مع أجراس الحرية في عيدها الأول: الكمال كفاءة النقصان
By [unknown placeholder $article.art_field1$]
Apr 16, 2009 - 6:19:12 PM
مع أجراس الحرية في عيدها الأول: الكمال كفاءة النقصان
مجتبى عرمان
[email protected]
"إذا اختلف إفلاطون والحق، وكلاهما لنا صديق، وقفنا مع الحق"
أرسطو
عندما كانت أجراس الحرية تتخلق في رحم الغيب، كان المواطن يترقب صحيفة تعبر عن همومه ومشاكل الحياة اليومية، وخصوصاً المواطن في الهوامش الذي لا تعبر عنه الصحف في الخرطوم والتي في الغالب ما تخضع لموازنات السلطة المركزية (أي نظام الحكم في الخرطوم) فإعلانات الجريدة الوليدة تحمل أسماء كتاب وصحفيين لهم باع طويل في معركة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأيضاً هؤلاء الكتاب ينحدرون من مشارب سياسية، وفكرية، وأكاديمية مختلفة؛ وهذا لعمري ما أعطى فكرة الأجراس جاذبيتها. وفوق هذا كله أن هؤلاء الكتاب ضحوا بكل ما يملكون لكي يتسع هامش الحرية ولم يؤثروا السلامة الشخصية في زمن أصبح فيه المواطن مجرد بيدق في لعبة الشطرنج، وفي زمن أصبح فيه استخدام الدين مطيّة لتحقيق المآرب الشخصية وبوقاحة لم يسبق لها مثيل. فالأجراس جاءت في لحظة بلادنا جوعى وعطشى للحقيقة، فالسماء ملبدة بالغيوم السوداء، ولن ينزاح الكابوس الثقيل الذي ربض على صدرها وشلّ طاقاتها الإبداعية، بعد أن تمكن أخطبوط الفساد، ونوعية رديئة من التعليم، وفوق هذا كله ما زال شبح التمزق ماثلاً في الأفق القريب. وذلك لأن النخب الحاكمة مثلها مثل ملوك البوربون .. لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً، وما زال أسلوب وسياسة "فرق – تسد" الإنجليزية تمارس وفي وضح النهار وذلك من أجل وضع المتاريس في طريق التحول الديمقراطي، وبناء دولة حديثة عابرة للإثنيات والأديان، وهو الحلم الذي راود الراحل المقيم الدكتور جون قرنق دي مابيور. ولكن أصحاب المصالح والامتيازات الاقتصادية والسياسية ومحترفي السياسة ما زالوا يمارسون ألاعيبهم وكأن هذه الامتيازات مسألة سرمدية، وقد مللنا الانتظار، لكي نرى نهاية هذه التراجيديا في مسرح العبث، والساسة عديمي المواهب، وحتى الأسر والبيوتات أصبحوا يتقلبون من حزب إلى آخر وكأنهم لعيبة كرة (فك التسجيلات) ومنهم من كان في قمة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي يدعو إلى الديمقراطية وبناء الدولة العلمانية .. يالبؤسنا .. ودائماًُ ما يذهب دعاة الديمقراطية إلى الحزب الحاكم حيث الموائد المليئة بكل أصناف السلطة والمال، بالرغم من هذا لا ينكر غياب الديمقراطية في الأحزاب التاريخية وهيمنة الزعيم والأسرة على مقاليد الأمور، ولكن كل هذا لا يبرر العمل تحت نافع علي نافع وأصحاب الأيدلوجيات الأصولية، فغابة المؤتمر الوطني مظلمة وموحشة ومليئة بالرواسب الأصولية .. وحتماً إذا استمرت في قيادة دفة الأمور في مركز السلطة سوف تقودنا إلى الهاوية، هذا إن لم نكن نحن في مفترق طرق وخصوصاً مع اقتراب حق تقرير المصير (والتقيل جاي ورا) ولا نطلق الكلام على عواهنه، وإنما لأن العقلية الأصولية تمارس الإرهاب الفكري على العقول وتخلع على نفسها غطاء القداسة التي تحمي تحتها المصالح الدنيوية، وتارة تمارس الإرهاب والتخويف تحت دعاوى السيادة والحفاظ على الهوية والسودان من الأطماع الإستعمارية، وإذا أردنا الحقيقة أن الممارسات الإقصائية والتكويش على كل شئ، حتى الوظائف الدنيا في جهاز الدولة، والإستعلاء والطرد والنبذ والمحاولات الاستبدادية والقسرية في الأسلمة والتعريب، وغياب الديمقراطية وحقوق الديمقراطية وحقوق الإنسان هي التي قادت إلى ما نحن فيه اليوم، ولأن كل تلك الدعوات والإدعاءات الأيدلوجية كانت مفرغة من أي نزعة إنسانية ومن أي احترام للأقوام والثقافات الأخرى، لذلك فشلت فشلاً ذريعاً.
وفي وسط كل هذه المآسي ضاع كل حديث عن حقوق المواطن المسلوب الإرادة، وهذا ليس كلام إنشائي. فالمواطن السوداني ليس في استطاعته انتخاب رئيس اللجنة الشعبية في الحي الذي يسكن فيه، وغاب كل حديث عن جرعة الماء والكسرة والخبز والفئات الاجتماعية الشبعانة إلى حد البطر لا ترى أن هنالك مشكلة، فأصحاب الهيمنة والامتيازات لا يشعرون بوجود أي مشكلة، ما داموا ممسكين على مقاليد ومفاصل الاقتصاد والسلطة، فليذهب المواطن ودعاة الحرية والديمقراطية إلى الجحيم! ولكن هيهات فقد أثبت التاريخ أنه لايمكن لأي قانون هيمنة واستعلاء أن يستمر إلى الأبد. فالأجراس برغم الاخفاقات التي مرت بها وتمر بها يومياً لا بد لها من توصيل رسالتها في التنوير وإشاعة الوعي والتعبير عن قضايا المواطن وخصوصاً في الأقاليم أو ما يطلق عليه اليوم الهامش، وهو موجود حتى داخل المركز نفسه، فالمواطن أصبح على هامش الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، والأخيرة بالذات أصبحت شبحاً يهدد الفقراء والمهانين والمنبوذين والجوعى وذلك بسبب الاقتصاد الذي يراكم الثروات في أيدي فئة اجتماعية قليلة جداً .. لكنها غاشمة، وجشعة ولا يهمها إلى نفسها طالما هي ترفل في النعم، ولكن المفارقة أنه بالرغم مما يتمتع به السودان من ثروات بمختلف أشكالها وعلى رأسها الثروة الحيوانية، نجد أن المواطن يصعب عليه شراء اللحوم والألبان، ورحم الله شاعرنا الدوش حيث قال في رائعته طه المدرس ود خدوم:
عاش في زمن المذلة المدعو طه ود خدوم
باع تفاصيل الكآبة عشان يفرغ وتاني يملا
جاع وخيرك يا سعاد مردوم ردوم
عاش المدرس ود خدوم
كأنو نكبة كأنو شوم
وأيضاً الفئات التي تحتكر الامتيازات بشتى السبل والأساليب الملتوية ... فإنها على المدى الطويل (تحفر قبرها بيدها) بالرغم من اعتقادي أن الآخرين، وهم جملة المهمشين والجوعى والمهانين سوف يحفرون لها قبرها وتصبح نسياً منسياً وتكون جزء من المتاحف .. فقد ولى زمن الغش والتدليس والاحتقار والتصورات التي تقيم الإنسان طبقاً لمكان ولادته ولا مكان لعمله ومميزاته الشخصية إلا في فكر القرون الوسطى والجماعات السلفية.. فأما بناء دولة حديثة تسع الجميع أو انهيار السقف على رؤوس الجميع ..!
فالرفاهية تهذب أخلاق الإنسان وتروّض نزعاته الوحشية وغرائزه العدوانية، ولا يمكن لأي فئة اجتماعية مهما أوتيت من قوة أن تحكم في وسط محيط من الفقر والبؤس الإنساني، مهما تدثرت بعباءة الدين والأيدلوجيا واستخدمت جهاز الدولة من شرطة وجيش أن تحكم في ظل اللامساواة وغياب العدالة الاجتماعية.
فمهمة الأجراس هي الدعوة للتآخي والسلام، وإقامة وطن على أساس المساواة والمواطنة، فالدين لله والوطن للجميع، وأيضاً الكشف عن مواطن الفساد وأينما وجد، سواء كان في الحكومة المركزية، أو حكومة الجنوب، الذي تديره الحركة الشعبية، الشريكة في تجربة الأجراس. فالحركة أحوج ما تكون إلى الأقلام الناقدة التي تنتقد من أجل الإصلاح وإعادة البناء، فبعد كل سنوات الدمار والحرب والنزوح المواطن على وجه الخصوص في جنوب السودان يحتاج إلى حكومة تطبق وتُرسي مبادئ الحكم الراشد وأولها مكافحة الفساد والشفافية والديمقراطية وخصوصاً في وضع سياسي اجتماعي يتسم بالهشاشة، وفي ظل نخبة إسلامية قابضة في المركز تتربص بالحركة وتلعب على التناقضات الإثنية والقبلية. وأيضاً الأجراس تعمل في ظل ظروف رقابة على الصحف وتضع أمامها المتاريس، فالطريق ما زال شاق والمعركة من اجل إرساء قيم العدالة والديمقراطية ما زالت في أولها وتجربة الأجراس تذكرني بالإلياذة والأوديسة وهما ملحمتان، لشاعر الخلود هوميروس وكلمة الأوديسة تعني سلسلة طويلة من الرحلات تتخللها المخاطرات والأهوال، والصحافة الحرة لا مكان لها في ظل وجود الإفساد والفساد وحب التملك، فقبل يومين شاهدنا في القنوات سحب رخصة مجلة إبداع المصرية لأنها نشرت قصيدة لحلمي سالم رأي فيها حراس الحقيقة والأوصياء على القيم وأصحاب العقول الأصولية تطاول على الذات الإلهية، فالصحافة تتعرض لمزيد من الضرب.
وأخيراً بلادنا أحوج ما تكون إلى الحرية بكافة أشكالها وقد تحدث عنها الفلاسفة قبل مئات الستين وعن ضرورتها، فالفيلسوف الكبير اسبينوزا يقول أن خير حكومة إنما هي الحكومة الديمقراطية ذات النظام جمهوري الذي تكون فيه إرادة الشعب هي الحاكمة .. ويقول أيضاً أنه كلما كانت سلطة الأمراء كبيرة كانت حالة الرعية أشقى وأتعس .. وحينما يكون كل شئ رهناً بإرادة رجل واحد طائش، فإنه لن يكون ثمة موضوع للثبات أو الاستقرار السياسي في حياة الدولة. وعلى أي حال تجربة الأجراس تستحق الاحتفاء والدراسة والتغلب على العقبات التي تعترض طريقها. فالبعض يسأل بالرغم من اتساع عدد قراء الأجراس، لكنهم دائماً ما يشكون من قلة توزيع الجريدة وأيضاً أصحاب المكتبات لا تصلهم سوى خمسة أاداد لكل مكتبة، وقد حكى لي صديقي الأستاذ حسن اسماعيل في الأبيض أن النسخة في بعض الأحيان تصل إلى ألف وخمسمائة جنيه (بالقديم). فالقراء يتساءلون، واضعين في الاعتبار أنهم من المجموعات المهمشة من عمال وموظفين وفقراء المدن، وفي هامش المركز، فهل من طريقة إلى خفض سعر الجريدة، وخصوصاً أن الحركة شريكة في التجربة؟؟ وأيضاً البعض يعتقد أن التغطية الخبرية للجريدة ضعيفة مقارنة بالجرائد الأخرى .
وعلى أي حال كما قال الراحل درويش:
الكمال كفاءة النقصان
والذكرى هي النسيان مرئياً
وعقبال الشمعة المائة.
"خارج النص":
عقدت بعض (القيادات الجنوبية) مؤتمراً في كنانة لمناقشة قضايا الجنوب، وهذا بالطبع من حقهم ومن حق أي سوداني أن يناقش قضايا الوطن، ولكن شريطة أن يكون هذا النقاش في وضح النهار ومشاركة الإعلام وإشراك المواطنين أو "
grassroots
" وأيضاً هل يتم مناقشة قضايا الجنوب بمعزل عن قضايا كل السودان؟ ولكن في اعتقادي الخاص أن بعض النخب تعودت على إدارة الشأن السياسي في الخفاء وحبك المؤامرات، فالبعض أيضاً أصبحت السياسة بالنسبة إليه تجارة وشطارة وسلطة وثروة. ولو كانت على حساب الجوعى والمستضعفين والأجساد التي أهلكتها الحرب ولكن كما يقول الفرنجة
"
the devil finds work for idle hands
" أي أن الشيطان دائماً ما يجد العمل في الأيدي العاطلة. فيا سادتي فمن أراد أن ينتمي بحق وحقيقة إلى صفوف المهمشين والمهانين لا يحتاج إلى الذهاب إلى كنانة والمكيفات الباردة التي (تكتل الحيل). فها هو الشاعر الكبير محجوب شريف الرجل الشريف يعمل مع البسطاء وفي وضح النهار، ولكن "مَرْمِى النادي السياسي الشمالي ما بترفع وكان جيت ترفعو برميك" فقضايا الجنوب أو الشمال لا تحتاج إلى الذهاب إلى الغرف المغلقة وإنما تحتاج الوضوح الفكري والسياسي، ونقاشها يتم في الهواء الطلق!!
فهل أنتم منتهون
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة