دار فور صراع ثقافى ام حرب مصيرية للقبائل العربية
خلفية تاريخية :ابراهيم محمد اسحق
تعتبر دارفور من السلطنات الإسلامية التي قامت في القرن الرابع عشر الميلادي جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. وترجع أصول سكان دارفور الأصليين للقبائل النوبية والحامية والزنجية مع اختلاط ببعض الدماء العربية التي ذابت بفعل عوامل الجغرافيا والتاريخ في الكيانات المحلية. و منذ تأسيس دولتهم الإسلامية ة فقد ظل الفور كحكام يحافظون على نسيج المجتمع في دولتهم طيلة الخمسة قرون فترة حكمهم. وبالرغم من أن الفور من المجموعات النوبية فهم يعتبرون أقدم سكان السودان القديم[1].
وقد أدي دخول الإسلام بلادهم إلى استقرار مجموعات محدودة من القبائل العربية بدارفور. إلا أن المجموعات التي دخلت في الفترة الأولي كانت غالبيتها من طبقة العلماء ورجال الدين، واقتطعت لهم حواكير الجاه[2].
أما مجموعة القبائل الرعوية فقد كان يحتاج دخولهم إلى مناطق بعينها إلى فترة زمنية محددة (هذا فيما يخص القبائل الراحلة) أما القبائل الرعوية المستقرة فقد كانت تمتهن مهنة الرعي وتقوم برعي أموال الدولة وأرباب الدولة من القادة والأمراء. ويتم تحديد إقامتهم في حواكير رعوية خاصة تتبع لحاكم الجهة أو مندوب السلطان[3] –وبهذه الكيفية اصبحت في سلطنة الفور ودولتهم خصوصية اعتبارية للعلماء وأهل الدين والصلاح. وتم تقسيم سكان دارفور إلى كيانات اجتماعية بحكم وظائفهم وحِرَفَهمْ ولا ينال شخص المكانة إلا حسب ما يقدمه من عطاء في خدمة الدين والعلم والثقافة.
لذلك نجد أن القبائل العربية التي دخلت دارفور صارت لها ديار ولم تكن لتحافظ على مكانتها إلا بما تقدمه من ولاء لسلاطين الفور, فكم من حرب طويلة خاضتها هذه القبائل لصالح تأمين السلطنة وحدودها. ومن أكبر الحروب التي خاضها الفور في التاريخ هي تلك الحرب التي خاضها السلطان تيراب لدفع غارات السلطان هاشم وحلفائه من القبائل العربية الرعوية على حدود السلطنة الشرقية في كردفان. فقد كانت هذه القبائل تقوم بالإغارة على قوافل التجارة ونهب القري، وتمارس تجارة الرقيق.ولم تكن تشعر القبائل العربية المتحالفة مع الفور والتي تقاتل في صفهم بأي تمايز أو فوارق في الانتماء لأرض دارفور وتاريخها. فكان التكاتف والحمية للدفاع عن الحق ونصرة المظلوم والعيش بسلام.
وعندما قام الأتراك بفتح السودان و اسقطوا مملكة الفونج لم يبق أمامهم إلا فتح دارفور. أرادت الحكومة التركية استغلال فرصة أن السلطان شاب لم يتجاوز السابعة عشرة فقررت غزو دارفور وشنت عدة حملات باءت جميعها بالفشل فقد استعصت عليهم و سطر التاريخ ذلك الموقف البطولى للسطان محمد الفضل الذي تولي الحكم في ريعان شبابه وخاطب محمد على باشا ب خطاب مشهور[4]. واستمرت دارفور مستقلة حتى عهد السلطان محمد حسين ابنه الذي قام بتأسيس أول جيش نظامي حديث مدرب ومسلح بأحدث الأسلحة في أفريقيا. وأجري له الرواتب – مما دفع تركيا لإقامة علاقات حميمة معه وصرفت وجهتها عن فتح دارفور.
وقد طلب محمد شريف شقيق سلطان وداى الحماية من السلطان محمد الفضل ولجأ إلى دارفور ونال الحماية وتم إكرامه وسيرت دارفور حملة ضخمة ونصبته سلطاناً على وداى وأبطلت العادة السيئة التي كانت سائدة في وداى، وذلك عندما يستولي الحكم أحد أفراد العائلة يقوم السلطان الجديد بقلع عيون أفراد العائلة المالكة مما أدى بمحمد شريف للفرار إلى دارفور وعندما تولي الحكم أبطل هذه العادة.
وخلفه ابنه السلطان إبراهيم قرض، الذي سعي لحماية كل قبائل دارفور وتلك التي لجأت للسلطنة نتيجة صروف الدهر. ولم يكن الفور يفرقون بين الفور والقبائل العربية الأخرى. حتى أن من أسباب سقوط سلطنتهم في 25 أكتوبر 1874م على يد الزبير باشا كان نتيجة الفتنة التي أثارها زعماء الرزيقات بعد اعتراضهم لطريق التجارة ونهبهم لقوافل الزبير باشا ونقضهم لاتفاقية الصلح بينهم والزبير. فقام الزبير باشا بمخاطبة سلطان دارفور إبراهيم قرض بتسليمه مشايخ وزعماء الرزيقات، إلا أن السلطان رفض تسليمهم حفاظاً على كرامتهم بحكم أنهم احتموا به. وعندما رفض إبراهيم قرض تسليمه زعماء الرزيقات أعلن الحرب على سلطنة دارفور. فخاض عدة معارك انهزم في أكثرها وكانت أغلبها في شمال دارفور. وعمل على تأليب هذه القبائل العربية التي تقف صفاً مع الفور حتى تخرج من حلفهم. ونجح الزبير باشا في ذلك وتمكن من الانتصار على جيش الفور في معركة منواشى بالقرب من نيالا. وأنهي سلطنة الفور الإسلامية وسلمها إلى تركيا. وقد دفع الفور استقلالهم ثمناً لحرية قبائل الرزيقات وصار حلفاء الأمس أعداء اليوم !!.
حكم التركية في دارفور :
لم يستمر حكم التركية في دارفور طويلاً لأنهم مارسوا المكر والخداع حتى على من سلمهم حكم دارفور فتم سجن الزبير باشا مكافأة له ومات مأسوراً في سجون القلعة بمصر.
أستمر الفور في ثورتهم على الحكم التركي وتمكنوا بحسن سياستهم من إعادة الحلف مع القبائل ذات الديار مرة أخري. واستطاع هذا الحلف من مواجهة الحكم التركي الظالم حتى ظهرت المهدية فتوسع حلف مقاومة الأتراك بهجرة المهدى إلى كردفان فصار الشمال السوداني شريكاً في الحلف بقيام الثورة المهدية التي كان وقودها قادة زعماء كردفان ودارفور بعشائرها المختلفة.
وتمكن المهدى من مصاهرة سلاطين الفور بزواجه من الميرم (الأميرة) مريم بنت نورين بن السلطان محمد الفضل وبالرغم من أن الثورة المهدية بدأت ثورة ضد الظلم والاستعمار في عهد المهدى، إلا أنها تحولت بمجرد وفاته إلى قمة للظلم وذلك في عهد خليفة المهدى. فاستطاعت القبائل العربية من البقارة ذات الولاء الأعمى للمهدية وقبائل الفلاتة القادمة من غرب أفريقيا للصعود إلى أعلى قمة جهاز الدولة المهدية وذلك في وجود الخليفة عبد الله التعايشى
وظهرت بوادر تمرد قبائل دارفور بزعامة الفور على سلطة المهدية. وتمكنوا من الحصول على الدعم العسكري من السلطنات الأفريقية المجاورة لدارفور !! وعادت معهم في الحلف القبائل العربية ذات الأصول بدارفور بدافع الحفاظ على مكانتهم وديارهم متى ما تمت للفور إعادة دولتهم. ولكن معسكر الخليفة وحلفاءهم كانوا على النقيض منذ ذلك الوقت فهل يكرر التاريخ نفسه للمرة الثانية؟! فبدأ انقسام قبائل دارفور إلى مجموعتين متحالفتين. وشعر الفور ومعسكرهم من القبائل الأصلية أن قبضتهم بدأت تضعف وأن سلطانهم على وشك الزوال. في ذات الوقت بدأت القبائل الغائرة على حكم
الفور تبدى رغبتها في إزالة السلطنة. وللأسف فإن معسكر الخليفة كانت قراءته للأحداث ولواقع الأمور خاطئة. وأعتمد في سياسته على البطش والتنكيل واستقطاب القبائل الصغيرة التي ليس لها أي وزن والمهاجرة من غرب أفريقيا والتي دفعتها ظروف القهر الاستعماري للبحث عن ملاذ آمن في السودان على حساب أهله الذين أصبحوا يعادون الخليفة واعتبروا انتماءه للتعايشة مجرد غطاء وقناع وأرجعوا أصوله للقبائل الوافدة من غرب أفريقيا بل أعتبروه من الفلاتة النوردو. وحقيقة فأن أصل التعايشة كقبيلة موجودة في تشاد وأفريقيا الوسطى.
كذلك انتفضت وثارت بعض القبائل العربية ذات الديار المستقرة في دارفور منذ قديم الزمان فشعر الرزيقات بالغبن من دولة الخليفة لأنه همشهم. وسيق التعايشة مكبلين إلى دار الهجرة فصارت الحكامات يغنين أغنياتهن (زمينوا بنيرانوا أخير من المهدى وجنانوا). وَصِرْنَّ يؤلبن الرجال على القتال في صف الفور ضد المهدى .. وتوالت الضربات على حكم الخليفة وأهله من الأعراب لأنه وسع الحرب شمالاً نتيجة إجباره لبعض القبائل للهجرة قسراً وشعر الأشراف بالإهانة لتفضيل الخليفة للأغراب عليهم كما شن الخليفة الحرب على قبائل الجعليين والشايقية والدناقلة وفروعهم وما أغاني التراث الشعبي لثقافة الوسط إلا ذاكرة للشعب السوداني لما خاضه الخليفة من الحروبات وبات ذلك دليلاً على بطش الخليفة الذي مارسه على القبائل ذات الأصول السودانية تاريخياً. وأنقسم السودان الكبير إلى حلفين، حلف السكان الأصليين والأشراف المناسبين لسلاطين الفور والقبائل المنضوية تحت لوائهم من عرب وعجم.
وعلى النقيض من ذلك حلف الخليفة التعايشى ومجموعة القبائل المنضوية تحت لوائه حتى جاءت الطامة الكبرى بدخول القوات الإنجليزية إلى الخرطوم. فوجدت قبائل السودان الشرقي الفرصة للتحرر من الخليفة وحكمه ووقفت في صفوف القوات الغازية. وانعكست الآية بعد أن حاربت مع المهدى ضد الاستعمار كذلك وجد الفور وحلفاؤهم من الرزيقات وبعض الدناقلة والمساليت والزغاوة الفرصة لإعادة عرش سلطنة الفور الى الوجود مرة أخرى وإعادة القوى الحيوية لها حتى تتمكن من الوقوف أمام السيل المتدفق من البشر القادم من غرب أفريقيا. بعد أن سمعت بقيام دولتهم في ارض الميعاد - أرض النيل
وستظل هنالك اسئلة كثيرة حائرة؟
لماذا شن الخليفة حملته على قبائل السودان الأصلية وحاول انتزاعها من جذورها؟! ويحس الإنسان بشعور ملئ بالاسى من تصرف الخليفة حيال النساء والأطفال. ففي مذكرات السيد/عبد الرحمن المهدى يحكى كيف لاقى الذل والهوان هو ووالدته من قبل الخليفة وكيف كان يعاملهم بالقسوة رغم أنه كان طفلا صغيرا ووالده هو الامام المهدى. وقد أدت بهم الظروف لأكل أوراق الشجر هو ووالدته وأخواله من الفور وعلى رأسهم السلطان على دينار. وكان رد الخليفة للطفل الصغير أنه يعامله بهذه القسوة حتى لا يتذكر أنه من سلالة سلاطين الفور - أي خواله. ولقد ذكر السلطان على دينار في مذكراته كيف أنه لاقي الاستفزاز في عهد الخليفة .. وقال أن الخليفة قام بتشريد جميع أهل دارفور وقام ببيع زوجاته واطفاله ..وان دارفور صارت قفاراً من شدة بطش الخليفة بالعلماء والقادة والمصلحين..مما ادى بالسلطان على دينارلوصف حكم الخليفة ودولته (بدولة العربان الضعاف)..
التقت وجهة نظر السلطان على دينار مع وجهة نظر عالم جليل هو ابن خلدون الذي وصف هذا الصراع بصورة دقيقة قبل موته عام 1406 م. عندما حلل الصراع بين الرعاة والمزارعين .ووصل إلى أن حياة الرعاة الرحل وثقافاتهم تشبه في أصولها حياة العرب و البربر والمغول وان من بين أنواع التحديات التي تواجه الدولة المنظمة في تاريخها هو تهديد الرعاة الرحل لأطراف الدول المستقرة..وتعمل على إضعافها وعندها تنهار تحت ضغط الرعاة, وحينما تنهار الدولة يسرع الرعاة بترك هذه الدولة لأنهم لا يستطيعون أن يفرضوا طريقة حياتهم ونظام حكمهم على شعب حيث أن ثقافتهم العابرة وأنظمتهم السياسية البدائية لا تمكنهم من معالجة المشاكل المعقدة لسياسة الدولة أو تتمشى مع مصالحهم الحقيقية.
ولهذا كثيراً ما يحدث أن يلجأ الرعاة إلى النهب والسلب ثم الانسحاب 5] وبالفعل هذا ما حدث لدولة الخليفة وأهله من الأعراب فبعد أن أسقطوا دولة الفور لم يستقروا وتمكنوا من الاستيلاء على السودان ولم يستطيعوا الاستمرار في الحكم طويلاً وانهارت دولة المهدية. وقد كان الناظر مادبو أكبر زعيم لقبائل العرب المستقرة (الرزيقات) يحمل نفس هذه النظرة وكان يحتقر الخليفة لأنه من قبيلة صغيرة احتمي بقبائل أصولها غير سودانية .. وجاهر الناظر مادبو بأن الخليفة أصلاً من الفلاتة القادمين من فولتا العليا. وأهم سؤال يجب الإجابة عليه هو هل كان المهدي هو المهدي المنتظر حقاً ؟! وأي عقيدة كان يعتنقها الخليفة عبد الله التعايشى عندما قام بقفل طريق الحج أمام حجاج السودان الغربي ؟! وهل كان محقاً بدعوته للحج إلى الجزيرة أبا بدلاً عن شد الرحال إلى مكة ؟!
وما هي القوي الخفية التي وقفت خلف الخليفة حتى يتمكن من الصعود على قمة جهاز الدولة المهدية. وساعدته على نشر أفكاره ومعتقداته.
يقول اللواء معاش أبو بكر أبو حراز في بعض محاضراته أن : الخليفة قدم أصلاً من غرب أفريقيا وكانت تسيطر عليه فكرة المهدية. وحاول تحقيقها في بعض ممالك أفريقيا ولكنها لم تجد قبولاً أو أرضاً خصبة. وللعلم فقد كان الخليفة جاهلاً بعلوم الشريعة والدين.
لذلك استهجن فكره كثير من العلماء وأغلبية السلاطين والأمراء من أفريقيا الغربية. وكذلك لم يتمكن الخليفة من نشر فكرة المهدية شمال أفريقيا لسيطرة الحركة السنوسية ولكن حينما حضر إلى دارفور[6] توجه إلى كردفان. فوجد ضالته في شخصية محمد أحمد المهدى. وقال له أنك المهدي في بادئ الأمر أنكر عليه الإمام ذلك وما كان من الخليفة إلا أن هجم عليه وألقاه أرضاً وقال له إنك أنت المهدى المنتظر فأضطر محمد أحمد للإقرار بأنه المهدى[7].
والشيء المهم أن الفور الذين كانوا يسيرون القوافل إلى بيت الله ويرسلون المحمل وكسوة الكعبة, وكانوا أدرى بالشريعة أنكروا على الخليفة سلوكه ذلك وأنكروا على المهدى أنه المهدى المنتظر إلا أنهم وصفوه بالشيخ في وثائقهم وقاوم أهل دارفور المهدية أشد المقاومة ومات منهم الآلاف. وتضررت كذلك القبائل العربية الراحلة من المهدية وأسلوبها في الهجرة وعارضت الخليفة الذى بطش ونكل بهم.
وكم كان الخليفة يسوقهم أسرى ومقيدين[8]. وبمجرد دخول قوات الاستعمار للسودان بدأ استقطاب نحو تكتل جديد لخلق حلف آخر. فتكتل الفور والرزيقات والدناقلة والشايقية وبقية حلفاء الفور. وانضموا للواء السلطان على دينار المتحرك من أمدرمان وكانت وجهته دارفور .. لإعادة عرش أجداده وسلطنة الفور إلى الوجود مرة أخرى. وكان لهم ما أرادوا في عام 1899م وقد انهارت دولة المهدية وحلفهم بانسلاخ أهل دارفور وقتل الخليفة وتشتت شمل أهله.
أما أهل دارفور وحلفاؤهم فقد عادوا إلى دارفور وأعلنوا دولتهم واعترفت بهم السلطة البريطانية بل عملت على حماية الحجاج وتأمين سير المحمل للحجاز نظير ما كانت تدفعه للحكومة الإنجليزية.
وبدأ السلطان على دينار في إجراء الإصلاحات الإدارية وتنظيم الدولة وأعاد الثقة في قادة القبائل المهاجرة إلى دارفور من كردفان وحارب تلك التي بدأت تعصي وتخرج عليه. كذلك بعض القبائل الصغيرة مثل التاما التي أغرت مناصب المهدية زعماءها فناصبوا الفور العداء فخاضت جيوش على دينار حرباً كبيرة ضدهم وبدأت أول محاولات القضاء على الدولة الوليدة في مهدها فكان حرب السلطان على دينار مع (على سمين وسنين فى كبكابية وعندما علم الإنجليز بعد خلافهم مع على دينار بدأوا في تغذية العداءات والكراهية بين قبائل دارفور لإضعاف سلطة الفور ومن ثم غزو دارفور.
وسلكت السلطة الاستعمارية سياسة تمكين الاقليات الوافدة على دارفور والغريبة بسلوكها عن طبائع أهلها الأصليين. وألّبت القبائل العربية المتحالفة معها مثل الرزيقات على سلطة الفور في محاولة للقضاء على السلطنة[9]. وسعت السلطة الاستعمارية في خلق الحواجز بين سكان السودان الشمالي وأهل دارفور. عندما علمت أن هنالك مخططاً رسمه السلطان على دينار يقضي بتوحيد السودان ودارفور تحت ظل مملكة واحدة يحكم الشمال الشرقي الأشراف المصاهرين لسلاطين الفور. وقد أعد على دينار ابن أخته السيد عبد الرحمن المهدى لهذه المهمة. وبدأ ينفق على تعليمه من ميزانية سلطنة الفور. وعندما اكتشفت السلطة الاستعمارية هذه الرسائل قامت بتهديد الإمام عبد الرحمن وأمرته بالابتعاد عن مواصلة أخواله. وبعد قتل السلطان على دينار. لم يتمكن السيد عبد الرحمن من زيارة دارفور مسقط رأس والدته إلى أن لحق بالرفيق الأعلى.
كان الاستعمار يصنع الانقسامات ويغذى الصراعات والخلافات لتحقيق مآربه. كما اتخذت سياسة تهجير الأمراء والعلماء والسكان الأصليين من موطنهم وتعذيبهم بالأشغال الشاقة فشهدت بداية القرن العشرين أكبر عملية لتهجير الفور و القبائل المتحالفة معهم وإخراجهم من أراضيهم فمنهم من هاجر إلى الحجاز والقدس ومصر وأوروبا. كما شهدت مناطق السودان المختلفة هجرة واسعة مثل القضارف (ديم بكر) وحلفا وعطبرة. وتم تغليب القبائل الوافدة عليهم (كالبرنو) الذين صاروا من أدوات الاستعمار وعيونه وأعوانهم من قبائل الفلاته. وقد حصل تفريغ لدارفور من سكانها الأصليين .. الذين كانوا يتمسكون بالأرض وكانت لهم عادات وتقاليد راسخة ساعدتهم في صنع حضارة شهد لها العالم فلاقى الثوار والقادة ورجال الدين الإسلامي التنكيل والعذاب والاضطهاد.
هجرة قبائل الغرب نحو دارفور :
تزامنت هجرات القبائل القاطنة في غرب أفريقيا مع الحملة الشديدة التي بدأت تشنها قوات الاستعمار الفرنسي على الممالك الإسلامية بغرب أفريقيا .. وبدأت وفودهم تترى على دارفور هرباً من جحيم الاستعمار. ومات أعداد كبيرة منهم في المعسكرات التي أقيمت في الحدود بين دارفور ووداى. وبالأخص في نقطة الجنينة [10]
وبدأت قبائل أخرى تطمع في الدخول إلى دارفور نتيجة غياب السلطة وحدوث الفراغ الإداري ! فاتجهت قبائل الرعاة الراحلة نحو دارفور هرباً من ضرائب الاستعمار وبحثاً عن المراعي .. ودون أن تقيدها أي قيود أو قوانين عرفية فصاحب ذلك هجرات لقبائل الترجم من تشاد عام 1928م. وتبعهم عرب المحاميد والجلول وكذلك وفدت قبائل الميما من تمبكتو إلى وداى ومنها إلى دارفور.
وكذلك بدأت هجرة مكثفة للفلاتة الامبرورو في عام 1928م نتيجة هجرة المدعو لامبيدو وعمار (اندامو) من سكوتو هارباً مع حوالي (200) رجلاً من أتباعه بمواشيهم وتمكنوا من الوصول إلى مركز نيالا في نفس العام. وقد كان عمر ناظر الفلاته عيسي بويا وقتها ستة سنوات[11]. كما حاول البرقو الدخول إلى دارفور في هجرات جماعية ولكنها أوقفت بعد القبض على (واراك) البرقاوي سنة 1939م.
وتتابعت مجموعات حديثة من الفلاته في الدخول إلى دارفور والانضمام لنظارة على الغالى والسمانى في جنوب دارفور مما دفع السلطة الاستعمارية لإلقاء نظارة الفلاته. وذلك إثر دخول ثماني فرق من الفلاته وعوائلهم ومواشيهم من الأبقار والأغنام وهم مجموعة (الهوسا – البرقو – المراريت – البرنو – المسيرية – الزرق (الرطانة) – التكارير[12] وتتابعت هجرات قبائل غرب أفريقيا ووداى نحو السودان عن طريق بوابة دارفور نتيجة سقوط دولة الفور وسلطنتهم – والتي كانت تفرض شروطاً صعبة لدخول الأجانب بهذه الطريقة الجماعية ونظمت طريقة الرعي وحركتهم عبر العرف الذي حكم قبائل دارفور لأكثر من سبعة قرون[13]. أصبحت الأرض تضيق بالأعداد الهائلة من المواشي وصار خطر الرعي الجائر كما يسمى بعشب الهوسا الذي أدخلته أبقار الامبرورو إلى دارفور – تعمل على تعرية الغطاء النباتي في فترة الأربعينيات وذلك على امتداد مساحات واسعة من الأرض الخضراء وبدأ خطر الجفاف والزحف الصحراوي يهدد دارفور بل كل السودان الشمالي وتحققت المجاعة التي توقعتها السلطات البريطانية[14] بل الأهم من ذلك أن هذه الأفواج المهاجرة نحو السودان أصبحت خطراً يهدد المجتمع السوداني المتماسك والقبائل ذات الحضارة بالتفكك والانهيار .. نتيجة لعاداتهم الغريبة التي لا تنسجم مع المجتمعات المدنية.
ويبدو أن مخططاً كان تقف من ورائه دول خارجية وأياد خفية تخطط لمثل هذه الهجرة المنظمة لمجتمعات بأكملها. والتي امتدت من دارفور إلى كردفان والنيل الأزرق والأنقسنا. فأصبحت هذه القبائل تشكل حزاماً من الوفداين, فأعلن الحاكم العسكري لمركز غرب دارفور عام 1960م بضرورة إخراج جميع قبائل الفلاتة من السودان سواء أكانوا من مالي أو امبرورو. وقال مفتش نيالا في يوم 4/1/1961م بضرورة عدم إعطاء كيان قانوني لقبيلة أجنبية تركت لتبقي في السودان نتيجة لظروف قهرية. وانتظمت معارضة واسعة لوجود هذا الحزام من القبائل الوافدة في جنوب كردفان والنيل الأزرق وعلى امتدا النيل الأبيض. وقام سكان رفاعة الهوى بتقديم شكوى بضرورة ترحيل الفلاتة من بلادهم لما يشكلونه من خطر لممتلكاتهم حيث كانت مواشيهم تدخل المزارع وتتلفها .. وقد دخلت هذه المجموعة إلى رفاعة عن طريق النيل الأزرق وكانت طبائعهم منفره واشتهروا بالغلظة والجفاء و فيهم بعض الدجل والشعوذة والسحر.ان من أخطر المفاهيم التي تمكنت السلطات الاستعمارية من كشفها خلال الوثائق السرية لرحلة الفلاته الامبرورو إلى السودان – إنهم كانوا يعتقدون أنهم موعودون بسكن أرض النيل (السودان وحكمه) 15]
وهذا الخطر الذي ظل يهدد الأمن القومي السوداني والذي تنبأت به الدوائر الاستعمارية من أن دخول قبائل الفلاته ومجموعات من القبائل الرعوية العربية سيعمل على تفتت المجتمعات الأصلية .. ودخول تلك المفاهيم والاعتقادات سوف تؤدي إلى خلق صراعات وحروبات ومجاعات في عقد الخمسينات من القرن الماضي وقد تحققت بالفعل بعد عقدين أو ثلاثة من هذه الرؤيا. وحتى تجد هذه القبائل موطأ قدم لها في السودان فقد سلكت نهجاً غريباً بالإدعاء بعروبة أصولهم. فكان أن بثت إشاعة من بعض مجموعات الامبرورو الفلاته أنهم تابعين لعرب أولاد حميد بمركز رشاد !! كما ادعي بعض المهرية الذين دخلوا إلى دارفور من تشاد في أواخر الثلاثينيات انهم عرب رزيقات شمالية.
وبهذه الطريقة تمكنت بعض القبائل الوافدة إلى دارفور بالانتساب إلى القبائل العربية التي استقرت بدارفور وتمكن المدعو هلال الذي كان والده من الفلاته القرعان أن يتزوج من عرب المحاميد حديثي الدخول إلى دارفور. فنسب نفسه إليهم وبمرور الوقت صار شيخاً عليهم في منطقة كتم بشمال دارفور إلا أنه كان يتبع لإدارة الفور في جبل سي وتحت سلطة الملك موسى امرودس. بل تطور الأمر إلى أكثر من ذلك بسبب استيطان الفلاته بمناطق السودان المختلفة. فدخلوا في مشاكل مع النوير في بحر الغزال في بداية الستينات كذلك صراعهم مع الدينكا أثناء تجوالهم في بحر الغزال بمواشيهم ذات القرون الطويلة هرباً من الضرائب والتكشيف. ودخلوا في صراع مع قبائل النوبة وقبائل المسيرية في غرب كردفان.
خطر الفلاته القادمين :
لقد رصد العلماء والباحثون هجرات الفلاته من موطنهم الأصلي منذ القرن الرابع عشر الميلادي. بسبب بحثهم عن المرعي، وهجرتهم الدائمة مع أبقارهم ذات القرون الطويلة بينما تتابعت مجموعات أخري عبر ديار برنو ووداى ودارفور وكردفان والنيل الأزرق.وقد تسببوا خلال رحلتهم الطويلة في تدمير ممالك عديدة وأدوا إلى إنحلال مجتمعات حضرية كانت أساس الحضارة الأفريقية. وكذلك تسببوا في العصر الحديث في مشاكل داخل الدول التي هاجروا إليها وأدوا إلى تفكيكها وبات الآن الخطر يهدد كيان الدولة السودانية.
ونلاحظ ذلك بمراجعة كتب صدرت حديثاً وتتحدث بدون مرجعية علمية موثقة عن تاريخ السودان. مثل كتاب الغرابة في السودان – الفلاته الفولانيين – رحلة إلى وداى الذي صدر في عام 2002م – كذلك الكتاب الأسود (الفتنة الكبرى) الذي يهدف لاستعداء المواطنين السودانيين ضد الشماليين، وذلك بعد فشل مخطط دولة البرنو الذي كان يتزعمه دكتور على الحاج، والذي أدي لتقسيم دارفور إلا ثلاثة ولايات قاصداً تشتيت الفور لإضعاف قوتهم. ويتأكد ذلك من خلال متابعة البيانات التي أصدرها زعيم الحركة الإسلامية الشيخ الترابي في أواخر الثمانينات والتي أدت إلى انسلاخ المثقفين من أبناء الفور من الحركة الإسلامية وإقصاء المرشد العام للحركة الإسلامية الرشيد الطاهر بكر بطريقة المؤامرة من قبل هذه المجموعة وكذلك محاربتهم لحاكم دارفور السابق أحمد إبراهيم دريج مما أدي لخروجه عن السودان. كما نادي الترابى بطرد الفور من جبل مرة وإعادة توطينهم في وادي صالح وكذلك ترحيل الزغاوة من شمال دارفور وتوطينهم في أم روابة |