العقيد ومنصور وانا
ثروت قاسم
[email protected]
مقدمة !
الزمان : عصر يوم الاثنين 29 نوفمبر 1993
المكان : جوف طائرة متوجهة من باريس الي القاهرة
لاول وهلة , حسبت جارك في المقعد , من سماته ومن لونه الابيض , فرنسيأ ! ولكنه عندما قال شكرا بفرنسية بها لكنة عربية , لمضيفة الطائرة , وهي تحمل عنه معطفه الشتوي , تيقنت انه ليس بفرنسي !
من يكون ياتري , جارك الذي سوف يجاورك لعدة ساعات , والذي تبدو عليه سمات الفكر والمعرفة والتحضر !
قليلا من الصبر الذي يبل الابري , يا هذا !
لمحك تتصفح في جريدة لوموند الفرنسية ! فبادر بكسر الجليد بينكما , سائلا عن الاخبار !
ظهرت علي وجهه علامات الرضي والارتياح , وهو يعرف انك من بلاد السودان ! وطفقت عيناه الزرقاوتان تشعان بنور جاذب , وهو يحدثك عن هذا وذاك من السودانيين , الذين تشرف بمعرفتهم !
سعدت كثيرا وهو يخبرك انه يعتبر السيد الامام والدكتور منصور خالد من المفكرين والمثقفين العالميين , لاسهاماتهم المقدرة في أثراء الفكر العالمي , والثقافة العربية علي وجه الخصوص !
قال :
في ايران نجد الولي الفقيه ! وفي السودان نعرف من يكون الولي الفقيه ... المتخفي والسني !
يجمع الشيخ حسن الترابي في اياديه الامارة الدينية وكذلك السياسية , ويحرك , من وراء ستار , كل الاراجوزات في بلاد السودان !
الولي الفقيه !
اعطاك جارك عدة امثلة لتاكيد ادعائه ان الشيخ الترابي هو الولي الفقيه في بلاد السودان ( كان يتحدث في عام 1993 ) ! وان بلاد السودان تحكمها حكومتان , واحدة رسمية , ومعلنة , وعلي راسها الرئيس البشير ! واخري موازية وخفية وفاعلة , وعلي رأسها الولي الفقيه ... الشيخ الترابي !
في هذا السياق , ارجو ان تحجينا , مرة ثانية , بالحكاية التي سمعتها ( 1993 ) من جارك , والتي تؤكد سلطة الشيخ الترابي المطلقة في بلاد السودان!
حكاية !
طلب السفير التونسي في الخرطوم مقابلة عاجلة مع المرحوم علي سحلول , وزير الخارجية , وقتها ! دخل السفير توش في الموضوع ! واخطر المرحوم سحلول بان الرئيس زين العابدين بن علي ( ايام زمان كانت ايام ؟ ) منزعج , غاية الانزعاج من تنقلات المعارض التونسي الشيخ راشد الغنوشي , بجواز سفر دبلوماسي سوداني ! اخطر السفير المرحوم سحلول بان جواز الغنوشي سوف تنتهي صلاحيته هذا الاسبوع ! وطلب السفير ان لا يتم تجديد صلاحية الجواز , ولا يعاد ارساله للشيخ الغنوشي ! اكد السفير للمرحوم سحلول ان الرئيس بن علي يتابع هذا الموضوع شخصيأ ! وان علاقة تونس الحبية بالسودان تعتمد , حصريأ , علي عدم تجديد حكومة السودان لجواز الشيخ الغنوشي !
عرض المرحوم سحلول الامر علي الرئيس البشير , الذي وافق علي تلبية الطلب الرئاسي التونسي , ووجه بعدم تجديد صلاحية الجواز السوداني للشيخ الغنوشي , بل تدميره !
وجه المرحوم سحلول ادارة المراسم بعدم تجديد جواز الشيخ الغنوشي , والاحتفاظ به , وعدم اعادة ارساله للشيخ الغنوشي ! وارسل مذكرة وزارية سرية لادارة المراسم في وزارته , بالموضوع , لتاكيد اهميته!
تلفن المرحوم سحلول للسفير التونسي وبشره بان طلبه سوف يتم تنفيذه ! ولن تعيد الخارجية السودانية الجواز للشيخ الغنوشي !
تلفن الرئيس بن علي للرئيس البشير شاكرا ومقدرأ !
بعد اسبوعين من تاريخه , رجع السفير التونسي للمرحوم سحلول شاكيأ , بان جواز الشيخ الغنوشي قد تم تجديده , ويسافر به الشيخ الغنوشي حاليأ ! وان الرئيس بن علي قد تالم كثيرا لهذه الطعنة في الخلف , وربما قفل السفارة التونسية في الخرطوم ! وانه ( السفير التونسي ) قد تم استدعاؤه لتونس , وسوف يسافر صبيحة الغد !
اكد المرحوم سحلول للسفير التونسي بان ادعاءه باطل ! لانه قد اصدر الاوامر لادارة المراسم في وزارته ( وحسب توجيه الرئيس البشير شخصيأ ) بعدم تجديد جواز الشيخ الغنوشي , عند استلامه من الشيخ ! ذكر السفير للمرحوم سحلول بان الجواز قد تم ارساله للخرطوم يوم كذا , وتم تجديده في الخرطوم يوم كذا , وتمت اعادته للشيخ الغنوشي , الذي سافر به يوم كذا من لندن الي باريس ! وسلم السفير التونسي للمرحوم سحلول , صورة من الجواز المجدد , وعليه ختم ادارة الهجرة الفرنسية في مطار باريس !
اسقط في يد المرحوم سحلول !
وبعد التحري , اكتشف المرحوم سحلول بان الجواز قد تم تجديده بواسطة ( اولاد الشيخ الترابي ) في وزارة الخارجية , وتمت اعادته للشيخ الغنوشي , تماما كما ادعي السفير التونسي !
وصمت المرحوم سحلول !
ولم يفتح الله عليه حتي ب ( بغم ) حلوم !
واصل جارك , قائلأ :
لكل قاعدة شواذ ! وشذت بلاد السودان عن قاعدة العسكر الذين يسيطرون علي السلطة , بعد انقلابهم العسكري , وقلبهم لنظام الحكم ! اذ يتحكم المدنيون , وعلي راسهم عرابهم الترابي , علي كل مقاليد السلطة , في سودان الانقاذ ! العسكر , بما فيهم الرئيس البشير , مجرد اراجوزات , لا تملك من امرها شيئأ ! وهذه ظاهرة فريدة في التاريخ الانساني ! ولن تدوم طويلا ! لانها عكس مجري التاريخ ! وسوف ينتهي الامر باحدهما الامر الناهي , في الظاهر وكذلك في الباطن !
وصدق حدس جارك , فبعد 6 سنوات من كلامه ( 1993 ) , حدثت المفاصلة في رمضان من عام 1999 ! تماما كما تنبأ ! والقصة معروفة !
قال :
يسعي الشيخ الترابي ( 1993 ) الي تصدير مشروعه الحضاري الاسلاموي الي كل العالم , وليس فقط داخل بلاد السودان ! وسوف يعقد هذا النهج حل مشكلة جنوب السودان , التي ستصير مشكلة دينية , وعرقية , بدلا عن مشكلة سياسية ! وربما ادت الي انفصال الجنوب عن الشمال , لان الجنوبيين ليسوا مسلمين , وليسوا عربأ ( لاحظ هذا الكلام كان في عام 1993 ! ) !
اساس المشكلة بين لينين وتروتسكي ان لينين كان يسعي للتركيز علي الاتحاد السوفيتي في نشر الفكرة الشيوعية ! بينما تروتسكي كان يفكر عالميأ ! وانتصرت فكرة لينين علي فكرة تروتسكي ! ولنفس السبب , اوقف رفسنجاني تصدير الثورة الاسلامية الايرانية , التي عمل لها الامام الخميني !
سوف يحترق الشيخ الترابي , ويحرق معه بلاد السودان , اذا لم يوقف تصدير مشروعه الحضاري الاسلاموي ... هكذا تنبأ جارك في عام 1993 !
مشكلتنا مع العقيد هي نفس مشكلة لينين مع تروتسكي , ونفس مشكلة الخميني والشيخ الترابي ... تصدير الثورة الي العالم !
يؤمن العقيد بتصدير ثورته وفكرته ( وهي ليست بثورة , وليست بفكرة وانما مصيبة ) الي العالم , رغم اننا لم نتخطي حاجز الاربعة مليون نسمة بعد , اكثر من نصفهم اميون ... او كما قال جارك !
يؤمن العقيد , أيمانا لا ياتيه الباطل من بين يديه , او من خلفه , بأنه مبعوث العناية الإلهية ، لانقاذ البشرية !
يؤمن العقيد بانه النبي نوح ( وليس الامام الغائب او المسيح العائد ) , الذي ارسله المولي لانقاذ البشرية من الطوفان !
قال :
يحلو دوما للعقيد ان يردد بأن المشركين كانوا يهزأون من النبي نوح حين كان يُعِدّ المركب , ويتندرون حول ما يقوم به! كان قوم نوح يؤمنون بان نوح من المجانين , لانه لم تكن هنالك اي ارهصات قبلية لاي طوفان قادم ! ولكن جاء الطوفان , وهلك قوم نوح من السفهاء , الذين كانوا يسخرون منه , بما في ذلك ابنه ! ونجي من قوم نوح من ركب معه في المركب !
ويؤمن العقيد بانه نوح زمانه ! وان من يركب في مركبه سوف ينجو من الطوفان القادم !
ولكنه , وبعكس النبي نوح , لا يسمح العقيد لاي معارضة سلمية وموضوعية لافكاره ! لا يسمح بالتحزب والاحزاب في ليبيا , ويؤمن بان الاحزاب السياسية رجس من عمل الشيطان ! ويؤمن بان معارضيه السياسيين المسالمين , كلاب ضالة وسعرانة , يجب القضاء عليها , حتي لو كانت في عروش مشيدة , خارج ليبيا !
لا يؤمن العقيد بتعدد الاراء السياسية , احدي منتوجات الحرية ! ويخون العقيد كل من يحمل رأيأ مخالفأ لرائه , ويعتبر ذلك تحزبأ ! والتحزب عنده بدعة , بل كفر ومروق عن الدين ! ويوصم العقيد المخالفين لرأيه بالكلاب الضالة ! يؤمن جارك بان العقيد مريض نفسيأ , وغير سوئ التفكير والتصرفات ( 1993 ) !
من هو جارك !
كان جارك في المقعد في الطائرة هو الاستاذ منصور رشيد الكيخيا , امين عام التحالف الوطني الليبي ( حزب سياسي ليبي في المنفي ومعارض للعقيد ) ! كان منصور وزير خارجية ليبيا , ثم المندوب الدائم لليبيا لدي الامم المتحدة في نيويورك , قبل خلافه مع العقيد , ولجؤه السياسي خارج ليبيا !
كان منصور في طريقه للمشاركة في المؤتمر الثالث للمنظمة العربية لحقوق الانسان ( القاهرة - 3و4 ديسمبر 1993 ) , وهو من مؤسسيها !
خطط منصور للرجوع الي باريس بعد انتهاء المؤتمر مباشرة ! وليته فعل , أذن لكانت ايامه في الحياة قد استطالت شيئأ ! ولكنه , وهو في الطائرة , قرر ان يمدد اقامته , لزيارة بعض اقاربه المقيمين في الاسكندرية , علي ان يرجع معك الي باريس يوم الاحد 12 ديسمبر 1993 ! سلمك منصور , في الطائرة , بطاقة سفره لتقوم بتغيير حجزه . عند وصولكما القاهرة ! وطلب منك منصور , والح عليك ان تنزل معه في فندق سفير , حيث يعقد المؤتمر جلساته , وحيث ينزل هو , طيلة مدة اقامته في القاهرة ! وكنت في غاية السعادة , لتلبية طلبه ! فقد اسرك الرجل بثقافته الموسوعية , وفكره المتقد , وتجاربه الثرة , ووطنيته المبصرة ! وقد صرتما اصدقاء فكر , رغم قلة ساعات اللقاء المعدودة , ورغم فارق السن بينكما , اذ كان منصور قد تخطي عتبة السبعين وقتها !
اعترف لك منصور بانه اوجس منك خيفة , بادي الامر , وافترض انك غواصة ارسلها العقيد لكي تفتك به ! ولكنه اطمأن شيئأ عندما سمع لهجتك السودانية , واكثر عندما ايقن ان رؤاكما في كثير من المواضيع , تكاد تكون متطابقة !
طلب منصور منك عدم الظهور في معيته , وانتما بالفندق ! وطلب منك السماح له بالمبيت ليلا , والمقيل نهارا , في حجرتك بالفندق , لانه لا يأمن اولاد بمبة , وامنهم الذئبي , وتحالفه الشيطاني مع الامن الليبي ! وكنت سعيدا بتلبية طلبه , واستخرجت له مفتاحأ , اضافيأ , حتي ياتي للغرفة , متي اراد ! رغم ان هذا الاجراء الاحترازي قد حرمك من متعة التواصل مع منصور , خارج غرفتك , وعلنأ !
ترك منصور جميع حاجياته بغرفته , للتمويه ! حتي ادويته , اذ كان مصابأ بداء السكري !
كان منصور علي قناعة تامة بان اولاد بمبة سوف يخترقون غرفته , وربما اذوه , بل ربما سمموه , بغازات سامة في غرفته , في صفقة شيطانية بين العقيد والفرعون !
ولكنه شعر بالامان , وهو في غرفتك ! كان يذهب الي غرفته في الصباح لتغيير ملابسه , ثم يفر منها , فرار الاجرب من السليم ! وكنت لا تراه الا ليلا , وهو يدخل غرفتك , بعد ان يتاكد انه غير مراقب , ولا يوجد احد من عناصر الفندق في الممر !
كان خائفا يترقب ! ربي نجئه من القوم الظالمين !
ولكن مرت الايام بسلاسة وهدؤ !
اعدت تاكيد حجز منصور (للرجوع الي باريس معك ) يوم الاحد 12 ديسمبر 1993 !
وكانت اخر مرة تري فيها منصور ... صباح يوم الجمعة 10 ديسمبر 1993 , وهو يغادر غرفتك الي غرفته , بعد ان انتهي من حمامه الصباحي !
افقت من النوم يوم السبت 11 ديسمبر 1993 , ولم تر منصور في السرير المقابل لسريرك ! خلته في الحمام ! ولكن لم تر جوز حذائه تحت السرير , ولا معطفه علي الكرسي , كما هي العادة صباح كل يوم !
لم يكن بوسعك عمل اي شئ ! لا يمكنك السؤال عنه ! ولا تعرف من تسأل !
تجرأت , بعد ساعات , وتلفنت غرفة منصور !
يرن التلفون ولا من مجيب !
عناصر الفندق لا تعرف عنه شيئأ !
ورجعت الي باريس يوم الاحد 12 ديسمبر 1993 ! بدون منصور ؟
وانت في باريس تجمعت لديك معلومات اكثر عن كيفية اختفاء منصور , رغم تحوطه الشديد !
كان العقيد يتهم منصور بانه سرب معلومات , للفرنسيين , عن تفجير طائرة لوكربي , وعن تفجير طائرة اليوتا , التي تم أسقاطها بواسطة العقيد فوق النيجر!
تلقي العقيد معلومات عن وجود المعارض الليبي الدكتور محمد المقريف , في طائرة اليوتا ! ولهذا فجر العقيد الطائرة ! ولكن الدكتور محمد المقريف سافر علي طائرة اخري , في نفس النهار ! ونجا باعجوبة من موت محقق !
كان العقيد يعتبر منصور عدوه نمرة واحد !
يمكن بناء القصة من يوم اختفاء منصور , والي يوم اغتياله كما يلي :
وهو في القاهرة , تلقي منصور دعوة للعشاء من ابراهيم البشاري , سفير ليبيا في مصر , ومندوب ليبيا لدى الجامعة العربية ! وهو في منزل السفير , تم تخدير منصور , وحملته ثلاثة عربات من المراسم الليبية ( لا يتم تفتيشها علي الحدود المصرية الليبية ) , من منزل السفير الي بنغازي ! ومنها بالطائرة الي طرابلس , حيث كان العقيد في انتظاره !
تم ربط قلادة حول عنق منصور , وفي طرفها يتدلي حبل , يمسك به أحد جنود العقيد الاشداء ! تم ارغام منصور علي المشي علي اربعة , كما الكلب , امام المقعد الذي يجلس عليه العقيد ! كان العقيد يحمل سوطأ , يضرب به منصور علي راسه , وعلي جسمه , ويصرخ فيه :
كلب ضال ! كلب ضال !
ويرغم العقيد منصور لكي ينبح و يهر :
هو هو هو ... محاكيأ الكلب !
ويرفض منصور !
فينهال عليه العقيد بالضرب بالسوط علي راسه !
ويتكرر المشهد كل يوم ! الي ان فارق منصور الحياة , وهو يتلقي الضربات من سوط العقيد !
تم تذويب جثة منصور في محلول عالي الحموضة !
وانتهي منصور الي عدم !
تمت مكافاة السفير ابراهيم البشاري بتعيينه مديرا لجهاز الاستخبارات الليبي ! ثم غضب العقيد منه , وتم اغتياله في حادث حركة مدبر !
وبدات السماء في الانتقام لمنصور من العقيد في 17 فبراير 2011 !
السماء تمهل ! ولا تهمل !
نساله تعالي الرحمة لمنصور الكيخيا ! |