الرّقصُ في الشّوارِعْ*
حرارة الإيقاع وحرارة الطرب الحية في قلوب الناس البسطاء استيقظت. تزامنت حرارة الإيقاع مع رقة إيناس الطرب في توافقٍ جميلْ.
كان آدم موجة رقص حينما برى، فهو يرقص كأنما تقمصته روح زوربا اليوناني، يرقص رغم طول الصفّ وسكّر التموين وامتلاء السوق ببضاعة "مافِي" الجديدة. يرقص رغم زمان "الندرة".
وفي الشارع كانت العربات ترسل أبواقها عالية الدّويّ ووجوه أصحابها المتكبرة في حقارتها المتسخة المتعالية تُحدّجهُ بسياطِ نظراتٍ محتقرة. كان يرقص رغم نظرات "ملاك الحديد" المحتقرة. تتقلص وجوههم، يرسمون عليها افتراءً، يبصقون في عيونه الضاحكةِ بالرقصِ فيرقص! لا تثنيهِ عن إيقاعهِ عينٌ مزدريةٌ وموسومةٌ بترفِ النعمةِ الأعظم وسأمها الذي يطلّ من وجوهِ أوليائها السمينةِ شحماً و"ورماً".
جرجر آدم، شيح الفقر الراقص هذا، قدميه الثقيلتين بهمّ اللقمةِ نحو أحد الأندية الشعبية. طالعت عيناه صور أساتذة متأنقين يثرثرون في التلفاز. تملكته حمى الرقص ورشقت عيناه كجناحي ملاك. اهتزت أطرافه رقصاً (هل طرباً؟). مرةً أخرى صادفته، آن خروجه من النادي، دوامة الدوي ومجد الحديد "السّنين" وراكبيه الألقي الوجوه والثياب رغم حقول الغبار الشارعيِ الكثيف الملوثة لكلّ شيءٍ حتى السماء وفي "رَقَبَةِ" عرق الساعين جرياً وراء مضغة خبزٍ و"بوكسيّاً".
ذهب من هناك إلى النهر، إلى رصيفه الحجريِّ وخضرته المحتفلة. قابلته طفلةُ شمسٍ ترقص. قبّلها، توحّد معها، فني فيها. لكنه نُبذَ، مرّةً أخرى، إلى سُوحٍ ضاجّةٍ بالعناءِ صارت فيها الزهرةُ قطعة بلاستيكٍ بارد وارتفعت مكان العشب الفاني عنها مدن الحديد والدخان. رقصت عيناه واهتزت أعضاء جسده بعنفٍ حيٍّ مُوقّع.. رقصت عيناهُ.
فيما هو راجعٌ، تحت ستر الليلِ، إلى مسكنهِ صدمتهُ أصواتُ الخارجينَ من الطّرقِ السريّةِ تفوحُ منهم رائحةُ الخمرِ الرّخيصِ ويعلو فيهم صوتٌ مغنّياً "ظلموني الناس وتجنّوا عليّا". يُُضيءُ الحرقةَ فيهِ ذاك الصوتُ المطعونُ المجروحُ أسىً.. سكيّنٌ حادٌّ يخترقهُ فينفذُ فيه الجّرحُ، ينفذُ فيه الصوتُ الأسيان، الجّرح الاسيان يتدفّقُ بوحاً بمخاضِ أساهِ في الطّرقِ السّريّة "ظلموني الناس وتجنّوا عليّا"..ت
لكن هل يمنع نصل "ظلموني الناس وتجنّوا عليّا" الفتّاك اهتزاز جسده بالرقص، هل يقمعُ فيهِ زاراً حبشيّاً يتلبّسهُ وثباً، إيقاعاً وتفجّر؟! أنّى له ذلك فالرّقصُ، أبيتُ اللعنِ، يُشفّفهُ فتُولدُ فيهِ فتاةٌ من حزنٍ، نغمٍ وعنادٍ لا تؤسسهُ غير حقيقة أنه "هنا"، حيّاً إحساساً وتنفّسْ.. هل يفهمُ حكمة أنّ الرقصَ ليس أكيداً يتجذّرُ طَرَبَاً وثمالةَ كأسٍ تتدفّقُ في العظم- العرقِ الصّخّاب، بل أيضاً قد "يُبدعُهُ" قسريّاً طيرٌ مذبُوحٌ لوليمةِ موتٍ تُحيينا؟!
لم يتساءل أبداً عن هذا. لا وقتَ ولا نَفَسَ لديهِ كي يمنحهما قرباناً للعقلِ "ذباب الفلسفةِ الطّنّانْ":- لا يعنيه هاملت!
العربة الطويلةُ الفارهةُ الإستفزاز تجري طاحونةَ ضجيجٍ على إسفلتٍ لامعٍ بسوادٍ صلدٍ، قاسٍ كقشرةِ جوزٍ مسطّحةٍ ومطليّةٍ بدقيقِ كربونٍ جامدٍ وكثيفْ.. فاجأ الزئيرُ أذنه الساهية وبعثر أحلامها الموسيقية الراقصةَ على دوزنةٍ خاصّةٍ بذاتها وواجدةٍ لذاتها.. الزئيرُ يعلو بوقاً من نحاسٍ في قريةٍ أفريقيّةٍ قديمة.. يحتدّ.. يحتدُّ.. يتكوّرُ أبخرةً من ضبابٍ أغبشٍ أمام عيني آدم الصافيتين فيكويهما بعمىً عصريٍّ واختلاطٍ من شهواتٍ زائفةٍ مزوذقةٍ و"حضاريّةْ".. بدأ يُرينُ على قلبهِ ثقلٌ لا تعرفه خفّته الراقصة الجيّاشةْ.. أهو الموت.. أهو الدمجُ العصريُّ الذّكيُّ في إغراءِ أناقتِهِ البرجوازيّة؟.. اهتزّ الجسد الراقص مقاوماً، عتيّاً ونافضاً لما نازَعَهُ من خواطرِ نفسٍ على مشارفِ خطرٍ "مادّيٍّ أو رُوحيٍّ" ما.. غنّى في حركته الأوبراليّة الصاعدة نحو مقامٍ صوتيٍّ لم يعهدهُ أبداً قبلاً.. التوتُّرُ العصبيُّ ينخره حتى في أتونِ غنائه الملحميِّ ويشكّلُ نبرةً حادّةَ العاطفيّة ومُنذِرَةً بفناءٍ، غيابٍ، عدمٍ ما.. يشتدّ زئيرُ العربة.. تقدّمُ منزلقةً كصابونةٍ ملساء على سطحِ حمّامٍ رخاميٍّ سينمائيٍّ (هوليوديٍّ) في فخامته (أو في بذاءتهِ!) المتعجرفة. آدمُ يركضُ لاهثاً في رقصٍ لحياةٍ تثوشكُ أن تُؤخذَ منهُ. لا.. لا.. لا مهرب.. لا.. حُمَّ قضاءٌ والشّللُ النّصفيُّ حجّرَ آدمَ في منتصفِ الدربِ الصاعدِ (أو الهابطِ) نحو الجّبِّ، الذّئبِ، جوفِ الحوتِ، يُونَسَ والغيبةِ أو نُوحٍ والطُّوفانْ.
قالوا- من شهدوا الحادث:- كانت زهراتُ الدمِ الحمراء تتفتّح.. تخرجُ من جسدهِ وتغنّي في الشّارعِ، في الطّرقاتِ وفي السّينماتْ.. ترقصُ.. منها تثولدُ موسيقى، مارشالاتُ ومتاريس، تروبادوراتُ، مواويلُ حُسينٍ غائب، إنذاراتٌ وبِشارةْ.
قالوا:- "هذا الراقصُ من أهلِ الله!"
قالوا:- "إنّ الخشضرَ الرّاقصَ سَاكَنَ هذا الجّسدَ الرّاقصَ فيهِ!"
صمتُوا.. غرقُوا في اللّجّةِ.. ناح الكلبُ المسعورُ ثلاثاً شيطانيّاتْ.. لم تهدأ عيون النّسوة.. ما قامتْ في الأحياءِ المنسيّةِ في تلك الأرضِ الموؤودةِ أنوارُ العرسِ ولا "بَقَّ"، في صفحةِ ماءِ النّهرِ، نشيدُ حياةْ.
أواخر سبتمبر 1980.
* من مسودة مجموعتي القصصية المسماة "كيف أنامُ وفي دمي هذي العقارب؟!".
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة