أي جرأة هذه التي تجعل أتيم قرنق وقادة آخرين في الحركة الشعبية يطالبون بالجنسية المزدوجة عند الانفصال وفي نفس الوقت يصفون المواطن الجنوبي بأنه مواطن من الدرجة الثانية بالشمال؟ إنها الانتهازية «وقوة العين»..
ليعلم الجميع أن منح جنسية مزدوجة للمواطن الجنوبي سيترتب عليه حقوق دستورية.. ما المشكلة؟ المشكلة أن الحركة الشعبية وأتباعها جلبوا مصائب عظام لهذا البلد بسبب الادعاء بأن حقوقهم الدستورية مهضومة.. ألا تذكرون في عام 1996 عندما تمت إزالة بعض المنازل العشوائية في جبل أولياء وكان ضمن تلك المناطق كنيسة صغيرة مبنية من الطين ولم يكن أحد يعلم بوجود تلك الكنيسة؟ قام أحد كبار الأساقفة الجنوبيين بإبلاغ المنظمات الكنسية العالمية بأن حكومة الجبهة الإسلامية بالخرطوم تقوم بتدمير دُور عبادة المسيحيين فكانت ضجة كبرى.. و في نفس الوقت كانت الحكومة قد دعمت بناء ثلاث كنائس منها واحدة رئيسية في بحري.. إذًا ليتعظ قادة المؤتمر الوطني أن الجنسية الزدوجة تعني الوجود الجنوبي ومعه حشر أنف المجتمع الدولي في شؤوننا بالباطل وغيره عن طريق الادعاءات الكاذبة وفبركة الأكاذيب.. فأكاذيب الرق ليست ببعيدة.
هل سنستفيد نحن الشماليين من الجنسية المزدوجة؟
الإجابة قطعًا لا.. انظروا إلى عدد الشماليين بالجنوب الذي ينحسر كل يوم ومازال السودان وطنًا واحدًا.. الآن كم بقي من الشماليين في الجنوب؟ بضع مئات.. كم سيبقى من الجنوبيين في الشمال وكم سيعود منهم حتى بعد الانفصال؟ مئات الألوف.. قد يتنبأ البعض بهجرة شمالية إلى الجنوب بعد الانفصال.. لا أظن أن هذا سوف يحدث لعدة أسباب: أولاً هيأت الحركة الشعبية كل الظروف في جنوب السودان لطرد التجار والشركات الشمالية دون رجعة واستخدمت خطابًا عنصريًا يحرِّض الكل على الابتعاد وعدم التعامل مع الشماليين.. إن الصورة التي يرسمها إعلام الحركة عن الإنسان الشمالي تجعل من المستحيل أن يتم تغيير هذه الصورة في المستقبل القريب.. ثانيًا: بذلت الحركة كل ما بوسعها لإحلال الوجود الشمالي بعناصر من أوغندا وكينيا وإثيوبيا.. انظروا إلى ربيكا قرنق عندما تولت أول وزارة في أول حكومة جنوبية ماذا فعلت؟ رفضت أن تمنح عقدًا واحدًا لشركات الطرق في شمال السودان وفضّلت عليها الشركات الأوغندية.. ثم فوق هذا وذاك.. هل سيستقر الجنوب بعد الانفصال؟ إذا كانت أمريكا نفسها التي ترعى الحركة الشعبية لديها شكوك قوية جدًا في قيام دولة سوية معافاة في الجنوب هل نوهم نحن أنفسنا بأن استقرارًا سيحدث في الجنوب بعد الانفصال ومن ثم تنفتح علينا نافذة من جنة عدن؟.. انظروا ماذا حدث للتجار الشماليين في العامين الماضيين؟ في يناير 2008 قتل الجيش الشعبي رئيس التجار الشماليين بأويل.. في يوليو 2009 اقتاد الجيش الشعبي خمسة تجار شماليين إلى غابة بالقرب من ربكونا.. قُتل أربعة منهم بالرصاص وذُبح الخامس! في أكتوبر 2010 ينهب الجيش الشعبي 40 مليونًا من التجار الشماليين في واو.
لماذا الحنسية المزدوجة في هذا الوقت؟
المسألة واضحة.. ووراءها سببان: الأول قد تقوم الآن الحركة الشعبية بترحيل آلاف الجنوبيين إلى الجنوب للتصويت وبعد انقضاء يوم التاسع من يناير تعرف الحركة جيدًا أنها لا تملك ما تقدِّمه لتلك الحشود المرحَّلة من الشمال، كما أن الحركة تعلم جيدًا بأن كثيرًا من الجنوبيين المقيمين في الشمال مشككون في قدرة الحركة على استيعابهم في الجنوب.. فكثير منهم جرَّب العودة الطوعية للجنوب بعد اتفاقية السلام مباشرة وقفل راجعًا إلى الشمال.. فالحركة لم تفعل شيئًا للمواطن الجنوبي المقيم هناك، هل يُعقل أن تفعل شيئًا لمن أتوا مؤخرًا؟ إذًا الحركة الشعبية تريد أن تطمئن العقلاء من الجنوبيين بأن مكانهم في الشمال محفوظ حال الانتهاء من مهمة التصويت.. الحركة يا سادة تريد أن تستخدم الجنسية المزدوجة كمخرج للكارثة التي ستحل بآلاف الأسر التي حتمًا ستعود إلى الشمال بعد الانفصال.
أما الثاني: فهو يتم بتحريض أمريكي.. ولكي نفهم هذا التحريض يجب أن نفهم التحولات الأمريكية الأخيرة في السياسة نحو السودان.. عندما عيَّن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قرايشون مبعوثًا للسودان في مارس من العام الماضي وقرر قرايشون أن يكون أكثر جرأة من ناتسيوس «المبعوث السابق» جاهر بأنه لا يجد حرجًا في التحدث والتعامل مع حكومة الخرطوم إذا كان الهدف هو الوصول إلى حلول لمشكلات السودان من وجهة نظر أمريكية.. فأحدثت تلك السياسة جَلَبَة كبيرة في وزارة الخارجية وكاد الأمر أن يُحدث شرخًا بين وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وأوباما عندما أعلن الأخير ما سمَّاه «الاستراتيجية الشاملة للتعامل مع السودان» في أكتوبر من العام الماضي فأحس الكثير من دعاة التشدد مع السودان بأن تلك الإستراتيجية ما هي إلا تراخٍ في التعامل الحاسم مع حكومة الخرطوم وما هي إلا نتاجًا لأفكار قرايشون المتهادن مع حكومة الخرطوم فاحتجت كلينتون بشدة قائلة بأن أوباما ومجموعة من الجنرالات المتقاعدين أصبحوا يديرون مهام وزارة الخارجية.. فقررت كلينتون اتباع معسكر النساء في تبني سياستها نحو السودان.. فهذا المعكسر النسوي نشأ في أحضان الأم الروحية مادلين أولبرايت «وزيرة الخارجية في عهد كلينتون» وترعرع في عهد كونداليزا رايس «وزيرة الخارجية السابقة» وأصبحت تقوده الآن سوزان رايس وقد لا يعلم الجميع أنه في مارس 2008 عندما طردت الحكومة السودانية المنظمات الأجنبية دفعت سوازان رايس، بصفتها مستشارة للرئيس أوباما حينها، بمقترح إلى أوباما يقضي بتوجيه ضربة جوية عاجلة إلى السودان، إلا أن أوباما لم يتحمس للأمر.. عمومًا خفت الصوت النسوي المتشدِّد عندما نجح قرايشون في جعل سياسته تبدو مقبولة ومتزنة.. ولكن فجأة تجددت آمال الفريق المتشدد مرة أخرى عندما عرضت الحركة الشعبية على هذا الفريق إمكاناتها في تدمير وعرقلة المؤتمر الوطني.. فباقان أموم الذي تردد على أمريكا مؤخرًا أصبح يغازل في هذا الفريق بعد أن أحس تقاعسًا من قِبل قرايشون وزمرته.. فارتفعت أسهم باقان لدى هذا الفريق وصحا الفريق مرة أخرى، وعادت سوزان رايس إلى الواجهة مرة أخرى في الشأن السوداني..إن الاستقبال الذي تم مؤخرًا في جوبا لم يكن موجهًا في المقام الأول لبعثة الأمن إنما كان المقصود به سوزان رايس بالرغم من أنها لا تمثل بلدها في مجلس الأمن إنما تمثله في الأمم المتحدة.. عمومًا أصبح الملف السوداني بيد هذا الفريق.. انظروا إلى نائب الريس سلفا كير عندما أحس بأن باقان يقوم بسحب البساط من تحت أقدامه.. لم يذهب إلى جوبا ليُطلق تصريحاته النارية ضد المؤتمر الوطني إنما فعل ذلك في نيويورك لأنه يعلم جيدًا أن المزاد السياسي لتعويق المؤتمر الوطني قد افتتحه باقان في الولايات المتحدة وليس هنا.. بعدها كسب سلفا كير ود هذا الفريق فاستقبلته جوبا بـ«مرحبًا بسلفا كير البطل».. دعونا الآن نعود إلى موضوع الجنسية المزدوجة.. فهذا الفريق الذي ذكرناه لا يحبذ قيام حرب بين الجنوب والشمال على منطقة أبيي.. فمثل هذه الحرب لن تزيل المؤتمر الوطني كما أن أي حرب خارجية سيكون فيها تهديد للدولة الوليدة المهددة أصلاً بحروب داخلية.. ولا تنسوا أن أمريكا تدخلت لإنهاء حرب الجنوب لأنها عرفت بأن استمرارها ليس في مصلحة الحركة الشعبية.. إذًا الإبقاء على الكيان المادي للحركة الشعبية في شمال السودان مطلوب مستقبلاً وبشدة.. ونستخدم عقولنا ولا نكون ساذجين: هل السياسة الأمريكية المتشددة نحو السودان ستظل هكذا وستظل تبحث عن مداخل في هذا البلد إلى أن يتم التغيير المنشود
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة