بسم الله الرحمن الرحيم
الحكومة الإنتقالية : نفسى أصدقك يا شيخنا
المتوكل محمد موسي
Almotwakel
_
[email protected]
زبدة أفكار و رؤى قدمها الشيخ الدكتور حسن الترابى فى المؤتمر الصحفى الأخير الذى عقده حزبه فى محاولة منه للإسهام فى حل الأزمة التى يمر بها السودان هذه الأيام، فقد إقترح
تشكيل حكومة إنتقالية لتتولى تسيير الأمور فى البلاد ومعالجة الأزمات، ضمن رؤية من عشر نقاط طرحها لحل أزمة البلاد السياسية، ورهن إستقرار السودان بقيام إنتخابات حرة ونزيهة، داعياً إلى إطلاق الحريات وتحقيق السلام والعدالة وإجراء إصلاحات سياسية وقانونية، وإتخاذ تدابير للمساءلة ومحاصرة الفساد وتهيئة المناخ لإنتخابات حرة ونزيهة، وأن الحكومة الإنتقالية يجب أن تُشكل من عناصر مؤهلة ومستقلة تتراضى عليها القوى السياسية، تتولى تسيير الأمور ومعالجة الأزمات الماثلة، موضحاً أنها ليست حكومة إئتلافية، وتقوم بالترتيب للإنتخابات القادمة وتوفر المساواة فى الفرص بين الأحزاب ويكون من بين مهامها التأمين على إتفاقية السلام وما تحقق فيها من مكاسب للجنوب، وينهض الحكم الإنتقالى بإصلاح الدستور والقانون الجنائى ووضع قانون لمكافحة الفساد ورفع الحصانات عن المسئولين فى الدولة وحماية إستقلال القضاء، وقد اشترط الشيخ أن تتكون حكومته الإنتقالية المقترحة من وجوه جديدة.
مثل هذه الدعوات المثالية تجد دوماً الصدى الملائم والقبول فى أفئدة أهل السودان قاطبة بل إن جميع شعوب الدنيا وأممها تتوق لأن يكون لها الحق فى تفويض من يحكمها وأن تُسلم قيادها لمن تثق فى أنهم قادرٌون على تحقيق أحلامها والسهر على مكتسباتها ومقدّراتها، لا للذين يُكرسون مكتسبات ومقدّرات البلاد لصالح منافعهم الشخصية ويمارسون المحسوبية ويقربون ذويهم وأنسبائهم ويفرغون الحياة من كل معنىً لها وطعم ، ولكن ليس هناك مايُطمئن القلب على أن حديث الشيخ ودعوته يمكن أن تجد الترحيب من أهل السودان لجهة أن الشيخ هو وائد الديمقراطية التى كانت دانية القطوف ، بل يُعتقد على نطاق واسع أن الوضع المزرى الذى يعيشه السودان اليوم قد أسهم الشيخ فيه بقسطٍ وافر من الجهود ليكون ماهو كائن اليوم من أزمات ، فكيف يتفاعل الشعب السودانى مع رؤاه ودعوته
بعد كل ماحدث ؟، كنا نرغب فى التعلق بأهداب دعوة الشيخ ولكن ماذا نفعل وتاريخنا السياسى فى السودان له لسان يذكر به الأحداث خاصة فى مواضيع مثل من هو الذى لاتطابق أقواله السياسية أعماله ومن هو الذى مواقفه السياسية التى يُظهرها تتعارض مع تلك التى يُسرها فى سويداء قلبه إلى أن تُحين اللحظة المناسبة وإن شئت قل ساعة الصفر ليُباغت الجميع بالأمر الواقع .
ولعل أكثر ما يُثير الريبة فى دعوة الشيخ هو تعهده بأنه لن يترشح ضد الرئيس عمر البشير فى الإنتخابات الرئاسية المقررة العام المقبل، وقد برر ذلك بعمره فى إشارة على أنه قد بلغ من العمر عتياً ولا يستطيع مقارعة الطامحين التّواقين لمعاقرة الحكم، وكعهده فى إستخدام عبارات وألفاظ غامضة وحمّالات أوجه، حدد العمر الذى لا ينبغى فيه لأحد أن يتطلع للسلطة والتصدى لسياسة الجماهير بأن قال "عندما يصبح عمر الإنسان 60 أو 70 أو 77 عاماً كما هى الحال بالنسبة لى، يكون أولاده فى عمر تولى الرئاسة .. إبنى عمره 40 عاماً وأحفادى يمكنهم الترشح للإنتخابات البرلمانية، إذن، من الأفضل أن أذهب، أن أترك مكانى للأجيال الجديدة". لماذا لا تحدد أيها الشيخ الجليل عمراً بعينه ينبغى فيه للمرء أن يتقدم الصفوف للقيام بحكم السودان؟ فهل عمر الستين هو الأفضل ليترك المرء التفكير فى خوض الإنتخابات أم الـ 77 أم ما بينهما؟ وما هو العمر المناسب للتطلع للرئاسة، هل هو عمر الـ 40؟ أم أفضل فكرة التوريث فى جلباب إنتخابى؟ كنا نرغب أن تشتمل روشتة الشيخ السياسية على إجابة محددة على مثل هذه الأسئلة لأنه سعى وراء السلطة حتى نالها وهو قد ناهز الستين من العمر أو تجاوز ذلك قليلاً، وطالما لم يشتمل مؤتمره الصحفى على مثل هذه الإجابات نأمل أن تشتمل عليه مؤلفاته التى سيعتكف على تأليفها بعد أن بلغ سن التقاعد.
إنها دعوة مقبولة، قياساً بالوضع المأزوم الراهن، أن تتولى حكومة إنتقالية إدارة شئون البلاد على أن يكون أعضاؤها من المستقلين الذين لا ينتمون لأى حزبٍ فى السودان ريثما تجرى إنتخابات حرة ونزيهة تُفرز حكومة ديمقراطية يطمئن لها الشعب السودانى، كنا نرغب بشدة أن نسرح، طرباً، بخيالنا فى الأُفق البعيد ونحن نُعيش مع هذه الدعوة البرّاقة التى أطلقها الشيخ، ولكن ماذا نفعل مع التاريخ الذى يُخرج لنا لسانه كل مرة ، ساخراً، من مثل هذه الدعوات، فكم مرة تولى أحدهم السلطة الإنتقالية بعد الإنتفاضات الشعبية التى جرت فى السودان على أساس أنه مستقل، لتُبدى لنا الأيام ما كنا نجهل ويكتشف الشعب السودانى الغرير أن الرئيس الإنتقالى مربوط بحبلٍ سرى بحزبٍ من الأحزاب، يُنفذ مخططاته ويأتمر بأمر رئيسه و "كلو فى الخفاء".
أرى أنه ليس هناك ما يجعلنا نصدِّق الشيخ بعد التجربة المريرة والنفق المظلم اللذين زجّ فيهما السودان، بسبب تخطيطٍ محكمٍ منه أدى إلى إنتزاع السلطة عنوةً من حكومة منتخبة، مهما قيل فى حقها، فهى قد جاءت إلى السلطة عبر صناديق الإقتراع المباشر .. وهى تمثل وتجسد أسلوب الحكم الملائم الذى كنا نتوق لجعله نبراساً نستهدى به فى إدارة شئون بلادنا، وليس منكوراً، أن التجارب الديمقراطية فى السودان ظلت دوماً مثار إحباط للشعب السودانى، فقد ظلت تقدم نموذجاً، سيئاً لمنهج الحكم الديمقراطي رغم أنها قد جاءت إلى السلطة عبره إلا أنها ظلت لا تقدر أهمية نعمة الديمقراطية حق قدرها، فبعد رفع الكثير من الشعارات الديمقراطية التى تدغدغ أحلام البسطاء أثناء الحملات الإنتخابية، إلا أنها وبعد أن تضمن الجلوس على كرسى السلطة الوثير سرعان ما تقلب ظهر المُجن لكل الشعارات التى رفعتها متنكرةً للعهود والمواثيق التى قطعتها للجماهير قبل بدء الإنتخابات، ولكن فى بلادى ما أسهل الكلام وما أصعب الفعل وما أسهل قطع الوعود وما أصعب الوفاء بها وأسوأ من عدم الفعل وعدم الوفاء بالوعود المقطوعة للشعب السودانى هو تضييع الديمقراطيه التى كل مرة يشقى فيها الشعب السودانى ويقدم الغالى والرخيص وما أن يأتى بها لتكون نهجاً يحكم بها بلاده حتى يتم التفريط فيها لتقع فريسةً فى يد الذين يخططون والناس نيام.
لقد أُتيحت للشيخ فرصة حكم السودان ولكنه لم يستطع تقديم نموذجٍ يُحتذى به وبعد أن أصبح خارج دائرة صنع القرار بدأ التنظير لمنهج الحكم الأمثل للسودان .. ولو كان الشيخ قد خطط لقلب النظام الديمقراطى وهو فى معية الصبا لكنا قد وجدنا له العذر فى إجتهاده الذى أغرق البلاد فى لُجةٍ من الأزمات والمشاكل .. لكن الدكتور الشيخ قد خطط للأمر وهو فى عمر النضج الفكرى والسياسى، لنحصد ما نحصده الآن من أزمات فى راهننا اليوم، فما الذى يجعلنا نصدق ونبارك إجتهاده اليوم وقد بلغ من العمر عتياً على حسب قوله ؟.
|