حكايات الحلة
المنتحرون
صروف الدهر غير متوقعة , وقد تنزل علي المرء كصاعقة تنقض من السماء في يوم مطير , فلا يجدي ازاءها حذر او ملجأ , ويستسلم المصاب لمصيبته بعد ان تغلبه الحيلة , وتصير الدنيا برحابتها في عينيه اسود من لون السكن , فلا يجد مخرجاً من تلك المحنة القاهرة سوي ترك هذه الدنيا الظالم اهلها في نظره , وربما يصحو المنتحر من غيبوبته المأساوية , ويراجع قراره النهائي فيتردد هنيهة , وربما يقلع عن الفعل او ينتحر ويمضي الي غير رجعة من دنيا العذاب والشقاء !
أحد هؤلاء المنتحرين كان شاباً في مطلع الشباب من عائلة مستورة الحال , وقد أكمل المرحلة المتوسطة في دراسته في الزمن الذي كان فيه التعليم مقصوراً علي هذه المرحلة والمرحلة الثانوية , كما كان التوظيف الحكومي قاصراً علي خريجي هاتين المرحلتين . عمل الشاب موظفاً في احدي المصالح الحكومية , ولكنه انغمس في شرب الخمر وادمنها , ولم ينصلح حاله , فكان مصيره ان فُصل من عمله وتشرد . وفي ذات يوم قرر الانتحار . اشتري زجاجة من الجاز (كيروسين) , وذهب الي مؤخرة منزلهم وصب الجاز علي ملابسه واشعل النار . ولما احس بحر النار وسعيها في جسده أخذ في الصياح : ( يابا الحقني – يا ابوي الحقني ) ولحقه جميع من في الدار واطفأوا النار المشتعلة , واسرعوا به الي المستشفي , حيث مكث عاماً كاملاً يتعالج من حروقه حتي تعافي .
وفي حالة اخري كانت النار هي وسيلة الانتحار , ولعل الانتحار يعدي وبنفس الوسيلة وفي نفس المحيط ! وكانت ضحية الفعل المدمر هذه المرة فتاة في زهرة العمر , ولها نصيب وافر من الحُسن كوردة يانعة بهية تفوح عطراً و أريجاً . تلك الفتاة البارعة الحسن أجبرها أهلها علي الزواج من رجل بالرغم منها , فهي لا تطيقه ولا تريده وتبغض رؤيته . وتم الزواج القسري , وتم الفراق الابدي بعد شهر واحد منه , فقد اشعلت الفتاة النار في جسدها الغض واحترقت , وفاضت روحها الي بارئها , وذبلت وتلاشت تلك الزهرة اليانعة في غير أوانها !
ورُوِعت الحِلة بضحية اخري للنار . فقد كانت امرأة صغيرة السن متزوجة من رجل قاس شرس مدمن للخمر والبنقو , وكان يسئ معاملتها ويضربها , وسار علي هذا المنوال بالرغم من تدخل الاهل والاصدقاء , فكان يمتنع عن هذا السلوك فترة وجيزة , ثم يعود الي سيرته الاولي من الاساءة والاذية الي زوجته المسكينة . وفي مرة بعد ثورة منه وضربه لها اسرعت الي المطبخ وسكبت الجاز في ملابسها وأشعلت النار , وجرت وهي مشتعلة اليه لتمسك به , فجري في هلع وفتح باب المنزل هارباً منها , وهي تطارده وهو يصرخ وهي تصرخ , حتي وقعت علي الارض جثة هامدة وقد أكلتها النار .
وأما الشاب الاخر فقد كان وحيد ابويه , وكان والده ضابطاً متقاعداً من الجيش , وكان الولد هو الوحيد مرفهاً ومدللاً من الام والتي كانت تستجيب لكل ما يطلب , ولم تقل له لا ابداً مهما كانت طلباته , وكان الشاب يلجأ لمزيد من الضغط فيهدد دائماً بأنه سيرمي نفسه في البحر اذا لم يحققوا طلبه , وكان هذا يعني بأن يلقي الواحد بنفسه في الماء ليغرق . وفي ذات مرة طفح الكيل بالأم وردت عليه بأن يرمي نفسه في البحر غير مأسوف عليه , وكان منزلهم بالقرب من النهر , فجري الشاب الي باب المنزل وهو يقول بأعلي صوته : ( شوفوا لو تلقوني تاني – أهو انا ماشي ارمي نفسي في البحر ) . وصرخت الام في هلع : ( ووب عليّ – ووب عليّ(1)) ونادت علي زوجها ( الحق الولد – الولد ماشي يكتل روحو) , وخرج الوالد من الحجرة حاملاً في يده مسدساً وجري يطارد الولد , واستمرت المطاردة حتي اقتربا من البحر , وصرخ الوالد في الولد : ( والله يا ابن الكلب لو مارجعت حاضربك بالرصاص , حاضربك يا كلب بالرصاص) . وهنا توقف الولد وانصاع لكلام والده .
وأعادت هذه الحادثة الي ذاكرتي مثلنا القائل ( الحداث ما سوآي ) , وربما كان الشاب جاداً في نيته بأغراق نفسه في الماء ولكن آثر الغرق علي الموت بالرصاص , او بالسم او الحرق او الشنق بالحبل و أكيد انه لم يعرف قول الشاعر
من لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الاسباب والموت واحد
ولكن بعض المنتحرين يؤثر ان يختار وسيلة منيته بيده حرقاً او غرقاً او سماً !
هلال زاهر الساداتي
(1) ووب : كلمة تستعملها النساء في السودان للتوجع الشديد والاستنجاد .
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة