا فريدا هو التوحد والتكتل بصرف النظر عن إنتماءاتهم الحزبية لإسقاط الإستبداد السلطوي، والشروع في بناء كيان سيادي جديد في علاقة الدولة بالشعب قبل أي إعتبار آخر. وما يثير الملاحظة في هذه النقطة، أن الأحزاب بمختلف توجهاتها الأيديولوجية، بما في ذلك تنظيمات الإسلاميين المنبثقة من جماعة الأخوان المسلمين في مصر، متي كانت خارج السلطة، تهب معا لإزالة الطغيان، وإن سارت علي طريقها من بعد تصارع برامجها الخاصة.
دروسٌ في الثورة السودانية
الثورة عملية. إستراتيجياتها زمانية. وشراراتها اللاهبة موقوتة. ربما تنفجر في أي موقع ولحظة. أما إيمان القوي الوطنية بالثورة السودانية، وتكتلها بالإجماع للنزول بثقلها للشارع، فهو الطاقة المولدة لحركة الجماهير في ظل بيئتها الشعبية واختياراتها الأيديولوجية العديدة. بات القديم في عناصر الثورة السودانية أنها ترقب أعين الخارج كما ترقبها، وتستمع منصتة ً لنبض التغيير بقوة المطالب وشدة لهجتها. اللحظة الثورية الحاسمة لإنهاء السلطة المتساقطة شئٌ في علم الخلاق العليم وبإذنه. أما الإتفاق مع مراعاة الإختلاف والسعي الجاد لتحقيقه فهو المولود الموعود بحكمة "إعملوا". وللمؤمنين تسليمٌ خاشعٌ بالإثنين.
كانت عناصر الثورة في المهدية كامنة في النفوس، والغليان يحيط بعرش الحكمدار. رأي أستاذ التاريخ البروفسور محمد سعيد القدال، الموثق لحركته في باب الثورة والتغيير في لوحته للثائر محمد أحمد المهدي، إنه "عاش مع المساكين، ورأي أفق الثورة". لله درك أيها العالم الأديب! فقولك تلخيص لخصائص ٍمن أبرز معاني الثورة السودانية في عهدٍ من عهودها النارية، تخطت به في عمليتها إختلافات مجتمعنا البنيوية والعملية. والفضل لإرادة شعبنا ولكارزما قيادته الثورية.
للبحاث في تقويم نتائج ثورة الأجداد في المهدية جدلٌ كبير. ورأينا أن الناتج الفعلي كان نهوض دولة فلاحية حربية أفلحت قيادتها ما اسطاعت في لملمة أطرافها بعنف السلطة وسطوة الفكرة، ولم تفلح في تطوير قدراتها بالتمديد الشعبي وتعميقه بإرادة الجماهير ورضائها في أشكالها القبلية والروحية الكائنة وقتها. تكالبت علي قصعتها إمبرياليات الغرب، فتصدي لهم أهل البلاد بما في أيديهم، سيوفا مشهرة، أودبلوماسية أدهي. غلبتهم الإمبريالية بالحداثة العسكرية والسياسية. فحصدتهم حصدا.
ولقد أخذ السودانيون من ثورتهم المهدية دروسها. وتواصلت في مسير الثورة السودانية وتألقت بوطنيتها النيرة هبات شعبنا في أكثر من عملية نضالية. وكتب التاريخ للديار مقاومة أهلها الباسلة. يتبدي في سطح المعارك دائما جوف تعشقهم للحرية، وتمسكهم بالعدل، ورفضهم الظلم والطغيان. فذلكم صحبي من نواميس الثورة السودانية. قال دهاة في البحوث الإجتماعية: "السودانيون نوير": يعيشون أقساما مستقلة. فإذا قاتلهم عدو، أصبحوا في وجهه كتلة مستغلظة، قوي إجماع جائشة!
من إنتفاضة جنود الثورة في حركة اللواء الأبيض، ومن قبلها هّبة ود حبوبة، ومن بعدهما ثورة أكتوبر الشعبية وإنتفاضة مارس/أبريل الجميلة تحتدم الدروس. يثبت في كل مرة دور الإرادة الجماعية والقيادة الشعبية، معا لا منفردين. فبقدر ما يعلو أثرهما، تستديم الثورة جذوتها. وبإنحسار شعلتهما إختلافا دون اتفاق، تخبو الشعلة أمام مساعي الثورة المضادة الخبيثة لإطفائها واستعادة قبضتها. إنه الصراع المرير والنزاع والإنتزاع في أشرس حالاته القومية.
الجديد في علم الثورة السودانية
الجديد عبقري. يصعب التكهن به. ولكنه يحمل خصائص التاريخ السوداني التليد: سنري – ربما – قيادات شعبية كثيرة من رحم هذا الشعب الخصب الولود، تقود حركة الجماهير المزلزلة أرض السودان بالغليان، في أي حين. وستنهض جماعات قوية المطالبة بالحقوق، شديدة الحرص علي الحريات، عنيفة الرد بالحجة الدامغة والرفض القاطع لدعاوي الإسلاميين الإنقلابيين بالتصالح والحكومة العريضة وباقي القائمة الخداعية. ولعل ذلك النشوء الإرتقائي المتوقع لقيادة الجماهير يسير جنبا إلي جنب مع حقائق مجتمعنا الراسخة: حرية الشعب وأحزابه في إختيار قياداتها، والإتفاق علي برامج التغيير لإقتصادنا السياسي، والحكم الإنتقالي الرشيد للخلوص بالوطن إلي إنتخاب نظيف يجئ به برلمان جاد ودستور ديمقراطي دائم.
سنري في أفق الثورة السودانية أن جديدها القادم مولود نبيل الملامح، سعدٌ جديد. تضيف به حركة الجماهير الغلابة إلي مرجعياتها المعرفية عصراً ذهبيا مشرقا. إتفاقا خلاقا بحرياتها الكاملة لنيل حقوقها الشاملة. في هذه اللحظة التاريخية الزاحفة، تأفل دولة الإنقلابيين المزيفة وديكتاتوريتهم السخيفة بذاك الأفق الفاقع الأصيل.
________________
* الأيام الأسبوعي: يناير 2011
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة