إنها عواطف أحمد إسحاق، ذات الـ26عاما، والتي واصلت ما بدأته شقيقتها الكبرى"عفاف" قبل 11 عاما بإصدار مجلة حائط باسم"الرحيل".
كانت هذه المجلة تعلق أولا على أبواب مدرسة الفاشر الثانوية للبنات.
عندما توفت عفاف في العام 1998، استمرت عواطف التي تعاني من إعاقة طرفية في أداء المهمة.
ومع زيادة الاضطراب الأمني في الإقليم منذ 2003 أصبحت المجلة التي تعلق على شجرة قرب منزلها بحي خور السيال بمدينة أم المدائن بمدينة الفاشر، مزارا للمارة والمسافرين بما يقارب المائة قارىء في اليوم، يطالعون قصصاً مصدرها أهالي الإقليم نفسه، وهو ما قد تعجز الصحف عن الوصول له أو تمنع من نشره.
يذكر بأن إقليم دارفور (غرب السودان) المهمش تنمويا، شهد اضطرابات أمنية عنيفة بداية عام 2003. وبحسب المتمردين، فإن الحكومة تقمع الأفارقة السود لصالح العرب، وكلاهما مسلم. فترد الحكومة بأن الأمر متعلق بقطاع طرق وصراع على الماء وأماكن الرعي، رافضةً اتهامات باستخدام الغازات السامة والأسلحة البيولوجية ضد سكان الإقليم. وقد جاءت تسمية "جنجويد" في إحدى التفسيرات على أنها اختصار لـ(جني راكب جواد جاء بالليل) حيث تُـتهم الحكومة بتعبئة ميليشيات عربية تركب الخيل والجمال لتغير على قرى المدنيين بدارفور.
" كان هناك بعض الصبية يلعبون بمسدساتهم تحت الشجرة ويبدو أنهم في نفس الوقت يحرسون اللوحة، اقتربنا أكثر فقرأنا : جريدة الرحيل، تصدرها أسرة احمد اسحق. وكانت حكمة العدد تقول "الفقر ليس عيبا ولكن العيب ألا يكون الإنسان طموحا".
وقد أطلق على عواطف لقب "البنت الجريدة" في تحوير لقصيدة لمطرب سوداني شهيرمصطفى سيد أحمد بعنوان"البنت الحديقة".
وعن قصّة "الرحيل" قالت: " الرحيل هي حلم فكرة واقع. وهي الفكرة التي نلت شرف تحقيقها مع شقيقتي الراحلة عفاف. وقد غيرت اسم الجريدة منذ العام 1998 من المستقبل إلي الرحيل. في البداية كانت الكتابة علي ورق الفولسكاب والصمغ وبورد من الخشب مساحته 12 ورقة وبعض الألوان لرسم الكاريكتور والعنوان ومكتب تحريرها داخل البيت ".
واكملت: "كنت أقوم بجمع المعلومات من الحي أولا ثم المدينة وثم أطرافها وكانت اغلب المواضيع قبل الحرب تتحدث عن المعاناة في جاب الماء علما بان شمال دارفور تعاني من مشكلة في المياه. وكنت اطرق نافذة المرأة والأعمال الشاقة وبعض المشاكل كالصحة والتعليم وصعوبة السفر. وبعدها تخرج من غرفة التحرير إلى الشجرة التي تقع شرق منزلنا وتستقر لمدة شهر تحت ظل الهجليجة وبالقرب منها الحاجة عائشة تبيع الفول وحولها صبيان الحي يلعبون ويحرسونها من الأغنام والاشراس".
وحول أهم القضايا التي تتبناها الرحيل قالت عواطف "التركيز الآن علي مواضيع السلام الاجتماعي والثقافة والتراث هي طريق للحل"
طلبنا منها أن تصف لنا يوم عملها "اليوم متعب والعمل شاق إضافة إلي بعض الالتزامات المنزلية والتواصل الاجتماعي الإمكانيات ضعيفة ولكن ..الرحيل تتواصل بالطموح وهذا وعد الرحيل للقراء بالتواصل من أجل المعرفة والتعبير عن الحقيقة والانحياز الي الحق"
وقد نالت تكريما في عيد المرأة العام الماضي من مركز دراسات السودان المعاصر، كما أقام أصدقاؤها وأعضاء في منتدى "سودانيز أون لاين" الاليكتروني حفلا كبيرا لها بداية العام نفسه في المركز الثقافي الألماني بالخرطوم حيث تسلمت كاميرا من بريطانيا وكومبيوتر وطابعة من الإمارات ومبالغ مالية تبرع بها قراء اعتبروا أن ما تقوم به هذه الفتاة من جهد فردي جبار يستحق ما هو أكبر من الدعم المعنوي.
وبسبب تقديرهم لجهدها وبوازع من التكافل الذي يميزهم، حاول أعضاء منتدى"سودانيز اون لاين"ومواطنون سودانيون في المهجر تكوين شبكة مراسلين للجريدة في العالم من الصين وحتى أمريكا.
وحاولوا تكوين جمعية "أصدقاء رحيل" كجمعية تطوعية تقوم عضويتها بدفع اشتراك مقداره 10 دولار شهرياً.
وكثيرا ما يقارن صحافيون مهتمون بشأن دارفور بين مثابرة "الرحيل" واستمرارها بجهد شبه فردي وبمواجهة تحرش السلطات الحاكمة، وبين تشرذم وفشل عشرات المنظمات السياسية الدارفورية في إصدار جريدة تنقل حقيقة معاناة مواطنيهم.
ونشرت عن الفتاة صحف أمريكية مثل واشنطن بوست ولوس انجلوس تايمز، وبعض المواقع الهولندية، فيما غابت تقريبا عن الإعلام العربي إلا من تقرير بثته قبل عام قناة الجزيرة تحت عنوان "جريدة على الشجرة".
بالإضافة لما يحدث في الإقليم تنشر، عواطف خواطرها الشعرية و قد أعجبت بعض أغانيها مجموعة عقد الجلاد الموسيقية والتي طالما تعرض أفرادها لتعنت النظام بسبب مضمون بعض أغانيهم الرافضة للحكم المتسلط بالبلاد.
وعواطف عضوة في عدة جمعيات ثقافية كما أسست جماعة "بشيش" الثقافية بالفاشر.
فر بعض أقارب عواطف من هجمات "الجنجويد" على قراهم المترامية ومنهم ابن عمها الذي ظل مترجلا لثلاثة أيام قبل أن يصل لمكان آمن، كما توفى جدها في معسكر للنازحين بنيالا -جنوب كردفان، وتقول في إحدى خواطرها بالجريدة:
وزمني منك
يا هذا السفر
وحقائبي منعت
وتذاكر الترحال
جمعها القدر
وقد حاول مسؤولون التأثير على والدها الذي يعمل في سلك الشرطة لإيقاف "الرحيل"، لكنه دعم موقف ابنته بشدة.
وتوجه صاحبة الجريدة التي عملت لفترة في الإذاعة المحلية رسائل للقادة المحليين والدوليين، تحثهم على حل مشاكل دارفور. كما تقدم مواد مترجمة عن لغات ولهجات محلية، وبعض الطرائف. وتهتم بدور المرأة في الإقليم سياسيا وثقافيا. وتنشر الجريدة تعليقات القراء وأحيانا ما يقومون هم بأنفسهم بإضافة تعليق بخط أيديهم على المنشور.
وتعكس بعض كتابات عواطف ألمها الشخصي بالتوازي مع معاناة إقليم كامل:
أنا بت ملفحة بالصبر
بتغطي بالهم والتعب
أنا معطرة بأريج الأمسيات
مزدانة بالأيام تعب
مستنية الرحمة
حتى تصل للمقطع الذي تلخص فيه بداية العنف بدارفور والتطلع لحل، قائلة:
انو الحرب بدء في الغرب
يا ربي ادينا السلام
يا ربي ادينا الأمان"