صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات : قصة و شعر English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


ذكريات معهم/حسن الأفندي
Mar 16, 2007, 21:46

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

ذكريات معهم

   ما أمرَّ على نفوس المفلسين أن يجتروا ذكريات أيام النعمة والغنى , و ما أعظم أحزان التاجر حينما يضطر لمراجعة أوراقه القديمة بأمل خادع خلاب فى أوقات المحنة , كانت ليالى هشام مليئة بالشعـر و البهجة و المسرة و مجالس الفكر و الأدب , و علاقات الود و إعمال العقل و تبادل الأفكار و المطارحات الشعرية , و فجأة أقفرت و انتهت إلى لا شئ يحسه , بل إلى درجة تساوت فيـه لديها كل الأشياء , فاضطر إلى أن يلجأ إلى عالمه القديم مجترا ذكرياته , و لو على الورق فى وحدة أنيس مكافئ لـه فيها :

رعى الله عهدا لم أبت فيه ليلة     من العمر إلا من حبيب على وعد

   تذكر أستاذه محمد محمد على يرحمه الله , فقد كان تلميذا لـه بالمرحلة الثانوية من الدراسة , أحب كل منهما الآخر , و رأى فى أستاذه المثل الأعلى فى عالم الشعر و النقد و الأدب , و رأى فيه البحترى و الرومي و أبا القروح و أبا بصير و أبا العتاهية و الأخطل و الفرزدق و كل المجيدين من السابقين , قال له أستاذه عندما قرأ له قصيدته التى مطلعها :

رأيت الدهر يلبسنى عقالا      إذا ما الحر صال به و جالا

و التى كان هشام يجارى بها قصيدة أستاذه أبى القاسم عثمان ( كفى يا قلب ) , إثر إعجاب كبير و عظيم بها و ببيت منها يقول :

فما نال المكاسب عبقري     و قد صال الدعي بها و جالا

فضمنه آخر أبيات قصيدته . قال له الأستاذ محمد محمد على أنه لا يرضى منه سخطه ذلك  و تشاؤمه , و لا يريد لروح الشاعر إلا أن تسمو فى عالم المثاليات و الصفح و التسامح و الصفاء , بعيدا عن عالم المادة و جنوحا إلى عالم تسوده المحبة و ذكره بقول أبى العلاء المعرى متسائلا : أين أنت من قوله :

فلا هطلت علي و لا بأرضى     سحائب ليس تنتظم البلادا

أجاب هشام : أستاذى إن السحائب لم تهطل علي و لا بأرضى و جافتنى , بينما شملت البلاد جميعها , بل ليست لى أرض فى الحقيقة يمكن أن تهطل عليها السحائب . و غريب ألا يملك هشام أرضا حتى يومه هذا , الثالث من أبريل 1983,بل لا يملك مترا و لا شبرا منها يمكن أن يقول به أن له أرضا على وجه المعمورة أو فى بلاد المليون ميل مربع , و عبر عن ذلك فى لامية له بديوانه البوادر يقول:

و يا وطنى أحبك رغم أنى     أعيش الفقر أرفض للسؤال

و لم أملك لشبر فيك  حتى     أورثــه  بموتـى  للعيـــــال

و لكنى حفظت لماء وجهى     فما أهدرتـه  خوف ابتذال

و استطرد هشام قائلا لأستاذه : بل أنا أكثر إعجابا بالرومى حينما عــبر عما يدور بنفسه , فقال ما قال من الشعر الصادق , و تذمر دون أن يخرج عن اعتقاده أو يهتز إيمانه بالخالق جل و علا كما يتضح من شعره . و أذكر للرومي أقواله :

أنا لست دون الألى ملكوا الكون        مـن  شـرطة  و من  كتاب

و تجار  مثل  البهائــم  فازوا        بالمنى فى الروح  و الأحباب

و أيضا :

تبارك العدل فيها حين  يقسمها           بين  البرية  قسما غير متفق

و سأل الفتى أستاذه إن كان ينكر أن للفقر و الحرمان تأثيرهما على تكوين و تفكير العلماء و الكتاب و الشعراء و أهل الفكر و المعرفة , كما تساءل إن كان أستاذه ينكر على هؤلاء أن يحسوا فى دواخلهم معبرين جهرا و علنا عن أنه ينبغى أن تكون لهم من مكانة و حياة تتوافق و تتلاءم و تتواءم مع مكانتهم الأدبية .

   و دار نقاش ممتد بين الأستاذ و تلميذه , و رأى كل منهما أن الفقر صديق ملازم لأهل العلم و الفكر و الأدب فى الغالب الأشمل و روى كل منهما ما يحفظه من أخبار هذا الشاعر و ذلك الأديب و قصصهم و معاناتهم و معاناة من لف حولهم من الرواة و المجارين . و تذكر قول حفنى ناصف :

إذا ورث الجهال أبناءهم غنى     و جاها فما  أشقى  بنـى العلماء

و اعترف الشاعر الكبير محمد محمد على بأنه كان فعلا متشائما فى قصيدته إلى أسير المحبسين .

   و أوجفت الأيام تمضى لا يلتقيان , و بعد سنوات معدودة فجأة يلقى هشام أستاذه فى مبنى إدارة معهد تدريب المعلمين العالى بأمدرمان ( كلية تربية جامعة الخرطوم حاليا) فى الخامس من مارس عام سبع و ستين و تسعمائة و ألف , و قد كان الرجل قد حضر لتوه من مصر ليجمع شيئا من مصادره و مراجعه و نصوصه لإكمال رسالته للماجستير عن الشعر السياسي فى السودان , و صادفت عودته لأرض الوطن زيارة الدكتورة عائشة عبد الرحمن للبلاد ( بنت الشاطئ ) حيث أقيمت لها ليلة شعرية كبيرة بالنادى الثقافى بالخرطوم _ حسب ما تنامى إلى مسامعى _ اشترك فيها لفيف من شعراء السودان و لم يكن هشام بينهم , فقال له أستاذه : وددت أن لو سمعتك فى تلك الليلة تصول و تجول و تعطى أنموذجا للشعر السودانى الواعــد , نظرت إليك فلم أجدك . أجابه تلميذه متعللا بانشغاله بالإمتحانات للنقل للصف النهائى , و مادة الرياضيات تحتاج جهدا و اجتهادا . فأردف أستاذه : لا عليك , فقد قرأت لك عددا من قصائدك بمصر من جريدة الرأي العام السودانية , و نالت إعجابى و رضائى . و لا تسل عن مشاعر هشام آنذاك و لا أحاسيسه , كان يحب مصر و يتمنى زيارتها , شأنه فى ذلك شأن الكثيرين من أبناء وطنه و رصفائه من السابقين و المعاصرين , مصر مهد العلم و المعرفة و الحضارة و التقدم . أن يذهب إليها شعره و يطأ أرضها قبله , فذلك أمر جد كبير على نفس هشام ! بل لم يفكر فى ذلك من قبل , شعره الذى تنشره الصحف السودانية , يمكن أن يقرأ فى غير معهد المعلمين العالى و تعدى زملاءه و زميلاته إلى غيرهم فى مواقع مختلفة من السودان و غير السودان , لم يطف بذهنه و لو فى الخيال أدنى احتمال لقراء لـه فى مصر أو فى أي مدينة حتى بالسودان , و كأن ما ينشر كان وقفا على من هم بمعهد المعلمين العالى فقط , و ينسى أن الجرائد سيارات متحركة و آليات تعريف و نقل سريعة ! وقع حديث أستاذه على مسامعه بحيث حرك كل مشاعره و أظهر له معلومات كانت غائبة عنه , و بحيث لم يستطع بعدها أن ينبس ببنت شفة , و طأطأ رأسه و تحرك فى طريقه إلى سكنه بالوحدة الأولــى بالحجرة رقم (10) بالمعهد و ليس بداون  ستريت , و خلال دقائق معدودة على أصابع اليد وصل الحجرة مصطحبا معه أجمل شعر , حسناء فاتنة , سماها فى لحظتها تحية الشاعر , و خطها بسرعة مذهلة و كأنه كان حافظا لها لا مؤلفا لها على التو , و عاد مسرعا إلى حيث ترك أستاذه , فوجده ما زال واقفا لم يغير مكانه , و طلب مــنه أن يسمع , و أنشده :

أذكيت شجوى , بل ملكت عنانى       يا شاعر الألحان  و الأشجان

إشارة إلى ديوان أستاذه ( ألحان و أشجان ) المعروف و المتداول بين القراء و عشاق الشعر . و حتى أكمل هشام قراءة قصيدته على أستاذه , فقال لـه : لا فض فوك فما عهدتك تكتب بطالا أبدا . بنفس اللفظ . ووضعها هشام فى مغلف عليه طابع بريدي حيث وجدها منشورة بالصفحة الثانية من جريدة الرأي العام فى التاسع من مارس عام سبع و ستين . و قد رمى هشام بأبياته :

بالله  زر لى قبر عقاد و قل          للقبر هذا  لوذعي  زمانى

بالله  كيف ضممته  و بجنبه         كون فسيح عامر  الأركان

من كل علم للبلاغة أو نهى          من كل مبهجة من الأوزان

ما زلت أقرأها فأنعم خاطرا         بعد الوداع و ليلة الأحزان

إلى عصماء العقاد ( ليلة الوداع ) :

أبعدا نرجى أم نرجى تلاقيا         كلا البعد و القربى يهيج ما بيا

و فيها الرائع المبدع المثير من اللفظ و المعنى و الحس , بل هي قمة لا تصل إليها قمم الإلب و شاهقات التبت , أنشدها الأستاذ السودانى / محمود الفضلى ـ إذا لم تخن الذاكرة ـ أمامه احتفاء و احتفالا بقدومه إلى السودان إبان الحرب العالمية الثانية , و كان العقاد لــه رأي ضد النازية , فسمعها العقاد و بكى و استغربت الصحف السودانية عندها و نشرت فى الصباح التالى ( دموع الجبار ) و أخرى   تقول (الجبار يبكى ) , فقال لهم و من قال لكم إن الجبار لا يبكى ؟.... كلما قرأت تلك الرائعة هومت أتذكر عبده يغوث , ذلك الشاعر الجاهلي و قصيدته :

ألا لا تلومانى كفى اللوم ما بيا      فما لكما فى اللوم خير و لا ليا

و تذكرت الشاعر الإسلامى , مالك بن الريب التميمي :

ألا ليت شعرى هــــــــل أبيـتـن ليــلة       بوادى الغضا أزجى القلاص النواجيا

فليت  الغضا لم يقطع الركب عرضه       و ليت الغضا ماشى الركاب ليــــاليــا

لقد كان فى أهل الغضا لو دنا الغضا         مزار و لكــــــن  الغضا  ليس  دانـيـا

عبر الرجل عن تشببه بالغضا و تمسكه به و أشواقه الحرّى إليه , و كان التكرار إفادة مستحسنة و إعادة طيبة ممتازة , و هكذا يلهم الشعراء أحيانا بعلم و بدون علم منهم ! فقد لبس مالك _ يرحمه الله _ للحالة لبوسها . و أتذكر بقصيدة العقاد أيضا , قصيدة الشاعر الســـودانى الصاغ / محمود أبو بكر فى ديوانــــه ( أكواب بابل من ألسنة البلابل ) , و التى أطلق عليها اسم (قطاتان ) , و كان أنشأها إثر حمى أصابته :

أعيدا علي الأمس إن عدت ثانيا       عسانى أراها مرة أو ترانيا

   و كان ذلك الموقف آخر لقاء بين المعلم و تلميذه , فقد شت البين بينهما , بعد مسافة لا بعد روح أو فراق تفكير , حتى سمع التلميذ بموت أستاذه فى أواخر سبتمبر 67 , فى نفس يوم الهول الأكبر , يوم وفاة جمال الأمة العربية جمعاء , فكان الحدثان نارين لضعيف عزم و إرادة و رباطة جأش , أوهى جسده و أنهكــه التفكير و الحيرة و الحزن , ووقف متأملا فى مفترق طرق يبكى هذا و يندب ذلك ,و أراد أن يرثيهما بشعره المتواضع , و لكن عظم الحدثين كان أقسى و أكبر و أعظم من رثائه , و كان الخطب أكبر من كل قول و معنى , أخرس لسانه و شعره , و ما زال يذكرهما فى نفسه و يحزن كثيرا , و قد تذكر هشام كيف مات المنفلوطى فى نفس اليوم الذى مات فيه زعيم الأمة آنذاك سعد باشا , و نعي فكان نعيه صوتا خفيضا فى عصف ريح كما قال شوقى :

اخترت يوم الهول يوم وداع     و نعاك فى عصف الرياح الناعى

رحم الله محمد محمد على و المنفلوطى فكلاهما سامق شاهق القدر عظيم .

تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا معشر يمانون

و إنـــا لأهــلـنا محبون

أجل .. تطاول الليل حتى ظن هشام أن لا غد يليه , و اضطر _ فى غير رغبة _أن

يواصل شريط ذكرياته .

ياليل الصب متى غده ؟      أقيام الساعة موعده ؟

لا بل هو قول امرئ القيس :

و ليل كموج البحر أرخى سدوله      علـــــي بأنـواع الهمـوم ليبـتلى

فقلت  له  لمـا  تمطى  بصلبـــــه       و أردف أعجازا و ناء بكلـكـل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجــــلى      بصبح و ما الإصباح منك بأمثل

فيالك  من ليـــــــل  كأن  نجـومه      بكل مغار الفتـل شـدت بيــــذبـل

كأن الثريـــــا علقت فى مصامها       بأمراس كتان إلى  صم  جــندل

   عاش هشام ليلات الإغتراب و سأمها , منذ عهد بعيد طويل , فلا تعجب , عاشها تصورا و معايشة بين السطور فى كتابات نعيمة و جبران و معلوف و إيليا فيما تركته الغربة فى نفوسهم , و ما أفرزته انعكاسا صادقا على كتاباتهم , أحسها و صدق بها هشام و آمن بواقعية مشاعرهم فيما يكتبون , و أحبهم و لكنه صدم برأي و حديث الدكتور العالم العلامة عبدالله الطيب ـ أمد الله فى عمره و نفعنا به ـ فى برنامج لتليفزيون السودان عن أدب المهجريين , فكتب هشام ليلتها مقالا يدافع فيه عن أدب المهجريين , و أرسله لجريدة الصحافة السودانية , حيث نشرته فى عددها رقم 973 الصادر بتاريخ 2/8/1966 تحت باب اختاره المحرر ـ فيه شئ من الإثارة , و إيش جاب لجاب ! ـ هو باب (نحو غد جديد) , و كان عنوان الرسالة (نقد و سلام ) , جاء فيه :

   أحييك أستاذى فى المقام الأول ببيتين يحضرانى من الشعر لإيليا أبو ماضى , إذ يقول:

يا أيها الطير المغرد فى الضحى          أهواك إن تنشد وإن لم تنشد

لله  درك  شاعــرا  لا  ينـــــتهى           من  جيد  إلا  صبا للأجـود

أو  هكذا يقول , لأننى أبعث إليك بهذه الرسالة القصيرة المقتضبة , متناولا فيها رأيكم حول الشعر العربى المهجرى , و الذى بدا واضحا و جليا لمن استمع إلى جهاز التلفاز فى مساء الخميس الثامن و العشرين من يوليو .

   و قد جعلت عنوان رسالتى رأي و سلام لأننى أقصد بها فى الواقع تسجيل خاطرة بدت لى , علنى أن أجد فى ردكم علما أستفيد به و تفصيلا أوفى , و أنا على أول الطريق الذى أجدك فيه أستاذا لى , على أستنير بنير فكركم و ثاقب رأيكم ,و حسبى متعة فيما أجده فى الجزء الأول من كتابكـــم ( المرشد إلى فهم أشعار العرب و صناعتها ) الذى أضعه أمامى مكبا على درسه هذه الأيام و لا يفارقنى إلا فى أوقات تتعذر سبل الوصول إليه.

   قلت ـ حفظ الله أستاذنا القائل ـ بأنك قرأت شعر المهجريين فلم يترك أثرا فى نفسك , و أنه قد انتهى أو كاد أن ينتهى , فهو كما فهمت من رأيكم ليس أهلا للبقاء و الخلود , و لكنى أرى أن شعر المهجر يجد عناية و اهتماما من النقاد و الأدباء و القراء , فذود منه المكتبة العربية بعضهم بعدد من الكتب القيمة متداولة بين أيدينا جميعا , و أن شعر المهجر حاز على حظوة عظيمة فى الأوساط الأدبية , و تناول كثيرا من الأغراض الحية عدا الشوق و الحنين على العودة , منها الفلسفي و الاجتماعى و النفسى .

   و لكن الشيء الذى وددت قوله فى هذه العجالة , هو أن حكمك بنهاية دولة المهجريين قد صدر مستندا إلى ذوق خاص و تذوق خاص يعـيش فى هذه الفـترة بالذات , فى حين أننى أعتقد أن هذا ليس سببا نستطيع أن نصدر به حكما كهذا , خصوصا و أننا لا نعـرف شيئا الـبتة عن أذواق من سيخلفوننا فى فترة تخلف هذه الفترة , و لسنا نعلم لمن سيكتب الخلود فى الشعر و الأدب , و لا أشك إطلاقا فى أنه لا يوجد أديب أو شاعر على الإطلاق , استطاع أن يقدم شيئا و هو يضمن الخلود و البقاء لما قدم , بل لعلنا نقيم الأرض و لا نقعدها لقصة السراب لنجيب محفوظ مثلا فى هذا العصر , بينما لا ندرك أن الآن أن ربما أعدمها الخلف عن الوجود و لم تعد تذكر . و هل كان يدرى أبو نواس مثلا أن سيرته ستتناقل إلى آذان الناس عصرا بعد عصر , فيكبون عليها بالدرس و التحليل و إعمال الفكر و النقد ؟ بل ربما كان هناك شاعر لا يجارى فى عصره , و رب أديب نحرير بليغ قد كتب عليهما الزمان فناء , فلم يصلنا من ذكرهما الكثير أو اليسير .

   و أعتقد جادا أن ذوق الناشئة الآن , و إن كنت أنا أحد المتعصبين للمدرسة التقليدية و المدافعين عنها , يميل كثيرا نحو التحرر من القديم و قيوده و كتبه الصفراء , و لعل فى هذا اللون من الشعر ما يرضى الناشئة , خصوصا بعد أن ظهرت على السطح الدعوة إلى الشعر الحر و المنثور , و كسيت من الأنصار و المؤيدين , يلتمسون فيها تجديدا أكثر و حرية أكثر مما سار بهم بشار أو أبو نواس و من تلاهما من المجددين .

   بمثل هذا أو بعضه , رد الدكتور طه حسين فى كتابه ( نقد و خصام ) على هجوم الأستاذ سلامة موسى و حكمه بفناء إنتاج القصة فى مصر , و على كل حال فإنى أنتظر فى ردكم الشافى إن شاء الله , ما فات علي من علم و شكرا إن تكرمتم بقراءتها أو الرد عليها ) .

   و يبدو أن الدكتور عبدالله الطيب قرا الرسالة و لكنه كان يؤمن بمثل ما ذهب إليه أبو العلاء المعرى من قبل :

و خذ رأيى و حسبك ذاك منى        علـى ما فيه من عوج و أمت

و ماذا يبتغى الجلساء عنــدى        أرادوا منطقى و أردت صمتى

و يوجـــــد  بـيـننا أمـد قصي         فأموا  سمتهم و أممت  سمتى

   و إذا كان هشام كتب مقاله ذلك صدقا و إيمانا , فإنه قد كتب فى جريدة الأيام فى عددها 5806 فى الفاتح من ديسمبر 1969 مقالا يسجله هنا للتاريخ و الحقيقة , فى صفحة الأدب تحت مسمى ( حدث فى القرية ) , و هو كتاب قصة  للكاتب القاص الشاب إبراهيم إسحق إبراهيم , باكورة لإنتاجه , و قد كان هشام فيه غير جاد و لا مؤمنا بما ساقه من رأي و حديث فى بعض المقالــة , و خصوصا فى الجزء الأخير منها , كان غير أمين فيما كتب , و لكنه رأى فقط أن يكتب شيئا يثرى به النقاش و يلفت به الأنظار نحو كاتب قصة يكتب يدخل باب الطباعة و النشر لأول مرة , كان هشام يلم بكل تفاصيل الكتاب و رمزيته و إن ادعى و أظهر غير ذلك , حتى يتسابق غيره من الكتاب إلى الكتابة و تحليل القصة , قصدا للإعلام و الدعاية المستترة , و لما كان قد مضى عليه زمن طويل, و نجح فى مراميه حينها , فقد رجع إلى أوراقه القديمة يفتش عن النص , و بدأ يطالعه :

   هأنذا أكتب اليوم و اقرأ بعد زمن طويل عشته , لا أجد فيه مجالا لهذا ولا ذاك , أنغمس بين المسائل و القوانين الرياضية و ما تمليه علينا الوظيفة من واجب لابد منه , و بقربى أكداس من الكتب ترقد فى يأس و خمول , و قد كنت لا تجدنى من قبل إلا باحثا دارسا و قارئا لكتاب بحاله فى يوم و ليلة .. و من حسن الحظ و الطالع أن أجد عطلة أسبوع واحد لأتمكن من  القراءة فى بعض الكتب الأدبية و الدواوين , و من حسن الطالع أيضا أن أهدانى زميلى الأستاذ إبراهيم إسحق إبراهيم نسخة من قصته حدث بالقرية .

   و لقد قرأتها على عجل و اطراد دائمين حتى أكملتها , و قد أردت أن أتحدث قليلا عنها و عن انطباعاتى الأولية عن هذه القصة غير ناقد لها و لا حامل عليها , و أول شيء مضحك أسجله هنا أن مطابع بيروت ـ سامحها الله ـ قد قلبت اسم الكاتب من ابراهيم اسحق ابراهيم إلى اسحق ابراهيم اسحق , و لست أدرى هل ذبحت لذلك كبشا واحدا أم ثلاثة كبوش , حسب ماتجرى العادة ( السماية ) عندنا أو العقيقية ؟

   و الكتاب بأكمله يقع فى نحو من أربعين و مائتى صفحة متوسطة , و القصة تتلخص فى سطرين أو ثلاثة , مفادها أن أطفالا نزلوا إلى واد بالقرية حيث تتجمع مياه الأمطار و السيول فى فصل الخريف , و أخذوا يلهون و يلعبون و يعومون , فضرب ورن أو تمساح ـ غير معروف ـ طفلا منهم يدعى إسماعيل , فمات متأثرا بجراحه , و حاول أهل القرية مستعينين بالعمدة و خفرائه ـ حاكم إدارة أهلية ـ قتل ذلك الحيوان . كلفهم ذلك الكثير و لم يصلوا إلى غرض .

   و لعمرى فإن كان الأخ إبراهيم يبدو رجلا سكوتا هادئا مسالما ,فإنه يحمل بين جنبيه إنسانا ثرثارا ذا خيال بعيد لا حدود له , و تحت السواهى دواهى , بقلم من حلب الدهر أشطره , أو يبدو كذلك فى كتاباته , أحصى الرجل فما ترك شاردة و لا واردة , و لا صغيرة و لا كبيرة من عادات الناس , ووصف كل شيء و أي شيء مسهبا مطنبا , و صور لنا الناس قياما و قعودا , فى منازلهم و مراعيهم و مزارعهم و عاداتهم , فى ورودهم الماء و فى سلمهم و حربهم و مشاجراتهم و مناقشاتهم , مآتمهم و أعراسهم و عبادتهم و عاطفة كبارهم و شقاوة صغارهم . و لعمرى لا يستطيع أن يصدر أي فرد من الناس قصة كهذه فى كتاب كامل كهذا , إلا و كانت لـه مقدرة خاصة خلاقة فى التخيل و الإبداع , و كانت له سعة صدر و طول نفس , و قدرة ابتكار .

   لابد هنا من أن أشير إلى أن الكاتب قد وفق  التوفيق كله  فى أن يبرز لنا صورا حية عن مرح الأطفال و شقاواتهم , و تجمعات الناس موضحا كثرة أعدادهم بطرق جميلة غير مباشرة , تأتى حينا بعد حين , كلما دار نقاش بين  اثنين و تدخل ثالث فى هذا الجانب و ذاك , و تحت هذى الشجرة و تلك , و فى الوادى و على البئر و هلم جرجرة ...كما أنه يبدو على دراية بعيدة الغور بالنفس البشرية فى مختلف مراحلها , مما أهله لترجمة مشاعر عثمان , بطل القصة تقريبا , و أقول تقريبا لأنك تحس أن لا بطل محددا للقصة بعينه جزما , نعم فقد ترجم كل ما انتابه من فرح و قلق و خوف , و لعلى لا أبالغ إن قلت أن أجمل صور الكتاب فى الفصل الثالث و العشرين , و بالذات فى الصفحتين مائة و تسعين و التى تليها , فهي تكاد أن تكون واقعا محسوسا يلزم أن تصورها أو تخططها سنة قلم لفنان ماهر و قدير مبدع .

    و ما أريد كما قلت من قبل أن أنقده , فالرجل صديق و زميل و عزيز , و لكن هناك أشياء لابد من تسجيلها وهي ,أولا : أن القصة ما هي إلا سرد للحياة الإجتماعية فى جزء من غرب السودان , أوضح فيه طرق معيشتهم و شربهم و ملبسهم و كل شيء عنهم , و تعرض للإدارة الأهلية متمثلة فى شخص العمدة , فنقـده فى كثير من المواقف , و ذلك يعتبر موقفا من هذا النظام الأهلى .

   ثانيا : من العبث أن نفترض وجود تمساح أو ورن مائى فى غدائر الماء فى غرب السودان ,مهما حاول الكاتب تبرير ذلك فى إحدى فقرات كتابه , بزعمه أن الغدائر تتصل بالقنوات النيلية الكبرى و ذلك أمر غير معقول و لا مقبول , و غير صحيح واقعا , و لذلك فافتراض أن يكون فى الوادى تمساح أو ورن مائى و ليس خلويا , افتراض مرفوض جملة و تفصيلا , لأنه مبني على فرضية خاطئة و لا يستقيم عقلا و منطقا , و لعلى بهذا أرفض تقرير الكاتب فى آخر صفحة له يختتم بها كتابه , بأن أهالى المنطقة يعتقدون أن للتمساح _ كما قالوا _ حاسة خيالية للتسرب ستجعله يمضى مع السيل مبتعدا عن حيهم , و لو قال بأن التمساح سيبقى رضينا أم أبينا لكان أفضل .

   ثالثا : استعمل الكاتب بعض الألفاظ مثل هويرتين و النتير و الإمبرور و كثيرا من الألفاظ المحلية حسب لهجات الأهالى , و أعتقد أنه لم يكن خلاقا فى استعماله لها فى بعض المواضع بحيث يجعل القارئ العربى يفهمها , مما أفسد على القارئ متعته إلى حد ما .

   رابعا : الكتاب لا يخلو من أخطاء نحوية و أخرى لغوية , و مثال ذلك السجاجة و صحيحها السجادة , و الشلة و هي الثلة , كما أنه كان يعمد دائما إلى استعمال الحمر بدلا عن الحمير , و يصف الأرض بالبسط بديلة للبسطاء أو المنبسطة .

   خامسا :خانه التعبير كثيرا مما أدى إلى الغموض فى بعض المواقف , و ذلك مؤداه فى اعتقادى إلى حرصه الشديد على الترجمة الدقيـــقة لكل مـا يعـن لـه و ما يجول بخاطره , و ليس أصلح من ذلك مثالا من الفقرة الأولى فى الفصل الأول , و إن كان قد حقق نجاحا لما يرجوه بالفعل فى كثير من المواقف .

   هذا ما رأيت تسجيله فى عجالة من أمرى و أرجو أن أكون قد وفقت فى نقل رؤيتى . انتهى

   كتب يومها هشام ذلك و هو يعلم تماما بالمد الحضارى الذى يعنيه الكاتب فى قصته و يرمز لـه بالتمساح أو الورن المائى , ذلك المد الذى بدأ يعزو غربنا الحبيب و لكنه أمر فى نفس يعقوب , أوضحه قبل عرض المقال , أراد للمقال أن يكون هكذا . كتب ذلك المقال و قد كان فى ذلك الوقت يهـب الأدب و الشعر و النقد اهتماما ما أسعفه الحال , و كان يلبى دعوة المنصات المختلفة و مجالس الأدب , و لكنه لم يجد فى ذلك غناء للنفس و حاجتها , و لا غـناء لحاجة البطن و لوازم الحياة فآثر الصمت و الانزواء , و يشهد أنه تسلم نسخة من كتاب آخر لصديقه ابراهيم إسحق إبراهيـــم باسم ( أعمال الليل و البلدة )  و لم يطلع على ذلك العمل حتى كتابة هذه السطور , فقد شغلته الحياة بقسوتها و مرارة ظروفه , و كآبة فقره و ما يتركه من آثار نفسية بالغة , تجعله يركض يومه كله وراء لقمة العيش الشريف , و يرعى أبناء لـه ذكرهم فى رثائه لصديقه الشاعر الشعبى المرموق إبراهيـــــم العبادى , بعد قطيعة طويلة بينه و بين الشعر :

و لله  حزنى  كــم  فقـدت  أحـبـة          و ما زال ذكرهم حبيس محاجرى
 و لـو لم يكن بعدى صغار و مالهم       على العيش من عوض بقلب ذواكر
 لمـــا كنت أرضى بالحـياة مسايرا        وسارعــت فى شوق لعيش مقابـر

        فهم علموا قلبى الخوار و صيروا          لسانى  جبانا ,  أخرسوا لمنابرى                                
        و هـم كل شعرى بيـــد أن نسيجه           شموس حيـاتى فى ظلام ديــاجر

   أجل , كانت لـه منابر و كانت لـه استجابة للشعر و الأدب, كان جم العطاء أثرى ليلات نادى الشعر بمعهد المعلمين العالى بأدرمان , فهو أول من دعا لإقامته , و حمل لواءه حتى ترك المعهد حيث أكمل دراسته فى أبريل 1968 , فلم يسمع بعد ذلك عن النادى شيئا  و لا مجرد خبر عابر, كان منصة شعرية إلتف حولها الكثيرون من الشعراء الفحول من السودان و من أقطار عربية شقيقة , و استطاع هشام أن يتعرف فى تلك الفترة على إعداد منهـــم , و أن تكــون له صلات عميقـة وطيدة بهم , و كانت منصة النادى دافعا لإنتاج غزير طالما صفـــقت له الأكف بحرارة و تعشقته الحسان و تغنت به الألسن , و لعله يعجب أن يجد من زملائه من يحفظ له شعرا منذ تلك السنوات و حتى أوائل الثمانينيات , فيسمعه منهم و يعجب به و لــه , و هو نفسه قد أعدمه من قبل و نسي كل شيء عنه و لم يعد ضمن أوراقه و لا ذاكرته , بل و ما أشهر قصيدته التى يقول فيها :

أأميرتى  رفـــــقا و يا لفؤادنــا        مما يعانى فــى زمان الهـــــون

فى كل غانية تميـس بخصرها        نغما أضفت بمزهرى الموزون

خلفت قلبى خلــــف كل جميـلة       و سهرت ليلى و الجوى يطوينى

فقد صدف أن أخذ إحدى الحافلات من سوق أمدرمان ليصل بها إلى معهد المعلمين العالى , فجلست فى واجهته تقابله حسناء تسلب العقل , و تدع الصحاح العقل غير صحاح , و تبادل معها النظرة و الابتسامة و السلام و الكلام و لكن بلا موعــد و لا لقاء , و تركت ما تركت فى نفسه من أثر , نزل من الحافلة مثقل النفس بالحسرة و الشعر , ووصفها ووصف الرحلة كاملة و لم يهمل الطريق و دجداجه آنذاك , فقد كان الطريق المعبد بالقار ينتهى بسوق ودنوباوى . و من عجب أن له ذكرى أخرى على نفس هذا الطريق , حيث لقيه أحدهم و بالتحديد لدى محطة مكى الشهيرة , و أتاه بأخبار لم يطلبها منه و على موعد :

و يأتيك بالأخبار من لم يزود !

مفادها أن بعض من تربطه بهم صلة قربى , تحدثوا عنه فى مجلسهم بما لا يهوى و لا يرضى , و غضب هشام لذلك و اتجه شمالا مطأطئ الرأس بعد توديعه للواشى , و هناك و هو ينتظر الحافلة , عالجت ذاكرته قصيدة ( سماء المجد ) و هي من أحب قصائده إلى نفسه , و قد نشرها محرر صور و ألوان بجريدة الرأي العام بعد أن أرسلها له بالبريد و دون تأخير , و بالمناسبة لا تربطه بالمحرر أية معرفة و لا يعرف حتى اسمه , و ظل على ذلك الحال حتى 1979 حيث التقى به مصادفة فى مطار الخرطوم الداخلى و كان هشام ينوى استغلال الطائرة إلى دنقلا فى مهمة نقابية , و شاءت الظروف أن تجمع بهما بأحد معارفهما ليقدمهما إلى بعضهما , ونشر المحرر قصيدة سماء المجد كاملة و لم يشطب منها سوى الإهداء و كان : إلى النفوس الصغيرة و إلى أعــــدائي الصغار , و يبـــــدو والله أعلم أن المحرر كان من أشد المعجبين بهشام ,فنانا ذواقة , تطربه الكلمة و يكبر الفن , و أشهد أنه نشر لى كل ما وصله من شعر منى, إلا قصيدتى الغريب و ذلك فيما يبدو لغرابة ألفاظها و صعوبتها , فهي تحتاج إلى قواميس و إلى قديم الكتب للوقــــوف على معانى ألفاظها , و لـه الحق كل الحق , فقد كتبها هشام مستعرضا عضلاته اللغوية مقابلة لموقف استفز فيه , من أحد أنصار أديب كبير لما كتب إليه رسالة على إحدى صفحات الجرائد ينتقد موقفه من الشعراء المهجريين , و قد تعرضنا إلى الموضوع من قبل , و لعل ذلك يشبه الاستفزاز الذى تعرض له الشريف الرضى مما أنتج قصيدته :

إنما الحيزبون و الدردبيس      و الطخا و النقاخ و العلطبيس

لغة تنـفـر المسامع منهــا       حين تروى و تشمئز النفوس

أين قولى هذا كثيب  قديم       و مقـالـى عقـنـقــــل قدموس

و أن أبان قدرته على نظم الصعب لمن كان يشك فى قدراتـــه و عاب عليه سهولة شعره , و ما زال هشام حتى الآن يعجب بقوله من قصيدته الغريب :

لهفى على  صغر مضى  كفنته        لأروم من غـير و من متدارك

فالعاظلـون  لكل  درب   رمـته          بالجهل ما فطنوا لدرب  شائك

نِكس الرجال ليوم ذخرك تمتطى       نُكس الجدود و هن غير سوالك

و قال هشام : شاء الله أن يقدمنى كما أسلفت أحد معارفنا إلى محرر الصور و الألوان , جمعتنى صدفة يومها , و لا أدرى هل عاد يذكرنى أم نسي عنى كل شيء, مثلما نسيت أنا و بأسف بالغ حتى اسمه ‍.

   و تابع هشام روايته لذكرياته .

   و لما كنت أتحدث حول قصيدتى سماء المجد , قال هشام , كان علي أن أقرر هنا بأنى لم أعمد بحال من الأحوال أن تحمل مشاعر المتنبى أو أن أجارى معانيه , أو أن اتقمص روحه , و لكنها جاءت وليدة الموقف و الصدق و الانفعال , فقد رأى الكثيرون ممن سمعوها , بأنى أردت أن أكون أبا طيب آخر , و يشهد الله ما إلى ذلك رميت و لا سعيت , و لكننى أحسست بجرح داخل النفس , و كان لابد من التعبير عنه و التنفيس عما يجيش بداخلى , فسال الشعر دما و إرزاما على لسانى .

   و أما الشعراء الذين عرفتهم من خلال نادى الشعر و إشرافى على توجيه أموره و إعداد برامجه , فكثر و لا حصر لهم على مدى أربع سنوات من العمر , و لكنى أخص بالذكر أحدهم من المبدعين الموهوبين , سريع الاستجابة و البديهة , ذكي لماح , يملك موهبة نادرة , خاصة فى مجال الهجاء , أصيل حقيقي ذو روح مرحة لطيفة , لا يحمل حقدا و لا كراهـــية لأحد , ذلكم هو الشاعر العملاق النور ابراهيم , أمير شعراء الكتيبة , و قد تخصصت فى هجاء متبادل بين أعضائها , لا تجزع , فالأمر لم يكن جريا وراء الهجاء و حبا  له , و إنما كان يهجو كل منهم فى الآخر الصفات الموجودة بالمجتمع , و ربما , بل فى الغالب لا يُعنى بها المهجو , كان الهجاء يرمى إلى نقد عادات و ممارسات غير مرغوبة و لا محببة تجرى حولنا , و يقومون سلوكا يرون أنه معوج غير مستقيم , و ببساطة كان هدفهم هو إصلاح الحال فى جملته , و انخرط فى هذه المجموعة لفيف من الشعراء و الشخصيات التى لها قيمتها ووزنها , أدبا و شعرا و أخلاقا و أصلا و فصلا ـ كما يقال .

   قدمت الأمير يوما إلى منصة النادى ليقدم لنا شيئا من إنتاجه الجديد , و لما استقبل الحاضرين قال: طلب منى هشام أن أهجوه , و هأنذا أستجيب , ثم أنشد :

أبا الحسن إن الشعر يعرف  أهله       و لست  له أهلا  برغم النور

فإن شئت أن تلج الكتيبة  شاعرا        أرقيك (أمباشى) بكل  سرور

و إن أنت لم ترض الوظيفة هذه        أرقيك موسيقار تعزف بورى

و ضحكنا مما قال , و لكنى عمدت أن أرد عليه بأبيات أناصر فيها الشاعر العلامة الأستاذ محمد عبد القادر كرف , و الذى استلف منه جنيها و لم يرده , فشهر بهجائه على صفحات الجرائد بقصيدته الشاعر الآبق , فرددت على الفور مرتجلا :

شيخ  الكتيبة  خل عنك فضائحا         كان الجنيه و ما يزال لرائحا

هبك اشتريت به السجائر أو وقـــودا للــــفيات و كنت  يوما  سارحا

و الشاعر العملاق لا يبكى على        ما ضيعته يد الزمان مصارحا

و هناك أبيات أخرى من القصيدة أنسانيها الزمن , و كان كرف قد امتدحنى من قبل و هجا النور :

على حسن أخى الأصغر         رواء  أبـدا  يبهـر

إذا أقبـــل فـــــــــــر النـــور أو ولـــول أو أدبــــر

فـتــــى أبيض لا  كالنـــــــور رث ثــوبــه أغــــبر

أو هكذا قال , و أخذ النور فى الخفاء يساومنى ألا أهجوه أمام الناس , و سيعلن تعيينى وليا لعهد إمارة الكتيبة , و كانت حرب 1967 , فكتبت إليه قصيدة أرفض عرضه , و أعرض بالمنصب المقترح و كانت المعانى تقابل ما عليه الحال ـ أعنى حال الأمة  وقتها . و مر زمن لا نلتقى , فأرسلت إلى جريدة السودان الجديد , و كانت تُفرد لنا بابا خاصا باسم ( طرائف ) و يرعاه الصحفى المرموق الأستاذ طه المجمر بنفسه , تشجيعا لهذا الضرب من الشعر و المعانى , و الصحيفة أسسها المرحوم الأستاذ / أحمد يوسف هاشم , لفت نظرى إليــــه عام سبع و خمسين على ما أعتقد , خبر مرضه و موته , و قد لاحظت يافعا أن شعبنا السودانى و على الأخص بالعاصمة المثلثة , كان يحيا معه ظروفه العصيبة من مرض و ألم , و حزن الجميع لموته , و بكته كل الأوساط بلا استثناء , و فاء الرجال للرجال , و أحزننى موته مما قرأته من رثاء و ما سمعت عن كفاحه لإخراج هذه الصحيفة . أرسلت لهذه الصحيفة ذات التاريخ و الصيت قصيدتى( خرج و لم يعد ) , و منها :

خرج الأمـير و لـم يعد
سوقـــوا عليــــه النادبا
يـا مـــن رآه كأنـــه
يمشى و ينفخ فى الكدو
و كأنهُ مـــن أرض جو
أوصافـه جـــــمّ و لــ
أُهـــدى لكـــــل مغامر

 

فابكوا معى بطل الاماره
ت فإن فى الفقد الخساره
عود الخلال بلا جساره
س فلا عليك من الشراره
نٍ لم تسودنـــه الوزاره
كنْ ليس تسعفــــنا الحراره
بالبحث عنــه لنـــا سجاره

و رد علي بقصيدة مطلعها :

حسن إبراهـــيم أسـتاذ  يفـتش عــن إمــاره

لاقـيته فى السوق  محتارا هناك أمـــام باره

بادى الهمـوم مقلـق يرمى السجارة  بالسجاره

و زعم أن البار تديره سيدة ,  فهو مؤنث حسب الإدارة , و رددت عليه , أنفى ما رمانى به من بهتان :

يـا صغــيرا بــــإمـاره
ما بكم فى رميكم لى
قــــول زور كـــم  جفاهُ
شردت منـــك القوافـــى
كـم كذبت الناس إنى
بل عمـــود الشعر وزنى
إنما الشعــــرور غــيرى
هو مثــــل النــور يخشى

 

و (أصنصي) فى عمـــاره
بحــــــــديــــــث لـلاثـــــاره
من درى  عــــنى مهاره
قـــــد قلبت البـــار باره
ليس تغويـــنـــى (عواره)
و أمــــير عــــن جداره
شعــره مثــــل( البصاره )
أن أشن اليـــــوم غاره

و تلك كانت آخر قصائدى معه و فيه , و مات صديقى النور ابراهيم , أمير الشعر , بل أمير أمراء الشعر بلا جدال , و عز علي موته و فراقه , و لكن ما باليد حيلة , فصدق عليه قوله نفسه فى الشاعر إمام دوليب :

أنا إن مدحتك يا إمام فصادق     و إذا هجوتك فالقريض أساء ‍!

   و كم وقفت حائرا كثيرا أمام رهبة الموت , فما نطقت , و ما استطعت أن أنطق , لغز محير كلما تعمقت فيه , كلما قبضت حفنة ريح , و عدت أدراجك خائبا , و كم ملأ علي أوقاتا كثيرة بالتفكير فى كنهه , ماهيته , كيفيته , حقيقته , و لكن لا أرغب فى الخوض فى ذلك على الأقل الآن , و لمصلحة القارئ , لا أريد لـه تعبا ذهنيا مرهقا مؤرقا مضنيا , ثم ما يجدى الحديث فى أمر لا نستطيع فيه جزما و لا بتا , و لا يغير حديثنا من الواقع شيئا يسيرا أو كثيرا , فالموت حوض لابد أن يرده الجميع من الكائنات الحية , و ربنا يلطف و يستر , و إن لم نخض فيه تجربة سابقة يمكن أن ننقلها بعد أن عدنا منها ثانية قافلين منها بحصيلة نتأبطها و نفيد بها . نلاحظ فقط  و نعايش عاطفيا تجارب غيرنا بحسرة و ألم  , و كلنا ينتظر دوره , و لست أدرى أيسرى الموت فى غلظة إلى أجسادنا و تعب شديد , أم بهدوء و يسر , مثله مثل النوم الطبيعى المريح الهانى تماما ؟ و هل يقبل به المرء على حياة أخرى أفضل و أنعم , فيحق لنا أن نفرح به , أم يسير بالموت إلى حيث يجد تعب الروح و الجسم و يعانى من وحشة , فاستحق الموت منا الخوف و النفور ؟ و لكنه علاج أحيانا لكثير من معاناة المرء :

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا     و حسب المـنايــا أن يكن أمانيا

   و إذا كانت لليالى الإغتراب من محاسن و حسنات تذكر , فهي جعلتنى أجلس إلى نفسى كلما اعتكر صفوها , و كلما احتل الحنين حيزا من الصدر أو النفس , فقوى انتماء المرء إلى وطنه و مواطنيه و أهله , إلى الأرض , كلما اشتقت إلى بسمة طفلى و طيبة أهلى و مجالس أنسى , و لعل من ثمرات ليالى الإغتراب ما تمسك به بين يديك لتطالع شيئا , قد يعجبك و قد لا , و إن كنت أومن بأنك ستجد فيه الكثير المثير من الأحداث و البعد الثالث الذى لا ندرى عنه شيئا , وقائع و أحداث حقيـــقية فى حينها تأتيك ! و ما كان لما هو حبيس صدرى أن يرى النور لولا هذه الليالى , فهي تجديد للقديم المكتنز بالنفس , و هي تجديد لحياة حفلت بالكثير , و هي اجترار ضخم  للذكريات ,. كنت يوما استلقى على سريرى المتواضع , و لمس الكرى عيني فأطبق الرموش , و كنت متعودا النوم على شريط من جهاز تسجيل صغير بجانب سريرى , و صدف أن جزءا من ذلك الشريط مسجل بالسودان , عليه صوت أحد الأقارب المسنين أداعبه و قد بطن فى ذهنى ساعتها أنه قريب إلى مفارقة الحياة , و أردت أن احتفظ بشيء من ذكراه , و قد صدق حدسى , و كما يقول ابن الرومى :

و للنفس حالات تظل كأنها        ستكشف فيها كل غيب محجب

و بينما كنت أداعبه بالحوار , إذا بصوت زوجتى ينبعث من بعيد مشاركة جلستنا تلك , فيطرد عنى النوم و يجعلنى أصحو عليه , و يحرك في شجنا و شؤونا و ذكريات و أشواقا , فأخذت على التــو ورقة من المنضدة المجاورة , تحمل أكــداسا من الكتب أيضا , علمية و أدبية و دينية , و أخذت أكتب بلا تردد أو تلعثم أو طويل تفكير أو توقف أو إعادة :

سمعتُ صوتك منساباً إلى أُذنــى
حفظت حبك رغــم البعد يا أملى
أقول للنفس أن تأسى ببـعـــــدكم
زرعت للشوق يكوينــى بحرقته
نفيتُ عنــك مع الأحلام تأخذنى
و كنت توأم روحى لا أفارقه
و أنت تبقين بالخرطوم نائية
أحب صوتك مهما كان ذكّرنى
رددتِ ذاكرتى لمّا يغيّرهـــا
قتيل حبك لا دنيــا تبــدّلــه
إذا قسوتُ فما بالصدر عادته
تطير روحى إلى دنيــاك شاردة
فهل ديار أبى يا هند تـذ كـرنى
كم للتراب بأرض النيــل معذرتى
إذا نأينا فقد كانت لنا قدرا
مأساتنا أننا نحيا هوامشها
و النازلات فلا تأتى مفرّدة
فكل ما زادت الأعوام من أ لمى
يبقى بصدر عديم الحول تُرجعه

ذكراك ذكرى فما زالت تؤرقنى
مهما تباعد كل فى مسالكه
لئن سألت عن الأشعار سيدتى
و أنت لا شك عندى خير غانية
إذا رغبت لقاء بَعْدُ يجمعنـــا
و ما أزال عــلــــى عهد الوفاء وإن
و نشرت فى بعض الصحف مؤخرا

 

حتــى أهاج بصدرى كامن الشجن
و صنت ذكرك فى سرى و فى علنى
فما استجابت إلى قــول و لا فطن
و يصطلى النفس فى هم و فى حزن
إليك رغم بعيد الأرض أبعدنى
إلا أفارق من قلب و من بدن
و توأم الروح مشتاق إلى الوطن
وعادنى طيفك الغالى فأسعدنى
بُعْدُ المكان و لا بُعْدٌٌ عن الوسن
و لا الظروف و لا سيلٌ من المحن
و كم يذيب فؤادى شوق مُرتََهَن
و أكتوى بلهيب القيد و العُنَََََََََن
و هل تراب ذرا إذ غبتُ أنكــرنى
و للفيافى و للأرياف و المدن
رحلاتـنا و جريض العيش و السكن
دنيا تداعبنا بالهم و الإحن
و إنما جُمعت ألفاً على شطن
و كل ما نالنــى بالشيب و الحزن
ذكــرى تهز كيـان المدنف الوهِن

مهما أحاول أن أنسى مع الزمن
ووجهك العذب ياغيداء أوحشنى
ما أنت إلا جميل الشعر ( للحسن )
خير العنادل إن غنّتْ على فنن
ما زلتُ فى شوق ذاك المرقد الخشن
طال البعاد و ما أغنى عن الوطن

 

   و على كل حال فأضرار الإغتراب أكبر بكثير من فوائده , آمل أن أعرض لها بشيء من التفصيل لاحقا .

   قال هشام : أليس غريبا أن تكون كل أحداث هذا الفصل , حصيلة رحلته العقلية خلال ليلة واحدة بعد إطفاء النور استعدادا للنوم ؟ تصور !


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

قصة و شعر
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • عصفور يا وطن د.امال حسان فضل الله
  • حيرة/أحمد الخميسي
  • لغة العيون/ هاشم عوض الكريم
  • أحلام يقظه/هاشم عوض الكريم – بورتسودان
  • صديقي المصاب بمرض الايدز سيظل صديقي بقلم / ايليا أرومي كوكو
  • مشتاق/محمد حسن إبراهيم كابيلا
  • شكل الحياة/ ياسر ادم( أبو عمار )
  • قصة قصيرة " شجرة اللبخ تحاكى النحل " بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • المفلسون بقلم الشاعر السوداني/ حسن إبراهيم حسن الأفندي
  • بدرويش توفي ألف شاعر/كمال طيب الأسماء
  • انهض بقلم الشاعر السوداني / حسن إبراهيم حسن الأفندي
  • لو بتحب بلادك جد!/الفاضل إحيمر/ أوتاو
  • قراءةُ اللّون إلى:- أحمد عبد العال/شعر:- عبد المنعم عوض
  • عايز أقول أنو الكلام القلتو دا/د. شهاب فتح الرحمن محمد طه
  • قصة قصيرة " الجــمـــــــــل " بقلم: بقادي الحاج أحمد
  • غــانــدى/أشرف بشيرحامد
  • ما أظنو ../محمد حسن إبرهيم كابيلا 30
  • دموع طفلة بريئة- أنوريوسف عربي