الأستاذ وراق وإمكانية التصالح مع ظلامات التاريخ
مجتبى عرمان
[email protected]
الدعوة التي أطلقها الستاذ الحاج وراق للإعتذار والمعافاة لهي جديرة بالإحترام والتأمل وذلك لأن بلدنا أحوج ما تكون لتضميد الجراح والاعتذار عن كل المآسي التي سببتها النخبة النيلية التي حكمت باسم الشمال ضد القوميات في كل هامش السودان والجنوب على وجه الخصوص، بل حتى داخل المركز نفسه. فتاريخنا بقدر ما هو ملئ بالجوانب المشرقة لكنه أيضاً ملئ بالكوارث والحروبات الأهلية والجرائم والمصائب، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان. وحتى تاريخ كتابة هذه المقالة فحاضرنا لا يشرف، فالفضاء الإجتماعي والثقافي ملئ بكلمات التجريح والازدراء والتهميش، وخصوصاً مع سيطرة التيار الأكثر ظلامية في السياسة السودانية وسيادة التفسيرات الدينية المتخلفة.
والأهم هو أن نادي النخبة النيلية السياسي بنى مشروعيته على طمس السؤال والمساءلة. فتاريخ العلاقات الغير متساوية ما بين المركز/الهامش ووماضي تجارة الرقيق والفظائع التي ارتكبت باسم الإسلام والذود عن حياض الوطن؛ لهو تاريخ مشين ينبغي الاعتذار عنه. ولكن كل من يحاول الاقتراب من الأسئلة الحقيقية والمساءلة يتم نعته بالخيانة والعمالة والأجندات الخفية، وامتلاك مشروع خفي لتقسيم السودان –
فهنالك جوقة السلطان وجيش من الانتهازيين الذين يرون في السؤال وفحص ظلامات التاريخ تهديد مباشر لامتيازاتهم.
ومن المدهش أن مؤسسات المجتمع والجامعات التي من المفترض أن تأخذ فكرة الاستاذ وراق للمعافاة والاعتذار على محمل الجد وتقوم بنشرها بين الناس أصابها التكلّس والتحجّر والتيبّس، وربما تكون مثل هذه الدعوات ليست من ضمن أولوياتها.
وأيضاً الجامعات أصبحت أرض يباب لا ماء فيها ولا خضرة وأصبحت مجرد تقليد اجتراري لا ماء فيه.
فالماضي معتم وبه أشياء لا تشرف الانتماء إليها، وبل علينا الاعتذار عنها، وغسل أيدينا عنها كما يغسل أحدنا يداه.
ومن المعروف جداً أن عملية الانعتاق من الماضي المظلم ونبش الصورة التبجيلية والمثالية التي رسمتها النخبة النهرية لنا ولغيرنا لهي عملية شاقة وصعبة "فنحن ونحن الشرف الباذخ" و"نحن عرب العرب" ما عادت تجدي في عالم اليوم، وما أكبر الفجوة ما بين الواقع والصورة المثالية التي رسمناها لأنفسنا وما أصعب الصحو بعد طول استلاب!
فلكي نقيم علاقاتنا على أسس جديدة وتحوير علاقات السلطة والاقتصاد، علينا الاعتراف بالمآسي التي سببناها لأنفسنا وغيرنا من قوميات الهامش وتلك التي ارتكبت باسمنا، فهل كنا في حوجة إلى دارفور لكي نعرف أننا نسير في الطريق الخطأ، أم هي خير لنا، فبلادنا تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إقامة علاقاتنا مع بعضنا البعض على أساس المساواة والمصالح المشتركة وعلى احترام الآخرين، والتصالح مع الذات والماضي البغيض.
وأنا أدرك تماماً أن أصحاب الامتيازات سوف يعملون على إبقاء الأوضاع على ما كانت عليه، وخصوصاً أنهم يملكون أدوات المعركة، وربما يختارون ميدانها، واضعين في الاعتبار الهزال البائن على "القوى الديمقراطية" في الشمال وتشتتها وتمزقها، تارة بفعل الحزب الحاكم والمسيطر في الشمال، وتارة بضعفها الذاتي وهوانها على الحزب الحاكم، كل هذا يمنعها أن تكون قوى إجتماعية، سياسية فاعلة وذلك أيضاً لفقدانها البوصلة وعدم دفاعها عن قضايا المواطن، وانعزاليتها ونخبويتها، فهي في حاجة إلى ملامسة الواقع ومعرفة تعقيداته وإمكانية الفعل الخلاق والعمل على تغيير علاقات القوى والمصالح ما بين المركز والهامش وحتى داخل المركز نفسه، وقد ولى زمن الحكم بالوكالة، فإن كان لنا أن نقيم وطن على أساس التصالح والتساكن السلمي واحترام ورد كل الحقوق للقوميات التي طالها الظلم والكبت والتهميش فلا بد إعطائها فرصة أن تحكم بنفسها وأن تدير أمورها الحياتية بنفسها.
فبلادنا في حاجة ماسة لفتح أضابير التاريخ لكي نؤسس للمستقبل، وبلادنا تمتلك من المقومات والثروات الطبيعية والبشرية، مما يجعلها أن تجد نفسها مكانة في قائمة الدول المتقدمة وليس في ذيل قائمة الدول الفاشلة. وهذا سوف لن يتم إلا بدفع الاستحقاقات الكبرى، وأولها تأسيس دولة القانون والمواطنة، ثم التنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل (
CPA
) التي أنهت أكبر حرب في القارة الأفريقية بعد أن قضت على اليابس والأخضر ودمرت البيئة والإنسان معاً. وهذه الاتفاقية تحمل في طياتها الضمانات العضوية ممثلة في الاحتفاظ بالجيش الشعبي لتحرير السودان، فالراحل الدكتور جون قرنق "وقف ألف أحمر" حتى لا يتم تذويبه للمرة الثانية، فكان الاحتفاظ بالجيش الشعبي كضمان حقيقي للاتفاقية وليس الوسطاء الإقليميين والدوليين، فهذه المرة التسويات لن تجبرنا على العودة إلى نقطة الصفر، فهذه المرة لا يمكن لقانون الهيمنة السياسية والاقتصادية أن يستمر مع ثورة الهامش. ربما يمكنه السيطرة على الشمال الجغرافي وذلك لأسباب كثيرة من ضمنها ضعف القوى السياسية كما شرحنا آنفاً، وانتشار الفقر والبؤس الاجتماعي والاقتصادي وسيطرة رأس المال الطفيلي وتمكنه من مفاصل الاقتصاد مع استشراء الفساد والإفساد ووجود مؤسسات الدولة الرخوة ومع عملية الإبدال والإحلال التي تمت للعناصر النزيهة وذات الكفاءة في الخدمة المدنية.
فحقاً، فعلت خيراً يا أستاذ وراق بدعوتك للاعتذار والمعافاة، فإن أصبت لك أجران، وإن أخطأت فلك أجر المحاولة، ولكن ألا ترى أن عملية التحرر من الأوهام التي عاش عليها المجتمع الشمالي ردحاً من الزمن لهي عملية شاقة! وخصوصاً مع وجود أصحاب الامتيازات الذين يغذون تلك الأوهام من أجل إدامة قانون الهيمنة والسيطرة، وفي اعتقادي أن عملية مواجهة القناعات التي عاش عليها الفرد/المجتمع زمناً طويلاً وأصبحت تشكل وعيه ووعينا تحتاج إلى زمن طويل وهي عملية معقدة وشاقة، ففي ثقافة الوسط أو الشمال النيلي عدم الاعتذار تعتبر منقصة وخصوصاً للرجال، فحتى في أماكن المواصلات والأماكن العامة بدون فرز قلما تجد كلمة "عذراً" و"لو سمحت" في تعاملنا اليومي، وهنالك فرضية في اللغة تقول بوجود علاقة جدلية أو سمها تكاملية إن شئت ما بين الفكر واللغة، فإذا كان الفكر متخلفاً صارت اللغة أكثر تخلفاً، وهذا ربما يفسر لماذا قابل بعض المتعلمين في الشمال دعوتك بشئ من البرود، وأيضاً الفئات التي سيطرت على الفضاء السياسي/الاجتماعي الاقتصادي لأمد طويل تحاول أن تُبقي الأوضاع كما هي عليه (بقدرة قادر) ولكن هيهات، فبعد عشرين شهر بلادنا مقبلة على حق تقرير المصير، فكبت المشكلة وتأجيلها (أما في الفقير أو البعير أو الوزير) لا يحلها ... فمواجهة المشكلة والاعتراف بها ثم المعافاة هو الطريق الوحيد الذي يضع بلادنا في خارطة العالم المتحضر، فأما هذا أو الطوفان كما قال شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه وهو آت لا ريب فيه. فعلينا التفكير وبشكل جاد اليوم قبل الغد في كيفية الخروج من دائرة الحقد والحق المضاد، وفي كيفية إزالة الرواسب الطائفية والعرقية والدينية، ولو كرهت الفئات الإجتماعية ذات الامتيازات، فلا بد من الاعتذار عن المآسي التي سببتها النخبة النهرية التي حكمت باسمها، فأما حصول المصالحة التاريخية أو التفكك والتشرذم وهذه المرة سوف يكون شاملاً وخصوصاً مع وجود نعمة البترول التي تغري الإنفصاليين في الجهتين بالإنفصال والذي يطبل له المتطرفين في كلتا الجهتين.
وأخيراً هي دعوة موجهة لكي تبدّد عتمات القلب وتغوص في أضابير التاريخ، فهو كما هو ملئ بالجوانب المشرقة، هو ملئ بالجوع والإفقار والتهميش واحتقار الآخرين، فإذا أردنا أن نؤسس لواقع جديد علينا الاعتذار لكي نتعافى ونجد لنا مكانة بين الشعوب المتحضرة أو كما قال الراحل محمود درويش:
سنصير شعباً، إن أردنا، حين نعلم أننا لسنا ملائكة، وإن الشر ليس من اختصاص الآخرين ..... سنصير شعباً حين نحترم الصواب، وحين نحترم الغلط، سنصير شعباً حين ينظر كاتب نحو النجوم ولا يقول بلادنا أعلى .. وأجمل! سنصير شعباً حين تحمي شرطة الآداب غانية وزانية من الضرب المبرّح في الشوارع!
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة