لماذا صوّتوا للإنفصال ..؟!!
تقرير: التقي محمد عثمان
في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي استهدفت معاقل القوة الأميركية الاقتصادية والسياسية طرح الأمريكان على لسان مثقفيهم وسياسييهم السؤال (لماذا يكرهوننا)، وجاءت اجابة النخب في مجملها تقول ان الظلم هو الذي يولد العداء والكراهية وكل عدالة منقوصة وانتقائية هي التي تولد مشاعر الإحباط وخيبات الأمل، وقدم الكتاب المهم الذي ألفه كل من ضياء الدين سردار وميريل واين دايفيز ونشر عام 2002 وترجم إلى 22 لغة وعنوانه «لماذا يكره العالم أميركا؟»، قدّم تحليلاً ثقافياً عميقا لظاهرة الكراهية العالمية للسياسات الأميركية. .
وبقليل من التجمل يمكن طرح سؤال بديل هو لماذا صوت الجنوبيون للانفصال، وبهذه النسب العالية، وبالطبع فإن السؤال مطروح على الشماليين لوحدهم بسبب أنهم هم من نفر منهم الجنوبيون بهذه الصورة الجليّة الموثّقة بالأرقام، فلحكمة يعلمها واضعو نيفاشا تم قصر حق تقرير مصير السودان على سكان جنوبه لتبرز هذه النتيجة المحزنة الواصمة ـ ربما ـ للشمالي أينما حلّ بأن الجنوبي فرّ منه فرار السليم من الأجرب. والحديث هنا للأرقام، فقد أعلن مسؤول الإعلام بمفوضية إستفتاء جنوب السودان جورج ماكير أمس، أن النتائج الأولية للإقتراع أظهرت أن الناخبين في جنوب السودان صوّتوا بنسبة تفوق الـ(98%) لصالح الإنفصال، حيث (2:391:610) ناخباً صوّتوا لصالح الإنفصال، مقابل (3.650) للوحدة بنسبة لا تقترب من الاثنين في المائة، وقال ماكير ان النتائج الأولية الكلية لعدد من ولايات الجنوب العشر أظهرت تأييداً كاسحاً للإنفصال تصل نسبته إلى 99%.
وضرب ماكير الأمثال، ففي ولاية البحيرات صوّت (298.216) ناخباً لصالح خيار الإنفصال من بين (300.444) مشاركاً في عملية الإقتراع بنسبة (99.924%) من الأصوات. وقال ان الداعمين لخيار الوحدة في الشمال لم يتجاوز (0.076%،) ما يقدّر بـ (227) مقترعاً فقط، وقال إن أصوات الإنفصال في ولاية غرب بحر الغزال بلغت (153.839) صوتاً من بين (162.594) صوتا بنسبة (94.6%) من إجمالي المقترعين، فيما لم تَتَعَدَ الأصوات المؤيدة للوحدة (7.237) صوتاً، وفي ولاية الوحدة صوّت (417) ألفاً للإنفصال من بين (472) ألف مقترع.
وفي تفسير الناشط في مجال حقوق الانسان الدكتور محمد جلال هاشم فإن تصويت الجنوبيين لصالح الانفصال اجراء اقتصاصي تأديبي و يقول في حديثه لـ الصحافة عبر الهاتف أمس ان الجنوبيين عمدو للاقتصاص لأنفسهم والقيام بعمل تأديبي للشماليين، معتبراً ما اتخذوه من قرار يمثل تحقيق للذات الجنوبية ويقول (الناخبون أناس تعرضوا للاضطهاد والاحتقار بعد أن شنت عليهم دولتهم حربا شعواء اتخذت سمت الحرب الدينية الجهادية) ويقول هاشم أن الجنوبيين الذين صوتوا بهذه النسب العالية للانفصال هم اكثر شعب قدم ضحايا في تاريخ الحروب الاهلية مشيرا الى ان عدد من سقطوا في هذه الحرب بلغ مليونين ونصف المليون من أهل الجنوب. ويقول ان ارتفاع اصوات دعاة الانفصال ونجاحهم في تحقيق هذه النسب العالية في نتائج الاستفتاء تعود في جانب كبير منها الى سياسة الانقاذ الاقصائية، ويقول ان الانقاذ باقصائيتها التي قادت ما نراه الآن لو منحت اهل دارفور فرصة تقرير المصير لصوتوا للانفصال بنفس النسبة وكذلك الحال لو اتيحت الفرصة للنوبيين في الشمال، مشددا على أنها تتبع سياسات لا تقوم على اي وجه من وجوه العدل بل تقوم على الظلم المطلق، موضحا أنه رغم القواسم المشتركة الكثيرة بين الشماليين والجنوبيين التي لم تعمل الدولة السودانية الا على اخفائها والتي ارتفع وعي الجنوبيين بها خلال الـ 25 سنة الماضية رغم هذه القواسم المشتركة الا ان الجنوبيين احتاجوا الى هذه الخطوة الصارخة لتكون رد اعتبار لهم ودليلا على انهم يستطيعون صناعة التاريخ.
في مقابل هذا التسبيب نجد تفسيرا آخر لدى مدير مركز السودان للبحوث والدراسات الاستراتيجية الدكتور خالد حسين محمد و يحصي له اربعة أسباب، أولها، ان أختيار الحركة الشعبية للانفصال كخيار وحيد رجّح كفته فأصبحت الحركة العامل الحاسم في ظهور نتيجة الاستفتاء بهذه الأرقام، ويقول في حديثه لـ الصحافة عبر الهاتف أمس ان الحركة الشعبية عملت بصورة مشروعة وغير مشروعة للوصول الى هذه النتيجة ويشير حسين للأساليب غير المشروعة التي انتهجتها الحركة في مرحلة التسجيل حيث عمدت الى عرقلة تسجيل اي من يشتم فيه رائحة الوحدة ومنعته من قيد اسمه في السجل، وأيضا مارست الترهيب الشديد ضد من يدعون للوحدة، ومنعتهم من ممارسة حقهم الدستوري في التبشير بخيارهم، ويقول ان حكومة الشريك الأكبر تغافلت عن التجاوزات وقبلت نتيجة الانفصال مقدما لأنه لم يكن أمامها خيار آخر، فهي اذا لم تقبل به ستعود الى الحرب وهي حسمت امرها بعدم العودة للحرب، وبالتالي اضطرت الى غض الطرف عن كل التجاوزات التي قامت بها الحركة الشعبية، واذا لم يجر الأمر على هذا النحو ـ تجاوزات وخروقات من طرف وغض طرف من الطرف الآخر ـ لتغيرت النتيجة وكثيرا.
وعن الأعمال المشروعة التي قامت بها الحركة الشعبية لتغليب خيار الانفصال ونجحت فيها لدرجة كبيرة يتحدث الدكتور خالد عن نجاح الحركة في حمل الجنوبيين ليكون خيار الانفصال خيارا شخصيا لكل فرد منهم ويقول ركزت الحركة بوسائل اعلامية وتنظيمية لتصبح قضية الانفصال مسألة شخصية لكل جنوبي وبالفعل نجحت في خلق انفعال ايجابي تجاه الانفصال تمظهر في الاقبال على التصويت.
وثاني الأسباب ـ بحسب حسين ـ هو الوجود الغربي الامريكي الكثيف قبل واثناء فترة الاقتراع ويقول ان هذه الكثافة العددية الغربية نشطت في حث الجنوبيين على الاقبال على الاقتراع والتصويت لصالح الانفصال، مشيرا الى ان الغربيين كانوا قلقين من عدم اكتمال نصاب التصويت المحدد بستين في المائة من جملة المسجلين بالاضافة الى قلقهم على مخططاتهم المرسومة والمرتبطة بقيام دولة الجنوب ويقول ان الانفصال بات يعني الادارة الامريكية الحالية ويجد أولوية عندها وكأنه شأن داخلي امريكي، ويقول ان الامريكان لم يترددوا في بذل الوعود الضامنة لاستقرار الدولة الوليدة واظهار أعلى درجات الاهتمام بمستقبلها. والسبب الثالث هو الحملة الشرسة التي شنت ضد الوحدويين داخل الجنوب وفي الشمال ووصمهم بالخيانة والعمالة للجلابة مشترطة في الناخب الصحيح الابتعاد عن سيطرة الجلابة أو على الأقل عدم موالاته سواء كان بعدم الانتظام في أحزابه أو مؤسساته الداعية للوحدة، ويقول انه جرت عملية تنفير واسعة من كل وحدوي ومن كل ما يمت للوحدة بصلة، والرابع تدافع جنوبيون في تضخيم مقولة أن البقاء في الشمال يعني ان يتحول الجنوبي الى مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة ويقول حسين أن الحركة بذلت وعدها بأن يصير الناس مواطنين من الدرجة الاولى على أعلى مستوياتها القيادية يتقدمهم رئيسها سلفاكير مما جعل أفئدة من المواطنين تهوى اليها والى خيارها الانفصالي.
وعطفا على ما بدأنا به، يتحدث البعض عن سيادة مشاعر كراهية وسط الجنوبيين تجاه الشماليين، وربما كانت نتائج الاستفتاء تعبيرا عن هذه الكراهية، ويدعو كثير من هولاء الى مراجعة الذات الشمالية وممارسة عملية نقد ذاتي تستحضر كل تجارب التاريخ القديم والحديث، ويذكّرنا جلال هاشم في ما يتعلق بنتائج اللحظة الراهنة بان الجنوبيين كانوا دائما على استعداد لمسامحة الشماليين لكن الشماليين لم يكونوا على استعداد لكي يسامحوا فقد اخذتهم العزة بالاثم، ويستشهد هاشم بظهور حركة وحدوية من بين صفوف الجنوبيين في مقابل بروز حركة انفصالية من بين صفوف الشماليين لا تمثل غير العنصرية والعنجهية وتقوم على مركب استعلاء ويضيف (كل مركب استعلاء يستبطن في داخله مركب نقص). الا ان آخرين يدفعون بأن الحاجة الواقعية إلى الآخر أو المصلحة في إقامة علاقة معه قد تمنع من التعبير عن الشعور بالكراهية له بهذا السفور، ويقولون ان نتائج الاستفتاء لا تعبر عن نقص أو عيب شمالي وانما هي تتويج لطموحات شعب جنوب السودان في تحقيق استقلاله وتكوين دولته الخاصة بعد أن وجد نفسه طوال عقود ما بعد التحرر الوطني الافريقي وبفعل الادارة البريطانية التي كانت تحكم السودان منتظما داخل حدود دولة لا تشبهه ولا يشبهها.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة