اتفاقية نيفاشا ووهم المعاهدات والمواثيق
مع اقتراب الاستحقاق الاكبر لاتفاقية نيفاشا ,اذدادت وتيرة المواجهات والتصريحات على مختلف الصعد , وكأن طرفى الاتفاقية حينما صاغوها لم يدركوا ان هذا التاريخ قادم , وكأن الذين لعبوا الدور الرئيس فى ابرامها من القوى الاقليمية والدولية كانوا يركزون على مؤتمرات للعلاقات العامة أسوة بالقضية الفلسطينية والحالة العراقية , ولكن يدرك الطرفان جيدا ان نيفاشا شأن مختلف تماما , وان الوسطاء والشهود يعنون تماما ما يفعلون , لذلك كان اصرارهم على اهم جوانبها الا وهو السقف الزمنى , وهنا لا اود الخوض مجددا فى الاسباب وراء اقصاء القوى السياسية الشمالية من هذه الاتفاقية واصرار الوسطاء والشهود على ذلك , ولكن عبر هذه الاسطر اود التركيز على جانب اكثر اهمية فى امر هذه الاتفاقية الا وهو الاصرار على الالتزام بماورد فيها , وهو بلا شك مطالبة شرعية لايختلف عليها اثنان , وبغض النظر عن الذى يعوق تنفيذها , والتلويح من قبل كل طرف للاخر بمايمكن ان يلجأ اليه من تدابير فى حال عدم الالتزام ببنود الاتفاقية . والذى أستغربه حقيقة هو ان كلا الطرفين يعلمون جيدا ان هذه الحيثيات لاتعنى الوسطاء ولا الذين لعبوا القدح المعلى فى ابرامها من قبيل امريكا والاتحاد الاوربى ومن يدور فى فلكهم , فالمؤتمر الوطنى راهن على الحوافز الدولية اكثر من العمل على تأمين اسباب الوقاية فى حالة نكوص الوسطاء والراعيين لوعودهم والالتفاف عليه من خلال فتح قنوات مع القوى الشمالية الاخرى بغية تأمين الجبهة الداخلية والتصدى الجماعى مدعما بالسند الشعبى العريض فى مواجهة الموقف , وبالنسبة للحركة الشعبية , فقد راهنت على عنصر الزمن والارث الدولى الكبير للراعين فى المراوغة والتملص من الالتزامات ونجحت فى ذلك بأمتياز ,وكان ذلك اكثر وضوحا حينما ادارت ظهرها لقوى تحالف اسمرا , ليس من منطلق انهم ليسوا بوحدويون او لايدركون مرامى الراعيين , ولكن بلا شك تجربتهم من النخب السياسية الشمالية دوما كانت تتسم بالمزايدة على حساب قضيتهم , وليس هذا شأن الجنوب فقط ولكن كافة المناطق المهمشة بالبلاد فهى ارث النخب السياسية الشمالية كافة منذ الاستقلال , فهم دوما منشغلون بالمكايدات فيما بينهم , وتقسيم الكيكة كما يسمونها , اما قضية التنمية ومعالجة قضايا مثل تنمية الريف ومعالجة اسباب الفقر والبطالة ...الخ فهذه تتزيل سلم اولوياتهم , وها نحن اليوم نتأهب لواحد من اهم استحقاقات حصيلة تلكم السياسات . وفى هذا المقام وددت الاشارة لاهم جوانب ذلك الاستحقاق وهو ماتعنيه الاتفاقات والمواثيق من هذا النوع على مستوى العلاقات الدولية , خاصة حينما يتحدث البعض عن انها شىء مقدس لايجب المساس به , او التملص منه , او عدم الالتزام بنصوصه . وحتى لايصفنى البعض بأننى اغالى , فأننى اقدم للقارىء الكريم حصيلة تجربة المفكر الاستراتيجى العالمى الشهير السير ليدل هارت البريطانى الجنسية , وعالم التاريخ الشهير لنقف على حصيلة تجاربه فى هذا الشأن , واترك للقارىء الكريم تقييم مايجرى الان على الساحة السودانية على ضوء تجربة هذا الخبير العالمى .
تحت عنوان وهم المعاهدات والمواثيق كتب السير ليدل هارت :
لعل اعظم واهم عبرة واوضح وابرز خبرة , يمكن ان نتعلمها من استقراء التاريخ واستنطاق الماضى , هى نلك التى تقول ماخلاصته : ان المعاهدات التى تعقدها الحكومات لاتدوم الى الابد على الاطلاق , ولاتتمتع بقوة الثبات والاستقرار والاستمرار الى مالانهاية من الزمان . بل انها تستمر وتدوم , طالما ان الاطراف الرسمية التى وقعت عليها والتزمت بها قد بقيت على احترامها لها اقتناعا منها ان مصالحها الحقيقية والحيوية والاساسية توجب وتستلزم وتستدعى استمرارها ودوامها . او , بعبارة اخرى , ان استمرارها ودوامها وسريان مفعولها , كان دائما يتوقف مباشرة على حسابات المصلحة وموازين القوة وظروف السياسة وحقائق وخصائص العلاقات التعاقدية بين الاطراف المتعاقدة , وينعكس عنها , ويستجيب لها , ويرتبط بها اوثق واشد ارتباط . وفى ضوء ماتقدم , يبدو الكلام الطنان الرنان المكرر الفارغ الاجوف عن " قدسية المعاهدات الابدية وحرمة المواثيق الازلية ", هذرا ولغوا وهذيانا لايطيقه ولايستسيغه ولايستحسنه علماء السياسة وفلاسفة التاريخ , وان اصاب هذا الهوى قلوب فقهاء القانون احيانا بعقلهم النظرى ومنطقهم المطلق وفكرهم المجرد .
ولامفر من مواجهتنا للحقيقة الواقعة , شئنا ام ابينا , واحببنا ام كرهنا , وهى : ان العلاقات الدولية محكومة بحسابات المصلحة وموازين القوة , وليس بالمثاليات المشوشة والقيم الاخلاقية والمبادىء الانسانية . ومن الواضح ان الامن لايمكن ان يتحقق للطرف الذى يتفاوض من موقع الضعف . ولكن نتائج واحتمالات التفاوض تكون اطيب وافضل اذا دار بين طرفين يبدو جليا انهما قد تعادلا او تقاربا فى القوة . ففى مثل هذه الحالة , تقوم التسوية على الادراك المتبادل والمشترك , ان احتمالات انتصار طرف واحد على الطرف الاخر انتصارا كاسحا كاملا , لايتناسب على الاطلاق مع احتمالات خسائر واضرار وتكاليف وعواقب الاستنزاف المتبادل , ولا مع احتمالات قيام اطراف خارجية ثالثة بأستغلال هذه الظروف والفرص والسوانح للهيمنة على الطرفين المتحاربين معا . بالاخص اذا كانت هذه الاطراف الخارجية الثالثة قد اتخذت موقف الانتظار , تتفرج على الصراع الدائر من بعيد , وتراقب التطورات عن كثب , وربما تتصيد فى المياه العكرة احيانا , وتسكب النفط على النار وتزيدها تأججا واشتعالا , او تتدخل تدخلا نسبيا على هذا النحو او ذاك فى الوقت الذى بلائمها وبالشكل الذى تعتقد انه يخدم مصالحها , ومن المحتمل ان يكون تدخلها محدودا على نطاق ضيق وبأسلوب غير مباشر . وقديما قال الرومان فى مفهوم اصبح تقليديا الان : " اذا اردت السلام ,فأستعد للحرب " . ولكن الحروب العديدة التى خاضها الرومانيون القدماء , والسلسلة الطويلة من الحروب التى نشبت منذ ذلك الحين وحتى الان , قد اثبتت فساد هذا المنطق , واظهرت مايعتريه من خلل وعطل وخطل , او كشفت على الاقل انه اتسم ببساطة التعبير وقلة التفكير وسذاجة التدبير على حد سواء , ولم ينل على ايديهم , ماكان يستحقه من تحليل واهتمام ونظر .
وقد افاد (كالفين كوليدج ) ذات يوم فى مقولة عابرة بعد الحرب العالمية الاولى : " لم تمتلك امة على الاطلاق جيشا لجبا جرارا على درجة كافية من الضخامة والقوة بحيث يمنع عمليا تعرضها الى الهجوم فى وقت السلم , ويضمن مسبقا احرازها للنصر فى وقت الحرب " .
لقد صرفت الشطر الاعظم من عمرى , وعكفت زمنا طويلا اخاله الان دهرا كاملا , على دراسة ظاهرة الحروب , وتحليل الاسباب والظروف والعوامل التى ادت الى نشوبها . واقتنعت بالنتيجة فى خاتمة المطاف ونهاية الطريق , ان الشعار الرومانى القديم ليس صحيحا , وان الشعار الاصح والاقرب الى الواقع والادعى الى التصديق قد يكون الشعار القائل " اذا اردت السلام ,فأفهم الحرب " . وقد تأكدت قناعتى بهذا المفهوم الجديد , وكسبت المزيد من المصداقية , فى ضوء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) , وماشهدته من معارك كبرى واستراتيجيات مبتكرة , وماتلاها من احداث فاصلة وتطورات حاسمة . لانها وضعت العلامات الصحيحة للمرور على الطريق الموصل الى السلام . وقد انطوت علامات المرور على اّمال اطيب واعرض بالنجاح من الخطط الجاهزة للسلام التى شهدناها بعد الحرب العالمية الاولى (1914 – 1917) , والتى ثبت فى وقت لاحق انها قصور من الرمال وقلاع من الكرتون .
وتنطوى كل خطة للسلام , كائنة ما كانت , ليس فقط على احتمالات الفشل , بل تتعداها ايضا الى اخطار داهمة وتهديدات حقيقية , لاتستثنى احدا على الاطلاق . وعلى مثال جميع الخطط الموضوعة والمرسومة والجاهزة , الا اذا كانت تتعلق بالابنية المادية والعمارات السكنية والانصاب العمرانية , فأن خطط بناء السلام قد تتعرض الى التصدع والسقوط والانهيار بفعل اهمالنا وتجاهلنا وتناسينا للطبيعة الانسانية وخصائصها المتميزة وغرائزها المتأصلة واحكامها الاساسية . والاسوأ من ذلك كله , ان الامال التى نعلقها على امثال هذه الحطط كلما كانت اكبلا واعظم واعرض , بعد حرب قديمة سابقة وضعت اوزارها , كلما ازداد الاحتمال ان تصدعها وانهيارها وسقوطها سيؤدى الى نشوب حرب جديدة لاحقة , لم تنشب بعد , ولكنها ستنشب بالتأكيد فى يوم قريب او بعيد من الايام .
لاتوجد وصفة سحرية خارقة جاهزة للسلام يمكن ان تكتب كما يكتب الطبيب مايسمونه اصطلاحا بوصفة الدواء . ولكن يمكن استخلاص بعض المؤشرات العملية والمبادىء الاولية من تجارب وخبرات الانسان فى كل زمان ومكان , بأستقراء التاريخ وتحليل الماضى ,استنباطا للدروس المستفادة , واستخراجا للنتائج والعبر . ومن تلك المؤشرات والمبادىء على سبيل المثال , لا الحصر , مايمكن تقديمه تلخيصا وعرضه ايجازا كمايلى :
ادرس ظاهرة الحرب , وتعلم من تاريخها . كن قويا اذا امكن . ولكن كن هادئا فى جميع الظروف والاحوال . تمسك دائما بالصبر الجميل والنفس الطويل والنظر البعيد . لاتسد المنافذ والمخارج والابواب على عدوك من جميع الجهات , وساعده اذا استطعت على انقاذ ماء وجهه . ضع نفسك فى مكان عدوك , فتفهم كيف ينظر الى العالم من حوله ولماذا يتصرف كما يفعل . ابتعد عن الادعاء بالحق المطلق والكمال المعصوم ابتعادك عن الشيطان , لانه يعمى بصرك وبصيرتك , ويوقعك فى وديان التعصب ومهاوى الغرور ويوردك موارد التهلكة , حيث لاينفعك عون ولا معين . وانج بجلدك من وهمين قاتلين , وقاك الله منهما , وابعدك عنهما : الوهم الذى يغويك بالنصر الكامل المطلق , والوهم الذى يغريك بالحرب الكلية الشاملة ويقودك الى الاقتناع الباطل والخطأ الفادح بأن الحرب لايمكن ان تكون محدودة بأى شكل من الاشكال . وقد وردت جميع هذه الملاحظات , تلميحا او تصريحا , بالعبارة او بالاشارة , فى اقدم كتاب معروف فى العالم طرأ عن قضايا ومشكلات الحرب والسلام , واقصد بذلك الكتاب الذى وضعه المفكر الصينى (صن تزو ) بعنوان (فن الحرب ) , سنة (500 ق . م ) . والحروب العديدة التى وقعت منذ ذلك الحين , ومعظمها غير ضرورية ولا مجدية , قد اثبتت كم كان قليلا ماتعلمته الامم من التاريخ . ولكن هذا العلم القليل والدرس الصغير ربما اصبحا الان الامل الوحيد والاخير للدفاع عن مصير الانسانية ومستقبل الحضارة فى الظروف العالمية الراهنة . فعسى ان يكون ماعرفناه كافيا , وماتعلمناه مفيدا .
بناءا على ماتقدم , هل فهم طرفى اتفاقية نيفاشا الحرب , وهل ادركا حقيقة موارد التعصب والغرور , وهل استقرأوا التاريخ واستنبطوا الدروس المستفادة , فالحقيقة التاريخية التى لاتقبل الجدل ومن دروس التاريخ المستفادة ان الخصمين عدوهم الحقيقى هو الطرف الثالث , وهو الذى يسكب الزيت على النار , لتحقيق اهداف لا اخالها خافية على الطرفين , والبلاد تعبر هذا المنعطف الخطير عليهم بالابتعاد عن التعصب الاعمى وادراك الابعاد الحقيقية لما يقتادون له , وللنظر الى نيجيريا مثلا , وهى اكبر منتج للنفط فى افريقيا , ماذا جنى سكانها , اذهبوا الى دلتا نيجيريا , والاسلحة تنهال من كل حدب وصوب . وشعب يعانى جله من الفقر والجوع , وصراعات متعددة الاشكال , من يغذيها , واين تذهب موارد البلاد ؟ انه بلا شك الطرف الثالث , اذهبوا للكونغو صاحب الثروات الضخمة , فكيف يعيش سكانه , اليس السبب هو الطرف الثالث . فاينما وجدث ثروات طبيعية يحتاجها الطرف الثالث كان حضوره فاعلا , فعلى العقلاء التبصر وعدم الاندفاع وراء الثراب الذى يمنيهم به الطرف الثالث , وليجلس الجميع على طاولة مستديرة , ولترتفع المصالح الوطنية العليا فوق اصوات التعصب والمغالاة , لتفويت الفرصة على الطرف الثالث قبل فوات الاوان , والا فالجميع يعلم حجم قدرات ذلك الطرف , وواهم من يظن ان الاتفاقيات والمعاهدات شكلت يوما ارضية قوية وراسخة لبناء الاوطان وكان راعيها الطرف الثالث .
والله من وراء القصد
عاطف عبد المجيد محمد
عضو المنظمة الدولية لشبكة المعلومات والعمل لاولوية حق الغذاء – هايدلبرغ – المانيا
عضو الجمعية الدولية لعلوم البساتين – بروكسل – بلجيكا
الخرطوم بحرى – السودان
تلفون :00249912956441
بريد الكترونى :[email protected]
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة