عالم الآثار الذي عشِـق السودان
طه يوسف حسن . جنيف
شارل بوني.. عالم آثار سويسري وأستاذ جامعي معروف.. بدأت قصته المثيرة مع السودان منذ أكثر من ثلث قرن من خلال بعثة عِـلمية تابعة لجامعة جنيف، توجّـه إلى شمال السودان للتنقيب عن الآثار في منطقة كرمة، التي كانت في يوم من الأيام عاصمة لمملكة نوبية. انطلقت مغامرة هذا السويسري الذي تحول من فلاح الى عالم آثار بمحض الصدفة بعد أن عثر على آثار رومانية في مزرعته العائلية، من رغبة ثلاثة أصدقاء جامعيين قرروا مواصلة المغامرة الجامعية بالقيام بأبحاث أثرية في مصر أولا ثم تطورت الفكرة للقيام بذلك في السودان.
قضى شارل بوني أكثر من 43 سنة لتعميق معرفته بمنطقة النوبة وبحضارتها وتفكيك أسرار الحضارات القديمة، التي مرّت من كرمة والتي يقول عنها "إنها حضارة أسطورية غير معروفة بما فيه الكفاية".
وقد شكل اختيار المغامرين لأرض السودان مثار استغراب بالنسبة للعديد ممن كانوا حتى عهد قريب يؤمنون بأن أرض الحضارة هي مصر وأن التنقيب في السودان بمثابة "مضيعة للوقت".
و في ندوة عقدها شارل بوني قبيل أيام مضت بالنادي الصحفي السويسري بحضور عدد كبير من الصحافة الدولية تحدث فيها عن حضارة السودان و سماحة أهل السودان اكتست أوجه الصحفيين علامات الدهشة و الاستغراب عندما أسهب شارل بوني في الحديث عن كرم الشعب السوداني وعن حبه و تشبه بالسودان.
البعض يعتبر أن مجهودات شارل بوني تندرج في سياق البحث العلمي الخالص والولع بتفكيك أسرار العالم الذي نعيش فيه والشغف بالتعرف على الحضارات القديمة، لكن البعض الآخر يُـشكّك في النوايا ويزعم بأن وراء الأكمة ما وراءها وأنه لا يمكن أن يُوجد تمويل وعمل من هذا القبيل لوجه الله تعالى. شارل بوني، السويسري القادم من مدينة هنري دونان، مؤسس الصليب الأحمر، يؤكّـد أن غاياته عِـلمية بحتة، كما أن السودانيين الذين تعامل معهم لا يذكرونه إلا بكل خير
وقد تمكّـن بوني و الفريق العامل معه التوصّـل إلى بعض الاكتشافات المهمّـة، لعل أبرزها تماثيلٌ لفراعنة السود التي غيرت العيد من المسلمات التي كانت متداولة ونجح أيضا في بلورة أجوبة شِـبه متكاملة حول تركيبة عاصمة مملكة كرمة وتخطيطها المعماري وكيفية عيش السكان فيها، بل تؤكّـد بعض الآثار التي كشفت عنها الحفريات التي أشرف عليها شارل بوني، أن الإنسان الأول في إفريقيا قد يكون ظهر في هذه المنطقة من شمال السودان تحديدا.ويقول شارل بوني "كنا في البداية نبحث عن آثار مصر في السودان ثم ترسخت لدينا قناعة بأنه من الأهمية بمكان تعميق البحث عن ماضي السودان العريق والمهم والذي له دلالة كبرى بالنسبة لكامل القارة الإفريقية".
كان ذلك في عام 1965 وفي ظروف صعبة للغاية يمكن تصورها بيسر حيث أن الطريق المعبدة الرابطة بين الخرطوم ودنقلة والبالغ طولها أكثر من 550 كيلومتر لم يتم تعبيدها وتدشينها إلا في نهاية العام ... 2007! ويتذكر شارل بوني "بأن قطع المسافة بين الخرطوم وتابو غير بعيد عن كرمة، كان مرهقا بسبب صعوبة التنقل عبر طريق رملية وعرة يتطلب قطعها عدة أيام بل حتى أسابيع"، في بعض الأحيان، لكن، ورغم مشاكل التأقلم مع الظروف المناخية، استطاع شارل بوني وفريقه التعمق في معرفة الماضي التاريخي لهذا البلد.
اكتشاف تماثيل الفراعنة السود في موقع "دوكي قيل" تتويج لعمل شارل بوني والفريق السويسري في منطقة كرمة بالسودان لأكثر من 43 عاما، وخطوة لتصحيح مفهوم تاريخ المنطقة. اكتشاف تماثيل الفراعنة السود من النتائج المهمة التي حققها شارل بوني طوال هذه الفترة الطويلة من التنقيب الأثري في شمال السودان عثوره بمحض الصدفة على سبعة تماثيل لفراعنة سود حكموا المنطقة.
عن هذا الاكتشاف يقول شارل بوني " لقد حالفنا الحظ لكي نعثر في بئر قطره ثلاثة أمتار وعن عمق مترين على قطع مكسرة لسبعة تماثيل هامة لكبار ملوك الفترة التي كان فيها الفراعنة يحكمون كلا من مصر والسودان في آن واحد".هذه التماثيل تمثل الملك تهرقا بعلو متريين وثمانين وتانوت آمون. وأمامهما الملوك الذين حكموا بعدهم من أمثال سنكمانيسكن و تا ان وآتي آمن بغطاء رأسه المتميز. أما الملك الصغير فهو آسبلتا الذي حكم المنطقة لأكثر من 25 سنة بعد سقوط كرمة و نقل العاصمة الى جبل بركل قبل أن يعيد مجد النوبة بعد نهاية الغزو المصري.وقد تم تركيب قطع التماثيل من قبل الخبير الألماني ماركوس بلود بنوع من الصعوبة قبل عرضها كقطع أصلية في متحف الحضارات في كرمة وهو المتحف الذي أقيم بمجهود سوداني وسويسري لعرض كل ما تم العثور عليه من قبل فريق البحث السويسري في كرمة والذي افتتحه الرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير في التاسع عشر يناير 2008.
دوكي قيل، أو الهضبة الحمراء باللغة النوبية، موقع تقاسمه الفراعنة المصريون الى جانب ملوك النوبة واحتفظ بمعالم هي بقايا الغزو المصري لشمال السودان ولكن وجدت به أيضا معالم عمرانية تميز قوة وعظمة الحضارة النوبية في عهد مملكة كرمة.
استطاع الفريق السويسري للتنقيب عن الآثار في منطقة كرمة بالسودان تجسيم معالم أولى التجمعات السكنية في إفريقيا من خلال نموذج تم إنجازه في سويسرا وسيتم نقله قريبا ليُعرض بشكل دائم في متحف كرمة.
النموذج عبارة عن مجسم لأولى التجمعات السكنية التي تم اكتشافها في منطقة الديفوفة الشرقية والتي يعود تاريخها لحوالي 3000 ألاف عام قبل الميلاد، والثاني لمدينة كرمة التي كانت عاصمة للمملكة النوبية في المنطقة.
تم في متحف نوشاتيل بسويسرا في 17 يونيو تدشين نموذجين لتجمعات سكنية تقدم لنا الكثير من المعلومات عن حضارة ما قبل كرمة في شمال السودان. النموذج الأول يعرض أولى التجمعات السكنية أما الثاني فيخص مدينة كرمة عاصمة مملكة كرمة.وقد كانت المناسبة فرصة للبروفسور شارل بوني، رئيس فريق التنقيب السويسري في منطقة كرمة، وللبروفسور ماتيو هونيغر المشرف على أبحاث حقبة ما قبل كرمة بنفس البعثة، لإطلاع جمهور غفير توافد على المتحف، على آخر الاكتشافات التي توصل إليها فريق التنقيب عن الآثار في منطقة كرمة بمحافظة دونغولا بشمال السودان.
المرجع : سويس انفو
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة