نحن ثلاثة متخلفون.
قبل فترة, وفي لحظة صفاء وتواصل. نظر الي شقيقي بابكر بدري. وقال لي,( انت يا شوقي كنت بدقني ليه). واذكر عندما كنت في الثامنة عشر كان بابكر في التاسعة. وطلبت مني امي ان اساعده في حفظ جدول الضرب وبابكر الرجل المتزوج الآن واب لرجال وبنت. كان يقول.(الجواب كان بيكون في خشمي قبل ما ارد تروح طاقيني بايدك الكبيرة دي في راسي. وتكورك فيني يا بليد يا غبي
اصلك ما بتنفع.)
والدتي رحمة الله عليها كانت تقول لي في الاخر ( ده دريس شنو خلاص ولدي
ما تدرسو. يا تكتلو لي
يا تطلعو لي مجنون بالدق في الراس ده). ردي علي بابكر كان السبب اني متخلف مافي اي سبب تاني.
السنة الفاتت انضم الي اثنين من المتخلفين بشهادة سويدية مختومة وموثقة. اولهم صديقي توماس, الذي تعرفت به عن طريق صديقي العراقي فريد. وتوماس رجل مهذب ولطيف وزوجته كذلك تعاني من بعض التخلف. ولا يبدو عليهم اي شيء غير عادي. يمارسون عملهم ويذهبون في إجازات ويحبون الدخول في الانترنت.
قبل ثلاثة سنوات كان منزلي يحتاج لصيانة كاملة من الداخل. وورق الحائط كان ملوثا بأيادي اولاد السودان. وقامت عصافير الكنار اللتي يربوها في اقفاص بأكل ورق الحائط في اماكن كثيرة. لأنهم يهملون قفل الأبواب. والشركات اللتي احضرناها كانت عادة تتحدث عن عشرات الآلاف من الدولارات.
واخيرا اقترح صديقي فريد ان نأتي بتوماس فهو نقاش ويحتاج لبعض المال لأنه لم يذهب لإجازة لفترة طويلة.
اتفقنا مع توماس على ثلاثين
دولار للساعة. وكان هذا بالنسبة له عرض جميل جدا وقمت بمساعدته كطلبة . وساعدني هو بإختيار المواد المناسبة والالوان وورق الحائط.
وكان يحضر في المساء بعد الفراغ من عمله العادي او في نهاية الأسبوع.
عندما اتى وقت الحساب اخذت الورقة والقلم وبدأت في عملية الضرب والجمع والطرح. إلا ان توماس قال لي (صديقي شوقي انا متخلف لا
استطيع ان اضرب او ان اجمع او اطرح). فقمنا بعملية ما عرف في امدرمان بحساب حاج نقد الله وهو تاجر مشهور في سوق امدرمان. فعندما اختلف مع شخص في بيعة بتاعت قلل والراجل ما عاوز يقتنع, فك القروش قرش وتعاريف وخته ليهو قرش ونص في كل قلة. فبدأت بوضع الفلوس ثلاثين دولار ..ثلاثين
دولار.... في يد توماس إلى ان اكتمل المبلغ.
وشرح لي
توماس انه وجد صعوبة في مواصلة الدراسة. الا ان المدرسين والادارة وزملائه كانوا يتفهمون عدم مقدرته على الإستيعاب.
وانتهى به الأمر في مدرسة صناعية وسط مجموعة من الطلاب الذين يجدون صعوبة في استيعاب مواد المدرسة العادية. ووجد تفهما ومساعدة من اغلب البشر. وكان هنالك طبعا من اساء اليه ولم يفهم مشكلته. وكان يحكي لي كيف قضى سنة كاملة من حياته متشردا. ينام تحت سلالم العمارات بحثا عن الدفء في
شتاء اسكندنافيا. ويبدو ان حياة التشرد قد ولدت عنده مقدرة على اكل كميات مخيفة من الطعام. واذكر انه في احدى المرات قد اكل ثلاثة من اسماك البلطي الكبيرة في جلسة واحدة. وزوجتي كانت تتفنن في تقديم انواع مختلفة من الطعام. وحتى بعد ان فرغ من طلاء المنزل صرت ازوره وزوجته فيفكا بإستمرار ولم تنقطع زياراته لنا.
شوقي وتوماس النقاش....طبعا انا على اليمين
السنة الماضية ومع بداية الربيع وقعنا في فخ شركة عرضت علينا حوض السباحة
بإضاءة جميلة وفلتر ضخم ومضخة لتحريك الماء. المسبح مصنوع من الفايبر قلاس
بلون ازرق جميل. وبعد توقيع العقد اكتشفنا اننا نحتاج لتحويل مائة وعشرين طن من التراب والطين. واتت شركة سويدية
للحفر ونقل الطين والتراب. وجعلوا من النجيلة عبارة عن عصيدة لموا فيها مكوفرين. اما الممرات فلقد تقلع البلاط وصار البيت عبارة عن ارض
معركة بالمدفعية الثقيلة.
يان اخصائ اللاند اسكيب
خاصة بلاط الحدائق
الحل بالنسبة للسويديين كان, كشط الأرض. ووضع مشمعات
خاصة ثم وضع الحصى وطبقة جديدة من الرمل ومندلة كل شيء ثم رص بلاط بسمك عشرة سنتمتر ورص البلاط. وبالنسبة لهم العملية ستساوي عشرين الف دولار. وبكل بساطة كان اقتراحهم اخد رهن على البيت من البنك.
والإقتراح الآخر بخصوص النجيلة, كان نزع النجيلة القديمة وبسط نجيلة جديدة تأتي في شكل بساط ملفوف وتساوي عشرة يورو للمتر المربع. وهذا فقط ثمن النجيلة.
ولكن يجب كشط النجيلة القديمة. وإحضار تربة جديدة. وكانت عندهم عينة من التربة الجديدة كانت تشبه صعوط عمنا فرقعون قديما في امدرمان, مفلفلة زي كأنو معمولة بالكومبيوتر. وهذه التربة ستنثر بعد عملية تسوية للأرض بمنظار ومعدات خاصة .
وبعد كل هذا وبسط النجيلة القرمصيص. تأتي مهمة المراقبة والسماد. واشياء لا يعلم بها الا الله. لأن تربتنا قد اختلطت بالحصى والطين الصلصالي الموجود داخل الأرض وهذه اشياء لا تصلح للنجيلة. والحل الذهاب إلى البنك ورهن جديد. وذهب السويديون وهم على إقتناع بأن الأفارقة سيتصلون بهم حتى ولو باعوا افيال الأسرة في افريقيا.
وعندما اتت فيفكا وتوماس لزيارتنا. عرفت منها ان زوج ابنتها يعمل في الحدائق ومتخصص في البلاط. ويمكن ان يساعدني. وهكذا انضم الينا متخلف ثالث. واتى يان بشاحنته ومعداته. ولم يبد عليه اي نوع من التخلف. إلى ان قال لي سأعمل في الأمسيات وايام السبت لأننا نلعب الكرة في يوم الأحد. وعندما سألته لماذا لا يعمل يف يوم الاحد كذلك قال لأنه لاعب مهم في فريقه . والفريق لا يستغنى عنه. وهو الذي يسوق البص. وهو اهم انسان في الدفاع وبعفوية سألته في اي درجة تلعبون؟ قال : ليس عندنا درجات . نحن نلعب في رابطة المتخلفين.
يان المتخلف الذي يتعرض في كثير من دولنا للإساءة والسخرية والإعتداء في بعض الأحيان. قال لي
مباشرة عندما عرضت عليه المعدات اللتي جهزتها من جواريف وعربة تدفع باليد لحمل الرمل ومعدات اخرى ( الجاروف يجب ان يكون طويلا حتى لا تجبر على الإنحناء والجاروف ليس من المفروض ان يكون مستقيما بل يحتاج الإنسان لإنحناءة في المقبض
وإنحناءة في وسط الجاروف وإنحناءة ثالثة في نهاية الجاروف. والعربة اللتي اشتريتها يمكن
ان اقول لك سعة سبعين لتر والمقابض ليست طويلة مما يجعلك تحمل ظهرك اكثر من ما يجب
وسأحضر انا مجارف طويلة وعربة بمقابض طويلة وتسع مائة لتر وهذا سيعني ثلاثين في المائة من تقصير الوقت) . (البلاط الموجود الآن بالرغم من قدمه لا غبار عليه وهو بمقاس خمسين في خمسة وعشرين سنتمتر. وهذا النوع يسهل تركيبه وبسرعة. ومتماسك اكثر من البلاط الحديث المكون من قطع صغيرة. وانت لا تحتاج لوضع مشمع قبل الحصى والبلاط والغرض هو منع الأعشاب من النمو. وبلاطك بسمك خمسة سنتمترات وهذا كافي. وعشرة سنتمرات يحتاجها الانسان اذا كان هنالك سيارات ثقيلة او شاحنات. ويمكن ان يتحصل لي على بلاط قديم بنفس مواصفات بلاطي الذي تحطم بسبعين سنت
للبلاطة . فبعض الناس
يغير
بلاطه ويدفع من يأتي لأخذه. وتحصلت على كمية ضخمة من البلاط من يان بمبلغ زهيد بدلا عن البلاط المحطم.
وحول حوض السباحة ليس هنالك سوى اقدام اطفالك وحتى السيارة العادية لا تحتاج لأكثر من خمسة سنتمترات. والحصى والرمل يكفي ان تتصل بشركات وبعد ساعتين سيكون المطلوب امام
دارك. وبنظرة متمرسة قال
لي ان الجزء الداخلي من المنزل اعلى قليلا من الشارع وهذا هو المطلوب. وسأعمل (دروب) عشرين سنتمتر حتى يبلغ الممر الرئيسي البوابة بإرتفاع سنتمترين فقط من الشارع حتى ينساب الى الشارع. وقد احتاج لاقصى شيء
ستين ساعة عمل اذا
وجدت مساعدة. فأفهمته بأنني عتالي سابق ليس هنالك مشكلة. وطالب يان كذلك بثلاثين دولار في الساعة. وبعد اليوم الأول استلم مائتين وخمسين دولار. فقلت له معنى هذا انك يمكن ان تتحصل على خمسة..
الف دولار في الشهر. وببساطة رد طبعا لم لا.
ولو لا ضحكات في
غير مكانها . وبعض التصرفات لم لاحظ الإ نسان ان يان يعاني من اي تخلف. ولم تكن تنقصه الثقة بالنفس وهذا اهم شيء لكي
يواجه الإنسان الحياة. يان ترك جاروفا لي كهدية. لأنه من التخلف ان نستعمل جاروف
مستقيما قد يورثني تشوها في السلسلة الفقرية. واضفت انا عشر
ساعات لأجره.
في اليوم الأول لعمل البلاط ظهر يان وزوجته وكلبهما وظهر صهره صديقي توماس النقاش. وعندما افهمت توماس بأن الاحوال المادية ليست جيدة ولا استطيع ان اوظفه كان رده (انا هنا في منزل صديقي انا هنا لكي اساعد على اقل شي في اليوم الأول
ولا اريد اي
فلوس) ولانني
اعرف انه يحتاج
لفلوس لتصليح سيارته القديمة فقد قمت بتوظيفه. وبعد واحد واربعين ساعة من العمل كان البلاط قد اكتمل والمماشي مكتملة. وبالرغم
من اصراري على وضع مشمع تحت الحصى والرمل كانت التكلفة
شيئا تافها بالمقارنة مع الشركة السويدية. والغريب
انني شاهدت سيارتهم
تمر امام منزلنا عدة مرات ولا بد انهم كانوا على اقتناع بان الافريقي المتخلف سيطلب مساعدتهم في الآخر صاغرا قابلا بشروطهم .
الخلاص من عملية البلاط شجعني في اخذ الأمر في يدي وعمل النجيلة وتوفير عشرين الف دولار اخرى لم تكن متوفرة. فيان المتخلف كان يخطط بسرعة وينظم ويحثنا على العمل ضاحكا. واكتشفت ان عملية البلاط عملية علمية لها حساباتها وتحتاج لتخطيط. وفي بعض الأحيان كان يان يقص البلاط السميك بالمنشار الكهربائي وتشكيله في مثلثات ومربعات صغيرة.
وبعد اسبوعين من التعب والشقاء والازمة والطورية وعشرات المشاوير للتخلص من الحصى وقلب التربة. ومساواتها وبسطها عدة مرات واغراقها بالماء حتى يخرج الحصى للسطح. وجمع الحجارة الصغيرة والكبيرة والتخلص منها في مكب النفايات الخاص خارج المدينة. اشتريت جوالا من بذور النجيلة كلفنى مائة دولار. وبعد اسبوعين كانت عندي اربعمائة متر من النجيل الجميل لم يحتاج لأكثرمن عمليتين صغيرتين للرقع واكتملت الصورة.
وشاهدت عربية الشركة السويدية تقف ويطالع
اصحابها البلاط الجميل
والنجيل الاخضر الذي لم يكلف اي شيء حتى ينطلقون يائسين. فلقد هزمهم ثلاثة من المتخلفين.
بدأت افكر في عظمة الدكتور فيصل الذي خلق وأسس معهد سكينة. فعندما ذهب للدكتاتور نميري مطالبا
بالمساعدة شخط فيه الدكتاتور قائلا (انحنا الناس الشديدن ما قادرين نساعدهم جايب لينا المتخلفين) فغضب دكتور فيصل رحمة الله عليه وذهب مشيا إلى امدرمان ولم يتذكر انه قد ترك سيارته امام مكتب نميري.
وعندما استأجر دكتور فيصل منزلا وبدأ فيه المعهد قام صاحب المنزل بطرده قائلا (جايب لي العواليق في بيتي يا عواليق). فقامت والدته سكينة رحمة الله عليها ببيع ذهبها وصرفت مدخراتها في تأسيس المعهد. وعندما
بعث الدكتور بتلاميذه للتدرب في المنطقة الصناعية وجدوا الإغتصاب المستمر والمبرمج من الرجال وبعضهم ارباب اسر وآباء لأطفال.
توماس ويان وعشرات الآلاف ومن الممكن مئات
الآلاف من
اطفال اسكندنافيا الذين يعانون من بعض التخلف
يجدون المساعدة حسب مقدرتهم
للدراسة. والإندماج في المجتمع.
في كل سنين الدراسة حتى في ايام الجامعة لم ادرس واذاكر كما قمت به للحصول على رخصة القيادة السويدية . فمن ستمائة سؤال يقدم لك ثمانين سؤالا يجب ان تجاوب
عليهم في ظرف ساعة ومسموح لك بخمسة غلطات. ولابد ان توماس ويان وامثالهم قد وجدوا مساعدات رهيبة لكي يتحصلوا رخصة قيادة. فللشاب العادي تكلف الرخصة حوالي
الاربعة الف دولار ولكن للمتخلفين يتواجد الدعم المادي والأدبي للحصل
على رخصة وهذا يحدث
في بلد الكفار والعكس صحيح في بلد المسلمين.
التحية,,,,
شوقي,,,
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة