قصة قصيرة " رمال متحركة " بقلم: بقادي الحاج أحمد
رمال متحركة
رحلة الذهاب
يوم الجمعة صباحأً إنطلقت العربة من مدينة أبو حمد قاصدة جزيرة أنجرى، حسب الخطة تصل الشاطئ " القيفة" الساعة العاشرة صباحاً، المراكب تكون في انتظارهم لتنقلهم إلى داخل الجزيرة.
بدأت الرحلة وكمال يؤكد لبدرالدين معرفته التامة بدِراب " دروب" الصحراء، خلال العامين اللذين قضاهما في المنطقة مديراً للفرع؛ جاب الصحراء ذهاباً وإياباً من أبوحمد الى عطبرة، خَبر الدِراب وخبرته، لتقديم دليل عملي علي ذلك سلك الطريق عبرالصحراء؛ الأقصر والأسرع والأخطر.
رغم أن الطريق الموازي للنيل، هو درب السلامة؛ " طول ما عينك شايفه الخضار، ما عندك عوجه تب- لن تضل أبدًا" هكذا ظل يردد عبد المجيد. تذرع كمال بأن طريق النيل وعر وبعيد، بينما طريق الصحراء سريع ومختصر.
توغلت العَربة في الصحراء، هبت الريح واشتدت العاصفة. فردت الصحراء ستار من الغبار أخفى معالم الجبال، التي يهتدي بها على الإتجهات والمواقع في داخلها. أضحى حال العربة وركابة، مثل حال السفينة في عرض البحر؛ تلعب بها الرياح وسط جبال الأمواج معزولة من العالم الخارجي تماماً. كشرت الصحراء عن أنيابها ذرة .. ذرة مستفردة بالعربة وركابها داخل سياج الغبار، والأتربة، افتقد المسافرون الأمان؛ الخضرة، النهر وعذوبة مائه.
تجاوزت الساعة العاشرة صباحاً ولم يصلوا إلى جزيرة أنجرى أو النيل، بدأت معالم الضياع والتوهان ترتسم أمامهم على رمال متحركة تذروها الريح بإستمرار، بجدار منيع رقيق شفاف من الغبار محاطون، في دوامة هائلة يتخبطون؛ الرؤية لا تمتد حتي بين العينين وأرنبة الأنف. في غياب زجاج العربة والنظارات الشمسية، الرموش والعيون وأصحابها فى ازورار مستمر من الذرات المشاغبة. استعداداتهم للرحلة المبكرة منذ إسبوع شملت التجهيز لإعداد التقارير والملاحظات والكلمات الخطابية والكميرات لتصوير الإنجاز والصور التذكارية مع الإبتسامات، لكنها لم تشمل أخذ الإحتياطي من الماء والوقود !!
بعد نقاش طويل مع كمال، قرر عبد المجيد- الدليل- بمساندة بدر الدين والأخرين، عكس إتجاه السير، بدأت رحلة البحث عن الماء، عن الخضرة والنيل .
رحلة جزيرة أنجرى، رحلة عمل لكمال مدير الفرع، وبدر الدين نائب المدير لتفقد شق القنوات في المشروع الزراعي التعاوني لجمعية الجزيرة، كتمويل بواسطة الفرع. للموظفين ياسر، معتز وأمير رحلة تدربية وترفهية، وضيافة لعلاء وجمال - زملاء من المصرفين الآخرين في المدينة، أما عبد المجيد أبن المنطقة فهو دليل الرحلة.
في الساعة الثانية بعد الظهر، عندما شارف النصف الأول من العقد التاسع للقرن العشرين للنهاية، وصلت العربة إلى مدينة الشِريك؛ محطة القطار التالية لأبو حمد في إتجاه عطبرة والخرطوم، جزيرة أنجرى تقع بين المحطتين أبوحمد والشِريك. حلت المجموع المنهكة ضيوف غداء بدون موعد على مدير فرع المصرف هناك، بعد العصر بدأت رحلة العودة إلى أبوحمد. بعد قضاء سحابة النهار ضياع في الصحراء. قبل الغروب وصلوا أبوحمد.
رحلة العودة
تحتل الجزيرة مساحة كبيرة من اليابسة، في الداخل تبدو كأنها سهول وأراضى منبسطة تتكاثر فيها الأشجار والتلال هنا وهناك تحفها الزراعة من الأطراف، ومن ثم الماء الذى يلفها من الحواف جميعها.
في الرحلة الثانية لجزيرة أنجرى – رحلة العودة، تخلف كمال مدير الفرع لمرضه، قاد بدرالدين نائب المدير المجموعة، سلكوا طريق السلامة – الطريق المقابل لضفة النيل، الطريق الأخضر، كان دربهم أخضر ويومهم متوشحاً ايضاً بالخضار، وصلوا الشاطىء في الوقت المحدد، وجدوا المراكب في انتظارهم حملتهم إلى القيفة الثانية داخل الجزيرة، وجدوا الجزيرة وأهلها في استقبالهم، تفقد بدرالدين وموظف الأستثمار ومسئولو الجمعية سير تنفيذ المشروع على الطبيعة، قضوا باقي اليوم في ضيافة أهل الجزيرة. الكل في الجزيرة في استقبال وفد المصرف القادم من أبوحمد. في المشروع الزراعي استقبلتهم القنوات التي شقت والمياه التي تدفقت لتروى المساحات الأضافية للمشروع الزراعي التعاوني للجزيرة، بشهادة مدير الفرع بالإنابة وموظف الإستثمار وتوثيق التقرير والصور الفوتغرافية.
كانت العودة علي الطريق نفسه – الطريق الأخضر والمياه الجارية نحو أبوحمد، نحو الشمال. بين التلال والكثبان الرملية والشجيرات أخذت لقطات الصور التذكارية، في فترات الإستجمام. تناغمت الرحلة في البر وعلي الماء وداخل الجزيرة، كأنها المياه المنسابه حول الجزيرة وداخلها بعد شق قنوات المشروع الزراعي.
تمتد الجزيرة في مساحات كبيرة، كقطعة من اليابسة تغطيها السهول والتلال والأشجار والمزارع والمساكن، كأن الماء لا يلفها من كل الجوانب وكأنها ليست جزيزة أو شبهها، تبدو للقاصد من أبوبحمد من بعيد عبر الصحراء جزيرة كأحد جزر النيل الكثيرة فى تلك الأنحاء، لا تمثل الا نقطة من اليابسة تحفها المياه. الطريق اليها تشوبه الهبوب والرياح والتوهان في غياهب الضياع فهو الطريق عبر الصحراء، وأما الذى تلون الخضرة إحد جانبيه وتشكل المياة الجارية إمتداد لجانبه الآخر فهو طريق السلامة.
المياه الصافية الرقراقة
عندما حضر بدر الدين في مأمورية من الإدارة العامة ليحل محل نائب مدير الفرع المجاز، وجد الفرع مع المجهودات التي بذلت فيه يحتاج الى إضافة خدمات شراء العملات الأجنيبة. إقترح ذلك علي مدير الفرع بمجرد ما استقر به المقام في إدارة الفرع. أوجد الحلول لكل العقبات التي وقفت أمام إقتراحه وحالت دون تنفيذه؛ تدريب موظفي الفرع محلياً اعتماداً علي خبراته، جلب المعدات الخاصة بكشف تزوير النقد الأجنبي. لم يبق هناك سبب واحد يسند اعتذار مدير الفرع. عمل إعلان داخل الفرع، وتم تجهيز مكتب استقبال خاص بعملاء النقد الاجنبي. نجح الإقتراح وحقق مورد من مشتريات النقد الأجنبي لا تقل عن مشتريات الفروع الكبيرة في المدن الأخرى والعاصمة الخرطوم.
قبل حضور بدر الدين مٌوفداً من الإدارة. ارتكب مدير الفرع تجاوز في حساب إحد عملاء الفرع الكبار. لم تستند العملية علي تصديق إدارة الإسثمار في الإدارة العام. اثُبت التجاوز في تقرير فريق التفتيش الذى زار الفرع واكشف التجاوز.
عندما حضر بدرالدين إقترح علي صديقه كمال أول ما قترح حل يساعد الفرع وصديقه على تحصيل المبلغ بأسرع وقت ممكن، وبالتالي تقليل الضرر. الفكره كانت بسيطة الإيحاء للعميل بان بدرالدين قادم من الإدارة العامة خصيصا لتحصيل المبلغ، وبالتالي تترك له مهمة متابعة العميل والضغط عليه حتي يسدد المبلغ، وإعفاء صديقه مدير الفرع من حرج التعامل من عميل يعرفه. وافق كمال علي الخطة، وطلب ان يمهل بعض الوقت حتي يعود العميل المسافر من سفره.
باشر بدرالدين عمله في الفرع من فريق الموظفين، وأخذ يتعرف علي العملاء، ذات يوم عرفه إحد الموظفين علي العميل صديق المدير. كان العميل يتعامل من بدرالدين بتحفظ شديد كأن بدرالدين وخطته كانا مكشوفين لديه من قبل. ذهب بدرالدين إلى مكتب المدير وسأله اذا كان العميل عاد من السفر أم لا؟ أجاب المدير بتردد أنه عاد لكنه مشغول وطلب تاجيل الإجتماع، وهكذا ظل كمال يتهرب من ملاحقات بدرالدين له.
بدرالدين طويل القامة متناسق القسمات يبدو من مكتبه في صالة الفرع خلف موظفين مكتب الإستقبال والصرافين بكامل هيئته؛ اللبس ذو الألوان المتجانسة متوجاً بربطة العنق كأنها شريط علي علبة الهدايا القيمة؛ فهو هدية الإدارة العامة للفرع، يبدو حازماً وبسيطاً في الوقت نفسه مع الموظفين، صار في فترة وجيزة صديق الجميع. بعد نهاية ساعات العمل يجتمع شمل بدرالدين مع موظفيه إما في المطعم، أو الأستاد الرياضى، او النادى، او عنده في بيت نائب المدير للسهر مع دندانات الأغاني الشعبية – أغاني حقيبة الفن.
كمال وبدرالدين امتدت فروع الصداقة بينهما منذ أيام الدراسة الثانوية. بدرالدين هادىء الطبع قليل الكلام واضح وصريح، كرحلة العودة كان النجاح دائما حليفه. كمال مقامر متقلب المزاج وغير واضح مثل الرمال المتحركة في رحلة الذهاب.
كمال أصبح كمال آخر غير الذى كان يعرفه بدرالدين من قبل؛ زائغ العنينن لا يجلس طويلا خلف مكتبه، كثير التدخين والخروج من الفرع، يقود العربة داخل أحياء المدينة بسرعة متهورة، أصبح الموطنون في الأحياء يحذرون أبنائهم وينبهونهم من خطورة العربات في الشارع خاصة عربة البنك التي تمرق كأنها سيارة إسعاف أو مطافيء مسرعه لإطفاء حريق لا وجود له في الأحياء ولا في السوق أو لإسعاف مريض.. ولا أحد يعلم مكان الحريق، أو المريض. تغيير الصديق القديم وأصبح يجالس التاجر ويزامله كل مساء في لعب الورق في النادى. خطة بدرالدين التى وضعها تبخرت وتسربت الي الطرف الآخر..
باشر بدرالدين عمله في الفرع علي أتم وجه إلى نهاية المأموريه. عاد إلى الإدارة المالية في الإدارة العامة بالخرطوم. لحق به كمال بعد أن تمت محاسبته إدارياً علي التجاوز. نقل الي إدارة شئون العاملين معاقباً بالتحفيض درجة.
مرت الأيام عجلي، ذات يوم عندما كان بدرالدين يستخدم المصعد هابطاً تقابل صدفة مع التاجر صديق كمال، سلم عليه، قبل أن يعلمه بأن صديقه كمال في شئون العاملين في الطابق السادس، سبقه الأخير بالإعتذار بأنه في عجله من أمره، عليه ان يسافر اليوم الي أبوحمد. اتصل بدرالدين من مكتبه هاتفياً بكمال مستفسراً اذا كان قابل صديقه تاجر أبوحمد أم لا.
- اسمع قابلت صحبك.
- صحبى منو. صحبك يا خي .. بتاع ابوحمد.
- لا.. من ما جيت هنا ما شفته.
- هو جا الخرطوم هنا ولا شنو.
- قبل شويه قبلته في "الأسنسير".
- معقول جاء هنا الخرطوم وفي الإدارة وما يقابلنى.
- حاجة عجيبة.
- أيواه حاجة عجيبه.. وشديده كمان.
- ياخى نحن في شنو وأنت في شنو..
- خلينا من الشدايد حسع..
- جا يسوى شنو..
- قال جاء يشوف ناس الإستثمار..
- أيواه كده.. والله لكن.. غايتو..
- آآه.. كيف.. قلت شنو..
- لا ما في حاجة.. أقول شنو.. معليش بسيطة..
- آآى بسيطة بتحصل في حالات كتيره .
- والله كويس.. والله كويس..
تصاب عرى الصداقة بالإنفصام، إذا افتقد الصديق الصدق مع نفسه وصديقه.
في الإتجاهه نحو الشمال عند أبوحمد ينثى النيل ويغير وجهته نحو الغرب، ثم الشمال الغربي، إذا كان رأس الفيل هو الذى تجلس علي قمته مدينة أبوحمد، فإن الخرطوم لا يتدلي نحو الأرض مباشرةً أو يمتد الي الأمام؛ ينثني نحو القدمين الأماميتين، ثم ينحرف قليلاً ويستدير الي الأمام فشكل قوس، ثم يعتدل وإلى الأمام مواصلاً مشواره السرمدي نحو الشمال الدانى والقاصى نحو أم الدنيا.
عند أبوحمد ونواحيها يتكىء النيل علي الجزر والجنادل والشلالات الصغيرة، كأنه يستأنس ويتسلي بها بعد صراع طويل، شاقاً ممر عبر الصحراء. يصبح ماء النيل، عند الجزر الصغير صافياً ورقراقاً، تسمع له خريراً. تجلو المياه الحجارة الصغيرة المتناثرة عند الشاطيء في نواحي الشلال بأشكالها وأحجامها وألوانها المختلفة، لا تكلف مٌغتنيها مشقة الطلاء؛ فهي وإن كانت صماء لاينقصها الصفاء والصدق مع الآخرين تعطيهم الجمال كله، ويخرج الماء من جوانبها ومن بين يديها..
بقادي الحاج أحمد
مدينة الخٌــــــــــبر
أكتـــــوبر 2009م
[email protected]
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة