صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
بيانات صحفية
مقالات , تحليلات او راي
بقلم : عمر قسم السيد
بقلم :شريف آل ذهب
بقلم: محمد عثمان محمد
بقلم :ب.محمد زين العابدين عثمان
بقلم :فتحي الضّـو
بقلم ضياء الدين بلال
بقلم : محمد علي صالح
بقلم : د. عبد الرحيم عمر محيي الدين
بقلم : د. ابومحمــــد ابوامنــة
بقلم : حسن البدرى حسن / المحامى
بقلم : الطيب مصطفى
بقلم : آدم خاطر
بقلم : ثروت قاسم
بقلم : الطيب الزين/ السويد
بقلم : ياسر المساعد
بقلم : عبدالغني بريش اللايمى
بقلم :حاج علي
بقلم : عبدالله علقم
بقلم : د. أسامه عثمان، نيويورك
بقلم : إبراهيم سليمان / لندن
بقلم : ايليا أرومي كوكو
بقلم : خالد تارس
بقلم الدكتور عمر مصطفى شركيان
بقلم : د. ياسر محجوب الحسين
بقلم :مصطفى عبد العزيز البطل
بقلم منعم سليمان
بقلم : سارة عيسي
بقلم : سالم أحمد سالم
بقلم :شوقى بدرى
فيصل على سليمان الدابي/قطر
بقلم :صلاح شكوكو
بقلم : زاهر هلال زاهر
بقلم : خضر عمر إبراهيم
بقلم : هاشم بانقا الريح
بقلم : حسن الطيب / بيرث
بقلم : توفيق الحاج
بقلم : هلال زاهر الساداتي
بقلم : مصعب المشرف
بقلم : كمال الدين بلال / لاهاي
بقلم : د. حسن بشير محمد نور
بقلم : أسامة مهدي عبد الله
بقلم : علاء الدين محمود
بقلم : الصادق الرزيقي
بقلم : حامد برقو عبدالرحمن
بقلم : مجتبى عرمان
بقلم : سعيد عبدالله سعيد شاهين
بقلم : عبد الماجد موسى
بقلم : عمار فتح الرحمن
بقلم : حاتم المدني
بقلم : عبد الجبار محمود دوسه
بقلم : عبدالغني بريش فيوف
بقلم : المتوكل محمد موسي
بقلم :توفيق عبدا لرحيم منصور
بقلم :عبد العزيز حسين الصاوي
البوم صور
 
ترجمات
قصة و شعر
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
Click Here
ابحث

ترجمات English Page Last Updated: Apr 28, 2009 - 4:11:17 PM


أَقْهَوِيْ، وحش السّماء للروائي الياباني كَيْنْزَابْيُورو أُوْيْ *
Apr 22, 2009 - 10:43:23 AM

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

أَقْهَوِيْ، وحش السّماء

 

للروائي الياباني كَيْنْزَابْيُورو أُوْيْ *

 

وحيداً، كُنْتُ، في غُرفَتِي أرتدي رِقْعَةً قُرْصانيّةً سوداء على عيني اليُمنَىْ.   قد تيدو العينُ سالمةً.   لكن الحقيقةَ هي أنّني، بالكادِ، ليسَ لديَّ أيُّ يصرٍ فيها.   أقُولُ "بالكادِ".   فهي ليستْ تامّة العمى.   حاصلُ ذلكَ أنّني، حينما أنظُرُ إلى هذا العالمِ بعينيّ الإثنين، أرى عالمين َ كامِلَيْ الإرتِسامِ حِيالِيْ: عالمٌ غامضٌ وظِلّيٌّ مُسْتَوٍ على قِمّةِ عالمٍ آخرٍ يَرّاقٍ ومُفْعَمٍ بالحياةْ.   ربّما أكونُ ماشياً على شارعٍ مرصوفٍ حينَما، مُنصَقِعَاً على سبيلي، يَسْتَوْقِفُنِي، مثلُ فأرٍ انْزَغَمَ للتّوِّ خارجاً من مجرى قاذوراتٍ، إحساسُ تهْلُكَةٍ مُحْدِقٌ ولا تَوازُن.   أو رُبّما أكْتِشِفُ غِشَاءَ شقاءٍ وتَعَبٍ على وجهِ صديقٍ بشُوشْ فأَسُدُّ انسيابَ حديْثٍ مُؤْنِسٍ وسهْلٍ بِلعثَمَتِيْ.   أعتَقِدُ أنّني سأتعَوّدُ، بالفِعْلِ، على هذا.   فإنْ ما تيسّرَ لي ذلكَ فإنّني لابُسٌ "رِقعَتِي" ليس فقط في باطنِ غُرْفَتِي حينما أكُونُ وحيداً وإنّما في الشّارعِ وبِرفقةِ أصدقائيْ.   حينذاكَ قد يمُرُّ الغُرباءُ بِي وابتساماتٌ مُتكثّفَةٌ على وجُوههم- أيُّ مِزحةٍ على الطّرازِ القديمِ هذي! لكنّني عجُوزٌ بما يُكفِي لأن لا انزعج من كلّ شأنٍ صغيرٍ كهذا.  

 

إنّ الحكايةَ التي انا، الآن، شارعٌ   في روايَتِهَا، هي عن تجربتي الأولى في كسبِ المال.   ولقد ابتدرتُها بالحديثِ عن عيني اليمنى لأنّ ذكرى ما ألمّ بها قبل عشرِ سنينٍ مضيْنَ قد انبعثَتْ فيَّ، على حينَ غَرّةٍ وخارجَ السّياقِ آنما اقتُرِفَ العُنْفُ بحقِّ العينِ إيّاها، في الرّبيعِ الماضيْ.   ومًستَرْسِلاً في التّذكُّرِ أشعُرُ- الآنَ- بأنّني ينبَغِيْ عليَّ إنبَاءَكُمْ بكونِي قد حُرِّرْتُ من "تِلْكَ" الكراهيّةِ التّي كانتْ- حِيْنَذَاكَ- مُنَشِّرَةً لُفَافَاتَها في قلبي وبادئةً في تقييدي.   عندَ النّهايةِ القُصوى لهذهِ الحكايةِ سأتَكَلّمُ عن عينِ ما جَرَىْ.  

 

قيل عشرِ سنسنٍ خَلَوْنَ كانتْ رؤيتِيْ "عشرين-على-عشرين" .   الآنَ إحدى عينَيَّ قد حُطِّمَتْ.   إنّ "الزَّمانَ" [في الأصلِ بحروفِ الطّباعةِ المائلةِ وبحرفِ T الكبيرِ في المُبْتَدئ- المترجم] قد أوغَلَ في التّنَقّلِ بعدَ أن أطلقَ نفسَهُ من مُرْتَكَزِ مُقْلَةٍ هُشّمَتْ بِحَجَرْ.   حينما التقيتُ، للمرّةِ الأولى، بذلكَ الرّجلِ الإنفِعاليِّ المجنُونِ كُنتُ حائزَاً فقطْ على فهمِ طفلٍ لـ"الزّمانْ" الذي يُنفِذُ عينيهِ في ظهري، الزمان الذي يترامى أماميٍٍٍٍٍٍ مُنْتظِرَاً.

 

قبل عشرِ سنينٍ خَلَوْنَ كُنْتُ في الثّامنةِ عشر، طولي خمسةَ أقدام وستّةَ بوصات، وزني مائةَ وعشرةَ رطلاً، قُبِلْتُ للتّوِّ في كُليّةٍ دراسيّةٍ وانثَنَيْتُ باحثاً عن عملٍ أؤَدّيهِ في بِضعةٍ من ساعاتٍ كُلَّ أُسبُوعْ.   ورُغمَ أنّي ظللتُ واجداً مشقّةً في قراءةِ الفِرِنْسِيّةِ إلا أنّني رَغِبْتُ في اقتناءِ نُسخَةٍ مُغلّفةٍ، في مُجلَدين، من مُؤَلَّفِ رومين رولاند الموسوم La`Ame` Enchante` .   تلك كانت طبعة مَوْسْكَوِيّة ليست بذاتِ مُفْتتَحٍ فحسبْ، بل أيضاً حواشْ.   فضلاً عن ذلكَ فإنّ ال  colophon كان مكتوباً في لغةٍ روسيّةٍ وفي خطوطٍ رهيفةٍ مثل قطعِ خيوطٍ واصلةٍ ما بين حروف النّصِّ الفِرنسيْ.   إنّها طبعةٌ عجيبةٌ دونَ شك.   لكنّها ممتلئةُ القوامِ وأنيقةٌ أكثرَ من الطّبعةِ الفرنسية وكذلك زهيدة الثمن.   في الوقت الذي اكتشفتُها فيهِ عندَ مييعِ كُتُبٍ مُتَخَصّصٍ في المنشورات الأوربيّة الشرقيّة ما كُنتُ مهتمّاً بكتابات رومين رولاند لكنّني مضيتُ، رُغمَ ذلكَ، في اتّخاذِ فِعلٍ يجعلُنِي مالكاً للمجلدَيْنَ إيّاهُما.   في تلكَ الأيّامِ كثيراً ما كنتُ أُخْضَعُ لعااطفةٍ غريبةٍ ما أهمَّتْنِيْ مُطلَقَاً؛ كُنتُ على إحساسٍ بأنّهُ ليس هنالكَ من شيءٍ يُهَمُّ من أجلِهِ ما دُمتُ مهجُوساً، على نحوٍ كافٍ، بتلكَ العاطفةْ.  

 

ولأنّنّي كنتُ قد دخلتُ الكُليّةَ لتَوّي وما كُنتُ مُسَجّلاً في مركزِ التّشغِيْلِ بحثتُ عن عملٍ عبر الاتّصالِ الدّوريِّ بِأُناسٍ عرفتهم.   أخيراً قدّمني خالي إلى موظّفِ بنكٍ واتاني بعرضْ.   "هل شاهدتَ فلماً يُدْعَىْ هارفي؟ "   سألني.   قُلتُ بَلَىْ، ثمّ سعستُ على سبيلِ ايتسامةِ تفانٍ مُتواضعٍ، بَيدَ أنّهُ لا يُخْطَئْ، تفانٍ مُناسبٍ لأحدٍ على وشكِ أن يُسْتَخْدَمَ للمرّةِ الأولىْ.   كان "هارفي" هو فلمٌ لجِيمي استيوارت يتحدّثُ عن رجُلٍ يعيشُ مع أرنَبٍ خياليٍّ كبيرٍ مثل دُبٍّ.   قد جعلني ذاك الفلم أضحكُ بشدّةٍ جارفةٍ جعلتني أفكّرُ بأنّني سوفَ أموتْ.   "اعتَوَرَتْ إبْنِي، مؤخّراً، ذاتُ شُكِولِ التّوَهُّماتِ بالعيشِ في رشفقَةِ وحشْ".   لم يرُدُّ الصّيرفِيُّ على ابتسامتِيْ.   "هو قد توقّف عن العملِ وبقيَ أسيرَ حجرتِهِ.   أريدُهُ أن يخرُج من البيتِ، بينَ الحينِ والآخرْ.   لكنّه يحتاجُ، طبعاً، إلى .... رفيقْ.   هل لديكَ رغبةٌ في الأمر؟"  

 

كُنتُ قد عَرِفْتُ شيئاً عن ابنِ الصّيرَفِيِّ هذا.   كان مؤلّفاً موسيقيّاً شابّاً كَسِبَتْ موسيقاهُ الطّليعيّةُ جوائزَ في فرنسا وإيطاليا وكان/ عموماً، يُضمّنُ في مجاميعِ التّصاويرِ الفوتوغرافيّة في المجلات الأسبوعيّة، في تلكم الانواع من الكتابات التي ُعنْونُ دائماً بـ"فنّانو الغد في اليابان".   ما سمعتُ اعمالهُ الرئيسةَ أبداً.   لكنذني شاهدتُ أفلامَ عديدة كتب هو موسيقاها.   ثمةُ واحدٍ مها عن مغامراتِ صبيٍّ جانحٍ كان محتوياً على "ثيمةٍ" قصيرةٍ غنائيّةٍ (ليريكِيّةٍ) تُعْزَفُ على الهارمونيكا.   كانت جميلةً.   آنما كنتُ مشاهداً الصّورةَ السينمائبّةَ أتذكّرُ أنّني شعرتُ بانزعاجٍ غامضٍ من فكرةِ راشدٍ بلغ عمرُهُ الثلاثينَ تقريباً (في الواقع، مكان المؤلّفُ الموسيقيُّ في الثامنة والعشرين من عمره حينما استأجرني.   وذلكم هو عمريَ الحالي) ليشتغل على "ثيمةٍ" موسيقيّةٍ تُعزَفُ على الهارمونيكا- أفتَرِضُ أنّ ذلكَ عائدٌ إلى أنّ الهارمونيكا الخاصّة بي قد غدتْ مِلكاً لأخي الصّغيرِ حينَ دخلْتُ المدرسَةَ الإبتدائيّةْ.   ولربّما لأنّني عرفتُ شيئاً عن المؤلّفِ الموسيقيِّ- الذي كان يُدْعَىْ "د"- أكثرَ من مُجرّدِ المعلوماتِ العامّةِ عرفتُ أنّه كان مُتسَبّباً في فضيحةٍ أخلاقيّةٍ مُعيّنَةٍ.   عموماً أنا ليسَ لديَّ شأنٌ مع إثارةِِ الفضائحِ سوى الإزدِراءْ، بيدَ أنّني عَرِفْتُ أنّ طفلَ المؤلّفِ الموسيقيِّ الرّضيعَ قد ماتَ وانّهُ قد استحصلَ على الطّلاقِ من زوجته كعاقبةٍ لذلكَ وأنّه كان مُشاعَاً عنهُ   "تورُّطُهُ" في علاقةٍ عاطفيّةٍ مع نجمةٍ سينمائيّةْ.   ما كنتُ عارفاً أنّه كان في قيضةِ شيءٍ مثل الأرنب في فلم جيمي استيوارت أو أنّهُ قد توقّفَ عن العملِ وعزلَ نفسَهُ في غُرفَتِهِ.   إلى أيِّ مدىً حالتُهُ خطيرةٌ، تساءلْتُ ذاتيّاً، هل هي كانت حالةَ انهيارٍ عصبيَّ، أم هُوَ مُنفَصِمَ الشّخصيّةِ على نحوٍ جَلِيْ؟

 

"أنا لستُ متأكّداً من أنّني أعرفُ ما الذي تعنيهِ هنا، بالضّيطِ، بكلمةِ "رفيق"..."، قُلْتُ وأنا مُسْتَغْرَقٌ في ابتسامتِيْ، "طبيعيّاً أنا أودُّ أن، لو أستطيعُ، أن أكونَ ذا نفع".   آنذاكَ، مُخبّئاً فضولي وتهيّبي، حاولتُ أن أُعِيْرَ صوتِي وتعبيري أكثرَ ما يُمكِنُ من التّعاطُفِ دونَ أن أبدُو مُتلهّفَاً.   ما كان ذلكَ سوى عملٍ لا يتطلّبُ تفرّغاً، غيرَ أنّهُ كان الفُرصةَ الأولى للخدمةِ التي سُنِحَتْ لي وكُنْتُ أنا مُصمّماً على التّواؤُمِ بأفضلِ ما أسْتَطِيْعْ.  

 

"حينَ يُقَرّرُ إبني الذّهابَ إلى مكانٍ ما في طوكسو، تذهبُ أنتَ معهُ- ذاكَ فحسْبْ.   ثمةُ مُمَرّضةٍ في المنزلْ.   هي ليستْ لديها مشكلة في التّواصل معهُ.   عليهِ لا ينبغي لكَ الخوفُ بشأنِ عُنْفِهِ المُمْكِنْ".   جعلني الصّيْرفيُّ أشعرُ أنّني مثلُ جُنْدِيٍّ اُفْتُضِحَ جُبْنُهُ.   تضرّجَ خدّايَ وقُلتُ، مُحاولاً أن أستعيدَ أرضاً مضَاعَةً، "أنا مُغرَمٌ بالموسيقى وأحترمُ المؤلّفين الموسيقيّينَ أكثرَ من أيِّ أُناسٍ آخرينْ.   لذا أنا أتطلّعُ إلى رفقَةِ "د" والتّحدّثِ مَعَهُ".  

 

"كُلُّ ما يُفكِّرُ فيهِ، هذه الأيّام، هو هذا "الشّيءُ" الذي في رأسهِ- ذاكَ، فيما يبدو، هو كلُّ ما يتحدّثَ عنهُ!"    صيّرَ اقتضابُ الصّيرفيِّ الغيرُ وَجِلٍ وَجْهِيَ أكثرَ احمِرارا .  

 

-          "أنتَ تستطيعُ أن تذهبَ، غداً، للقائهِ"، قالَ.  

-          "في .... مَنْزِلكْ؟"

-          "هذا صحيح.   أظننتَ أنّهُ كانَ في مصَحٍّ للمجانين؟"

 

من نبرةِ صوتِ الصّيرفيِّ ما استطعتُ أن أفترضَ شيئاً سوى أنّهُ كانَ، في قَعْرِ نفسِهِ، رجُلاً وغْدَاً.

 

"إذا حصلتُ على العملِ"، قُلتُ وعينايَ على البِلاطِ، "سأمُرُّ بِكَ ثانيةً لأشكُرَكْ".   كان البُكاءُ، آنذاكَ، يسيراً عَلَيَّ.  

 

"لا... لا...   إنّه يستأجرُكَ (حسناً إذاً.   أنا قد حسمتْ، بِمُكابَرَةٍ، أمري- سأدعُو "د" مُخَدِّمِيْ")، لذا لن يكون ذلك ضرورياً.   كلّ ما أكترثُ لهُ هو أن لا يُورّطَ نفسَهُ في أيِّ مشكلةٍ، خارجَ بيتِهِ، قد تتطوّرُ إلى فضيحةٍ، فهُنالِكَ مستقبلهُ المهنيُّ ليفكّرُ بِهِ.   طبيعيّاً، كلُّ ما سيفعَلُهُ سينعكِسُ علَيَّ-..."

 

إذاً هكذا كان الأمر!   فكّرتُ؛ فهو مشتملٌ على أن أكونَ رقيباً أخلاقيّاً حارساً لعائلةِ الصّيرفِيِّ ضدّ تلوّثٍ ثانٍ بسمومِ الفضيحةْ.   طبعاً لم أقُلْ شيئاً.   فقط أومأتُ رأسي بطمأنةٍ واعتمادٍ إذ كنتُ قلقاً بشأنِ تدفئَةِ قلبِ الصّيرفيِّ الثَّلُوجِ بحرارةِ اتِّكضالِهِ عليَّ.   ما سألتُ حتّى السّؤالَ الذي كانَ الأعظمَ إلحاحاً- ذلك الذي كانَ شيئاً صعباً على أن يُسْأًلْ:- "هل ذاكَ الوحش الذي هو مُتَقَمِّصٌ ابنَكَ، يا سيّدي، هو أرنبٌ مثلُ هارفي؟   هل طولُهُ ستّةَ أقدامٍ تقريباً؟   هل هو مخلُوقٌ مُغطّى بالشّعرِ المُنْتَفِشِ مثلما رَجُلِ جليدٍ قمئ؟   أيُّ نوعٍ من الوُحوشِ هو؟ ......   بقيتُ، في النّهايةِ، صامتاً وعزّيتُ نفسي بفكرةِ أنّني قد أستطيعُ أن أتجَسَّسَ على السّرِّ عِندَ المُمَرّضةِ إن صَادَقْتَهَا.

 

غادرتُ، من بعدِ ذلكَ مكتب الصّيرفيَّ.   وفيما كنتُ ماشياً عير الممر، جارشاً أسناني في مذلّة وكأنّما كُنتُ أنا جوليت سوريل بعد مقابلته شخصاً مهماً، صرُ على وعيٍ ذاتيِّ مباشرٍ بأطرافِ أصبعي وحاولتُ تٌقييم موقفي وفعاليّته. عندما تخرّجتُ من الكليّة اخترتُ ألا أنشدَ عملاً يبدأ في التاسعة وسنتهي في الخامسة.   أنا أعتقدُ أنّ ذكرى حديثي مع ذاك الصّيرفي الغير مودود قد أثّرتْ، بوُسعٍ كبيرٍ، على قراري هذا.  

 

رغم ذلك حينما انتهت الدّروسُ، في اليومِ التالي، استقللتُ قطاراً إلى الضاحيةِ السكنيةِ التي يعيش فيها المؤلف الموسيقي.   وفيما أنا مجتازٌ بوّابةَ تلكَ القلعة-المنزل كنتُ أتذكّرُ زئيرَ وحوشٍ مرعبةٍ وكأنّما هي في حديقةِ حيوانٍ عند منتصف الليل.   اشمأززتُ.   تراخيتُ.   ماذا إن كانَ ذاكَ هو صراخَ مُخدّمِي؟   الشّيء الحَسن هو أنّهُ لم يخطر لي، آنذاكَ، أن الصّراخَ الوحشيَّ ذاكَ قد يكونُ آتياً من الوحشِ الذي كان قاطنً نفس "د" مثل أرنب جيمي استيوارت.   مهما كان ذاك الصراخ فإنه قد بدا جليّاً أنّه قد رجرجَنِي إلى حدِّ أنّ الخادمة التي كانت تدلّني على سبيلي صارت كَيِّسَةٍ بما يُكفِي لأن تنفجرَ ضاحكةً.   ثم اكتشفتُ شخصاً آخراً كان ضاحكاً، بلا صوتٍ، في العتمةِ الوراءَ نافذةٍ في مبنىً ملحق بالحديقة.   كان ذلك هو الرّجل الذي كان مفترضاً أن يُخدّمني.   ضاحكاً كان هو كصورةِ وجهٍ في فيلمٍ سبنمائيٍّ ليس مُرْتَفَقَةً بصوتْ.   في كلِّ ما حولهِ كان يغلي عواءُ وحوشٍ كاسرةْ.   أنصتُّ عن كَثَبٍ وأدْرَكْتُ أنَّ عديداً من ذاتِ الحيواناتِ كان صارخَاً، في ائتلافٍ وبأصواتٍ أكثرَ حدّةٍ من أن تنتمي إلى هذا العالمْ.   ومُنْتَبَذَاً من قِبََلِ الخادمةِ عندَ مدخلِ المبنى قرّرتُ أنّ الصّراخَ كان ينبغي لهُ أن يكونَى جزءاً من مُنتخبات المؤلّفِ الموسيقيِّ مُسجّلَةً على شريطِ كاسيتْ، استجْمَعْتُ شجاعتِي، استقِمْتُ في وقفتي وفتحتُ البابْ.  

 

ذكّرني المبنى المُلحق، في الداخل، بروضةِ أطفالْ.   لم تكُنْ هنالكَ سُتَرٌ عازلةٌ في الحجرةِ الكبيرةِ- فقط آلَتَيْ بيانو، أورغن إليكتروني، شرائط تسجيل عدّة، مُسجّلْ أو ، قُلْ، شيءٌ مثلُ ذاكَ الذي دعوناهُ "مازِجَ/خالِطَ" آنَ ما كُنتُ عضواً في النادي الإذاعيِّ في المدرسةِ الثانويّةِ العليا- ما كانت هنالكَ مساحةٌ لوطءِ الخُطَىْ.         

 

ثمةُ شيءٍ كان يبدو مثل كلبٍ نائمٍ على البلاطِ تبيّن لي، فيما بعد، أنّه آلة تِيُوبا مُنشئَةً من نُحاسٍ مُحْمَرٍّ.   كان المكانُ تماماً مثلما تخيّلتُ استوديو مؤلّفٍ موسيقيٍّ أن يبدو.   بل وقَامَ عنديَ وهمٌ بأنّني قد رأيتُ المكانَ من قبلْ.   قد قال الأبُ إنَّ "د" قد كفَّ عن العملِ وعزَلَ نفسَهُ في حجرتِهِ.   هل كان مُخطئاً في ما تصوّره؟  

 

كان المؤلّف الموسيقيُّ، آنذاكَ، منحنياً كي يُوقفَ تشغيلَ الشّريطِ الموسيقي.   ومشمولاً بفوضى ما كانتْ مُفتَقِرَةً إلى نظامِها الخاصِّ حرّكَ يديهِ بخفّةٍ وفي لمحةٍ كانتْ تلكَ الصّرخات الوحشيّة مُمْتَصَّةً في جُحرِ سكينةٍ مُظلِمْ.   ثمّ استقامَ في وقفتهِ واستدارَ إليَّ بابتسامةٍ حقيقيّةِ الإطمئنانْ.  

 

وبما أنّي قد أجِلْتُ بصري في أنحاءِ الحجرةِ ورأيتُ أنّ المُمَرّضَةَ غيرُ حاضرةٍ هناكَ صرتُ منزعجاً قليلاً.   لكنّ المؤلّفَ الموسيقيَّ لم يدَعْ لي سبباً، في هه الدّنيا، كي أتوقّع أنّه كانَ على وشكِ أن يغدو عنيفاً.  

 

"أبي حدّثني عنكَ. إدْخُلْ.   ثمةُ مكانٍ شاغرٍ هناكْ"، قال في صوتٍ خفيضٍ ذي رنينْ.  

 

خَلَعْتُ نِعْلِيَّ وخطوتُ على السّجّادةِ دونَ أن أرتدي شُبْشُبَاً.   ثمّ نظرتُ حولي باحثاً عن شيءٍ أجلُسُ عليهِ، لكنّه لم يكن هناكَ، باستثناءِ مقعدٍ مُدوَّرٍ قائمٍ أمام البيانو والأورغن، أيُّ قطعةِ أثاثٍ في الحجرة، حتّى لو كانتْ تلكَ حَشِيّةً.   عليهِ ضممتُ قدمَيَّ معاً فيما بينَ طبلَيْ بونقو وبعضِ صناديقِ شرائطِ تسجيلٍ فارغةٍ ووقفتث هناكَ على هيئةٍ غيرِ مُريحَةْ.   وقفَ المؤلّفُ الموسيقيُّ هناكَ أيضاً وذراعاهُ ممدودتان على جانبيهِ.   تساءلتُ عمّا إذا كان هو أبداً قد جَلَسْ.   هُوَ لم يدْعُنِي للجِلًوسِ، بل فقط وقفَ هناكَ صامتاً ومبتسماً.  

 

-   "هل كانتْ تلكَ أصواتُ قرود؟"   قُلتُ، مُحاولاً أن أكسرَ صمتاً قد هدّدَ بأن "يُرَسَّخَ" في المكانِ بأسرعِ من أيِّ أسمنتْ.  

 

-          "هي أصواتُ وحيدِ القرنْ.   قد بدت ْعلى النّحوِ الذي سمعتَ لأنّني قد سرَّعْتُ حركةَ الجّهازِ، كما وصوتَهُ أيضاً.   أنا اعتقدُ أنَّ تِلكَ الأصواتَ هي أصواتُ حيوانات وحيد القرن، فذلكم ما سألتُهُ عندما سُجّلَ لي هذا الشّريطُ، لكنّني لا أستطيعُ، بالطّبعِ، أن أكونَ متأكّداً، من ذلكَ، تماماً.   على كلٍّ، أنتَ هنا الآن، لذا سأتمكّنُ من الذّهابِ إلى حديقةِ الحيواناتِ بنفسي".  

-          "هل أفهمُ من ذلكَ أنّني قد تمَّ استخدامي من قِبَلِكُمْ؟"  

-          "طبعاً!   أنا لم أجعلكَ تأتي إلى هنا لأختبركْ.   كبف لشخصٍ ملتاثٍ أن يختَبِرَ شخصاً عاديّاً؟ "

 

قال الشخص الذي سيكون مُخدِّمِي ذلكَ بموضُوعيّةٍ وبلهجةٍ نمّتْ عن أنّهُ كانَ كأنّهُ، بالكادِ، مُحْرَجَاً.   ذاكَ صيّرَنِي أشعُرُ بالإشمئزازِ من حِسِّ مذلّةِ ما قُلتُ:- "هل أفهمُ من ذلكَ أنّني قد تمّ استخدامي من قِبَلِكُمْ؟ "   بدوتُ، آنما قثلتُ ذلكَ، كأنّني صاحبُ دُكّانٍ!   إنّ المؤلّفَ الموسيقيَّ مختلشفٌ عن أبيهِ رجلِ الأعمالِ، لذا كان عليَّ أن أكونَ أكثرَ مُباشرةً معهُ.  

 

"أنا أرغبُ في أن لا تصفَ نفسَكَ بأنّكَ مُلتاثُ، فذلكَ أخرقُ بالنّسبةِ لي".   حَسَنٌ أن يُحاولَ المرءُ أن يكونَ صريحاً، لكنَّ أيَّ قولةٍ بلهاءَ كانت تِلْكْ!   لكنّ المؤلّفَ الموسيقسَّ التقاني في منتصفِ الطّريقٍ:- "حَسَنَاً، إن يكُنْ ذلكَ ما تشعُرْ.   أنا أفترِضُ أنّ ذلكَ قد يجعلُ عملَكَ معي أكثرَ يُسْرا".

 

إنّ كلمةَ "عملٍ" هي كلمةٌ غيرُ مُحدّدةِ المعنىْ.   بيدَ أنّ المؤلّفَ الموسيقِيَّ، على الأقلِّ خلالِ الشّهورِ التي كنتُ أزورُهُ فيها كلَّ أُسْيوعٍ، لم يكنْ حتّى على مُجرّدِ اقترابٍ من فعلِ عملٍ كالذّهابِ إلى حديقةِ الحيوانِ كي يُسجِّلَ لنفسِهِ صوتَ وحيدِ قرنٍ حقيقيْ.   كلّض ما فعلَهُ كان التّجُوّلَ في أرجاءِ طوكيو، على ناقلاتٍ مُختَلِفاتٍ أو على قدمين، وزيارة أمان شتّىْ.   عليهِ حينما أشارَ إلى كلمةِ "عملٍ" لا بُدَّ أن يكونَ، إذاً، قد عنانِي، فأنا قد عملتُ، بالفعلِ، كثيراً لدرجةِ أنّني قد تكبّدْتُ مشقّةَ السّفرِ، في مهمّةٍ تخصُّهُ، إلى مدينةِ كيونو.  

 

-          "متى أبدأ إذاً؟"

-          "حالاً، إن يكُنْ ذلكَ مُناسباً لكَ- الآنْ".  

-          "ذلكَ يُناسبُنِي تماماً".  

-          "ينبغي عليَّ أن أُهنّئَ نفسي. هلاّ تنتظرُنِيْ خارجاً؟"

 

محنيُّ الرّأسْ بحذرٍ، كأنّه كان ماشياً في مستنقع، اتّخذ مُخدّمي طريقهُ، عبر آلاتٍ موسيقيّةٍ ومُعدّاتِ صوتٍ وكوماتٍ من المُسودّاتِ، طريقهُ إلى الجّزءِ الخلفِيِّ من الحجرةِ حيثُ وجدَ باباً خشبيّاً أسوداً فتحهُ وأغلقَهُ خلفه.   لمحتُ، خاطفاً، امرأةً هناكَ مُرتديةً زِيِّ مُمرّضةٍ، امرأةً في أوّلِ أربعيناتِها ذاتِ وجهٍ مائلٍ للطّولِ وظلالٍ كثيفةٍ على خدّيها ربّما كانت تجاعيدَ أو نُدُوبَا.   بدتْ مُحيطةً المؤلّفَ الموسيقيَّ بذراعها اليُمنى آنما كانتْ مُولِجةً لهُ إلى الداخلِ فيما ألغلقتْ البابَ بيدها اليُسرىْ.   لئن كان ذلكَ هو جزءٌ من الروتين المتّبع هنا لما كان في وُسعي أبداً أن أوتى فرصةً أتحدّثُ فيها مع الممرضة قيل ذهابي، إلى خارجِ البيتِ، مع مُخدّمي.   واقفاً أمام الباب المغلق، في الجزء الأكتر إظلاماً من الحجرة المعتمة، تَقَلْقَلْتُ فيرداخلِ نِعلي وشعرتُ بتزايُدِ قلقي إزاءَ عنملي هذا.   تبسّم المؤلّف الموسيقيُّ أثناءَ كلّ ذلكَ الوقتِ وكلِّ حينٍ بادرتُهُ فيهِ بكلامٍ أجابني.   غيرَ أنه ما تبرّع بقول الكثير. هل كان عليّ أن أكونَ أكثرَ تحفُّظَاً؟.....   بما أنّ الخروجَ مع معهُ إلى الخارجِ كان "فيهِ قَولان"، وبما أنِّي كنتُ مصمّماً على أن يكونَ أيُّ شيءٍ على تمامٍ في عملي الأوّل قرّرتُ أن أنتظرَ، بالضّبطِ، في داخلِ البوّابةِ الرئيسةِ حيثُ كنتُ مستطيعاً أن أرى المبنى المُلحقَ بالحديقةْ.  

 

كان "د" رجلاً صغير الحجم، نحيفاً، لكنّه ذو رأسٍ بدتْ أكبرَ من معظم الرؤوس.   ولكي يجعل مرأى القمة العظمية لجبينه يبدو أقلَّ شؤماً، بقليلٍ، سرّح شعرهُ الشاحب الأملس والمغسول جيّداً وسوّاه أسفلاً فوقَ جبينهِ.   كان فمهُ وفكّاه صغيرين وأسنانه غير منتظمة يكلٍ بشعْ.   رغم ذلك كانت هنالك سمة صحّة استاتيكية مميزة لوجهه الذي وافق جيداً ابتسامةً مُطمئنَّةً علَيهِ (ربما كان ذلك بسبب لون عبنيه الغائرتين عميقا).   ولئن وصفنا الإنطباع العام الذي كان يشي به الرّجل لقلنا إنّ هنالكَ ثمة طبيعة كلبيّة (من "كلب") متعلقة به.  

 

كان يرتي سراويل منسوجة من الصوف وكنزة صوفية ذات خطوط أشكالها تُشبه القمل.   كتفاهُ كانا منحنيين قليلاً وذراعاهُ طويلين طولاً فائقاً.  

 

حين جاء من الباب الخلفي للمبنى الملحق كان مُخدِّمي يرتدى صديرياً أزرقاً من لصوف فوق كنزة الصوف وحذاءي تنس أبيضينْ.   ذكّرني مرآهُ بمدرّس موسيقى في مدرسةٍ ذاتِ فصولٍ مُدرّجَةْ.   في إحدى يديه كن يحمل شالاً أسوداً. وكأنما كانما كان هو مرتبكاً بشأنِ وضعِ- أو عدم وضعِ- الشال حول عنقه كانت هنالك حيرةٌ في تكيرته الباسمة لي آنما كنتُ متظراً لهُ عندَ البوّابةْ.   طوالُ الوقتِ الذي عرفتُ فيهِ "د"، باستثناءِ الأيام الأخيرة منه التي كان فيها طريح سرير مستشفى، كان "د" دوماً يرتدي ملابسه بهذهِ الطريقةْ.   أنا أتذكّرُ رداءهُ على هذا النّحوِ الجّليِّ لأنّني كنتُ دوماً أؤخذُ بشيءٍ كوميديٍّ متعلّق بأمر كيف لرجلٍ ناضجٍ مثل "د" أن يرتدي صديريّاً حول كتفيهِ كأنّهُ كان امرأةً في حالِ تخفٍّ! إنّ لونَ كنزةِ "د" الصوفيّة الذي لا صفةَ لهُ وافتقار تلك الكنزة للشكل قد جعلاها مناسبةً له تماماً.   وفيما كان المؤلف الموسيقي قادماً نحوي، على اناملِ حمامةٍ، متجاوزاً الشجيراتِ المتشابكة، رفع، بغيابِ ذهنٍ، اليد التي كانت ممسكةً بالشّالِ وأشار بها على اتّجاهي.   ثمّ لفّ الشّالُ، من بعدِ ذلكَ، بحزمٍ حول عنقهِ.   كان الوقتُ قد بلغ الرابعة ظهراً والجوُّ معقولُ البرودةِ في الخارجْ.  

 

مضى "د" من خلال البوابةْ.   وفيما كنتُ أنا سائراً خلفه (فعلاقتنا كانت قد سبقَ واتّخذتْ صورةَ تلكَ التي بين مُخدِّمٍ ومُخّدَّمٍْ) واتاني شعورٌ بأنّني كنتُ مُراقَبَاً فاستدرتُ ورأيتُ، خلف ذات النافذة التي اكتشفتُ خلالها مخدِّمي عند مجيئهِ، تلك الممرضة ذات الأربعينَ عاماً ونِدُوْبِ- أم هي غِضُونِ؟- الخَدَّيْنْ وهي تَرْقَبُنَا كما قد يرقبُ جُندِيٌّ ظلَّ باقياً عندَ خطوطِ النّارِ زميلاً له وهو يأبقُ من الخدمةِ العسكريّةِ فيما شفتاها مزمومتانَ بإحكامٍ كما شفتي سلحفاةْ.   اعتزمتُ أن ألتقيها، بأسرعٍ ما أستطيع، على انفرادٍ حتّى اسألها عن حالةْ "د".   ما خطْبُ تلكَ المرأةِ، على كلِّ حالْ؟   ها هي هنا، معتنيةً بأمرِ شابٍّ على عِلّةٍ في أعصابهِ، وربّما كان مخبُولاً حقّاً؛ مع ذلكَ، حينَ ذهبَ من عُهدتِها إلى الخارج لم تجِدْ، في نفسِها، شيئاً تقولهُ لرفيقه!   هلا ليس ذلكَ إهمالٌ مهنيٌّ؟   هلا هي ليستْ، على الأقلِّ، مُلزمةً بأن تُشْبِعَ الرّجُلَ الجّديدَ تفصيلاً عن عملِهِ؟   أم أنَّ مُخدِّمي هو عليلٌ بالغُ الوداعةِ وغيرُ مؤذٍ بحيثُ أنّهُ ليس هنالكَ من شيءٍ هناكَ يجبُ أن يُقَالْ؟  

 

حينَ وصل "د" إلى الممرّ الجانبيِّ فتح عينيه التّعبتي المرأى، في محجريهما العميقينْ، على مصراعيهما واختلس نظراً خاطفاً إلى أعلى وأدنى الشارعِ السّكنِيِّ المهجورْ.   لم أدرِ إن كانَ فعله ذاكَ يشي بالجنونِ أو شيءٍ خلافه (بدا الفعل المفاجئ المنبتّ عن أيّ استمراريّةٍ عادةً لهُ).   نظر المؤلف الموسيقي إلى فوق، إلى سماءِ نهايةِ الخريفِ الصباحية وكان يطرفُ بعينيه طرفاً متلاحقاً.   ورُغم أنّهما كانمتا غائرتين كان هنالكَ شيءٌ معبّرٌ، بانميازٍ، موسومةٌ بهِ عيناهُ البُنيتان العمبقتانْ.   كفّ المؤلّفُ الموسيقيُّ، من بعد ذلكَ، عن الرّمشِ وبدتْ عيناهُ شارعتينَ في التّركيزِ، كأنّما كان هو مُفتّشاً للسّماءْ.   وقفتُ وراءهُ، بانحناءٍ، مُراقِباً وأنا مأخوذٌ، بشدّةٍ حيّةٍ، بحركةِ تُفّاحةِ آدمِ على عنقه- تلك التي كانت ضخمةً كأيِّ قبضةِ يدْ.   تساءلتُ عمّا إذا كان هو، في الأصلِ، قد هُيِّأَ لهُ مصيرُ أن يغدو رجلاً ضخماً؟   ربما كان هنالكَ شيءٌ أعاقَ نموذهُ في طفولته المبكّرة، لذا لم يبقَ، الآنَ، من ذلكَ ’المصير‘ فيه سوى رأسه (أي عنقه وما علاه) المُفصِحِ عن العِملاقِ الذي كان معنيّاً أن يكونَهُ.  

 

خافضاً عينيه عن السماء التقت نظرة مخدِّمي بنظرتي المتحيرة فعاينني وقال، عارضاً ولكن بجدّيّةٍ لا تدع مجالاً للإعتراضْ:- "في يوم صاف يستطيع المرء أن يرى، بوضوحٍ حسنٍ، الأشياء طافيةً هناكَ في الأعاليْ.   إنّهُ هناكَ معهم.   هو كثيراً ما يأتي إليَّ، من الأعلى، حينما أذهبُ إلى خارجِ البيتْ".  

 

شعرتُ، في الحالِ، بشيءٍ يتهدّدني.   وناظراً بعيداً عن مُخدّمي تساءلتُ عن كيف لي أن أتجاوزَ، سالماً، هذا الإمتحان الأوّل الذي باغتني بسرعةْ.    هل لي أن أتظاهر بالإيمان بحقيقةِ "ذاك" الذي يتحدث عنه، أم أنّ ذلك سيكون خطأ؟   هل كنت متعاملاً مع رجلٍ مجنون يرغي، أم هل المؤلف الموسيقي ليس سوى ممازحٍ، ذي وجه كوجه "جوكر" لعبة الكوتشينة، يحاول أن بلهو معي؟   آنما كنت واقفاً هناك، في قنوطٍ، مدّ إليّ يداً معينة.   "أنا أدري أنك لا تستطيع أن ترى الأشكال الطافية في السماء.   كما وأعلم، كذلك، أنك لن تكن على إدراكٍ "به" حتى ولوكان "هو" واقفاً هنا بجانبي.   كل ما أساله هو ألا تبدو مستعجباً حينما يأتي "هو"، تازلاً، إلى الأرض، حتى لو تحدثت أنا إليهِ.   ذلكم لأنك ربما تضايقه إن كان لكَ أن تنفجرضاحكاً فجأةً أو أن تحاول إسكاتي.   ولئن يكن لك ان تلحظ، ىنما نجن متحادثين أنّّني راغبٌ في مساندةٍ ما منكَ سأكون ممتناً لانسيابكِ، آنذاكَ، بالكلامِ وقولكَ شيئاً- كما قد تقدّر- توكيدياً.   كما سترى، أنا أُطلعُهُ، بالكلامِ، على معالم طوكيو وكأنما كانت هي جنّة.   لربما بدت لك تلك الجنذة جنذةَ خيالٍ ملتاثْ.   لكنك قد تستطيع، آنذاكَ، التفكير فيها على أنها مَسْخَرَةً مرويّةً فحسب وتكن توكيدياً، على كلٍّ، على الأقَلِّ حينما يكون "هو" برفقتي هنا، على الأرض".  

 

استمعتُ، بحرص، إلى كل ذلك وفكرت بأنني قادرٌ، على الأقلّ، على أن أرسم في واعيتي خطوط ما توقعه مخدِّمي منّي.  هل كان "ذاكَ" الذي يتحدث عنه المؤلف الموسيقي- في غاية الأمر- أرنباً كبير الحجم كما الإنسان، متّخذاً لهُ عشّاً في السماء؟...   لكنّ ذلكليس الذي سألته عنه؛ فقد سمحت لنفسي أن أسأله فقط:-

-          "أنّى لي أن أدري حينما ينزل "هو" إلى هنا ويكونُ معك؟"

-          "ستدرك ذلك خلل مراقبتي فحسب.   إنه ينزل إلى هنا حينما أكون خارج البيت".  

-          "ماذا عن حينما تكون في داخل السيارة؟"

-          "هو قد يظهر لي آنما أكون في سيارة أو قطا، غالباً عندما أجلس قرب نافذة مفتوحة".

-          "ماذا عن الـ... آنَ بالذّات؟"   سالتُ بعدم ارتياح.   ينبغي لي أن اكون قد بدوتُ، حينذاكَ مثل غبيّ الفصل الذي لا يستطيع، ببساطة، أن يفهم قواعد جدول الضّربْ.  

-          "في هذا الوقت بالذات هنا فقط أنا وأنت"، قال مخدِّمي بتفصيل، "لماذا لا نسافر اليوم إلى شِنجوكو.   أنا لم أستقلّ قطاراً منذ زمانٍ طويلْ.  

 

مضينا إلى المحطة.   وطوال الطريق بحثتُ، ببصرٍ متجرّد، عن علامةٍ تنبؤني بأنّ شيئاً ما قد بدا عند جانبِ مخدّمي.   لكنني ما انتبهت، حينذاك، إلى حين ركوبنا القطار، كما ولم يتبدّى لنا، بقدرِ ما أدرك، أيُّ شيءْ.   فقط لاحظتُ شيئاً واحداً:- تجاهل المؤلف الموسيقي الناس الذين مروا بنا على الطريق، حتى حينما حيّوه.   وكأنما ما كان هو موجوداً، أو كأنما الناس الذين التقوه بالتحايا والاستفسارات عن الأحوال ما كانوا مُسجّلين في واعياتهم إلا وهماً ظنّوهُ هو تجاهل مخدِّمي تماماً كلّ فواتح الاتّصالْ.  

 

ذاتُ الشيء حدث عند شياك التذاكر.   فقد رفض "د"، هناك، التعامل والآخرين من الناس.   ومسلّماً إيّايَ ألفَ ين أوصاني بأن أشتري تذاكر، ثم رفض أن يأخذ منّي تذكرته حتى حين مددت يدي بها إليه.   كان عليّ، آنذاكَ، أن أقف عند البوابة وأهتم بأمر تخريم التذكرتين معاً فيما انجرف "د"، عبر البوابة الدّوارة، إلى الرصيفِ بحريّةِ رجلِ خفي.   وحتى وهو في القطار تصرف "د" وكأنما الركاب الآخرون كانوا غير دارين به أكثر من دريانهم بجو المكان العام.   ومتكوماً في مقعدٍ عند الركن الأقصى بقي "د"، آناء سفره، صامتاً ومغمض العينين.   وقفت بجانبه ورقبته في تنبه متزايد لأي شيءٍ ما كان قد يطفو خلال النافذة المفتوحة ويقرّ بجانبه.   طبيعياً، لم أؤمن بوجود الوحش.   فقط كان الأمر هو أنني صرتُ مصمماً على أن لا أفوت اللحظة التي تستولي فيها أوهام "د" عليهِ (شعرتُ بأنّني مدينٌ لهُ غلى ذاكَ الحدِّ مقابل المال الذي كان يدفعهُ لي).   لكنه، في واقع الحال، قبع حبث هو مثل حيوانٍ صغيرٍ ما متظاهرٍ بالموتِ، طِوالَ السبيلِ إلى محطّةِ القطار في شينجوكو.   عليه أنا ما قدّرتُ شيئاً سوى أنّه ما كان متلقّياً زيارةً من السّماءْ.   طبعاً الإفتراضُ هو كان كلّ ما لديّ آنذاك، فطالما كان هنالك أناسٌ آخرون حولنا ظلّ مخدِّمي مَحارةً حريداً من الصّمتْ.   لكنني سرعان ما أدركتُ أنّ ظنّي كان صحيحاً.   لكم لأنه حينما أتت اللحظة المرتقبة كان الأمر أكثر من ظاهرٍ (أعنى خَلَلِ ردودِ فعلِ "د") أنَّ هنالِكَ شيءٌ كان زائراً له.  

 

غادرنا محطّة القطار وظللنا سائرين على الطريق.   كان الوقتُ ما قبلَ المساءِ بقليلٍ وحين لا يكونُ أناسٌ كثيرونَ خارجَ منازلهم.   رغم ذلك مررنا خلل مجموعةٍ صغيرةٍ من الناس ملتمّةً عندَ ركن.   توقفنا لكي نرى ما كان جارياً.   مُحاطاً بالجمهرةِ كان هنالك رجلٌ عجوزٌ يدور ويدور في الشاردون إلقاء لمحة على أيٍّ من الناس.   كان الرجل العجوز، كريم المرأى، يدور في توفّزٍ محمومٍ وهو يضم حقيبةَ أوراقٍ ومظلّةٍ إلى صدرهِ فيما يُهزْهِزُ شعرهُ الأشيب المدهون قليلاً إذ يخبط الأرض بقدميهِ وينبح مثل عجر بحر.   كانت الوجوه، في الحشد المتفرج، بلا التماعٍ وجافّةً في برودِ المساءِ الذي كان يتسلل خلل الهواء.   وجه الرجل العجوز وحده كان محمرّاً، عرقاناً، كما وهو يبدو على وشك الغليان.  

 

تنبّهتُ، فجأةً، إلى أنّ "د"، الذي كان من المفترض أن يكون واقفاً بجانبي، قد اتخذ خطوات قليلة إلى الوراء ولفّ إحدى ذراعيه حول كَتْفَيْ شيءٍ خفيٍّ كان، عموماً، يُماثلهُ في الطّول.   كان هو، آنذاك، ينظر، بمودة، خلل الفضاء الذي كان يعلو قليلاً عن دائرة ذراعه الخالية.   كانت الجمهرةُ جدّ مستغرقة في مشهد الرجل العجوز بحيث أنها ما اهتمّت بأداءِ "د" التمثيلي، لكنني فزعت.   استدار المؤلف الموسيقي إلي ناحيتي، ببطءٍ، كأنما كان هو يريد أن يقدمني إلى صديق.   ما عرفتُ كيف استجيب.   فكل ما فعلته كان هو الرّوع واحمرار الخجل.   كان الموقف مثل نسيان تلميذٍ لكلماتِ دورهِ الساذجة في مسرحيةٍ مثّلتْ في مدرسة ثانوية عامة.   واصل المؤلف الموسيقي التحديق فيَّ وثمةُ انزعاجٍ في عينيه.   كان يبحث عن تفسيرٍ لمشهدِ ذلك الرجل العجوز الذي كان يبدو وكأنه قد جيءَ بهِ، عمداً وبتصميم، إلى ذاك الشارع ليرقب وصول ذلك الزائر من السماء.   ذلكم تفسيرٌ فردوسيٌّ أُخرويْ!   لكن كل ما استطعت فعله- إزاء تلك التحدبقة- هو التساؤل، ببلاهة، عمّا إذا كان الرجل العجوز قد أصيب بعدوى رقص القديس فيتوس.  

 

آنما هززتُ رأسي بحزن ذهب ضياء الإستفسار عن عيني مخدّمي.   وكأنما كان مودّعاً صديقاً أسقطَ ذراعهُ أسفلاً.   ثم حوّل تحدبقته، ببطء، نحو السماء حتى صار رأسه متخذاً سبيلاً قصيّاً إلى الوراء وامتدت تفاحة آدم الضخمة من عنقه أماماً في بروزٍ جرئْ.   كان الطيف قد سمق، آنذاكَ، على سبيلِ عودته إلى السماء وكنتُ أنا خجلا: ما كنتُ على قدر مطلب عملي.   وفيما كنت واقفاً هناك ورأسي متعلقاً بالسماءِ خطا المؤلف الموسيقي نحوي وأعلمني بأنّ يومَ عملي الأول قد انتهى.   "تستطيع، الآن، العودة إلى بيتكْ.   فـ"هو" قد سبق ونزل اليومَ من سمائه.   لا شكّ أنك قد غدوتَ تعباً جدّاًً"، قال المؤلف الموسيقي.   كنتُ، بالفعلِ، شاعراً بالإنهاكِ بعد كل ذلك التوتّرْ.  

 

عدنا إلى المنزل في سيارة أجرة مغلقة النوافذ.   وما أن وصلنا إلى هناك حتى دُفِع لي أجري وغادرت المكان على عجل.   لكنني ما هبتُ مباشرةً إلى المحطّة، بل انتظرتُ خلف عمود تلفون موازٍ للمنزل من الجهة المقابلة.   غمُقَ غسقُ الاصيلْ.   تحوّلتْ السماءُ إلى لونٍ ورديْ.   وفقط حينما كان وعدُ الليلِ صائراً حقيقةً ظهرتْ الممرضة خلل البوابة وهي دافعةٌ بدراجةٍ جديدةٍ أمامها.   كانت مرتديةً لباساً قصير التنورة، من قطعةٍ واحدةٍ وذي لونٍ غيرِ مميّزٍ بفعلِ العتمةْ.   وقبل أن تصعد على درّاجتها ركضتُ نحوها.   بدتْ، وهي بدون زيّ التمريض الرّسميّ، امرأةً عاديةً صغيرةَ الحجمِ وفي اربعيناتِ عمرها.   اختفى عن وجهها ذاكَ "السّرِّ" الذي اكتشفتهُ عبر نافذة المبنى الملحق.   أربكها ظهوري.   ما استطاعت الصعود إلى الدّرّاجة وسياقتها بعيداً.   كما وأنها ما استطاعتْ أيضاً أن تقف ساكنةً.   كانت قد بدأت في تحريك الدراجة على طول الطريق حينما طالبتها بأن توضّح لي حالة مخدِّمنا المشترك.   أعرضتْ عن ذلكَ بنرفزةٍ.   لكنني كنتُ قابضاً بقوّةٍ على مقعد الدّرّاجة، الشيء الذي أرغمها، في النهاية، على إجابةِ مطلبي.   حين بدأت الكلام كان فكذها الأسفل الكبير ينغلق بإحكام عند كلّ سكتةٍ آناءَ جُملَةٍ؛ كانتْ، بالقطعِ، سلحفاةً متكلّمة.  

 

"يقولُ [المؤلف الموسيقي] إنّه (يعني الوحش) طفلٌ سمينٌ بمعطفِ نومٍ قُطنيٍّ أبيضٍ، حجمه كحجم الكانقارو ويُفترض أنّه يخاف الكلابَ ورجالَ الشرطة، كما ويأتي نازلاً من السّماءْ.   يقول إنّ اسمهُ هو "أقهَوِيْ"!   دعني أخبّرُكَ شيئاً.   لئن حدث وكنتَ حاضراً حينما يأخذ ذاك المخلوق اللاطبيعي بلبابه من الخيرِ لك أن تتظاهرَ فقط بالغباءْ.   إنّكض لا تستطيع المجازفة بالتورّط في ذاكَ الأمر.   لا تنس أنّك تتعامل هنا مع مخبول!   شيءٌ آخرٌ كذلك ينبغي أن تعلمهُ.   لا تأخذه إلى أيّ مكانٍ غير "اجتماعيٍّ"، حتّى ولو أراد هو الذّهاب إلى هناكْ.   ففوقَ كلِّ شيءٍ آخرٍ كلّ ما بقي لنا أن نخشاهُ، في هذا المكان، هو إصابته بمرض السّيَلانْ!"

 

تضرّجتُ وفككتُ عن يدي مقعد الدّرّاجة فانطلقت الممرضة وهي تقرقع جرس دراجتها، بأقصى سرعةٍ تستطيعها، إلى داخل الظّلامْ.   كانت رجلاها مدوّرتين ونحيفتين مثل عجلتين...   أُهْ، طفلٌ سمينٌ بمعطفٍ قطنيٍّ

أبيضٍ، حجمه كحجم الكانقارو!

 

حين جئتُ، في الأسبوع التالي، إلى المنزلِ، ثبتَ فيَّ المؤلّفُ الموسيقيُّ تلكما العينين البُنيّتين الصاخبتين اللتين هما عينيه ورجّني بقوله، في نبرةٍ لم تكن- على الأخصِّ- نبرة توبيخ:- "قد سمعتُ بأنّك انتظرتَ الممرضة وسألتها عن زائري من السّماءْ.   إنّكَ، في الحقِّ، تأخذ عملك مأخذ الجّدِّ!"...

 

في تلك الظهيرة استقللنا ذات القطار إلى الاتجاه المعاكس وقضينا نصفَ ساعةٍ في الريفِ حيث زرنا منتزهاً عامّاً للملاهي كائناً على ضفافِ نهرِ تاما.   جرّبنا هناكَ كلَّ أشكالِ الرّكوبْ.   من حسنِ حظّي، آنذاكَ، أنّ الطفل الذي هو بحجم الكانقارو قد هبطَ من السماءِ، لزيارةِ "د"، حينما كان "د" وحيداً، بغير رفقتي، في مراكب السماء: تلكم الصناديق الخشبية المماثلة في شكلها لمراكبٍ تصعدُ، ببطءٍ، إلى الهواء، على شفراتِ شيءٍ مثل طاحونة الهواءْ.   فمن حيث مقعدي على الأرض رقبتُ المؤلف الموسيقيّ وهو يتحدثُ مع مسافرٍ خياليٍّ على جانبِهِ.   وقد رفض "د" أن ينزلَ أسفلاً حتّى صعد زائرهُ عائداً إلى السّماءْ.   وفي ما بين الفينة والأخرى كانت إشاراتٌ منهُ، حينذاك، تُرسلُني راكضاً كي أبتاع له تذكرةً أخرىْ.  

 

ثمةُ واقعةٍ أخرى تركتْ فيَّ انطباعاً في ذاك اليوم.   تلك قد حدثت آنما كنا عابرَيْنَ ساحةً منتزه الملاهي باتّجاهِ مخرجِها.   فلقد خطا "د" حينذاكَ، دونَ قصدِ، على إسمنتٍ رطب.   لكنه حينما رأى أنّ قدمهُ تركتْ انطباعاً هناكض غداً متضايقاً على نحوٍ غير طبيعي.   رفض، بعنادٍ، أن يتحرك بعيداً عن البقعة التي خطا عليها حتى تفاوضتُ أنا مع العاملين هناكَ، ثم دفعتُ لهم مالاً مقابل جُهدهم في إزالةِ الإنطباعِ الذي تركتهُ قدمه على البقعةِ إيّاها.   كان ذلك هو الحين الوحيد الذي أظهر لي فيهِ المؤلف الموسيقي أقلَّ عنفٍ ممكنٍ في طبيعته.   في طريق العودة إلى المنزل برّر المؤلف الموسيقي ما بدر منه على النحو التالي:- "أنا ما عدتُ أعيشُ في الزمنِ الحاضرِ- على الأقلِّ ليس عن وعي.   هل تعرف القانون الذي يحكم الرحلات إلى الماضي في آلةٍ للسفر عبر الزمان؟   على بيل المثال، إن يرتحل رجلٌ بمقدارِ عشرةِ آلافٍ مضينَ من السنينِ سيكون غير مجترئ على فعل أيّ شيء قد يُخلّفهُ وراءه في عالم ذاك الزمان الماضي.   ولأنه لا يعيش في الزمان الذي مضى قبل عشرةِ آلافٍ من السنينِ فإنّ أيّ شيءٍ قد يخلّفه وراءه هناك سيؤدي إلى نشوء غلالةٍ بينه وبين كلّ التاريخ الذي مضى منذ ذلك الزمان (غلالة بامتدادِ عشرةِ آلافٍ من السنين).   قد تكون الغلالة إياها خفيفة وتكاد لا تكون هناك، بيد أنها تظل غلالة في غاية الأمر.   هذه هي الطريقة التي يشتغل بها القانون الذي ذكرت.   وبما أنني لا اعيش في الزمان الحاضر فإنني لا ينبغي لي أن افعل أيَّ شيءٍ ٍقد يبقى في هذا العالم أو يُخلّفَ فيهِ انطباعاً".   (ربما كان سبب هذا التبرير هو ندمه على نباحه في وجهي).  

 

"لماذا كففتَ عن العيِ في العالمِ الحاضر؟"   سألته.   لكنه التف على نفسه بإحكام مثل كرة جولف وتجاهلني.   ندمتُ على انزلاقِ لساني.   قد تجاوزتُ، أخيراً، الحدود المسموحة لي لأنني كنتُ شديدَ الإنشغال بمشكلة "د".   ربما كانت الممرضة على حق في قولها إن التظاهر بالبلادة هو السبيل الوحيد للتعامل مع حالة "د".   أنا ما استطعتُ، من بعد ذلك، أن أغامر بالتدخل في شؤونه.   لذا قررت ألا أفعل ذلك.  

 

تجولنا عدة مرات، من بعد ذلك، حول طوكيو.   كانت سياستي الجديدة ناجحة.   لكنَ حيناً من الزمانِ أتى وغدت

فيه مشاكل المؤلف الموسيقي تورطني فيها، شئت ذلكَ أم أبيتُهُ.   فذاتَ نهارٍ ولجنا فيهِ، سويّاً، سيارةَ أجرةٍ- وكانت تلكَ أوّل مرةٍ نفعل فيها ذلك منذ أن قبلت العمل معه- ذكرَ "د" جهةً معينةً، منزلاً متغطرساً مصمّماً على طرازِ فندقٍ كائنٍ في مدينةِ ديا كان ياما.   حين وصلنا إلى ذاك المنزل انتظرني "د" في مقهى قائم في الطابق تحت السفلي من المبنى الذي بها ذاك المنزل- أو تلك "الشقّة"- فيما ارتحلتُ إليهِ وحدي، على المصعد، كي ألتقطَ رزمةً كانت تنتظرني هناك.   كانت زوجة "د" السابقة- التي كانت، آنذاكَ، تعيش لوحدها في ذلك المنزل- هي من عليهِ تسليميَ الرّزمةَ إيّاها.   طرقتُ باباً جعلني أفكذر في مربعات مباني الزنازين في سِنق سِنقْ (كنتُ دوماً أذهبُ إلى السينما في تلك الأيام.   عنديَ الآنَ إحساسٌ بأن خمسة وعشرين بالمائة مما عرفتُ واتاني، مباشرةً، من مشاهدة الأفلام).   فتحت لي الباب امرأة قصيرة ذات وجه أحمر ممتلئ علا عنقاً كان هو، أيضاً، ممتلئاً وعلى استدارة كاستدارة اسطوانة.   أمرتني بأن أخلع عني حذائي وأخطو إلى الداخل، ثم أشارت إلى أريكة بقرب النافذة كان عليّ أن أجلس عليها.   لا بدّ أن يكون ذلك هو النحو الذي تستقبل به الطبقات العليا من المجتمع الغرباء.   أتذكر الآن أنني فكرت كذلك ي ذاك الأوان.   وبموجب تفكير كذاك يكن رفضي أنا، ابن المزارع البسيط، دعوتها وسؤالي أن أسلّم الرزمة عند باب شقّتها (منزلها) شيئاً مستدعياً شجاعة متحدية لتقاليد مجتمع الطبقات اليابانية الراقية- شجاعة ذلك الجزار الذي هدد لويس لسادس عشر.   فعلتُ كما "أُمرت" وخطوتُ، للمرة الاولى في حياتي، إلى داخل شقة مُنشئةٍ على الطراز الامريكي.  

                        

صبّت لي زوجة المؤلف الموسيقي السابقة شيئاً من البيرة.   بدت، على نحوٍ ما، اكبر عمراً من "د".   ورغم أنّ إيماءاتها كانت مفخّمةً وصوتها منغّماً- عمداً- في آن الحديث إلا أنها كانت مستديرة وممتلئة غلى حد صعب معه على هيئتها أن تغدو وقورة.   كانت ترتدي ثياباً منشئة من قماش ثقيل ذاتَ بلوزة حافتها منفكة على هيئة زيّ امرأة متزوجة تنتمي إلى قبيلة من قبائل الهنود الحمر بأمريكا الشمالية.   أما قلادتها المنشئة من الجواهر المؤطرة بالذهب فقد بدت مثل عمل فني لحرفيٍّ من زمان حضارة الإنكا (لئن أفكر الآن في تلك الملاحظات أراها، أيضاً، فائحةً، بوضوحٍ، بما رأيت في الأفلام).   كانت نافذتها مطلة على شوارع شيبويا، لكنّ الضوء الذي كان متساقطاً، من خلالها، إلى داخل الحجرة، بدا مزعجاً لها بشدة إذ كانت مهتزة، باستمرا، على كرسيها ومظهرةً لي ساقين مكوّرتين ومحتقنتين بالدم مثل عنقها فيما هي مسائلة لي في صوت مدّع جنائي.   أظنني كنت المصدر الوحيد لمعلوماتها عن زوجها السابق.   وراشفاً بيرتي السوداء المرة وكأنها كانت قهوة ساخنة أجبتها بأفضل ما استطعت.   لكنّ معرفتي بـ"د" كانت شحيحة وغير رقيقة فما استطعنا إشياع فضولها.   ثم صديقة "د" الممثلة وعما إذا كانت تأتي لزيارته وأشياء من ذاك القبيل.   بيد أنني ما كان لديّ شيء أقوله هنا.   ومنزعجاً، ساءلت نفسي:- "أيّّ شأن لها كان ذلك؟   ليس لديها أي كبرياء نسائية؟"

-          "هل لا يزال يرى ذلك الطيف؟"

-          "بلى.   إنه طفل بحجم الكانقارو يرتدي معطفاً ليلياً قطنياً ويقول إن اسمه أقهوي.   ذاك ما كانت تحدثني به الممرضة.   قلت ذلك متحمساً ومسروراً من كوني في مواجهة سؤال بمستطاعي إجابته بإنصاف.   "ذاك الوحش يطفو، عادة، في السماء.   لكنه، أحياناً، ينزل، طائراً، إلى جانب "د"،   أضفتُ قائلاً.

-          "أو تقول "أقهوي"؟   ذاك ينبغي أن يكون شيح طفلنا الصغير الميت.   هل تعلم لماذا يدعوه "أقهوي"؟   سبب ذلك أن طفلنا ذاك تكلم مرة واحدة فقط حينما كان حياً، وهذا ما قاله:- "أقهوي".   إن تلك طريقة عاطفية رثة جداً يُسمي بها المرء الوحش الذي يزوره.   ألا ترى ذلك؟"   كانت المرأة تتحدث باستخفاف فيما يبلغني من فمها فوح قبيحٌ صدئْ.   "قد ولد طفلنا ذاك بحدبة على ظهر رأسه جعلته يبدو وكأن له رأسين.   شخّص الطبيب ذلك بأنه فتق في المخ.   حين سمع "د" بذلك النبأ قرر أن يجنب نفسه ويجنبني كارثة.   لذا تآمر هو والدكتور على اغتيال الطفل الصغير.   أظن أنهم أعطوه ماءاً مُسكّراً بدلاً عن اللبن، رغم كلّ صراخ احتجاجه على ذلك.   قد قتل زوجي الطفل لأنه لم يرد لنا أن ننوء بعبء طفل لا يستطيع أن يحيا إلا كما يحيا نبات- ذاك ما تنبأ به الطبيب!   إنه كان يتصرف بدافع أنانية فانتازية أكثر من أيّ شيءٍ آخر.   لكنّ الوفاة تلاها تشريح للجثة وعُلم أنّ الحُدبة ما كانت سوى ورمٍ غير مؤذٍ.   ذلك هو الوقت الذي بدأ فيه "د" يرى أشباحا.   هو، كما ترى، قد افتقر غلى الشجاعة التي احتاجها لكي يعضّد أنانيته، لذا تنازل عن أن يحيا حياته الخاصة، تماماً كما تنازل عن أن يدع الطفل الصغير يواصل الحياة.   هو- كما ترى- لم يرتكب فعل الانتحار، بل فقط هرب من الوقع إلى داخل عالمٍ من الطّيوف.   لكنْ إنْ تُلطّخْ يدا المرءِ بدمِ طفلٍ قتيلٍ لن يكن، ابداً، بمستطاع المرء أن يعيدهما نظيفتين كما كانتا فقط بالهروب من الواقع- أيّ إنسانٍ يعلم ذلك.   عليه هذا هو الآن:- يدان قذرتان أبداً بالدّم فيما هو لا يكفّ عن ترداد اسطوانته عن أقهوي".  

 

كانت قسوتها الناقدة صعبة الاحتمال عليَّ.   وشاعراً بواجب الرد عليها من أجل خاطر مخدِّمي التفتّ إليها- وكانت هي محمرّة الوجه، كما لم تكن من قبل، من جرّاء استثارتها لنفسها بفصاحتها الخاصة- ووجّهتُ ضربةً لصالح "د":- "أينَ كنتِ أنتِ حينما كان ذلك حادثاً؟   أنتِ أمّ ذاك الطفل، ألستِ كذلك؟"

 

-          "انا قد أجريت لي، آنذاك، عملية قيصرية.   وقد كنتُ، لأسبوعٍ من بعد ذلك، غائبة عن الوعي وفي حال حمّى شديدة.   حين أفقتُ من كلّ ذلك كان الأمر قد قُضِيَ".   كذلك قالت زوجة "د" السابقة فيما هي تاركةٌ قفازي الحديدي على البلاط.   ثم وقفت وتحركت باتجاه المطبخ:- "أظن أنّك بحاجة إلى مزيد من البيرة؟"  

-          "لا"، قلتُ، "قد أخذتُ كفايتي من تلك.   هلا أتيتني، من فضلك، بالحزمة التي من المفترض لي أن أذهب بها إلى "د"؟"

-          "سأفعل ذلك، بالطبع.   فقط دعني أغرغر فمي وحلقي.   ينبغي عليّ أن افعل ذلك كلّ عشر دقائق.   إنّه التهاب تجويف الاسنان.   ينبغي أن تكون قد لاحظت الرائحة؟"  

 

وضعت زوجة "د" السابقة مفتاحاً نحاسياً داخل مظروف رسمي وسلمته لي.   وفيما هي واقفة خلفي آنما كنت

أوثق رباط حذائي سألتني عن المدرسة التي كنت أذهب إليها، ثم قالت بزهو:- "سمعت بأنه ليس هنالك فرد واحد من سكان الداخليات هناك مشترك في صحيفة التايمز.   قد تكون مهتماً بأن تعلم أن أبي سيملك، قريباً، تلك الصحيفة".  

 

تركتُ الصمتَ يعبّر عن ازدرائي.

 

حينما كنت على وشك الدخول إلى المصعد نفذت سكّين الشّكِّ فيّ وكأنّ صدري قد انشِئَ من زُبدة.   كان عليّ أن أفكّر.   تركتُ المصعد يمضي وقررت أن أستعمل السلالم.   لئن كانت زوجة "د" السابقة قد وصفت حالته على نحو صحيحٍ أنّى لي، آنذاكَ، أن أكون متأكداً من أنه لن يرتكب فعل الانتحار بحفنةِ   سمّ سينايد أو أيِّ شيءٍ يُؤخذُ من صندوقٍ يِوُسعِ هذا المفتاح أن يفتحه؟   على كلّ السبيلِ إلى اسفل السلالم تساءلتُ عما يمكنني أن أفعله.   ثم كنتُ واقفاً أمام طاولة "د" دون أن أصل، حتى وقتذاك، إلى أيّ نتيجة.   كان المؤلف الموسيقي جالساً هناك بعينين مغلقتين بإحكام فيما شايه على الطاولة، لم يُمَسْ.   أظنّ أن رؤيته هنا، شارباً أشياء هذا الزمان ستشكل معنىً ما في حياته سيّما وأنه قد كفّ، الآنَ، عن العيشِ فيهِ وصار محضَ سائحٍ إليهِ من زمانٍ آخرْ.  

 

"قد رأيتها"، بدأت كلامي وقد اعتزمت- فجأةً- أن أكذب، "وكنا نتحدث خلال كل ذلك الزمان الي كنت معها فيه، لكنها لم تعطني شيئاً".            

 

نظر إليّ مخدّمي بسكينةٍ ولم يقل شيئاً، رغم أنذ الشّكّ قد ظلّلَ عينيه، الشّبيهتين بعيني جروٍ، في محجريهما العميقين.   كُنتُ، فيما نحنُ نستقلّ تاكسيّاً على سبيلِ العودةِ بيتِ مُخدِّمِيْ، جالساً، في صمتٍ، بجوارهِ.   كنتُ في حالِ قَلْقَلَةٍ سرّيّةْ.   ما كُنتُ متأكّداً ممّا إذا كانَ هو قد افتضحَ كذبتيْ.   كان المِفتاحُ ثقيلاً في جيبِ قميصيْ...   لكنني احتفظت به لمدة أسبوع واحد فقط.   ذلكم لأن فكرة انتحار "د" بدأت تبدو لي حمقاء، ثم أنني كنتُ، كذلك، منزعجاً من كونِ أنه قد يسال زوجته عن المفتاح، لذا وضعت ذاكَ في ظرفٍ مختلفٍ وأرسلته إليه بالبريد الخاص المسجل.  

ذهيتُ، في اليوم التالي، إلى منزل مخدِّمي وأنا منزعجٌ قليلاً فوجدته عند الفضاء المفتوح الكائن أمام المبنى الملحق وهو يحرق كومة من مسودّات مدوّنات موسيقيةْ.   لابدّ أن تلك كانت من تاليفه الخاص- ذلك المفتاح قد فضّ مغاليق موسيقى المؤلف الموسيقي.  

 

لم نخرج في ذلك اليوم.   فقد أعنت "د"، عوضاً عن ذلك، على حرقِ جِماعِ أعمالِهِ الموسيقيّة.   كنا قد حرقنا كلّ شيءٍ، ثم حفرنا حفرةً كنتُ أدفنُ فيها الرماد حين شرع "د"، فجأةً، في الهمسْ.   كان الطّيف قد تدلّى من السماءْ.   أما أنا فقد واصلتُ عملي ودفنتُ، ببطءٍ، ذلك الرماد إلى حينَ مضيّهِ بعيداً.   يقِي أقهوي، وحش السماء، في تلك الظهيرة، بقرب مخدّميلمدة عشرين دقيقة بالتمام والكمال (لا أظن أن أحداً هنا بمُنكرٍ أنّ ذاك الإسم (أقهوي) كان اسماً مُفرطاً في العاطفيّةْ).  

 

لابدّ أنّ المؤلف الموسيقي قد أدرك منذ ذلك اليوم، إذ رآني إما متّخذاً وضعاً جانبيّاً (طرفيّاً) أو متخلفاً وراءه كلما بدا له ذلك الطيف، أنني كنتُ منفّذاً فقط الأمر الأول من الأمرين الأصليين الذين أوصاني بهما- ذلك القاضي بألا أتصرف كالمنذهل عند مجيء الطيف إياه- فيما تجاهلتُ، بانتظامٍ، الأمر الثاني- ذلك الذي ينشدني بموجبه أن أسنده بشيء إيجابي وتوكيدي في آن ظهور الطيف المعني.   رُغم ذلك بدا المؤلف الموسيقي راضياً فجعل، بذلك، عملي أكثر يُسراً.   ما استطعتُ أن أصدّق أنّ "د" كان من ذاك النوع من الناس اللذين يسبّبون إزعاجاً لسواهم من الناس في الشارع العام.   كما وأن تحذير أبيه لي منه قد بدا لي، آنذاك، شيئاًُ لا داعي له، خصوصاً وأن سفراتنا معاً إلى طوكيو قد استمرتن حينذاك، بلا أحداثٍ سالبةٍ تذكر.   كنتُ وقتها قد اشتريتُ، كما رغبت، نسخة موسكو من الرواية الفرنسية الموسومة L`Ame` Enchante .   مع ذلك، ما عادت لديّ أيّ نيّة للتخلّي عن عملٍ رائعٍ كذاك.  كنتُ أنا ومخدّمي نذهب سويّاً غلى أيّ مكانٍ نشاؤهُ.   كان "د" راغباً في زيارة كل قاعات العروض الموسيقية التي أُدّيت فيها أعمالٌ له. ، كما وكلّ لمدارس التي تعلم فيها منذ طفولته.   كنا قد نقوم بزيارات خاصة لأماكن متّع فيها، ذات ماضٍ، نفسه وتنوعت ما بين باراتٍ، صالات عرض أفلام وأحواض سباحة داخل منازل.   لكنّا كنا، أيضاً، نؤوب من تلك الأماكن/المزارات دون أن ندلف إلى داخلها...   كانت لدى المؤلف الموسيقي عاطفةٌ شغوفةٌ بكلّ اشكالِ المواصلات العامة في طوكيو (أنا متأكد من انني قد جبتُ معه على كل مركبات المترو العاملة في نظام مواصلات عاصمتنا الكبيرة).   وبما أنّ الوحش-الطفل ما كان يستطيع الهبوط علينا من السماء آناء ركوبنا لقطارات الأنفاق كنتُ أنا غير مهدّد في سلامي الشخصي واستمتاعي باستقلال تلك القطارات.   طبيعياً، كنتُ، حينذاك، أتوتر في أيذ حينٍ نواجه فيه كلاب أو موظفين قانونيين إذ أتذكّر ما أخبرتني به الممرضة.   لكنّ تلك المواجهات لم تتّفق أبداً وأيّ ظهورٍ لأقهوي.   إكتشفتُ أنّني كنتُ شارعاً في حبّ عملي.   ذاك ليس يدل على حبي لمخدّمي أو للطفل-الشّبح الذي هو بحجم الكانقارو، بل هو يعني، ببساطة، حبّي لعملي.  

 

بادرني المؤلف الموسيقي، ذات يومٍ، بسؤالي أن أدبّرَ له رحلة.   قال إنه سيدفع لي مصاريف تلك الرحلة فيما يضاعف أجري اليومي.   ولأنني قد أكون، حينذاك، لابد لي من المبيت حيث ارتحلت ومن ثم لا أتمكن من العودة من هناك حتى اليوم التالي فإنني أكون، حينذاك، والحال كذاك، كاسباً أربع مرات قدر كسبي العادي.   ليس ذلك فحسب وإنما، كذلك، كان غرض الرحلة هو مقابلة الممثلة السينمائية، التي هي عشيقة "د" السابقة، في منزل "د".   وافقت، بتلهف، على العرض إذ أنني كنتُ مبتهجاً به.   بدأت تلك الرحلة الكوميدية المخزيةْ.  

 

كان "د" قد دلني على اسم وعنوان الفندق الذي أشارت له الممثلة السينمائية في رسالة حديثة له، كما وعلى التاريخ الذي كانت تتوقع وصوله فيه.   ثم حمّلني، من بعد ذاكَ، رسالة شفهية للفتاة.   إنّ مخدّمي لم يعد عائشاً في الزمن الحاضر.   إنّه مثل مسافرٍ وصل إلى هنا (الأرض) في آلةِ انتقالٍ عبر الزمان من عالمٍ يبعد عنّا عشرةَ آلافٍ من السنين المستقبلية.   عليه هو ما استطاع أن يسمح لنفسه بإنشاءِ وجودٍ جديدٍ ممهورٍ بتوقيعهِ خلال أفعالٍ مثلِ كتابةِ الرّسائلْ.  

 

كانت تلك هي رسالة المؤلف الموسيقي للفتاة.   حفظت تلك الرسالة عن ظهر قلب.   ثم صار الليل متأخراً وكنت أنا جالساً إزاء ممثلة سينمائية في بار تحت-أرضي لفندق بطوكيو فيما السانحة متوفرة لي كي أوضح لها، أولاً، لمَ لا يأتي "د" إليها بنفسه، وثانياً كي استميلها لاستيعاب مفهومه عن الزمان، وأخبراً كي أُوْصِلَ لها رسالته.   ختمتُ ذلك كلّه بقولي:- "يُريدكِ "د" أن تكوني حذرة من أن تخلطي بين طلاقه الأخير وطلاقٍ آخرٍ كان قد وعدكِ، ذاتَ مرّةٍ، بأنّه سيحصل عليهِ.   وبما أنه لم يعد يعش في الزمن الحاضر فإنه يقول إنه من الطبيعيّ، فحسب، أن أنه لن يراكِ مرّةً أخرى".   تحسّستُ لونَ وجهي.   كنتُ قد أحسستُ، آنذاكَ وللمرّةِ الأولى، بأنّي إزاءَ مهمّةٍ صعبةٍ حقّاً.  

 

-          "هل هذا ما يقوله الصّبيُّ "د"؟   ماذا تقول أنتَ فيهِ؟   بماذا تشعر تجاه كلّ هذا، خاصّةً وأنّك قد أتممتَ ابتعاثه لكَ وسافرتَ، من أجلهِ، عبر كلّ الطريقِ إلى طوكيو؟"

-           "بصراحة، أنا أعتقد أنّ "د" صائرٌ، الآنَ، إنساناً عاطفيّاً رثّاًً".  

-           "ذلكم ما هو عليه.   قد أقولُ إنّهُ يبدو إنساناً عاطفيّاً شديد الركاكةِ معكَ أنتَ، كذلكَ، إذ يسألكَ أن تُسدي إليهِ هذا النوع من الصّنيع!"

-           "أنا مُخدّمٌ لديهِ.   أنا يُدفَعُ لي، يومياً، ثمنُ ما أفعلُهُ".

-           "ماذا أنتَ شاربٌ هناك؟   خُذْ بعضاً من البراندي".  

 

فعلتُ ذلك.   وقد كنتُ قبلهُ شارباً ذاتَ النّوعِ من البيرةِ الثخينةِ الغامقةِ اللونِ التي قد أعطتني إياها زوجةُ "د" السابقة ومزجتها بمحتوبات بيضة حتّى تُرقّقها.   بفعل انعطافةٍ غريبةٍ لكرةِ بليارةٍ سايكولوجيّةٍ كنتُ قد تأثّرتُ بذكرى مرتبطةٍ بشقّةِ زوجةِ "د" السابقةِ آنَ ما كنتُ منتظراً مقابلة عشيقته.   كانت الممثلة السينمائية شاربةً البراندي طوال الوقت.   كان ذلك أول براندي مستورد شربتُهُ في حياتي.

 

-          "وماذا عن كل ذلك الكلام عن رؤيةالصبي "د" لشبح، لطفل بحجم الكانقارو؟   ماذا تسمونه؟ راغبي؟"

-           "أأقهوي!   إن الطفل قد تحدث مرة واحدة فقط قبل وفاته وذلك ما قاله".

-           "وقد فكر "د"، آنذاك، أن الطفل كان بُحدثه باسمه؟   هل ذلك ليس "عزيزاً"؟   لئن كان ذلك الطفل عاديّاً، كغيره من الأطفال، لكنا، الآن، قد مضينا فيما سبق واعتزمناه ولكان "د" قد حصل على الطلاق من امرأته تلك وتزوجني أنا.   إن اليوم الذي ولد فيه ذاك الطفل كان مُتّفقاً وليلة ً كنا فيها معاً على سريرٍ واحدٍ بحجرةٍ في أحد الفنادق حيث كانت هنالك محادثة تلفونية عرفنا، على إثرها، أنّ شيئاً فظيعاً قد حدث.   قفز "د"، آنذاكَ، من السرير وذهب، مباشرة، إلى المستشفى.   لم يحادثني بكلمةٍ واحدةٍ منذ...."....   أنزلت الممثلة السينمائية البراندي، دفعةً واحدةً، في جوفها، عاودت ملء كأسها لحافته من زجاجةِ براندي من نوع هينيسي قائمةً عند الطاولة وكأنها كانت صابّةً لعصيرِ فاكهةٍ، ثم أفرغت كأسها مرَّةً ثانية.  

 

كانت طاولتنا مخفاةً من البارِ بعلبة عرضٍ ملآنةٍ بالسجائر.   ومدلاً من الحائط فوق كتفي كان هنالك بوستر ملون ضخم عليه صورة الممثلة.   ذلك كان مُلصقاً إعلانياً لأحدِ أنواعِ البيرةِ وقد التمع الوجه عليه التماعاً ذهبيّاً ليس أقلّ من التماعِ البيرة.   لم تكن الفتاة الجالسة إزائي مُبهرةً كذاك، بل كان جبينها متغضناً، بوضوحٍ، في ما تحت خط الشعر، وكان التغضّن إياه يبدو عميقاً بما يُكفي لاحتواءِ إبهامِ رجلٍ راشدْ.   لكنّ ذاكَ كان، بالضّبط، العيب الذي جعلها أكثر جاذبية من صورتها...   ما استطاعت أن تُخلي عقلها من شأنِ ذاكَ الطّفلْ.  

 

-          "أنظر، أليس هو أمرٌ مفزعٌ أن تموتَ دونَ ذكرياتٍ أو تجاريبٍ لأنّك ما فعلتَ أيَّ شيءٍ إنسانيٍّ آنَ ما كنتَ حيّاً؟   ذلكم ما قد يكون عليه امرك إن أنتَ مِتَّ طفلاً رضيعاً.   أليس ذلك مفزعاً؟"

-           "ليس لطفلٍ رضيع.   لا اتخيل ذلك"، قلتُ باحترامٍ وتأدّبْ.  

-           "لكن فكّر بشأن العالم بعد الموت!"

 

كان منطق الممثلة السينمائية ملآناً بالقفزات.

 

-          "العالم بعد الموت؟"

-           "إن يكن هنالك شيء كلك فغن أرواح الموتى ينبغي أن تحيا هنالك بذكرياتها طوال الأبدية.   لكن ماذا عن روحِ طفلٍ رضيعٍ ما عرف، أبداً، أيَّ شيء وما كانت له أيُّ تجاريب؟   أعني أيُّ ذكرياتٍ يُمكن لمثل ذاك الرضيع أن تكون؟"

 

لم أحر جوّاباً لذلك.   لذا شربتُ كأس البراندي في صمت.  

 

-          "أنا خائفة من الموت بصورة فظيعة.   لذا أنا أفكّر فيه دوماً.   ليس لكَ أن تكونَ قرفاناً من نفسك لأنَّكَ ليست لديكَ إجابةٌ سريعةٌ لي.   لكن، أوتدري ما الذي أفكّرُ فيهِ؟   إنّ ما حدث هو أن الصبي "د" قد قرّر، في الدقيقة التي مات فيها ذلك الطفل، ألا يُنشئَ لنفسهِ أيّ ذكرياتٍِ جديدةْ.   ذلكم كأنما هو قد مات أيضاً.   ذلك هو السبب الذي جعله يكفّ عن العيش، كما تعلم، بصورة إيجابية، أي في الزمان الحاضرْ.   أنا أراهن على أنّه، الآن، يدعو ذلك الطفل الشّبح إلى النزول إلى الأرض والظّهور في كافّة أرجاء طوكيو حتّى يُنْشئَ لهُ ذكرياتٍ جديدةْ!"

 

لحينٍ فكرت بأنها ينبغي أن تكون على حق.   إن هذه الممثلة السينمائية المفرطة في السكر والتي لديها انبعاج في جبهتها اتساعه كافس لاحتواء إبهامٍ لسايكولوجيّةٍ أصيلة- هكذا فكّرتُ لنفسي.   ثم إنها- هكذا أوغلتُ في التفكير- مُناسبةً لطبيعةِ "د" وطرازه أكثر من ابنة بارون الصحافة القصيرة الممتلئة ذات الوجه الشبيه بالطماطم.   هكذا فكّرتُ.   ثم تحقّقتُ، فجأةً ودون مقدّمات، من أنني، رغم وجودي الآن هنا في طوكيو وثمة مئات من الأميال بيني وبين "د"، كنتُ أنا، مثال المُخدَّم المخلص، أفكّر، حصراً، في "د".   ليس ذلك فحسب وإنما هنالك شيءٌ آخرٌ أيضاً.   ذلكم هو الطيف-الشبح الذي يظهر لـ"د".   قد اكتشفتُ، آنذاكَ، أنّ الطفل/الشّبح الذي طالما انتظرتُ، بعصبيّةٍ، ظهوره في كلّ حينٍ ذهبنا فيهِ، أنا ومخدّمي، في جولةٍ خارج بيته لم يغب عن واعيتي ولو لدقيقةٍ واحدةْ.  

 

كان الوقت ميعاد إغلاق البار ولم تكن لديّ حجرةٌ مخصّصةٌ بالفندق.   ثم أنّين رغم عمري الطويل نسبياً هذا، ما سكنتُ يوماً بغرفةِ فندقٍ وما عرفتُ شيئاً عن كيف تُحجز الغرف فيه.   لكن الممثلة السينمائية كانت، لحسن الحظ، معروفةً بالفندق فحصلتُ، بوساطةِ كلمةٍ منها، على حجرة.   استقلّينا المصعد معاً، ثم شرعتُ أنا، من بعد ذلك، في النزول عنه حينما وصل إلى الطابق الذي حُجزتْ لي فيه الحجرة إيّاها.   لكنّ الممثلة السينمائية اقترحت عليّ، آنذاكَ، مشاركتها شراباً واحداً أخيراً، ومن ثمّ دعتني إلى حجرتها.   كانت تلك هي اللحظة التي صارت بعدها ذكريات ذلك المساء كوميدية وآسية معاً.   بعد أن أجلستني على كرسي عادت الممثلة السينمائية إلى الباب ونظرت إلى أعلى وأسفل الديوان، ثم مضت خَلَلَ سلسلةٍ من الحركاتِ العصبيةِ، ارتمت على السرير كأنّما كانت هي ممتحنةً الزّنبركات (اليايات)، أضاءت أنوار الحجرة ثم أطفأتها ثانيةً، ثمّ فتحت، قليلاً، صنبور المياه في الحمّامْ.   صبّت لين من بعد ذلك، البراندي الذي وعدت، وراشفةً لنفسها شيئاً من الكوكاكولا حكت لي عن رجلٍ آخرٍ كان يتودد إليها آناءَ علاقتها الغراميّة مع "د"، الشيء الذي انتهى بها إلى النومِ معهُ وإلى أن يصفعها "د" صفعةً كانت من الشدة بحيث أن أسنانها ترجرجت في فمها.   ثم سألتني عما إذا كنتُ أظنُّ أنّ طلاب الكليات الجامعية اليوم يستجيبون لغواية "التّدليل الشّديد"؟   "ذلكم يعتمد على طبيعة الطالب المعني"، قلت لها.   فجأةً تحوّلت اللممثلة السينمائية إلى أمٍّ تُوبّخُ طفلاً على بقائه مستيقظاً لوقتٍ متأخّرٍ من االليل ومن ثمّ انثنت تُخبرني بأن أذهب إلى غرفتي الخاصة وأنام.   تمنّيتُ لها ليلة سعيدة، نزلتُ السلالم إلى غرفتي، ثم نمتُ حالاً.   صحوتُ عندَ الفجرِ ونارٌ شابّةٌ في حلقي.  

 

كان الجزء الأكبر كوميديّةً وأسىً، من الحكايةِ، ما يزالُ آتياً.   فهمتُ، في اللحظةِ التي فتحتُ فيها عينيَّ، أنّ الممثلة السينمائية قد دعتني إلى حجرتها بنيّةِ التمهيدِ لإغواءِ طالبِ كليّةٍ كان مفتوناً بأن يُدلّلَ ويُلاطفَ بسخاءْ.   ومع ذاك الفهم واتاني حسُّ الغيظِ والرّغبةِ المّسْتّذّلّةْ.   ما كنتُ قد نمتُ، بعد، مع امرأةٍ؛ لكنّ ذاكَ الإذلالَ تطلّبَ منّي هجوماً مضادّاً.   كنتُ سكراناً بما يجب أن يكون شرابي الأول من صنف البراندي المسمّى هينيسي أ س و ب، كما وكنتُ مُنفكّاً من عقالِ وعيي بفعلِ ذلك النّوع من الرغبة المُسمّمة التي تتماشى وكون عمر المرء ثمانيةَ عشرةَ عاماً.   كانت الساعةُ ما تزالُ الخامسةَ صباحاً، ولم تكن هناكَ علامةُ حياةٍ في الدهاليزْ.   هرعتُ، آنذاكَ، مثلُ فهدٍ مثميّزٍ من الغيظِ، إلى بابها بقدمين مبطّنتينْ.   كان ذاكَ منفرجاً قليلاً فولجتهُ ووجدتها قاعدةً عندَ مرآةِ الزّينةِ وظهرُها يواجهني.   وزاحفاً، مباشرةً، إلى ما ورائها اندفعتُ إلى عنقها بكلتي يدي.   استدارت إليّ الممثلة السينمائية وابتسامةٌ عريضةٌ على وجهها.   كانت ناهضةً عندما بدأت تستديرُ إليَّ، ثم ضمّت يديَّ إلى يديها وأخذت تأرجحهما عالياً وسافلاً، بسرورٍ، كأنما كانت هي مرحّبةً بضيفٍ كانت تقولُ له بصوتٍ مُترنّمٍ:- صباح الخير!   صباح الخير!   صباح الخير!   وقبل أن أدركَ ما أنا فيه كنتُ قد أجلِسْتُ على كرسيٍّ وكنّا نتقاسم خُبزَها المُحمّص وقهوتها الصباحيّة ونقرأَ الصحيفةَ معاً.   بعد هنيهةٍ قالت لي الممثلة السينمائية بنبرةِ صوتٍ ربما كانت تستعملها، بذاتها، لتتحدّث عن الجّو:- "أنتَ كنتَ تُحاولُ، قبل وهلتينَ فحسب، أن تغتصبني، أليسَ كذلك؟!"   عادت، من بعد ذلك، إلى شأنِ زينتها وانثنيتُ أنا من هناكْ هارباً، أسفل السلالم، إلى حجرتي حسث اندفنتُ في سريري وأنا مرتعشٌ وكأنّي قد أُصبْتُ بالملاريا.   كنتُ خائفاً من أنّ تقريراً عن هذا الحادث قد يصل إلى "د".   لكنّ مَسألةَ اللممثلة السينمائية تلك لم يُرجع إليها قطُّ من بعدِ ذلكَ فيما استمررتُ أنا في الاستمتاعِ بأداءِ عملي.  

 

ثمذ جاء الشتاء.   كانت خطتنا، في ذلك النهار، أن نتجوّل، بدرّاجتين، خَلَل شوارع المساكن المجاورة لمنزل "د" والحقول المحيطة بها.   كنتُ راكباً درّاجةً صدئةً قديمةً فيما استعار مخدّمي دراجة الممرضة الجديدة اللامعة.   تدريجيّاً وسّعنا قطرَ دائرةٍ حولض منزلِ "د" ومضينا، بدرّاجتينا، إلى داخل مُنشأةٍ سكنيّةٍ جديدةٍ وحاذينا جبالاً نزلنا عن ناحيتها متّجهينَ إلى الحقولْ.   كنّا عرقانينَ، مُسْتَلَذّيْنَ بحسِّ التّحرّرِ، ثمّ مثنتعِشَيْنَ أكثرَ فأكثَرْ.   أقولُ "نحنُ" وأُضمّنُ "د" فيها لأنّهُ، في ذاكّ النّهارِ، كان "د"، كشأني أنا، جليّاً في ارتفاعِ روحهِ المعنويّةْ.   كان منتشياً لدرجة أنه كان يصفّر لحناً من سوناتا لباخ تُعزف على الفلوت والقانون مسمّاة سيسيليانا.   تيسر لي أن أميّز ذاك اللحن لأنني كنتُ، في المدرسةِ الثانويةِ العليا، أعزفُ الفلوت.   ما عرفتُ، أبداً، كيف أعزفهُ جيّداً، لكنني طوّرتُ لنفسي عادةَ إبرازِ شفتي العليا خارجاً مثلما يفعل حيوان التّابيرا (من فصيلة الوعل).   طبيعيّاً، كان لديّ أصدقاء أصرّوا على أنّ علّةض ذلكَ هي سنّي الشّبيهة بسنِّ الوعل- لكنّ الحقيقة تبقى وهي أنذ عازفي الفلوت كثيراً ما يبدون، في مرآهم، مشابهين لحيوان التابيرا.  

 

فيما نحن سائقينَ درذاجتينا على الشّارعِ التقطتُ ذاكَ النّغمَ وبدأتُ أُصفّرُهُ مع "د".   إنّ سيسيليانا لسوناتةٌ ذاتُ موضوعٍ متّصلٍ وفخيمْ.   لكنّني كنتُ منقطع النَّفس من سياقةِ الدّرّاجةِ وظلّ صفيري يسقط في هسيسٍ هوائِيْ.   مع ذلكَ، ما كفّ تنغيمُ "د" لها عن أن يكونَ على تمامٍ، متّصلاً بكمالٍ وانسيابٍ مطلقينْ.   توقّفتُ، حينذاكَ، عن لصفير، خَجِلاً من الاستمرارِ فأرسل إليّ المؤلفُ الموسيقيُّ لمحةً من عينيهِ- فيما كانت شفتاهُ ما تزالان مُطبقتَين على صفيرٍ فجعلهما ذلكَ أشبه بسمكةٍ بحريّةٍ جعّدتْ فمَها لتتنفّسُ- وابتسمَ ابتسامةً رائقةْ.   مع التسليم بأن هناك فرقاً في في طبيعة الدراجتين يظلّ، مع ذلك، كونُ أنّ طالباً بلغ من العمرِ ثمانيةَ عشرةَ عاماً يبدأ في الإحساسِ بالتّعبِ وانقطاعِ النّفَسِ إزاءَ مؤلّفٍ موسيقيٍّ بلغ عمره ثمانية وعشرين عاماً فصار، بذلكَ، رجلاً ’صغيراً‘ (ومريضاً فضلاً عن ذلك) شيئاً غيرَ طبيعيٍّ ومثيراً للرّثاء (ولا يشفع لذاك الطالب، آنذاكَ، كونُهُ هزيلاً في الحجمِ إذ أنّه يُعوّضُ ذلكَ باتّصافِهِ بالطّولْ).   ذلكم، لعمري، غير منصفٍ ومثيرٍ للحنق الشّديدْ.   هكذا فكّرتُ فغامَ مِزاجي في الحالِ وشعرتُ بالقرفِ من عملي كلّهِ.   عليهِ وقفتُ، على حين غرّةِ، على بدّالاتِ دراجتي وأسرعتُ بها بعيداً بهياجِ وصخبِ متسابقٍ على درّاجةْْ.   غامرتُ، فوقَ ذلكّ، بالإنعطافِ، عمداً، إلى ممرِّ حصىً ضيّقٍ كائنٍ بينَ حقلَيْ خُضرواتْ.   حين نظرتُ، بعد دقيقةٍ، إلى ما ورائي رأيتُ مُخدِّمي منحنياً فوق مِقودَي الدّرّاجةِ فيما رأسه الضّخمةُ المستديرةُ مومئةٌ فوقَ كتفيهِ الضيّقتينْ.   كانَ يخُضُّ الحصى تحت عجلاتِ درّاجتِهِ إذ ينهمِكُ في مطاردةٍ محمومةٍ لي.   انزلقتُ، بانسيابٍ، على الدّرّاجةٍ، حتّى توقّفتْ.   نكأتُ قدماً على سياجِ السلوكِ المسنّنةِ الذي كان واسماً لحدودِ الحقلِ وانتظرتُ "د" حتّى يلحقْ بي.   كنتث قد شعرتُ، آنذاكَ، بالخجلِ من طُفوليَّتِيْ.  

 

وفيما رأسه ما تزالُ مرتجّةً كان مخدّمي يقتربُ منّي بسرعةْ.   حينذاكَ أدركتُ أنّ الطّيفَ كان معهُ.   كان "د" منطلقاً بدرّاجته على الطرف اليساري الأقصى لممرّ الحصى فيما وجهه منعرجٌ إلى اليمين بحيثُ كان، بالكادِ، ناظراً فوقَ كتفِهِ اليُسرىْ.   كان السبب في كون رأسه كان يبدو مرتجّاً هو أنه كان هامساً بكلامِ تشجيعٍ لشيءٍ ما كان راكضاً، أو ربما طائراً، بحُذاءِ الدّرّاجةْ.   كان مثل مدرّبِ سباقِ ماراثون يجاري خطواتِ واحدٍ من الراكضينَ في فريقهِ.   أَهْ، إنّه يفعلُ ذلك بناءاً على فرضيّة قياسية مؤدّاها أنّ أقهوي كان، آنذاكَ، مُبارياً لدرّاجتِهِ المُسرعةِ حذواً بحذو.   هكذا فكّرتُ.   ثمّ أضفتُ أنّ ذلك الوحش الذي هو بحجم الكانقارو، ذاك الطفل السمين المضحك الهيئة واللابس معطفاً قطنيّاً ليلياً كان دابّاً بالرّكضِ- مثل كانقارو- على طولِ ممرّ الحصى ذاكْ.   انتفضتُ، آنذاكَ، ركلتُ سياج السلوك المسنّن وسقتُ الدّرّاجةَ، ببطءٍ، بعيداً فيما كنتُ مرتقباً مُخدِّمِي، والوحش الذي كان في خياله، أن يلحقا بي.  

 

لا تظنوا أني قد سُقتُ نفسي، شيئاً فشيئاً، إلى أن تؤمن بوجود أقهوي.   فأنا قد عملتُ بنصيحةِ الممرضةِ وأقسمتُ بألا أفقدُ رؤيتي لمرساةِ حسّي المشترك كما يحدثُ في تلك الكوميديات الساخرة الصاخبة، والرصينةُ قليلاً، حين، على سبيلِ المثالِ، يصيرُ الحفيظونَ على بيتِ المجانينِ مجانينَ.   بازدراءٍ واعٍ، إذاً، كنتُ أفكّرُ في نفسي، حينذاكَ، بأنّ المؤلّفَ الموسيقيَّ العصابيَّ كان، حينذاكَ، مُجرّدَ ممثّلٍ مهرّجٍ يؤدّي دوراً استعراضيّاً بدرّاجتِهِ فقط لكي يتّبِعَ كذبةً قالها لي ذاتَ مرّةْ.   كم هو مُتعبٌ لنفسهِ في ذاك!   بكلماتٍ أُخَرٍ، كنتُ أنا متّخذاً مسافةً طبيَّةً بيني وبين وحش "د" الطّيْفِيْ.   لكن رغم ذلك كلّه اعتراني تغييرٌ غريبٌ في حالتي العقليّة.....   ذلكم بدأ كما يلي:- لحق بي "د" أخيراً وكان يسوقُ درّاجتهُ على مبعدةِ أقدامٍ قليلةٍ ورائي حين، مثلما انفجارُ سحابةٍ، أُحِطْنَا، على حينَ غرذةٍ وبلا مفرٍّ، برنينِ نُباحِ فرقةٍ من كلابِ الصّيدْ.   نظرتُ إلى أعلى فرأيتُهُم يتسابقونَ باتّجاهي على ممرِّ الحصىْ.   كان أولئك أكثر من عشرة من كلاب الدوبرمان الشابة عن الطوق راكضين على مسافةِ قدمين فوقي وقد جرى خلفها رجلٌ متزيٍّ بأبرولٍ وعلى إحدى يديه حزمةٌ من السياطِ الجّلديّةِ السوداء الرفيعةْ.   ربما كان ذاك الرجل مطارداً الكلاب، أو ربما كانت الكلاب جارّةً إيّاهُ وراءها.   سوداءَ مُدْلَهِمَّةً كانت تلك الكلابُ، بارقةً مثلَ عجولِ بحرِ رطبةٍ وعليها غبارُ شوكولاتةٍ ناشفةٍ على صدورها وفِكاكِها وأوراكها النّابضةِ كمضخّاتْ.   أنزلت علينا، تلكُم الكلابُ، عواءَها، مالئةً بهِ ممَرَّ الحصى ومتوثّبةً للهجومِ بميلانٍ إلى الأمامِ بدتْ معهُ وكأنّها على وشكِ أن تنقلبَ على خراطيمها المُزبِدَةْ.   كان هنالكَ مرجٌ على الناحيةِ الأخرى من الحقلْ.   لابدّ أنّ الرّجلَ المتزيِّ بالأبرول قد كان مُدرّباً للوحوشِ إيّاها هناك وهو الآن على سبيلِ العودةِ، برفقتِها، إلى بيتِهِ.  

 

مُضّطرباً بالخوفِ، نزلتُ عن درّاجتي ومسحتُ، بناظريَّ، في قنوطٍ، الحقل الذي كان كائناً عند الجّهةِ الأخرى من السّياجْ.   اقتربتْ سلوكُ سياجِ السّلوكِ المُسنَّنَةِ من صدري.   ربما قد كانت عندي، حينذاكَ، فرصةً للفرارْ.   لكنّني ما كنتُ، أبداً، سأكونُ قادراً على أن أدفعَ بالمؤلّفِ الموسيقيِّ عالياً إلى حيثُ الأمانِ عندَ الناحيةِ الأخرىْ.   كانت سمومُ الرّعبِ قد بدأتْ تُخدّرُ رأسي.   لكنّني، للحظةٍ جليّةٍ واحدةٍ، كنتُ رائياً للكارثةِ التي كانت لازمةَ الوقوعِ في ثوانٍ قليلةْ.   وفيما كانت كلابُ الدّوبرمان تقتربُ كنتُ أظنُّ أنّ "د" قد يحسُّ بأنّ أقهوي كان مُهاجَمَاً بفرقةٍ من الكلابِ التي يخشاها أشدَّ الخِشْيَةْ.   كما وكنتُ أحسُّ، كذلكَ، بأنّ "د" ربّما يسمع، حينذاك، بكاء الطفل المرتعب.   من المؤكد، إن كان ذلك قد حدث، أن يصطدم "د" بالكلاب مباشرةً، دفاعاً عن طفلِهِ.   آنذاك قد تُمزّقه كلاب الدوبرمان إرباً إربا.   أو ربما هو يحاول، حينذاك، أن يهرب بالطفل بعيداً فيشبُّ، بتهوّرٍ، عالياً فوق السورِ لكنّه يُمزّقُ، بذاتِ قسوةِ الكلابِ، شرَّ مُمَزَّقٍ.   كنتُ مهزوزاً بالشّفقةِ إزاءَ ما كنتث مُدركاً انذهُ سيحدُثْ.   وفيما وقفتُ هناكَ، منبهتاً ومُسْقَطَاً في يدي، كانت تلك الشياطين العملاقة، السوداء والشوكولاتية، تُضيقُ علينا خِناقها فيما هي متوثّبةً في الهواءِ بمخالبها الفظيعةْ.   كانت- آنذاكَ- شديدةَ الإقترابِ منّا بحيثُ أنّي كنتُ أستطيعُ سماعَ مخالبها الرخاميةَ قارعةً الحصىْ.   فجأةً عرفتُ انّني لا أستطيعُ فعلَ شيءٍ لـ"د" وطفله.   ومع تلك المعرفة صرت رخواً وخانعاً مثل منحرفٍ جنسيٍّ حينما يُحاطث بهِ في ممرٍّ تحتِ-أرضيٍّ، ثمّ ابْتُلِعْتُ كاملاً في ظُلمةِ خوفيْ.     تزحزحتُ عن ممرّ الحصى حتى صار السّلكُ المُسنّنُ ناراً على ظهري وجرجرتُ درّاجتي وأقمتُها أمامي وكأنّها كانت جداراً، ثمّ أغلقتُ عينيّض بإحكامْ.   رشقتني رائحةُ عطَنِ حيواناتٍ كانت مصحوبةً بعواءِ الكلابِ ودبيبِ أقدامها وكنتُ شاعراً بالدّموعِ مُنسربَةٍ عبرَ جفنَيَّ.   اسلَمْتُ نفسِيْ لموجةِ خوفٍ فكسحتني معها بعيدا....

 

على كتفيَّ كانت هُنالكَ لمسةُ يدٍ لطيفةٍ كجوهرِ اللّطافةْ.   شعرتُ كأنّما كان أقهوي يمُسَّنِيْ.   لكنني أدركت أن ذاك كان مخدِّمي.   كان قد أخلى سبيلاً لتلك الكلاب الجهنمية كي تمرّ وما حلّت به كارثةٌ من خوفْ.   واليتُ بكائي، على كلٍّ، فيما كانت عيناي مغمضتين وكتفيَّ يعلوان ويهبطان.   كنتُ أكبرَ عمراً من أن أبكي أمام أناسٍ آخرينْ.   أظُنُّ أنّ صدمةَ ذاك الإرتعاب قد بعثت في نفسي شيئاً من النّكوص إلى عهد طفولتي الأول.   حين كففتُ عن البكاءِ ذهبنا، مثل سجينين في معسكرِ تجميعٍٍ، بدرّاجتينا، عبر سياجِ السّلوكِ المُسنّنِ ذاكَ، إلى المرج ِ الذي هو وراء الحقلِ حيث كان هناك غرباء يلعبون الكرة ويمرّنون كلابهم (ما عاد "د"، آنذاكَ، مشغولاً بأمر أقهوي.   لابد أن الطفل قد غادر حينما حينما كنتُ باكياً).   كنّا صامتين ورأسينا مُدلاتين.   بسطنا الدرّاجتينَ على الأرضِ وانبطحنا على العشبْ.   كانت دموعي، آنذاكَ، قد جرفتْ عنّي بعيداً كلّ تظاهراتي وروح التمرد والظن الضليل اللذين كانا بقلبي.   ما كان "د"، كذلكَ، مُحترِزَاً منّي.   رقدتُ على العشبِ بظهري وضممتُ يديَّ تحت رأسي.   كنتُ خفيفاً وجافّ المقلتين بعد كلّ ذاك البكاء.   ثمّ أغمضتُ عينيَّ وأصغيتُ، بهدوءٍ، فيما نظر "د" إليَّ سافلاً وذقني على يدهِ وحدّثني عن أقهويْ.  

 

"هل تعرفُ قصيدةً تُدعى العار كتبها شويا ناكاهارا؟   اصغْ إلى مقطعها الثاني:- إنّ السماءَ آسيةٌ/ عاليةٌ حبثُ فروعُ الأشجارِ تتشابكُ،/تغُصُّ بأرواحِ أطفالٍ ميّتين/ رمشتُ عينيَّ ورأيتُ/، فوقَ الحقولِ البعيدة،ِ /قطيعاً يَحْتَبِِكُ حُلُمَاً حول بعضِ الثّديّياتِ المنقرِضاتْ"..

 

"ذاكَ الوجهُ من عالمِ الطفل الميت"، واصل "د" حديثه، "أنا أراهُ.   ثمةُ نقوشٍ لوليم بليك أيضاً، خاصّةَ ذاك الذي يُدعى المسيحُ برفُضُ وليمةً مُنِحَتْ من قِبَلِ الشّيطان.   هل رأيتَ، أبداً، ذاكَ النّقش؟   هنالكَ، كذلكَ، نقشٌ آخرٌ لوليم بليك:- نجماتُ الصّبحِ تُغنّي معاً.   في ذينكما النّقشين هنالك شكولٌ في السماءِ لها ذاتُ انطباعِ الحقيقةِ الذي يسمُ النّاسَ على الأرضْ.   وكلما أنا نظرتُ إليهما أكُنْ على يقينٍ من أنّ بليك يُومئُ، بهُما، إلى وجهٍ من أوجُهِ ذاك   العالم الآخر.   رأيتُ، ذاتَ مرّةٍ، رسماً لدالي مثيلاً لذاكَ أيضاً إذ هو ملآنٌ بكائناتٍ مُعْتَمَةٍ طافيةٍ في السّماءِ وعلى مسافةٍ قاربت المائة ياردة ومتوهّجةٍ بضُوءٍ عاجِيٍّ أبيضْ.   ذلكم، بالضبط، هو العالم الذي أراهُ.   هل تعلم ما هي تلك الأشياء المتوهّجة التي تملأ السماء؟   إنّها كائناتٌ قد فقدناها من حياتنا هنا على الأرضِ وهي الآنَ طافيةٌ هناك في السماء وعلى مسافةِ مائةِ ياردةٍ فوقَ الأرضِ ومتوهّجةٌ، بهدوءٍ، مثل أميبيّاتٍ تحت مايكروسكوب.   أحياناً تهبطُ تلكَ الكائناتُ أسفلاً بذاتِ الطّريقةِ التي يفعلُ بها ذلكَ ’طفلُنا‘ أقهوي" (قال مخدِّمي ذلك وما أحتججتُ عليهِ.   ذلك لا يعني أنّني سلّمتُ لهُ بما قالْ)...   "لكنَّ تضحيةً مستحقّةً لهُم وغاليةً مُتطلّبةً هنا حتّى يحوزُ المرءُ على العينين التي يراهم بها يطفونُ هناك، ثم على الأذنين اللتين تُحسّانَ بهم حينما يهبطونَ إلى الأرضْ.   مع ذلكَ، هنالكَ ثمةُ لحظاتٍ نُوهبُ فيها، فجأةً ودونَ أيِّ تضحيةٍ أو حتّى جُهدٍ من قٍبَلِنَا، تِلكَ المَلَكَةْ.   أعتقدُ أنّ ذلكَ هو ما حدثَ لكَ قبلَ دقائقٍ قليلةْ".  

 

"دونَ أيِّ تضحيةٍ، أو حتّى أيِّ جُهْدِ، من قِبَلِيْ؟   فقط دموع كفارةٍ قليلةْ".   ذلكم هو ما بدا أنّ مُخدّمي أرادَ أن بقولَهُ.   الحقيقةُ هي أنّني قد ذرفتُ دموعاً بعلّةِ الخوفِ وقلّةِ الحيلةِ وشيءٍ من التّوجُّسِ الغامضِ المرتبطِ بمستقبلي.   (إنّ عمل الأوّل، الذي كان اختباراً لوجودٍ كونيٍّ ما مُصغّرٍ من الحياةِ، في كلّيّتِها، كان أن أرعى هذا المؤلّف الموسيقيَّ المجنونْ.   ولأنني قد فشلتُ في فعلِ هذا بطريقةٍ وافيةٍ كا مُتوقّعاً أن تُكرّرَ، كنمطٍ من أنماطِ حياتي، وضعيّاتٌ لا أستطيعُ أن أتكيّف معها).   لم أقاطعْ مُحدّثِي، على كلٍّ، باحتجاجٍ ما، بل واصلتُ الإصغاءَ إليهِ بانقيادْ.

 

"أنتَ لا تزالُ شابّاً صغيراً.   ربّما أنتَ لم تفقِدْ بعدَ مرأى أيِّ شيءٍ، في هذا العالمِ، لا تستطيعُ- أبداً- نسيانَهُ، شيءٍ عزيزٍ جدّاً لديكَ بحيثُ أنّكَ تكونُ منتبهاً لغيابهِ عنكَ في كلّ وقتِكْ.   ربما تكن السماءُ الكائنةُ على مسافةِ مائةِ ياردةٍ فوقَ رأسكَ، أو ما يُقاربُ ذلكَ، لا تزالُ، بالنِّسبةِ إليكَ، شيئاً غيرَ كونِها سماءاً فحسبْ.   لكنّ كلَّ ذلكَ يعني أنَّ مخزنَ مؤوناتِكَ النّفسيّةِ تصادفَ أن يكونَ خالياً حاليّاً.   هل أنا مُصيبٌ في هذا أم أنّكَ فقدتَ- بالفعلِ- شيئاً كان حقيقيَّ الأهميّةِ لكْ؟"

 

صمت المؤلف الموسيقيَّ، لوهلةٍ، منتظراً إجابتي فوجدتُ نفسي أتذكّرُ عشيقته السابقة، تلك الممثلة السينمائية التي لديها شقٌّ في جبينها ماثلَ في حجمه حجمَ إبهامِ إنسانٍ بالغْ.   طبيعيّاً، ليس هنالكَ خُسرانٌ حيويٌّ لي كان لهُ أن يكونَ على صلةٍ ما بها، فكلّ ذلك البكاءُ قد صَدَعَ لي عقلي وانسربَ عسلٌ عاطفيٌّ مائعٌ في الشّقوقْ.  

 

"حسنَاً، هل مررتَ بتجربةٍ كتلك؟   هل فقدتَ أيَّ شيءٍ مهمٍّ بالنسبةِ لك؟ "   للمرّةِ الأولى، منذ لقائنا، كان مُخدّمي مُلحّاً في السؤالْ.  

 

فجأةً كان عليَّ أن أقولُ شيئاً غبياً كي أُغطّي بهِ حرجِيْ.  

 

-          "قد فقدتُ قطّاً"، قلتُ على سبيلِ المحاولة.

-          "هل كان ذلكَ سياميّاً أم ماذا؟"

-          "لا.   هو كان قطّاً عاديّاً فحسبْ وذا خطوطٍ برتقاليّةْ.   قد اختفى قبل أسبوعٍ مضى".  

-          "لئن كان قد غاب لأسبوعٍ واحدٍ فقط فإنّه قد يعودُ إليكْ.   هل ليس هذا هو الموسم الذي تتوهُ فيه القطط؟"

-          "قد فكّرتُ أنا أيضاً على هذا النّحو.   لكنّني أعرفُ، الآنَ، أنّه لن يعود".

-          "لماذا؟"

-          "إنّه كان قطّاً صلباً ولهُ إقليمٌ ذو حدودٍ مُعلَّمَةْ.   لكنّني، فضلاً عن ذلكَ، رأيتُ، هذا الصّباح، قطّاً ضعيفَ المرأى يُمشي سافلاً وعالياً عبرَ حدودِهِ.   لم يكن ذاكَ القطُّ محترساً من أيِّ شيءْ.   لا، إنّ قطّي لن يعودْ".  

 

حين كففتُ عن الكلامِ أدركتُ أنني قد حكيتُ قصّةً مقصوداً بها إثارةَ ضحكاتٍ في صوتٍ مجروشٍ بالحُزْنْ.  

 

-          "ثمةُ قطٍّ يطفو الآنَ في السماءِ، إذاً؟"   قال مخدّمي برصانةْ.  

 

صوّرتُ، خلَلَ عينين مغمضتين، قطّاً مُعتمَ اللّونِ وضخماً كضخامةِ بالونةِ إعلاناتِ، متوهجاً بضُوءٍ عاجيِّ البياضِ فيما هو كان طافياً عبرَ السماءْ.   قد لا أسعُ، في سياقٍ كهذا، إلا أن أُوافقَ من قد يقولُ إنّ ذاكَ قد كان طيراناً كوميديّاً.   لكنَّ عينَ ذاكَ "الطّيرانِ الكوميديِّ" قد جعلني- كذلكَ- على توقٍ ورغبةْ.  

 

"تبدأُ الأشكالُ التي تطفو على سماكَ في التّزايُدِ بنسبةٍ مُتسارِعَةْ.   ذاك هو ما جعلني لا أكنْ عائشاً في الزّمانِ الحاضرِ منذُ حادثةِ الطّفلِ الرّضيعِ تلكَ، وإلا لكنتُ- الآنَ- قادراً على إيقافِ ذاكَ الإنتشارْ.   وبما أنّني لستُ عائشاً- الآنَ- في زماتنا هذا فإنّي لا أستطيعُ اكتشافَ أيِّ شيءٍ جديدٍ فيهِ، بيدَ أنّني- كذلكَ- لا افقدُ مرأى أيِّ شيءٍ فيهِ.   إنّ حالةَ سمائي لا تتغيّرُ أبداً".   كان هنالكَ حسُّ انعتاقٍ عميقٍ في صوتِ المؤلّفِ الموسيقيْ.  

 

هل كانت سمائي أنا خاليةً حقّاً إلا من قطٍّ منتفخٍ ذي خطوطٍ برتقاليّةْ؟   هكذا استدركْتُ.   ثمّ فتحتُ عينيَّ وشرعتُ في النّظرِ إلى السماءِ الصافيةِ التي كانت، آنذاكَ، مسائيّةً بالكادْ.   غيرَ أنّ الفزعَ جعلني أُغمضُ عينيَّ ثانيةً.   فَزَعٌ، كانَ ذاكَ، من نفسي:- ماذا لو كُنتُ قد رأيتُ قطيعاً متوهّجاً من كائناتٍ ما لها عددٌ كُنتُ قد فقدتُها من كونِ الزّمانِ هُنا على الأرضْ!

 

...   رقدنا على العُشْبِ، في ذاكَ المرجِ، لحينٍ مُعتَبَرْ.   كنّا مُحْتَلِقَيْنَ بالتوادُدِ السّاكنِ الإستاتيكيِّ المتبادلِ بينَ شخصينَ حينما يكونان مقبوضَيْنَ بذاتِ الغمْ.   ثمّ بدأتُ أنا أستعيدُ، تدريجيّاً، منظوري للأشياءْ.   وبّختُ نفسيْ:- كم كُنتُ لا أُشْبِهُ ذاكَ البرغماتيّ ذي الثمانيةِ عشرةِ ربيعاً الذي كنتُهُ في الحقِّ إذ استدرَجْتُ نفسي إلى أن تكُنْ مُتأثِّرَةً بـ’هترشاتِ‘ مؤلّفٍ موسيقيٍّ مجنونْ!   لكنّ ذلك لا يعني أنني أُوحيَ، الآنّ، للنّاسِ بأنّ توازُني قد استُعيْدَ، حينذاكَ، على نحوٍ تامْ.   ففي اليوم الذي انقدتُ فيهِ إلى لذاكَ الرّوعِ الغريبِ انجذبتُ، بأكثرِ مما فعلتُ، في أيِّ لحظاتٍ ماضيةٍ ما، لانفعالاتِ مُخدّمي العاطفية ولذاك القطيع المتوهج في السماء وعلى مسافة مائة ياردة فوق الأرض.   إن ما يمكن أن يسميه المرء "أثرأً بعدباً" قد بقي معي، حينذاك، لحدٍّ ما.  

 

ثمّ جاء، من بعد ذلك، اليوم الأخيرْ.   كان ذلك هو اليوم السابق ليوم عيد ميلاد المسيح.   أنا متأكّدٌ من التاريخ إياه لأنّ "د" كان قد أعطاني، في ذلك اليوم، ساعةَ رسغٍ أرفقها باعتذارٍ صغيرٍ عن أنها جاءت قبل ميعادها بيوم.ْ   كما وأنّي أتذكّرُ أنّ جليداً ناعماً، كالمسحوقِ، قد هبط علينا، قبل وجبةِ غداء ذلك اليومِ بقليلٍ، لمدّةٍ قاربتْ السّاعةْ.   كنّا قد مضينا معاً، حينذاكَ، إلى ساحةِ المدينةْ.   لكنّها كانت قد اكتظّتْ، آنذاكَ، بالناسِ فقررنا أن نخرجَ منها إلى مرفئِ طوكيو.   كان "د" راغباً في رؤيةِ شحنٍ شليّةٍ كان مفترضاً أن تكونَ قد رستْ هناكَ في ذلكَ اليومْ.   كنتُ متحرّقاً، مثلَهُ، للذهابِ إلى هناكَ وقد صوّرتُ، في خيالي، سفينةً غطّتْ ملاءاتُ الجليدِ أرجاءَ سطحِها.   كنّا قد غادرنا الحشدَ المتجمّعَ في ساحةِ المدينةِْ وضينا عابرينَ بمسرحِ الكابوكي حيثُ الظّلمةُ والسّماءُ الساكنةُ الجّليديّةْ.   فأقهوي كان قد هبطَ إلى جانبِهِ.   كالعادةِ، مشيتُ على مسافةِ بضعِ خطواتٍ وراء المؤلّفِ الموسيقيِّ وطيفِهِ.   ثمّ أتينا إلى تقاطُعِ طُرِقٍ وسيعْ.   كان "د" والطفل/الشبح قد عبرا المنحنى لتوّهما حينَما تبدّلَ الضّياءْ.   توقّفَ فانثنى رتلُ شاحناتٍ كبيرةٍ كما أفيالٍ متحرّكةٍ، ببطءٍ، مع سفينةِ عيدِ الميلادِ المُثقلةِ بهِ.   كان ذلك هو الوقتُ الذي وقعتْ فيه الحادثةُ إذ صاحَ "د"، عالياً وعلى حينِ غرّةٍ، وقذف ذراعيهِ معاً أمامهُ وكأنّما هو كان مكافحاً في سبيلِ أن ينقذَ شيئاً ما.   ثمّ وثبَ، من بعدِ ذلكَ، فيما بين تلك الشاحناتِ فلُطِمَ وهوى على الأرضْ.   راقبتُ أنا كلَّ ذلكَ، بغباءٍ، من جهةِ المنحنىْ.  

 

"إنّ ذاكَ كان انتحاراً.   إنّه ما فعل شيئاً سوى أن قتل نفسه!"   قال صوتٌ مرتجفٌ انبثَّ من أحدِ جانبيَّ.  

 

لكنّني ما كان لديّ وقتٌ لكي أتفكّرَ فيما إذا كان "ذاكَ" انتحاراً أم لا.   ففي دقيقةٍ واحدةٍ صار ذاك التقاطعُ ساحةً خلفيّةً في سيركٍ إذ زُحِمَ بشاحناتٍ متطاحنةٍ عليهِ مثل أفيالٍ فيما كنتُ أنا راكعاً عند جنبِ "د"، ضامّاً جسدهُ بين ذراعيَّ ومرتعداً مثل كلب.   ما كنتُ أدري ما عليّ أن أفعلَهُ رُغم أنّ رجلَ شرطةٍ قد انفلتَ مقترباً منّي ثم اختفى، ثانيةً، وهو هارعٌ.  

 

ما كان "د" ميّتاً.   فالأمرُ كانَ أفظعَ من ذلكْ.   كان يُحتضَرُ وهو متمدّدٌ، هناكَ على الرطوبةِ المتّسخةِ التي كانتْ جليداً خفيفاً، فيما الدّمُ وشيءٌ مثلُ نسغِ الشّجرِ كانا يرشحان منهُ.   ثمّ انفلقتْ هيئةُ السماءِِ المظلمةُ الجّليديّةُ وصيّرَ الضّوءُ الجّليلُ لتمثيلٍ إسبانيٍّ للعذراءِ الآسيةِ على فقدِ المسيحِ دّمّ مُخدِّمِيْ يلمعُ مثلُ دُهنٍ مُنبَهِتْ.   ثمةُ حشدٍ من الناسِ كان قد تجمّعَ آنذاكَ فزوّمتْ نُثاراتٌ من رنينِ أجراسٍ طانّةٍ فوقَ رأسينا مثلَ أصواتِ حماماتٍ مضروبةٍ بالفزعِ وانحنيتُ أنا على جانبِ "د" وكنتُ مصغياً، بشدّةٍ، إلى لا شيءٍ مُخصّصٍ وسامعاً صراخاً آتياً من بعيدْ.   لكنَّ الجّمهرةَ وقفتْ هناكَ، ساكنةً في البردِ وكأنّها لامباليةٌ بذاكَ الصّراخْ.   ما أصغيْتُ، ولو لمرّةٍ واحدةٍ ثانيةٍ في حياتي، بتلكَ الشدّةِ والحدّةِ عند ركنِ شارعِ، كما وما سمعتُ ثانيةً أيضاً صراخاً مثلَ ذاكْ.  

 

أخيراً وصلتْ عربةُ إسعافٍ إلى المكانِ فرُفِعَ مُخدِّمِي إلى داخلها وهو فاقد الوعي.   كان متقشراًُ بالدم والطين وبدت الصدمة مذوية لبدنه، كما وصيره حذاء التنس الأبيض شبيهاً برجلٍ أعمى مصاباً بأذىْ.   صعدتُ إلى عربةِ الإسعافِ برفقةِ طبيبٍ ومُراسلةٍ ورجلٍ شابٍّ عمرهُ يقاربُ عمري كانت تبدو عليه العجرفة والتّباعُدْ.   عرفتُ، فيما بعد، أنَّ ذاكَ الشابَّ كان مُساعدَ السائقِ على شاحنةِ المسافاتِ الطويلةِ التي صدمتْ "د".   كان احتقانُ المواصلاتِ يزدادُ سوءاً فسوءاً فيما عربةث الغسعافِ مجتازةً عرضَ ساحةِ المدينةِ (وصلَ تعدادُ الحشودِ في ساحةِ المدينةِ عند ليلةِ الكرسماس، بحسبِ بعضِ إحصائيّاتٍ اطّلَعْتُ عليها مؤخّراً، رقماً قياسيّاً).  

 

تشارَكَ، بالكادِ، جُلُّ أولئكَ الذين سمعوا صفيرَ عربةِ الإسعافِ، وتوقّفوا كي يروننا مبتعدين عليها، في تقاسُمِ نظرةِ اهتمامٍ مُحتَرِسِ الرّصانةْ.   وفي رُكنٍ ما من أركانِ رأسي المنبهتة تفكّرتُ، آنذاكَ، في أنّ تلكَ التي يُسمّونها "الإِبتسامةُ اليابانيّةُ غيرُ المسبُورةِ الغَوْرِ" هي شيءٌ لا وجُودَ لهُ، في الحقِّ، وإن بدا إمكانُ وجُودِهِ قريبَ الإحتمالْ.   أمّا "د" فقد ظلّ، آناءَ كلِّ ذلكَ، راقداً بلا وعيٍ، على تلكَ النّقّالةِ المترجرجةِ، فيما هو، شيئاً فشيئاً، يُوالي نزفَ حياتِهِ عنْهُ.  

 

حين وصلنا إلى المستشفى اندفعَ ساعيان، دونَ أن يعبآ حتّى بأن يتريّثا لوهلةٍ يُبدّلانَ فيها حذاءيهما شُبْشُيَيْنَ، بـ"د" بعيداً وإلى داخلِ غورٍ ما من أغوارِ المبنىْ.   ذات رجل البوليس الذي رأيته من قبل سألني، بهدوْ، أسئلةً كثيرةْ.   ثم سمح لي بالذهاب إلى حيث كان "د".   كان عامل الشاحنة الشاب قد سبقني في اكتشافِ مكانِ الحجرة التي كان بها "د".   وقد رأيتُهُ، حينذاكَ، جالساً على مقعدٍ عند الممرِّ وبقرب الباب.   جلستُ بقربهِ وانتظرنا زماناً طويلا.   في البدءِ كان، ذاك الشابُّ، مُغمغماً بكلامٍ عن كلّ الطّلبيّاتِ التي كان عليهِ، بعد، أن يُسلّمها لطالبيها.   لكنّهن بعد انقضاءِ ساعتين، شرع يشكو لي، في صوتٍ يافعٍ بصورةٍ مدهشةٍ، من أنه كان جوعاناً فتناقصتْ عدائيّتي نجوه.   والينا انتظارنا لبعضِ حينٍ وصل، إثرهُ، الصيرفيُّ إلى المكانِ، ومعهُ زوجتُهُ وبناتهُ الثلاث اللائي كنّ جميعاً مُستكملاتٍ زينتهُنَّ كي يذهبنَ إلى حفلْ.   تجاهَلَنَا أولئكَ ’النّاس‘ ومضوا إلى داخل الحجرةْ.   كلّ النساءِ الأربعِ كُنَّ ذواتَ أجسادس سمينةٍ مُقرفصةٍ ووجوهٍ حمراءْ.   قد ذكّرْنَنِي بزوجةِ "د" السابقةْ.   واليتُ انتظاري.   كانت ساعاتٌ قد مضتْ حينذاكَ وكنتُ، آناءَ كلّ ذلكَ الوقتِ، مُعذّباً بالظّنونْ:- هل كان مُخدّمي مُنتوِياً، منذ البدءِ، أن يقتلَ نفسه؟   قبل أن ينزع حياتهُ عنهث كان مُخدِّمِي قد سوّى شؤونَهُ مع زوجتهِ وعشيقتِهِ السابقتينْ، حلرق مسودّاتِهِ وارتحلَ عبر المدينةِ قائلاً "مع السلامةِ" لأمكنةٍ كان قد يفتقدها.   هل استأجرني لأنه احتاجَ إلى مُعينٍ حسن الطّبعِ يساعدهُ على إنجازِ تلكَ الاشياءْ؟   وهل هو قد كفَّانِي عن استبيانِ خطّتِهِ باختراعهِ لحكايةِ وحشٍ-طفلٍ يطفو في السّماءْ؟   يكلماتٍ أخرياتٍ، هلا ليست المسألةُ هنا هي أنّ مهمتي الحقيقية الوحيدة، آنذاكَ، كانت هي أن أُعينَ "د" على ارتكابِ فعلِ الإنتحارْ؟   كان العاملُ الشابُّ قد استسلمَ، آنذاكَ، للنومِ ورأسهُ على كتفي وكان، في كلّ دقيقةٍ أو اثنتين، قد يتشنّجُ كما لو كان متألّماً.   ينبغي لهُ أن يكون قد حلُمَ، حينذاكَ، بأنه كان داهساً رجلاً ما بشاحنتِهِ.  

 

كانت الليلةُ مُدلهِمَّةً في الخارج حيثُ ظهر الصّيرفيُّ بالبابِ ودعاني إليهِ.   زَحزحتُ، برفقٍ، كتفي من تحتِ رأس العاملِ الشابِّ ووقفتُ.   دفع لي الصّيرفيُّ أجري لذاكَ اليومِ، ثمّ سمِح لي بالدّخولِ إلى الحجرةْ.   كان "د" راقداً على ظهره وأنابيبُ مطذاطٍ في مناخيرهِ، كأنما كان هو مؤدّياً مشهداً كوميديّاً هازلاً.   لكنّ مرأى وجههِ استوقفني.   كان ذلكَ أسوداً مثلَ اللّحمِ المُدخّنْ.   لم أستطع، من بعد ذلكَ، أن أكفَّ نفسي عن أن أُعربَ عن ذاكَ الشكِّ الذي كان قد جعلني شديدَ الخوفِ فناديتُ مُخدِّمِي متسائلاً:- "هل استأجرتني فقط كي أُعينَكَ على ارتكابِ فعلِ الإنتحارْ؟   هل كلّ ذلكَ الذي حكيتَهُ عن أقهوي كان مجرّدَ حيلةٍ للتستّرِ على ذاكَ التّدبيرْ؟"   إنسدّ حلقومي، من بعد ذلكَ، بالدّموعِ ودُهشْتُ إذ سمعتُ نفسي صائحاً:- "أنا كنتُ على وشكِ أن أؤمنَ بأقهوي!"  

 

في تلك اللحظةِ رأيتُ، فيما كانت عينايَ ممتلئتينَ بالدّموعِ وبدأت الأشياءُ تُغيّمُ في وجهي، ابتسامةً تبدو على وجهِ "د" المعتم المتغضّنْ.   ربّما كانتْ تلكَ ابتسامةَ هُزءٍ، أو ربّما كانت هي ابتسامةَ شقاوةٍ صديقةْ.

 

قادني الصّيرفيُّ إلى خارجِ الحجرةْ.   كان الرّجلُ الشابُّ العاملُ في الشاحنةِ متمدّداً بطولهِ على المقعدِ ونائماً.   زلقتُ، وأنا على سبيلِ خروجي، الألفَ يٍّنٍّ التي كسبتُها، آنذاكَ، في جوفِ جيبِ جاكتّتِهِ.   قرأتُ في صحفِ مساءِ اليومِ التالي أنّ المؤلّفَ الموسيقيَّ كان قد تُوفّيَ.  

 

ثمّ كان، من بعدِ ذلكَ، هذا الرّبيعُ وكنتُ أنا ماشياً على الشارعِ حينَ شرعتْ مجموعةٌ من الأطفالِ المرتعبينَ في قذفِ الحجارةِ نحوي فجأةً.   كان ذاك الفعلُ +مُباغتاً جداً وغيرُ مسبوقٍ بأيّ استفزازٍ بحيثُ أنّني ما دريتُ ما الذي كنتُ قد فعلتُهُ حتّى أتهدّدهُمْ.   مهما كان ذلكَ تبقى واقعةُ أنّ الخوفَ قد حوّلَ أولئكَ الاطفالَ إلى قتلةٍ وأنّ واحداً منهم قد ضربني، على عيني اليُمنى، بصخرةٍ كبيرةٍ كما قبضةِ يدْ.   تهاويتُ أسفلاً على إحدى رُكبتَيَّ، ضغطتُ يدي على عيني فشعرتُ، هناكَ، بلحمٍ مُتورّمٍ بالرّضُوضْ.   رقبتُ، بعينيَ السّليمةِ، دمي المتقاطرَ وهو ينسربُ في طينِ الشارعِ وكأنّما هو كان مجذوباً بقوّةٍ مغناطيسيّةٍ ما.   حينذاكَ فقط أحسستُ بكائنٍ عرفتهُ وافتقدتهُ وهو يُقْلِعُ عن الأرضِ التي كانت خلفي مثل كانقارو ويسمقُ في باطنِ الزّرقةِ الدّامعةِ لسماءٍ كانتْ قد احتفظتْ بتقصُّفِهَا الشّتائيْ.   "وداعاً، أقهوِيْ"، سمعتُ نفسي وأنا أهمِسُ في قلبي.   ثمّ عرفتُ، آنذاكَ، أنّ كراهيّتي لأولئكَ الأطفالِ المرتعبينَ كانتْ قد ذابتْ بعيداً وأنّ الزّمانَ كان قد ملأَ سمائيَ، خَلَلَ تلكَ السّنواتِ العشرْ، بشُكُولٍ توهّجَتْ بضُوءٍ عاجيِّ البياضِ وما كنتُ أحسبُها كُلّها ذاتَ براءةٍ خالصةْ.   فحينما جُرِّحْتُ بفعلِ أولئكَ الأطفالِ وقَدّمتُ نظرَ إحدى عينيَّ قرباناً كان جليّاً أنّهُ كان مَجّانيّاً خالصاً كُنتُ قد وُهِبْتُ، آنذاكَ، ولو للحظةٍ مُفرَدَةٍ فحسبْ، القُدرة على أن أُدْرِكَ ’كينونَةَ‘ مخلوقٍ كان قد هبطَ من أعاليَ سمائِيْ.                     

 

[اكتملت التّرجمة في 26/9/2005ٍ].

 

 

·         من مجموعته القصصية الموسومة عَلّمْنَا أن نَسْمُو على جِنُونِنا، والتي ترجمها إلى الإنجليزية جون ناثان. صدرت تلكَ الترجمة، ضمن سلسلة أقنعة، عن دار سبربينت تيل للنشر، لندن 1989.

   

·         من مسودّة مجموعتي القصصية المترجمة المسمّاة- مؤقّتاً:- مدوّنة قصصيّة [من القصص العالمي]...

 

 

 

 

 

             

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

Latest News
  • Taha Leads Sudan Delegation Participating in France-African Summit
  • Sudan Envoy to UN says movements of the so-called ICC exposed attempts to disturb current historic developments in Sudan
  • Taha to Lead Sudan Delegation for African - French Summit in Nice City
  • President Al-Bashir Receives Message from President Kibaki
  • SPLM Wary of President Bashir’s Referendum Pledge
  • Dr. Sabir Al-Hassan Leads Sudan Delegation to ADB Meetings in Cote d'Ivoire
  • Southern Sudan HIV/AIDS infections on the rise
  • Journalists held for boycotting Sudan inauguration
  • Dr. Ismail meets Obasanjo, Discuss Sudanese-Nigerian Relations
  • President of Malawi, Prime Minister of Ethiopia expected to arrive in Khartoum Thursday morning
  • Sudan's Bashir Sworn In to Another 5-Year Term
  • President Mohamed Ould Abdel Azizof Mauritania arrives in Khartoum
  • Kenyan Vice President Musyoka Arrives in Khartoum to Take Part in inaguartion of President Al-Bashir
  • Kingsport helps Sudanese town design land use plan
  • Dialogue, co-op vital to end Nile row
  • Intn'l court reports Sudan to UN
  • Qatari Prime Minister and Dr. Salahuddin Review Developments in Peace Process in Darfur
  • President Al-Bashir Congratulates Premier Zenawi on Winning of his Party in the Ethiopian Elections
  • Minister of Interior Meets Wali of North Kordofan State
  • Sudan slams Human Rights Watch
  • Sudan charges opposition journalist with terrorism
  • Dr. Ismail: UN, AU, Arab League and OIC will Participate in Al-Bashir's Inauguration
  • Dr. Nafie: New Government will be One of United Programme and Vision
  • SDU (UK & I) Ireland Chapter meeting
  • Washington DC Marchers Protest Darfur Genocide
  • Egypt's Citadel starts power project for Sudan cement plant
  • Rwanda: Dialogue Will Resolve the Nile Water Dispute
  • Ahmed Ibrahim Al-Tahir Nominated as Speaker of National Assembly
  • Al-Zahawi Ibrahim Malik: Unity shall be the Best Choice for Southern Citizens
  • Dr. Al-Jaz Launches Electricity Project for Northern Rural Area of Khartoum North
  • Dr. Nafie: Sudanese Workers' Trade Union Federation Plays the Greatest Role in Facing Tyranny
  • Sudanese authorities shut newspaper in crackdown
  • Salva Kiir receives message from Secretary General of the Arab League
  • UN Names Countries, Groups Using Child Soldiers
  • Salva Kiir Inaugurated As President of South Sudan
  • Kiir Pledges to Work for Making Unity the Attractive Option
  • Salva Kiir Sworn in as President of the Government of South Sudan
  • Second Sudanese opposition leader arrested: family
  • Darfur rebels say 200 killed in clashes with army
  • Egyptian Irrigation Minister Declares Joint Sudanese - Egyptian Vision that Includes their Rights on Use of Nile Water
  • Arab - Chinese Cooperation Forum Lauds Sudan Elections
  • Sudan and Egypt Agree to Continue Efforts to Unite Nile Basin Countries
  • Darfur rebel leader's 19-hour standoff ends
  • SUDAN: Key post-referendum issues
  • Debts of Sudan Amount to 37.7 Billion US dollars, IMF Agree to Negotiate with Sudan
  • Slva Kiir Receives Written Message from Eritrean President
  • Dr. Fedail Conveys Message from President Al-Bashir to Ethiopian Prime Minister
  • American woman among 3 aid workers kidnapped in Darfur
  • Darfur Jem leader Khalil Ibrahim stopped in Chad
  • Analysis: Ten years of talks - and still no resolution to Nile controversy
  • Chad Rejects Entry of Khalil Ibrahim to its Territories, Declared him Persona non-Grata Deby to Visit Sudan next Week
  • Dean of Bar Association: Israel Aims to spliting South Sudan
  • Taha Affirms State Commitment to Expand Security and Stability all over the Country
  • SUDAN: Bol Manyiel, "I can still buy more guns with my remaining cattle"
  • Salva Kiir, USAID Official Discuss Food Security Situation
  • U.S. Starts $55 Million Agriculture Program in Southern Sudan
  • Sudan: Govt Arrests Top Bashir Critic
  • Secretary General of the Assembly calls on the Elected Deputies to Attend Procedural Sitting
  • SUDAN: Disarmament doubts in Lakes State
  • Egypt police kill Sudanese migrant near Israel border
  • Sudanese army seizes Jebel Moun JEM base
  • Sudan Arrests Islamist Opposition Leader Turabi
  • Agricultural Bank finalizes preparations to inaugurate 12 branches in Gezira State to focus on micro finance
  • In Phone Call with Al-Qaddafi: President Al-Bashir Affirms Progress of Sudanese - Chadian Relations
  • Fishing festival promotes Sudan’s fish resources
  • Press Releases
  • Press release from the Popular Congress 22/5
  • Sudanese man facing execution in Saudi Arabia over ‘sorcery’ charges
  • SHAFT AT PHOENIX SKY HARBOR AIRPORT
  • Sudan: Oxfam reaction to UN mandate renewal in SUDAN-UNMIS
  • UNICEF hails latest child demobilization in Southern Sudan
  • Sudan Civil Society Announces Sudan Vote Monitor Project
  • Sudan Elections: The Theatre of the Absurd and the Tomb of Democratization
  • Statement from Sudan Liberation Movement/Army on Sudan Election
  • Activists from 18 countries join global day of action ahead of Sudanese elections
  • U.S. Conventional Weapons Destruction Program Helps Sudan Overcome Legacies of War
  • THE SUDAN HUMAN RIGHTS ORGANIZATION – CAIRO To enforce constitutional guarantees for the right to life
  • The SPLM’s Independents Should Blame the Political Bureau’s Small Clique, Not Pagan Amum
  • Prophet Ngundeng’s family will meet to endorse the Bieh Leader
  • Press Release of Bahar Idris Abugarda
  • PRESS RELEASE OF BAHAR IDRISS ABU GARDA
  • When Did the SPLM Turn Separatist?
  • The Beja Congress demands the trial of the Port Sudan massacre and Condemns the violation of Human rights in Sudan
  • Sudan: The Obama Administration Expresses Concern About Arms Flow in Sudan
  • Urgent call for Peace from Diaspora Sudanese Women
  • The UN Secretary General’s Special Representative for Sudan Ashraf Qazi Congratulates the Government and the People of Sudan on the Fifth Anniversary of the CPA
  • CHRISTIANS ARE THE FASTERS GROWING POPULATIONS IN THE SUDAN TODAY
  • Media Release: Preparations of Young Anya-Anya
  • FOURUM OF FEDERATIONS CONDUCTS WORKSHOP ON DEMOCRATIC FEDERALISM FOR UNIVERSITY FACULTY IN SUDAN
  • Oversight Committee for social peace in South Darfur:Statement of public opinion and all advocates of social peace and human rights:
  • Statement of the SPLM Chapter denouncing the arrest of the SG of the SPLM, his deputy and democratic protestors
  • URGENT CALL ON GOVERNMENT TO ENSURE PUBLIC FREEDOMS, RELEASE SPLM LEADERS
  • Amnesty International Reports Sudanese Protesters Tortured After 200 Arrests in Protest Outside Parliament in Khartoum
  • Carter Center Welcomes Peaceful Voter Registration in Sudan; Urges Further Steps to Improve Registration Process
  • PRESS RELEASE: Sudanese Group in Ottawa for Supporting the Democratic Transition
  • Denmark: Government must arrest Sudanese President if he attends climate conference
  • Congratulating Lt. Gen., H. E. Salva Kiir Mayardit, the President of South Sudan Government for Handling Longechuk
  • Press Release: Special Representative for Children and Armed Conflict visiting Sudan
  • Turkey: No to safe haven for fugitive from international justice
  • Sudan: Death row prisoner bore marks of torture
  • Statement by the United Nations Humanitarian Coordinator for Sudan Condemning the Kidnapping of a Red Cross Worker in Darfur
  • Uganda: Amnesty International says government obliged to arrest Sudanese President
  • Press Release: Protest in support of Lubna Hussein
  • The South Sudanese Parliamentarians in A Political mess
  • Open Message from Sudan Liberation Movement /Army SLM/A to African Leaders to support the victims of Darfur
  • Seed of discord and tribalism in South Sudan planted by SPLM against some South Sudanese:
  • African Union Panel on Darfur Khartoum Hearing
  • A response to the Nuer Supreme Council press release titled “SPLM-DC betrays South Sudan interests
  • SPLM-DC betrays South Sudan interests
  • Nuer Community Calls upon Lt. Gen. Kiir to Reverse Upper Nile StateAppointments
  • Nuer Community Calls upon Lt. Gen. Kiir to Reverse Upper Nile State Appointments
  • Sudan: Unamid's New Deputy Force Commander Joins Mission
  • The Nuer Community Welcomes Bentiu Peace Initiative
  • SLM Statement on the Cancellation of the Civil Society Conference
  • The Family of Prophet Ngundeng Bong has withdrawn its endorsement of Ezekiel Lol Gatkuoth
  • Strong Statement: The SPLM Caucus stands for Sudanese diversity
  • The Memorandum of the Sudanese Communities in Europe
  • Nuer Community Warns SPLM’s Leadership of Consequences of Dismissing Dr. Lam Akol
  • League of Arab States/Sudan: Humanitarian assistance must not be made hostage to arrest warrant against President al-Bashir
  • In press release Sudanese embassy in Nairobi says ICC has no jurisdiction over Sudan, President Al-Bashir will continue his constitutional responsibilities and duties internally and externally
  • President Omer Bashir Should Surrender Himself to ICC
  • Statement from the Sudan Liberation Movement Regarding Issuance of Warrant of Arrest against El Basher
  • ICC issues a warrant of arrest for Omar Al Bashir, President of Sudan/ La CPI dأ©livre un mandat d’arrأھt أ  l’encontre du Prأ©sident soudanais Omar Al Bashir
  • Sudan: Amnesty International warns 2.2 million at risk in Darfur after aid agencies expelled
  • PRESS RELEASE: Darfur rally in NY Dag Hammarskjold Park ,near the Sudan Mission
  • Sudan: Respect for Human Rights Plummets Further
  • Jarch Capital and Leac Company did not engage in future oil deals in southern Sudan
  • Darfur: International community fails to protect
  • Sudan: 2009 Could Be a Make or Break Year for Peace - UN Special Representative
  • Launching of the Sudan DDR programme in Blue Nile State
  • British Ambassador marks the 25th Anniversary of the Chevening Scholarship Programme
  • Articles and Analysies
  • Political Divorce a lesson for both the Sudan and the rest of Africa.By: Justin Ambago Ramba
  • China has been silent about the war in Darfur in order to reap the benefits from Sudanese oil and the sale of Chinese weapons to the Sudanese government by Jaafar Mirmar
  • Sleeping with the Devil:When the US goes the wrong way in Sudan by Ibrahim Ali Ibrahim -Washington, DC
  • South Sudan is never too young for an independent state By Atok Dan Baguoot
  • Making Justice is a Political pinyana in south Sudan. By: Daniel Abushery Daniel
  • A letter to UN Secretary General by Dr. Mohamed Ali Mustafa
  • Kiir Promises Clean Water while the Food continues to come from Uganda. By: Justin Ambago Ramba
  • Why Egypt Threatens the Africans over their own Water By Izzadine Abdul Rasoul
  • Let the Debate Boil Down to the Referendum… Not a Dead Unity!! By: Luk Kuth Dak.
  • No Negotiation with Al-Bashir Government even if the venue is in white House By: Abdellatif Abdelrahman
  • NCP: End this Ignoble Episode By Usman Ibn Foda-CRID, Abuja
  • Idriss Deby, The Ultimate Hater of South Sudanese! By: Luk Kuth Dak.
  • To Salva Kiir: Don’t Fuel Athor’s Rebellion By Dr. James Okuk
  • Why NCP blackmails the AU, UN Forces in Darfur?By : Abdellatif Abdelrahman.
  • A Tougher Obama is needed to secure a Peaceful Divorce in Sudan. By: Dr. Justin Ambago Ramba, MD.
  • Lam Akol’s Flunkies Are His Worst Enemies!! By Luk Kuth Dak:
  • Dr. Josephine Lagu’s case exposes the nasty face of tribal politics in south Sudan. By: Justin Ambago Ramba, MD.
  • Should Padang-Dinka community continue silent over Jongeli incident? By Atok Dan Baguoot
  • Why Dr. Lam Akol Shouldn’t Be The Minister Of Foreign Affairs!! By: Luk Kuth Dak.
  • The Not Inevitable War in Sudan: Goss vs. NPC By: Dr. Mohamed N Bushara
  • Agar’s snub on south Sudan’s independence must cease. By: Justin Ambago Ramba.
  • Scandalous Pipes Market Disaster or the Ponzi scheme in El-Fasher By Mahmoud A. Suleiman
  • Is American policy over Sudan invidious? By Izzadine Abdul Rasoul
  • An Independent South Sudan Is Vital to USA!! By Luk Kuth Dak
  • Let’s SPLM Political Bureau be answerable to all current messes in the South By Atok Dan Baguoot
  • How bitter the injustice suffered, south Sudan must still come first. By: Justin Ambago Ramba.
  • Panaruu-Dinka historical, political naivety and leniency towards the SPLM by Atok Dan Baguoot
  • Western Equatoria: The will to resist and succeed. By: Justin Ambago Ramba.
  • Sudan Elections 2010: Defective beyond repair! By Arman Muhammad Ahmad
  • A Unified Sudanese Currency II by Abdel - Halim Anwar Mohamed Ahmed Mahgoub
  • voting in election is hallmark of demcracy by Siddik, Nadir Hashim
  • The Rigged Elections Boxes Should Be Disqualified By Dr. James Okuk
  • General election of Sudan By Aru Mayan:
  • Nasir Declaration was a well calculated move to destroy the Nuer tribe by Simon R. Gatluak,
  • the manifesto of the Sudanese Emancipation United Movement (SEUM) by Aguer Rual
  • When confusion steps in, then only a genuine change can help. By: Justin Ambago Ramba, MD.
  • Let’s your vote not throttle the CPA By Atok Dan
  • Watch out; is your transport fee to your voting centre available? By Atok Dan Baguoot
  • Delaying the Election is not a Good Option by Nhial K. Wicleek lives in Canada.
  • Are Independent candidates still SPLM members? I doubt BY: Isaiah Abraham, JUBA
  • The SPLM Party Is The Answer: By: Luk Kuth Dak.
  • Dose general Scott Gration Understand get lost? by Hatim Elmedani*
  • SPLM Tactics of Scaring Away Voters in Southern Sudan By Dr. James Okuk
  • Civil liberty must precede the civil divorce. By: Justin Ambago Ramba, MD.
  • Seeking Justices for the Rape Victims of Terekeka.By: Justin Ambago Ramba, MD.
  • Will the National Election in Sudan takes place? By Federico Vuni
  • Southerners have better reasons to vote for H.E Salva Kiir Mayardit By: Gieth A. Dauson
  • Dr. Lam Akol SPLM-DC candidate reveals early defeat in Sudan April elections By Magdelina John
  • National Interest first By Kenjok D, Bentiu
  • Kiir declares the Central Equatoria State votes as insignificant! By: Justin Ambago Ramba, MD.
  • Go to Hague! by Hatim El-Medani
  • Vote for Salva, Vote for Change, is it a Joke? Nhial K. Wicleek lives in Canada
  • President Kiir and VP Machar campaign rally in Bor, Jonglei is historic BY: Mawut Guarak , NEW YORK , USA
  • Watch out SPLA/M by Dr. Mawien Akot is a family physician in Wynyard, Canada.
  • Rushing or NOT, the CPA ends in 2011, IGAD reiterates! By: Justin Ambago Ramba, MD.
  • Medical Registrars threatening to go on strike over pay increase by By Federico Vuni
  • Your vote may land us into trouble! By: Justin Ambago Ramba, MD.
  • The Future Of South Sudan Will Be Brighter Than Others Think! By: Luk Kuth Dak.
  • Opinion Poll on nominees for South Sudan Government by Shean Ashang
  • GOSS Corruption: Minister Awut Deng stops recruitment of diplomats BY: David Joseph Lomoro, JUBAs
  • Lam Akol set to meet his Waterloo By Majok Nikodemo Arou
  • Stop the Humanitarian Blockade of Jebel Marra, Darfur BY Dr. Anne Bartlett
  • Who is best leader for South Sudan after April? By DJames Okuk
  • Southerners have Perfected Political Hypocrisy and are becoming vendors.By: Justin Ambago Ramba, MD.
  • (JEM) has not intended to keep the Fellow Combatants out of the Darfur Peace Process By Mahmoud A. Suleiman
  • ترجمات
  • أَقْهَوِيْ، وحش السّماء للروائي الياباني كَيْنْزَابْيُورو أُوْيْ *