صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات : قصة و شعر English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


الهدف المنشود/للشاعر السوداني / حسن إبراهيم حسن الأفندى
Mar 14, 2007, 22:41

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

الهدف المنشود

للشاعر السوداني / حسن إبراهيم حسن الأفندى

[email protected]

http://hasanalafandi.blogunited.org

 

   و قبل أن يدخل هشام منزلهم , وقف برهة من الوقت يتأمل منظر المنزل , فإذا به كما تركه فى نهاية الصيف الماضى , و مع بداية أولى نسيمات الخريف , كالميزان القت تماما , مرتفع فى جانبه الشرقي و منخفض فى الجانب الغربي , نتيجة عادية لطبيعة الأرض و تمشيا مع ظروف الفقر التى تحياها الأسرة , و التى لا تمكنها من إضافة لمسات جمالية على ما هو موهوب من الطبيعة , أو استصلاح الموجود ليضفى جمالا و يكون مقبولا أو فى حكم المقبول . لا رونق ولا بهاء, خاصة و أن الجدران التى بنيت بالطين ( الجالوص ) , المتآكلة بفعل الزمن الذى يترك بصماته على كل شيء ... كل شيء بلا استثناء ... أصبحت ملاذ1 آمنا و سكنا و مأوى , تجد فيه الخنافس راحتها و ربما العقارب و الثعابين بين فترة و أخرى متباعدة ! و أخذ يتذكر قول أحمد شوقى :

 

اختلاف النهار و الليل ينسى    =  اذكرا لى الصبا و أيام أنسى

 

تلك السينية الرائعة .... و يكفى أن فيها قوله السائر :

 

وطنى لو شغلت بالخلد عنه    = نازعتنى إليه فى الخلد نفسى

و البعض يضيف واوا قبل لو فيخرج القصيدة عن بحرها الخفيف .

 

رحم الله الرجل , فقد عارض قصيدة البحتري :

 

صنت نفسى عما يدنس نفسى   =   و ترفعت عن جدا كل جبس

 

و أجاد مثلما أجاد البحتري و أبدع ... وود هشام أن لو توافرت مصادره ساعتها ليستعرض القصيدتين معا , فهما روعة معان , دقة تعبير , حلاوة لفظ , تجد النفس فيهما راحة , و الأذن طربا و غناء , رسما حقيقيا بالألفاظ لا إدعاء فيه و لا افتراء:

 

تحسب العين أنهم جد أحيا   =  ء لهم بينهم إشارة خرس

يغتلى فيهم ارتيابي حتـى   =    تتقراهمو يـــداي بلمــس

 

و رحم الله الرجلين الشاعرين الكبيرين .

 

و التفت هشام إلى الجانب الغربي , ليرد تحية أحد أقاربه من أهل قريته الطيبين , ليكون أول من يلتقي به , بعد رحلة طويلة , و تذكر هشام كيف أن هذا الرجل ظل مشهورا بذكائه الخارق و قوة الملاحظة .

 

   و دخل هشام الدار ليسلم بعاطفة جياشة على والدته , فقد كان يؤمن أنها نموذج فريد للأم المكافحة المناضلة من أجل أبنائها , فى تضحية و نكران ذات , خصوصا بعد وفاة و الدهم عن عمر كبير , و كان قد تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى و بعد أن زوج بناته الستة منها , ليعيش عشرين عاما أخرى مع زوجته الجديدة , و ينجب منها ثلاثة أولاد و بنتا , و كان هشام توأما للبنت و أوسط إخوانه , مدللا عند والده حيث سمي باسم جده من أبيه , و مدللا عند والدته التى كانت تعتقد أن التوأم ضيق الصدر , و باختصار نصف روح ! و يستحق معاملة خاصة . و سلم على أخته الكبرى من والدته التى كانت متزوجة من ابن عم لها وولدت معه بنتين ثم رملها, و هي رغم ذلك عندما تزوجها والده كانت فى عمر ابنته الثالثة ! ثم حيا بحرارة توأمته , و إن كانت تبدو عليه ملامح حزن عميق فى داخله يترك انطباعا على سحنته الشاحبة أصلا , و بدأت تلاحقه الأسئلة عن أخبار أخويه الأكبر و يسكن الخرطوم و الأصغر و يعمل بمدينة ودمدنى بالجزيرة بوسط السودان , و هي تشتهر عالميا بزراعة القطن طويل التيلة , و رأى أن الأسئلة لن تقف عند حد و ستجر وراءها من الحكاوى و القصص الكثير , و ستتعرض لنتيجة امتحانه و تخرجه ليكون معلما بالمرحلة الثانوية , و كيف أن ذلك مسئولية و شرف و ما إلى ذلك من تعليقات و هلم جرجرة من كلام يجر إلى كلام فى تفصيلات و إجمالات ربما حركت مزيدا من الحلقات المتصلة , و شبيهاتها و ما هن على شاكلتها . و كان هشام متعب فكر و بدن معا !

 

   و أدرك الشاب الشيخ , فقد كان فى الثالثة و العشرين من العمر و بضعة أشهر, صقلته التجارب و الحياة و الهموم , فأصبح يبدو فى جد الشيوخ و تفكيرهم , أن الجلسة مستمرة و يمكن أن تكون طويلة جدا , فطلب أن تؤجل الأسئلة لحين أن يلقى عن جسده مظاهر السفر , و دخل إلى الحجرة الغربية المجاورة للصالة التى كان يجلس بها , و الحجرة و الصالة كل ما يحتوى المنزل من أماكن للإقامة صيفا و شتاء , و لكن العبء الأكبر يقع على الصالة نسبيا , و هي مكان تتساوى فيه إقامة الليل و النهار و الصيف و الشتاء , و يتشابه بنيان المنزل و مأواه مع فنائه , فسيان أن تقضى ليلة ممطرة تحت سقف الحجرة أو الصالة أو فى فناء البيت ! فلا شيء منها يحجب عنك المطر و ضوء البرق و إرزام الرعد , و لا شيء من هذا أو ذاك يحجب عنك برودة الشتاء القارصة , تتساوى تماما كل الظروف ! و للقارئ أن يطلق العنان لخياله الخصب و يرسم بريشة الفنان ما أسعفته الذاكرة عن البيت و بنيانه ! دخل إلى الحجرة الوحيدة , ليجد فاثورا يرقد فى صحنها , ووعاء بلاستيكيا ( سطلا ) مملوءا بالماء ليستحم .

 

 

   و صفـصـف الشاب شعره و رجّلـه بمساعدة مرآة صغيرة , طبع عليها آلاف الأفكار و الخواطر , بنظرة حزينة و قلب مشغول , سحنة تعبر جيدا و فى صدق عما بنفسه من بؤس , لا حد له و لا حدود , عاش البؤس و ترعرع فيه و شب عليه , و حدق بالمرآة طويلا , و أحس و كأنه ذلك السيف المكسور , أو الفارس الذى صرعته أوهامه على الرغم منه , و هل الأوهام إلا هزيمة لا مدى لها و لا شاطئ ؟

 

نعد المشرفية و العوالى   =   و تقتلنا الهموم بلا قتال

 

   و كان يظن أنه أولى الناس بالعز و الفوز بالحياة , فهو يحمل بين جنبيه قلب حر كريم , و هو سليـل علية القوم و خيارهم , و هو يظن أنه ينطبق عليه بيت أبى الطيب المتنبى :

 

فارم بى ما أردت  منى فإنى    =  أســـد القــلب آدمي الرواء

و فؤادى من الملوك و إن كا     = ن لسانى يرى  من الشعراء

 

و على الرغم منه أن يستشهد بأبيات أبى الطيب المتنبى , و لـه فى ذلك رأي و رؤية , يأمل فى سردها فى باب من أبواب هذا الكتاب لاحقا , فى جرأة و على الرغم من معرفته بأن المتنبى جاء فملأ الدنيا و شغل الناس , و على الرغم من أن أي حديث يقدح فى المتنبى , سيعتبر من قبل الكثيرين ضربا من الجنون أو الهراء! لا يهم , فلا حجر على الفكر و الرأي فى أخريات القرن العشرين , بل يجب أن يكون الأمر كذلك , طالما كان الرأي يأتى منضبطا و فى إطار المنطق و العقلانية.و بدا و كأن هما ثقيلا يزحم صدره و فكره , ليـته يستطيع أن يجلس و أن يكتب و أن يعبر عما يجيش بخاطره , فى حرية و صدق , بلا تكلف و لا مراء , و لا ارتداء ثوب ينكره و يكون غريبا عليه , قصيرا أو طويلا , و هل يملك من حيلة غير الكتابة ؟ فهي مخرجه الوحيد من أتعاب نفسه و هي تعبير ينفس عن الذات و هموم الجوانح , بل الشعر سلاح مضاء و فيه راحة و شفاء , يعبر بصدق عن الأغوار و الأعماق , و لكنه لا يستطيع .. أجل لا يستطيع .. فهو ما زال غائر   الجروح , و ما زال الجرح نازفا ... و العواطف الجياشة لم تهدأ بعد ... لا يستطيع لسبب بسيط يتمثل فى أن كل ما يستطيع كتابته من شعر و مهما بلغت قيمته الفنية و البلاغية و الأدبية ـ إن كان حقا موهوبا كما يقال عنه ـ و مهما استبد به دون سواه فن الخلق و الإبداع , لا يمكن أن يترجم ما بداخله ترجمة دقيقة , و لا تقل له إن لغة المترادفات غنية معبأة قادرة , فإن ذلك قول ممجوج , و سخف علماء اللغة الذين لم يكتبوا الشعر الحقيقى و إنما قدموا صناعة سخيفة لا أكثر و لا أقل , فهم لم يجربوا ترجمة حقيقية للمشاعر فى ذروتها , و أهم ما فى كل الشعر عاطفته الصادقة و روحه و حيويته , و هم إن كتبوا شيئا , فقد عكسوا لنا تكلفهم و عنتهم و ثقل أرواحهم و لم يقدموا لنا إلا سيئا لا يمكن أن يقال إنه شعر ! ياله من شاعر مغلوب على أمره , و هل فعلا هو شاعر يستطيع أن يكتب شيئا نافعا ؟ أم تراه كغيره ممن كتبوا و مضوا بلا ذكر و لا خلود ! و لكنه يدمى الأكف تصفيقا و استحسانا لما يكتب من شعر حماسي رائع , ينتزع به الإعجاب حتى من أصدقائه و خصومه على السواء :

و كنت إذا وقفت على مقام    =  تحير منه ذو الحقد اللدود

 

أو ليس هو القائل ذلك ؟ يصور مشاعر الناس و آلامهم و يمس فيهم مواطن الرغبة ثم لا يستطيع أن يحكى آلام نفسه ؟ عجيب ! إذن لـم يكتب الشعر و ليس لـه فيه غناء؟ فليذهب شيطان الشعر الذى يمده بالمنبريات إلى الجحيم ! فهو ما زال يذكر عجزه يوم ذلك الحادث المروع , و الذى فقد فيه أعز الناس إلى قلبه آنذاك . أعز و أغلى الناس , على يدي سفاح معتوه , طغت عليه العقدة النفسية , فأعمل السكاكين و الآلات الحديدية القاتلة , ليدفن أجساد ست أرواح تحت التراب فى لحظات ! بلغ حزن هشام قمته و لكنه لم يستطع ترجمة مشاعره إلى حروف حزينة يحترق تحتها القرطاس ! و ما أكثر من حزن عليهم هشام , ووقف لذكراهم موقف العي العاجز !

 

   و استطرد هشام فى تفكيره و خواطره على هذا الضرب المتسلسل المزعج مدة من الوقت , عاد بعدها يسائل نفسه إن كان قد استلقى على السرير المصنوع من الأخشاب الرخيصة , و نسج بحبل من حشيش صحراوي يعرف ( بالحلفة ) , و يسمى مثل هذا السرير العنجريب , و هو ما يستعمل فى الغالب نعشا للموتى و من حولهم من يحملونهم به إلى مثواهم الأخير , و تعوذ بالله من تلك الشطحة الذهنية المتشائمة و مضى يسأل نفسه فى جوف الظلام ـ لم تكن هناك كهرباء ـ: أترى يريد النوم أم استلقى ليفكر فى الأدب و الشعر و النقد ؟ أم ليجد مخرجا و بصيص أمل من قصته الجديدة التى عاشها فى صمت و كتمان منفردا , و أراد أن يسدل عليها ستار  الختام قبل أن تبدأ حقيقة على أرض المعايشة و الواقع , ليخرج صفر اليدين , فحظه دائما يلازمه بالخسارة و لم يربح مرة واحدة , فعلام يربح هذه المرة, فلتكن كسابقاتها , تثقل جانبه بالحسرة و الندم و الأرق  يعض أصابع الفشل فى أرق و قلق و ضيق صدر !

 

   و لماذا يتدخل الأدب كالفضولي فى مجالس القوم , ويحتل عندها جزءامن تفكيره وليله الممض , كما يشغل الفضولي جزءا ليس بالقليل من أوقات الناس ؟لماذا يخرجنى الأدب من موضوع أحيا لبه تفكيرا و تقليبا و بحثا و تقديرا , فربما ربما أجد طريقة للكسب و لو مرة واحدة ! ألا قاتل الله المتافيزيقية الخادعة و الواقعية المرة معا , و من سار على درب المتافيزيقية ! أو هكذا يخرج الإنسان هروبا من واقعه , جريا وراء خيال و سراب , عله أن يجد راحة و عزاء و لو فى عالم الخيال ؟ أو نجرى وراء الخيال تخليا عن الحقيقة و الواقع المرير ؟ ولكنه مسكين , أعنى الإنسان , ضعيف و إلا كيف يمكن أن يعيش و أن يستلهم الأمل فى أحلك الأوقات لو لا ذلك ؟ فالأمل الأخضر البسام و أحلام اليقظة , و النظر إلى الغد المقبل ـ مهما كانت الظروف ـ زادنا بعين متفائلة , أمور تهون علينا آلامنا و تطرد يأس صدورنا , و كم فعلت بنا الأحرف الأنيقة ! و لكن بالرغم من ذلك كله , تبقى الحقيقة المجردة , حجر عثرة نصطدم به , و نواجه ـ رضينا أم أبينا ـ واقعنا , مبنيا على عدد من الحقائق التى نتحاشى مجرد ذكرها دون أن نكون قد وطدنا العزم و النفس على مجابهتها , و أنى لنا ذلك و كيف رد ما يصيبنا من ضرر , ردا فعالا أم غير فعال ؟ أما أن نبنى صروحا من الخيال وقصورا على رمال أوأرض هشة بلا أساس متين , فتهوى بين لحظة و أخرى , فأمر جد خطير , تترتب عليه العواقب الوخيمة المتخمة البطون , التى ما تلبث أن تنغص على المرء صفو حياته .

 

   و بدأ الشاب يتذكر ...... فقد كتب موضوعا فى هذا المعنى و السياق , بجريدة الرأي العام السودانية فى صفحتها الثانية ( صور و ألوان ) بالعدد 7798 بتاريخ 17/2/1967 بالتحديد , و يذكر ذلك العنوان ( الفلسفة و الأدب ) , و يتذكر كل كلمة من كلمات الموضوعه , فقد كتب :

 

و ما الجمع بين الماء و النار فى يدى  =    بأصعب من أن أجمع الجد و الفهما

 

أعاد الله إلينا شاعرنا (جماع) فقد جمع بين الواقع و الخيال فأجاد أيما إجادة , و جزاه الله خيرا فى موضوع مقدمة لحظاته الباقية الخالدة :

 

و نظرت فى عينيك آ =     فاقا و أسرارا  و معنى

أنت السماء بدت لنـا   =   و استعصمت بالبعد عنا

 

فلا أشك إطلاقا فى أن فلاسفة المدارس التجريبية , أو قل المنطقية الموضوعية , قد دخلوا فى محاولة انطلاقة العقل البشري فى ميادين المعرفة , و لكنى أعتقد أيضا أن محاولاتهم و إن نجحت إلى حدما , إلا أنها لن يكتب لها النجاح كله , و لن تستطيع أن تحرم العقل البشري من ارتياد ميادين فساح و التحليق فى عوالم يمتزج فيها الواقع بالخيال , فهم يريدون منا أن تؤدى كل كلمة نتحدث بها أو نكتبها معناها الدقيق و الدقيق فقط , على أن تخضع لميزان التجربة العلمية و العملية , بينما نجد من جانب آخر المتافيزيقيين الذين يرون غير ذلك , فيعطون للأقلام الحرية لتحلق فى سماء الخيال و تكتب من الصور و الألوان و تبتكر من الزخرف اللفظي ما يمكن أن ترتاح إليه النفس أو تتصوره العقول على أقل تقدير , غير خاضع لتجربة و لا حقيقة علمية .

   و أول ما يجعلنا نتساءل فى خضم هذا الجدل , هو الإنسان و قد خلق لأول مرة و أوجد لأول مرة , جديدا على الحياة و الكون , لم يعش على الأرض من قبل , و لم تكن له خبرة و لا تجربة , فماذا كان من شأنه يومذاك ؟ فكلنا يعلم أنه استطاع دون تلك التجربة أن يسبر غور حياته , و أن يستوعبها أيما استيعاب , إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من تقدم و فن و حضارة . و هل كانت المخترعات و الحقائق العلمية و الاكتشافات إلا نتيجة لخيال خصب مبتكر خلاق فى البداية ؟

 

  و شيء آخر لابد من ذكره هنا , و هو بكاء الإنسان طفلا ساعة مولده , بفطرة غريزية أودعها الله فيه , لمعرفته بمغادرة مكان كان يجد فيه أمنه و استقراره , و تخوفه من مجهول ينتظره فى عالم جديد لا يعلم عنه شيئا حتى الآن , و ذلك سبب يستند إليه البعض فى تقريب الموت و انتقال الروح من الجسم الطيني إلـى عالم برزخي , أمر مخيف للإنسان رغم أن الحياة القادمة بعد الموت أفضل بكثير عن الحياة الدنيا و سجن الروح فى جسم طيني , تماما مثل خوفنا عند الولادة و بكائنا , و آخرون يعتقدون أن البكاء أنما يأتى للأذى الذى يلحق رئة الوليد و هو يتنفس لأول مرة , و أيا كان معه الصواب أو الخطأ, فإن البكاء من أولى معارف الإنسان, و قد ذهب بعض العلماء إلى أن الطفل ما كان لـه أن يبكي لو لم يكن يعرف نقيضه , أو يكون مدركا للضد . أي البكاء , فهو إذن يعرف بالفطرة الفرح و الضحك , طالما عبر عن الحزن أو الضيق أو الخوف الأَوْلي , فالطفل على هذا ذو خيال جامح بعيد لا حد له و لا حصر , و ما ذلك إلا من معرفة أو محاولة معرفة.

 

 

   ثم هؤلاء الفلاسفة الذين يريدون إخضاعنا للتجربة و الحقيقة العلمية المجردة الواضحة , لا أعتقد فى إيمانهم المبدئي بالمثل العليا و القيم الأخلاقية , فهم بذلك خطر عظيم على الدين و المعتقدات و الأخلاق , لا الأدب وحده , فى حين أن الإنسان قد جبل بطبعه و خلق ميالا إلى الفضيلة لا الانفلات الحيواني .

 

   و ما أثقل الواقع و ما أمر وطأته على النفس ! كلنا يدرك ذلك و كلنا خير له أن يقرأ كتابا لقصة من نسيج الخيال المحكم يقع فى خمسمائة صفحة , على أن يستوعب بعض الصفحات العلمية المحدودة و المعدودة على أصابع اليد الواحدة , فنحن لا نميل إلى العلوم إلا مجبرين , شديدي الاشمئزاز و التقزز , و من منا لا يلهب كفيه تصفيقا و تلعب الموسيقى برأسه ؟ بل من من الناس من لا يحلم بالغد المشرق و المستقبل السعيد متناسيا لواقعه أو محاولا الهروب منه ؟ و إذا حاولنا ألا نسوق أحلام اليقظة دليلا نقف به على عمق الخيال و ما يجرى فى مجال الفطرة و النفس البشرية , معللين ذلك بإمكانية التحكم على العقل و النفس , و قتل الفراغ فيما يفيد , فلا أعتقد أننا يمكن أن نكبح جماح أحلامنا و نحن نيام يشخرون و يغطون فى نوم خفيف أو عميق ! و الرقص و الغناء و الميل إليهما و الموسيقى و الشعر و المناجاة و غيرها , مما لم يكن له أثر فى حياة الفيلسوف داروين فى سنين محددة من عمره كما قال : قضيت الستين سنة الأولى من عمرى تعسا نكدا غير سعيد , و أنا أشتغل بالتجارب العلمية , و ذلك لأنى لم أهب الفن شيئا من وقتى خلال تلك الأعوام .

 

   و الرأي عندى هو ألا يستغنى الإنسان عن الواقع جريا و هرولة وراء الخيال , و لا يستغنى عن الخيال معايشة صرفة للواقع , فلابد أن يجمع بين الاثنين معا و فى إناء واحد . و ما أروع شاعر المعرة الفيلسوف الذى جد فى أمره حتى لتظنه لا يعرف سوى الحزم و المنطق :

 

و كيف صعودى إلى الثريا بلا سلم ؟

و هو نفسه القائل قبل أو بعد :

 

أيها الغر إن خصصت بعقل   =    فاسألنه فكل عقل نبى

 

فكر كثيرا فى أن يصل إلى السماء , و أن يستقصى حكمة الله فى كثير من الأمور , فاستحالت عليه المحاولة , أو لم يجد من عقله ما يسعفه على ذلك . و لكنه جنح أيضا إلى الخيال و التلاعب بالألفاظ و العبارات و المعانى بجناس كامل أو ناقص , حتى قال عنه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ـ نفعنا الله بعلمه وأ طال بقاءه ـ واصفا له فى أحد مواقفه فى الفصول و الغايات , فيما كتب العميد فى كتابه مع أبى العلاء المعرى فى سجنه , يا لعبث الأطفال الكبار ! ( و يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه , و يسمع الأصوات بيده , و تكون بنانه مجرى دمعه , و يجد الطعم بأذنه , و يشم الروائح بمنكبيه ...!) إلى آخر ما كتب منكرا العلة الغائية , مجاريا مذهب آيبقور , إلا أنه قدم لنا وصفا بخياله المبدع , لصورة مختلفة عن الواقع على كل حال و يقدر ربنا أن يجعل الإنسان عليها .

 

   و يرى أبو العلاء أن النفس تخدعه و تغريه ، و لكنه يثبت وجودها مؤكدا أن مجالها أرحب من هذا الجسد الذى يحويها :

 

أرانى فى الثلاثة من سجونى  =    فلا تسأل عـن  الخـبر النـبيـث

   لفقدى ناظرى و لزوم بيتـى   =   و كون النفس فى الجسم الخبيث

و بعد ... فهذه مجرد خواطر عرضت أردت تسجيلها ، و إن كانت تسوقنا إلى خواطر أخرى أرجأتها إلى فرصة مواتية إن شاء الله .

 

    و يبدو أن الله لم يشأ ، أو أن الشاب لم يحاول الاستمرار فى كتابة خواطره ، وربما كان وعده مجرد كلام جرائد فقط. قال ذلك الشاب فى نفسه بعد أن استعرض فى ذاكرته مفردات و عبارات و أفكار مقاله ، و تنفس و هو ملقى على ظهره طويلا ، حتى ليخيل إليه أنه كان يزفر بصورة ربما تلفت إليه انتباه أختيه و أمه بالصالة المجاورة , و على الرغم منه و بقدر لا يدريه ، مما جعله ينتبه إلى نفسه قليلا ، غير أن انشغال أفكاره كان أكبر كثيرا من يقظته ، فأخذ يتابعها باهتمام بالغ و انسجام تام ، لو لا أن أتاه صوت والدته تدعوه للعشاء حيث نهض متثاقلا يجرجر رجليه. و جلس إلى صحاف الأكل بلب شارد تماما ، فقد كان يلوم نفسه على ما أضاعه من زمان فى تفكير سفسطائي لا يقدم شيئا و لا يؤخر قدرا، و أحس بالضجر ، فلعن فى نفسه بروتاقوراس ألف مرة ، و لعل مصدر ذلك كله قول على قول كما يقولون ، أفلم يعرف منطقه بالسفسطائية؟ أو لم يكن زعيما للسفسطائيين الذين زعموا أن الإنسان مقياس الأشياء و الله أعلم بما تنطوى عليه العبــارة  Man is the measure of things        

 و قطعت تفكيره و صمته العجيب  توأمته عندما رفعت إليه بقطعة لحم من صدر دجاج أحسنت تربيته بالدار , تنتظر به الأم عودة وليدها الغائب طويلا للدراسة ، لتضع حدا لعمر ذلك الديك أو تلك البطة ، برا بابنها ، و قالت التوأمة : 

-         إيه مالك لا تأكل ، ما عاجبك الخبز البلدى ؟

 

ـ ابتسم هشام  إليها مجاملا ، و قال بصوت حاول أن يحجب عنه الضجر – فلم يكن همه الأكل فى المقام الأول و لا حتى العاشر – و بألفاظ حاول جاهدا فيها ألا يظهر أثرا لغثيانه الفكري :

                                                       

-                  أكلت أكثر منك و شدى حيلك و حصلى .

 

و انتهى كل من أكله ، بعد أن أخذ هشام جزءا يكفى حاجة معدته ، و هم هشام بالذهاب إلى الحجرة المجاورة اليتيمة ، لولا أن سمع صوت مذيع الإرسال الإذاعى بأم درمان ، يعلن أن ساعة الاستوديو تعلن عن تمام التاسعة مساء بتوقيت السودان المحلى ، و هو موعد المستمع بفاصل غنائى تشارك فيه إحدى المطربات بأغنية أثيرة لديه ، فما كان منه إلا أن جلس إلى جهاز الراديو ليستمع إليها ، خصوصا و أن الأغنية بالإضافة إلى حلاوة معانيها ، لشاعر زامله فى فترة الدراسة الثانوية ، و انساب صوت المجموعة ( الكورال ) يتلوه صوت المطربة :

 

عز علي وصالك   =   و زادت بي شجونى

ياما  اشتقت ليكا   =    و ياما  بكت عيونى

 

و انتهت الأغنية مخلفـة صاحبنا فى ذروة مشاعـره و انفعالاته العاطفية ، فحمل الراديو معه و دخل به الحجرة يحرك المؤشر هنا و هناك عسى أن يلتقى بصوت سيدة الغناء العربي أم كلثوم ، فقد كان فى حاجة ملحة حقيقية إلى الاستماع إليها ، و الاستمتاع بما تلقيه حنجرتها الذهبية النادرة الفريدة المعجزة ، كان من أشد الناس إعجابا بها و بذوقها المتميز فى اختيار قصائدها و معانيها و مفرداتها ، و له فيها قصيدة شعر مدحا ، من انتاج يافع على أول الطريق ، شعر ناشئة لم يعد معجبا به ، بل و أعدمه و لم يعد يذكر منه إلا بعض النتف ، و بعضها يأخذه عن زملائه الذين كانوا يحفظون ما يروق لهم ، فلا يذكر من قصيدته فيها إلا هذه الخطرفات :

 

تعيد لنـا الحب فــــى فـورة   =     تـرد الحيـاة إلـى مدنـف

بصوت دفىء أعاد الشجون    =    و حـرك فيـنا كل خفــى

أعـــــاد إلـي ربيـع الشبـاب  =      و طوقنــى بالحنان الدفى

و من عرف الحب  أشجانه    =    يلـوذ بصوتك كي يشتـفى

أعيش لفــنـك فـى  نشــــوة     =   و منـه لعمـري لا  أكتـفى

 

و قد كان يذكرها فى كل مجلس لـه ، بأبيات أستاذه و زميله الشاعر الكبير محمد عبد القادر كرف التى أنشأها فى فقيدة الفن أسمهان ، و كان يرى أن أم كلثوم أولى بهذه المعانى الراقية :

 

قد غنت الشعر حتى انبرت         =      لها من هوى النفس أعلاقها

و تـنبـئنا أن فـــى  صدرها         =      مـواكـب تـرزم  أبــواقـــــها

دنـيـا مـن اللحن  مـــــبثـوثة       =        كمــــــا خبـأ الخمـر عتاقـها

 

و قد بدأت صلة هشام بها عندما استمع إليها مصادفة ، فهام بها و بالأطلال للدكتور إبراهيم ناجى ، ذلك الشاعر الرقيق القدير القائل :

 

يا حبيبى كل شيء بقضاء   =    ما بأيدينـا خلقنـا تعسـاء

ربمــــــا تجمعنا أقـــدارنا   =    ذات يوم بعدما عز اللقاء

فـــإذا أنـكـــــر خـل خلــه    =    و تلاقينا لقــاء الغربــاء

و مضى كل  إلى غاــيتـه   =    لا تقل شئنا فإن الحظ شاء

 

و رغم انتقاد البعض للفظ الحظ هنا و اعتقادهم بأن الله شاء أفضل ، إلا أن ذلك لا ينقص من القصيدة شيئا ، بل إن الحظ أيضا قضاء و قدر من الله ما لم تصنعه تصرفات الفرد المعتدلة أو الطائشة ، فقد منحنا الله من العقل ما نسير به كثيرا من أمورنا و نصنع به أهدافنا و حياتنا .

 

   و للعجب ، فقد التقى هشام فعلا بمن أحب فى طريق عام بمدينة عطبرة بلد الحديد و النار كما يقولون لوجود رئاسة السكة حديد بها ، و رغم أنها زميلته فى الدراسة ، إلا أن كليهما مضى فى حال سبيله و حتى من دون سلام . لقاء غرباء تماما !

 

   و ظل يعجب كثيرا بإبراهيم ناجى الشاعر ، و يرى فيه نفسا ذات شفافية و نقـاء و طهر لا يتوافر فى غيره من الشعراء ، و للناس فيما يعشقون مذاهب :

 

تغنـى و تسكـب آمـاقــــها     =  و تلهو  و تنحب أعماقها

و كا لغيمة استنزفت ماءها    =  و ما زال يضحك إبراقها

و لـيـس بمبـق عـلـى نفـسه  =     وإن  حذر المرء إشفاقها

                  أسيت أسى لـك  مـن أعينى   =    مدامع لـم يشف  إطلاقها

 فـفى ذمــة الله   ألحانـــها    =    وفى كنف الخلـد أشواقها

ولا زال يضحك فى قبرها    =    ملـث  الغمائـم غيـداقـها

 

عسى أن يكون ذلك رثاء متأخرا و أسى على فقد تلك الروح الشاعرة الرقيقة للدكتور ناجى .

 

   و هذا حال هشام ، يأسى لكل من قابله فى الحياة ، جسدا كان أم روحا أو حتى روحا تبرز فى شعر جميل ! و يخيل للمرء أن هشام نسيج وحده ألفة ووفاء ، الوفاء و الصدق لكل شيء لـه فيـه مصلحة أو تنعدم فيه مصلحته الشخصية ، الوفاء فى زمن يعدم فيه الوفاء شنقا حتى الموت أو رميا بالرصاص ، فما زال يبكى حافظا و شوقيا و يحيا آلام البارودى إذ يقول :

 

أصبحت لا أستطيع الثوب أسحبه   =     و كان طوع بنـانـى كل عسـال

و لا تكاد يدى تجرى شبا قلمـى     =   و قد أكون و ضافى الدرع سربالى

 

بل و فيم العجب ؟ أو ليس يحيا مأساة امرئ القيس فى ضعفه الإنسانى ، و يقدر مشاعره رغم ما يأخذه عليه من مآخذ ، و هو يسمعه يقول :

 

إذا ما لم تكن إبـل فمعـزى  =    كأن قــرون جـلتـها العصي

فتملـؤ بيتنا إقطا و سـمـنا  =  و حسبك من غنى شبع و ري

 

تملأ هزيمة امرئ القيس و انكساره كل نفس هشام ، و هو يردد هذه الأبيات ، فى حس مرهف بكل من حوله . تكبر لدى شفافية نفسه النقية كل صغيرة . تهزه الكلمة التى تفعل بأحاسيسه فعل السحر ، و تسرى سريان الخمر فى كل مفصل .

 

   جلس داخل الحجرة يستمع فى الظلام إلى كوكب الشرق فى إذاعة الشرق الأوسط:

 

و انتبهنا بعد ما زال الرحيق  =   و أفقـنا ليت أنـا لا   نفيـــق

 لحظة طاحت بأحلام  الكرى  =  و تولى الليل و الليل  صديق

              و إذا النـــــور مشــــع طالــع   = و إذا  الفجر مطل  كالحريق

              و إذا الـدنـــيـا كمـــا نعرفـهـا   = و إذا الأحباب كل فى طريق

 

 

أيـهـا النـائــم  تـغــفـــو     =    تذكــر العهـد و تصحو

و إذا مـا التـــام  جـرح    =     جـد بالتـذكـار  جـرح

 

-                  يا أخى ليه بسى كده ؟

 

هكذا قال هشام للمذيع الذى تدخل ليعلن عن فقرة أخرى ، و كأن المذيع كان يمكن أن يسمعه و أن يستجيب لـه ، فلا ينهى الأغنية عند هذا الحد ، و كان هشام طبعا يود أن لـو بثت الأغنـية بكاملها . مسكـين ذلك المذيع ، يصب الناس عليه جام غضبهم و سخطهم و هو منفذ لبرنامج ، لا حيلة لـه و لا يد فى تحقيق كل أمانيهم و رغباتهم و ميولهم ، ننسى فى كل لحظة أنه ملتزم بوقت حُدد لـه و برنامج معد مسبقا لدقائق محسوبة .

 

   ليت أنا لا نفيــــق ... أجل.. و أغلق هشام الجهاز ، أو قل قطع عنه التيار الكهربائى الواصل من بطاريات جافـة صغيرة ، و صمت صمت أهل من فى القبور، و بدا مجاريا خياله ثانية ، مادا حبال أفكاره و أحلامه ، بعينين معلقتين بسقف الحجرة ، الذى لا يرى نسيجه من جريد النخيل ، فإذا تعب من رقدته على ظهره ، قلب جسده نحو ذاك الحائط أو هذا ، فى إدراك منه و ربما فى غير إدراك، فقد كانت الحجرة شبه مظلمة ، فى ركن منها يضيء مصباح مبهوت الضوء, يعطى إنارة خافتة ضئيلة ، لا يتبين بها المرء تفاصيل الحجرة و سقفها و أثاثها المتواضع البدائى ، تواضع السابقين فى العصور الأولى ، فهي على كل حال تعتبر مظلمة . فهشام يحلق بعينيه فى مرق الدوم الذى يتحمل ثقل سقف الحجرة كله ، غير راء لـه  وإنما متخيلا لـه بعلم سابق به ، كالأبله الشارد الفكر و النظر و تتداخل فى رأسه و تتشابك الأفكار و الآراء , فيسعـد حينا و يضجر حينا آخر ، بجسم يتقلـب على الفراش ، فى ضيق و حدة و خشونة ، تتساوى مع خشونة فراشه, و يعود ثانية ليأخذ وضعه السابق من جديد ، حتى ليخيل إلى الرائى أنـه قندول الذرة الشامى يعالجـه الشاوى على موقد الفحـم الملتهب بجوارجامع أمدرمان الكبير ، وعلى وجه التحديد فى الناحية الشرقية ، فى ميدان صغير مزدحم بالسوقى فى أعمال مختلفة بسيطة هامشية فى الغالب .

 

-                  آه ... ذكرى ... يا ليتنا عدنا أو عادت الأيام .

 

   قال هشام فى نفسه , فقد كان يذهب و زميله عبد الماجد فى الشهور الأخيرة من أيام الدراسة , إلى ذلك الميدان لشراء قناديل الذرة الشامي , فكلاهما يحب أكله , و كلاهما يبحث عن شيء من التغيير يخرجه من جو المذاكرة والمادة العلمية البحتة , خصوصا أن هشام كان متخصصا فى الرياضيات البحتـة و التطبيقيـة و طرق تدريسها . و فى تلك الأيام كان يسعـد هشام برؤية حبيبته و لو على بعد , فشيء خير من لا شيء , و ما كان يتصور أن الأيام ستمضى على عجل , و ستوجف فى سرعة مذهلة و ينقطع حبل اللقاء من بعد .

 

   و أغمض هشام عينيه , و بدأ يداعب شريط ذكرياته القريبة , قبل ثلاثة أيام فقط, حينما استغل عربة اللاندروفر و غادر أم درمان حزينا مكتئبا على غير العادة , قاصدا الشمال الأخضر ‍! ذلك كان الفراق النهائي بينه و بين من أحب و لم يأنس فى نفسه الثقة الكافية أو الكفاءة ليصرح بحبـه , فرغــم أنه كان ذاك الشاعر المرموق بين زملائه , و رغم أنه خرج من دنيـا الفقر نسبيا , إلا أنه ما زال يعيش رهين الفقر السابق و الأوضاع الحياتية المتعبة . كان رفقاؤه فى العربة فى واد و هو فى واد آخر , و إن كان يجاذبهم الحديث أحيانا , فى الأدب و الشعر و الفن و الفلسفة و الدين والمذاهب , فقد كان بصحبة رجل على قدر من العلم والثقافة لا بأس بهما , و كان من بيت ديني كبير و معروف و جاه عريض , وكانت عربة اللاندروفر له , و أخذ هشام يتذكر كيف ضل أخوه الأصغر الطريق , و كان يسوق العربة , و ذلك بعد مسيرة أربع ساعات من أم درمان . و بدأ يعود بخياله....... أخذنا نلف و ندور بالعربة فى محاولات يائسة للعودة إلى الطريق العام , و لكن دون جدوى , فالطرق متشابهة تتعدد بها السبل و تلتقى و تفـترق الفجاج الرمليـة طبعا , فلا تعتقد أن الطريق كان من قار , غير أننا أبصرنا نورا باهتا من بعيد أخيرا , و اتجهنا إليه لنجد بيتا من عشب جاف , نوع من القش العشوائى الجاف , يسكنه بعض العرب البدو الرحل فى الغالب , من عرب الكبابيش أو الهواوير الأفاضل , و هم يقطنون تلك الصحراء يرعون الإبل و الأغنام , و يغالبون الجفاف و قسوة الحياة والطبيعة , و ذلك على وجه الخصوص يعزى لشح المياه و عدم توافـره عندهم إلا من آبار متباعدة جدا و ما تجود به السماء عليهم من مطر خلال فصل الخريف . و التقينا بشيخ وقور , طلب منا فى حماس بالغ أن نقضى الليل ريثما تظهر خيوط الصباح الباكرة , فنتابع رحلتنا و يدلنا على الطريق , و لكننا من ناحية كنا نود السفر فى الليل حيث يعتدل الطقس و تصفو النسائم فى جو معتدل كثيرا , و من ناحية أخرى لم نكن نأمن المبيت عند من لا نعرفهم , خوف داخلي , تقول إيه .... طبيعة بشر تائهيـن فى بطحاء لا أول لها و لا آخر بلغة الأدب و الإنشاء , و لكن طولها لا يتجاوز الثلاثمائة ميلا بلغة الأرقام و الرياضيات , من أم درمان إلى النيل ثانية . و أخذ الشيخ الطيب يحدد لنا معالـم الطريق ووصفه حيث نقترب من بيت العمدة و نتجه غربا مسافة قليلة غربا , عند النقطة التى يمكن أن نجد فيها طريقنا ... ضالتنا المنشودة , بيد أننا رأينا أنه من الأفضل أن يركب معنا الشيخ السيارة , و سرنا بسم الله مجريها و مرسيها , و الحشائش الجافة تحفنا من كل جانب , و لقد جزمت فى نفسى ساعتها , أننا غير منتهين إلى نتيجة أو طريق , فلا شيء على الإطلاق يشير أو يؤكد ذلك , إذ لا أثر لمسير و بعرة لبعير , و لكننا على كل حال نسير , فهل نصل كما يدعى المثل السائر : من سار على الدرب وصل ؟

 

   و بعد مضي زمن ليس باليسير , أبصرنا شبحا على بعد منا فى الظلام , فأوقفنا العربة حيث بدأ الشيخ ينادى : من هناك ؟ و سمعنا عدلان .... أنا عدلان ... تعال يا عدلان .... أجاب الشيخ . و جاء عدلان الفتى القوي المتماسك الأعضاء فى الخامسة و العشرين على ما يبدو من العمر , و شرح له الشيخ الحالة , و طلب منه أن يكون دليلـنا و هاديـنا , على أن يرجع الشيخ أدراجه , راجلا راضيا , ووافق الفتى , و بدأنا بعد أن شيعنا الشيع بالدعوات الطيبة و الشكر و الإجلال , يحدونا أمل كبير فى عدلان و تملأ نفوسنا شهامة و مروءة رجال البادية , تلك الأصالة و تلك القيم التى يقف عندها القلم حائرا و الألفاظ شاردة بليدة , إعزازا و إكبارا و تقديرا .

 

   و لم يطل بنا المسير , ليطلب الفتى أن نتوقف , ليخرج منها و ينظر إلى السماء و النجوم , فهو يعرف السير و الطريق على هديها , و لكنه لا يعرف اتجاهه من داخل العربة المنطلقة فى سرعة و مقاومة لغلظة الطريق . مصيبة ! جئناك يا عبد المعين تعيننا , وجدناك يا عبد المعين تحتاج لما يعينك و من يعينك . و أخذ الفتى ينظر هنا و هناك , و يعدو حينا فى بطن الخلاء و يعود عسى أن يهتدي إلى دليل و لو من الحشائش و الأشجار , فهم على علـم و دراية بها و لكن السيارة أصابته بدوار غريب كما قال , و تنطلق العربة ثم تتوقف , و يعيد الفتى الكرة و المحاولة , إلى أن اقتنعنا أخيرا بضرورة المبيت على الرمال  ... يا للهول , و لكن لابد مما ليس منه بد . و بحثنا عن شقيقة نفترشها وسط تلك الرمال المخيفة و التى ربما حوت أفاعى و عقارب ومختلف دواب الأرض , أو حتى شبه شقيقة يمكن الاطمئنان إليها , و بالمناسبة فالشقيقة جمعها شقائق , و هي الأرض الخصبـة وسط الرمال , وردت فى معلقــــة لبيد بن ربيعة , و نبتها يكون مفرهدا جميلا مبهجا , و قد استخدم هذا اللفظ الشاعر السوداني الموهوب المرحوم خليل فرح فى أغنيته المشهورة عند السودانيين ( ما هو عارف قدمه المفارق ) و التى رثى بها نفسه عندما سافر إلى مصر للعلاج ووجد أن حالته ميئوسة , إذ قال فيها :

 

يا جميل يا نوْر الشقائق

 

و نور بتسكين الواو و ليست بضم النون كما ينطقها البعض و لكن بفتحها .

 

   و لحسن الحظ , وجدنا يومها واحدة من الشقائق يتناثر على ظهــرها قض و قضيض , و تحفها الحشائش الرملية و الشجيرات المتفرقة من كل جانب . و رأينا أن نصبح هناك . و نام الجميع ليلتها من تعب و إرهاق شديدين , إلا أن واحدا منهم ضالا ـ بتخفيف اللام و تعنى وحيدا ـ ظل لا يغمض لـه جفن , فعامل الغربة و الخوف كان مسيطرا , إلى عامل الهم و التفكير اللذين يلازمانه منذ طفولته .

 

   و فى الصباح الباكر قام الشاب و جرى صوب الغرب قليلا , و عاد مسرعا ليخبرنا أن الطريق على مقربة منا و على بعد خطوات قلائل , و سبحان الله , فإنما كل شيء بقضاء .

 

   أفٍ للعقـــول و التفكـير ! أترى العقـول نعمة على أمثالـه أم نقمة ؟ و قاتل الله الكبرياء , بل التردد و الضعف , فقد ضيع حب هنادى , بعد أن ودع على الرغم منه حب هند فى عهد صباه المبكر , و كان يمكن أن يحظى بها بقليل من الجرأة و الإقدام . لم يستطع مكاشفة هــــنادى بحبه , و إن لمس منها ميلا نحوه فى أكثر من مقام و موضع , و لكنه كان يرهب الواقع الذى عاشه فى حاجة و فاقة , بل يسيطر على تفكير عقله الباطن و يتحكم فى صنع قراره .

 

   و كان لابد أن يخرج بشيء وسط ذلك الخضم المزاحم من التفكير و الأرق و الآراء المتلاطمة ليلتها , آه لو يستطيع أن يكتب قصته ... قصة حياته عله أن يجد من ذلك و فيه سلوى و أن يعوض ما فقده من شجاعة فى مقتبل العمر , بسرد أمين لما كان عليه الحال , مصرحا بما فى داخله و لو بعد فوات الأوان , طال الزمن أم قصر .... زاحمته الحياة أو أفسحت له مجالا .... على كل هو أكثر الناس كرها للكتابة و الجلوس إلى مكتب و قلم و قراطيس , و إن كان يحب أن يقرأ بلا ملل و لا كلل , و لكنه مصمم هذه المرة على الكتابة , و لكن كيف و متى ؟ لا يدرى .... فليترك كل ذلك للصدف و الأيام , و هل حياة المرء إلا سلسلة من المصادفات و العجائب , بقدر و مقدار لا ندرى عنهما, يفرضان علينا واقعا ربما لم يدر فى يوم من الأيام بخلدنا أو أذهاننا !

 

   لابد أن يكتب , فعسى أن تقرأ هنادى له و لو مصادفة ما كتب , و ربما تحس بشيء بين السطور يعنيها , و ذلك يكفيه , فما عاد من أمل و لا فى العمر بقية .

 

   و يبدو أن النوم تسلل أخيرا إلى عيني هشام , و دون أن يشعر , و قد نهض من سريره متأخرا حسب ما تشير عقارب الساعة و ظلال النهار , و لم يبق فى ذهنه من مجمل ليلته غير هدف واحد ينشده , أن يرى كتابه النور يوما ما .

 

   ظل متحمسا للفكرة شهورا عديدة منذ عام 1968 و لكن اختلاف النهار و الليل ينسى كما قال شوقى , و كفـــيل أن تبرد المشاعر بمرور الوقت و انصرام الأيام , رويدا رويدا , و أن تموت حماسته و استعداده قليلا قليلا , وواعجبى ! فالزمن يترك بصماته على كل شيء بلا استثناء , و يغير كل شيء ليصبح مجرد ذكريات يختزنها عقلــنا , نجترها بعض الأحيان بمرارة و حزن أو بشيء من السخرية و التهكم , خصوصا فى ليالى الوحدة و الألم .... ليالى الاغتراب .

 

 

الفصل الأول من ليالى الاغتراب بالتراي ستار – ج 1


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

قصة و شعر
  • حسن ساتي و سيناريو الموت.. بقلم - ايـليـا أرومـي كـوكـو
  • قصة قصيرة " قتل في الضاحية الغربية" بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • عصفور يا وطن د.امال حسان فضل الله
  • حيرة/أحمد الخميسي
  • لغة العيون/ هاشم عوض الكريم
  • أحلام يقظه/هاشم عوض الكريم – بورتسودان
  • صديقي المصاب بمرض الايدز سيظل صديقي بقلم / ايليا أرومي كوكو
  • مشتاق/محمد حسن إبراهيم كابيلا
  • شكل الحياة/ ياسر ادم( أبو عمار )
  • قصة قصيرة " شجرة اللبخ تحاكى النحل " بقلم: بقادى الحاج أحمد
  • المفلسون بقلم الشاعر السوداني/ حسن إبراهيم حسن الأفندي
  • بدرويش توفي ألف شاعر/كمال طيب الأسماء
  • انهض بقلم الشاعر السوداني / حسن إبراهيم حسن الأفندي
  • لو بتحب بلادك جد!/الفاضل إحيمر/ أوتاو
  • قراءةُ اللّون إلى:- أحمد عبد العال/شعر:- عبد المنعم عوض
  • عايز أقول أنو الكلام القلتو دا/د. شهاب فتح الرحمن محمد طه
  • قصة قصيرة " الجــمـــــــــل " بقلم: بقادي الحاج أحمد
  • غــانــدى/أشرف بشيرحامد
  • ما أظنو ../محمد حسن إبرهيم كابيلا 30
  • دموع طفلة بريئة- أنوريوسف عربي