From sudaneseonline.com

بقلم : ثروت قاسم
العقيد ومنصور وانا /ثروت قاسم
By
Mar 12, 2011, 07:49

العقيد ومنصور وانا

 

ثروت قاسم

[email protected]

 

مقدمة !

الزمان : عصر يوم الاثنين 29 نوفمبر 1993

المكان : جوف طائرة متوجهة من باريس الي القاهرة

لاول وهلة , حسبت جارك في المقعد , من سماته ومن لونه الابيض  , فرنسيأ ! ولكنه  عندما قال شكرا بفرنسية بها لكنة  عربية , لمضيفة الطائرة  , وهي تحمل عنه معطفه  الشتوي , تيقنت انه ليس   بفرنسي !

من يكون ياتري , جارك الذي سوف يجاورك لعدة ساعات , والذي تبدو عليه سمات الفكر والمعرفة والتحضر !

قليلا من الصبر الذي يبل الابري , يا هذا !

لمحك  تتصفح في جريدة لوموند الفرنسية ! فبادر بكسر الجليد بينكما , سائلا عن الاخبار !

ظهرت علي وجهه علامات الرضي والارتياح , وهو يعرف انك من بلاد السودان ! وطفقت عيناه الزرقاوتان تشعان بنور جاذب , وهو يحدثك عن هذا وذاك من السودانيين ,  الذين تشرف بمعرفتهم !

سعدت كثيرا وهو يخبرك انه يعتبر السيد الامام والدكتور منصور خالد من المفكرين والمثقفين العالميين , لاسهاماتهم المقدرة في أثراء الفكر العالمي , والثقافة العربية علي وجه الخصوص !

قال :

في ايران  نجد الولي الفقيه   ! وفي السودان نعرف من يكون  الولي الفقيه  ...  المتخفي والسني !

يجمع الشيخ  حسن الترابي في اياديه الامارة الدينية وكذلك السياسية , ويحرك  , من وراء ستار ,  كل الاراجوزات في بلاد السودان !

الولي الفقيه !

اعطاك جارك عدة امثلة لتاكيد ادعائه ان الشيخ الترابي هو الولي الفقيه في بلاد السودان (   كان يتحدث  في عام 1993 )  ! وان بلاد السودان تحكمها حكومتان , واحدة رسمية , ومعلنة , وعلي راسها الرئيس البشير !  واخري  موازية وخفية وفاعلة , وعلي رأسها الولي الفقيه  ...  الشيخ  الترابي ! 

في هذا السياق , ارجو ان  تحجينا    , مرة ثانية  , بالحكاية  التي سمعتها ( 1993 ) من جارك ,  والتي  تؤكد سلطة الشيخ الترابي المطلقة في بلاد السودان!

حكاية !

طلب السفير التونسي  في الخرطوم مقابلة عاجلة مع المرحوم علي سحلول , وزير الخارجية , وقتها ! دخل السفير توش في الموضوع ! واخطر المرحوم سحلول بان الرئيس  زين العابدين بن علي  ( ايام زمان كانت ايام ؟ ) منزعج , غاية الانزعاج من تنقلات  المعارض التونسي الشيخ راشد الغنوشي , بجواز سفر دبلوماسي سوداني ! اخطر السفير المرحوم سحلول بان جواز الغنوشي سوف تنتهي صلاحيته هذا الاسبوع ! وطلب السفير ان لا يتم تجديد  صلاحية الجواز , ولا يعاد  ارساله للشيخ الغنوشي ! اكد السفير للمرحوم سحلول ان الرئيس بن علي يتابع هذا الموضوع شخصيأ ! وان علاقة تونس  الحبية بالسودان تعتمد , حصريأ , علي  عدم تجديد حكومة السودان لجواز الشيخ الغنوشي !

عرض المرحوم سحلول الامر علي الرئيس البشير , الذي وافق علي تلبية الطلب الرئاسي التونسي , ووجه بعدم تجديد صلاحية الجواز السوداني للشيخ الغنوشي , بل تدميره !

وجه المرحوم سحلول ادارة المراسم بعدم تجديد جواز الشيخ الغنوشي , والاحتفاظ به , وعدم اعادة ارساله للشيخ الغنوشي ! وارسل مذكرة وزارية سرية لادارة المراسم في وزارته , بالموضوع ,  لتاكيد  اهميته!

تلفن المرحوم سحلول للسفير التونسي وبشره بان طلبه سوف يتم تنفيذه ! ولن تعيد الخارجية السودانية الجواز للشيخ الغنوشي !

 تلفن الرئيس بن علي للرئيس البشير شاكرا ومقدرأ !

بعد اسبوعين من تاريخه , رجع السفير التونسي للمرحوم سحلول شاكيأ , بان جواز الشيخ الغنوشي قد تم تجديده , ويسافر به الشيخ الغنوشي حاليأ ! وان الرئيس بن علي قد تالم كثيرا لهذه الطعنة في الخلف , وربما قفل السفارة التونسية في الخرطوم ! وانه ( السفير التونسي ) قد تم استدعاؤه لتونس , وسوف يسافر صبيحة الغد !

اكد المرحوم سحلول  للسفير التونسي بان ادعاءه باطل ! لانه قد اصدر الاوامر لادارة المراسم  في وزارته ( وحسب توجيه الرئيس البشير شخصيأ ) بعدم تجديد جواز الشيخ الغنوشي , عند استلامه من الشيخ ! ذكر السفير للمرحوم سحلول بان الجواز قد تم ارساله للخرطوم يوم  كذا , وتم تجديده  في الخرطوم يوم كذا , وتمت اعادته للشيخ الغنوشي , الذي سافر به يوم كذا من لندن الي باريس ! وسلم السفير التونسي للمرحوم سحلول , صورة من الجواز المجدد , وعليه ختم ادارة الهجرة الفرنسية  في مطار باريس !

اسقط في يد المرحوم سحلول !

وبعد التحري , اكتشف المرحوم سحلول بان الجواز قد تم تجديده بواسطة ( اولاد الشيخ الترابي ) في وزارة الخارجية , وتمت اعادته للشيخ الغنوشي , تماما كما ادعي السفير التونسي !

وصمت المرحوم سحلول !

ولم  يفتح الله عليه حتي ب ( بغم ) حلوم !

واصل جارك , قائلأ :

لكل قاعدة شواذ ! وشذت بلاد السودان عن قاعدة العسكر الذين يسيطرون علي السلطة , بعد انقلابهم العسكري , وقلبهم لنظام الحكم ! اذ يتحكم المدنيون , وعلي راسهم عرابهم  الترابي , علي كل مقاليد السلطة , في سودان الانقاذ ! العسكر , بما فيهم الرئيس البشير , مجرد اراجوزات , لا تملك من امرها شيئأ ! وهذه ظاهرة فريدة في التاريخ الانساني ! ولن تدوم طويلا ! لانها عكس مجري التاريخ ! وسوف ينتهي الامر باحدهما الامر الناهي , في الظاهر وكذلك في الباطن !

وصدق حدس جارك , فبعد 6 سنوات من كلامه  ( 1993 ) , حدثت المفاصلة في رمضان من عام 1999 !  تماما كما تنبأ ! والقصة معروفة !

قال :

يسعي الشيخ الترابي ( 1993 )  الي تصدير مشروعه الحضاري الاسلاموي  الي كل العالم , وليس فقط  داخل بلاد السودان ! وسوف يعقد هذا النهج حل مشكلة جنوب السودان , التي ستصير مشكلة دينية , وعرقية , بدلا عن مشكلة  سياسية ! وربما ادت  الي انفصال الجنوب عن الشمال , لان الجنوبيين ليسوا مسلمين , وليسوا عربأ  ( لاحظ هذا الكلام كان في عام 1993 ! ) !

اساس المشكلة بين لينين وتروتسكي ان لينين كان يسعي للتركيز علي الاتحاد السوفيتي في نشر الفكرة الشيوعية ! بينما تروتسكي كان يفكر عالميأ ! وانتصرت  فكرة  لينين علي  فكرة تروتسكي ! ولنفس السبب , اوقف رفسنجاني تصدير الثورة الاسلامية الايرانية , التي عمل لها الامام الخميني !

سوف يحترق الشيخ الترابي , ويحرق معه بلاد السودان , اذا لم يوقف تصدير مشروعه الحضاري الاسلاموي ... هكذا تنبأ جارك  في عام 1993 !

مشكلتنا مع العقيد هي نفس مشكلة  لينين  مع تروتسكي , ونفس مشكلة الخميني والشيخ الترابي ...  تصدير الثورة الي العالم !

يؤمن العقيد بتصدير ثورته وفكرته ( وهي ليست بثورة , وليست بفكرة وانما مصيبة ) الي العالم , رغم اننا لم نتخطي حاجز الاربعة مليون نسمة بعد , اكثر من نصفهم اميون ... او كما قال جارك  !

 يؤمن العقيد , أيمانا لا ياتيه الباطل من بين يديه  , او من خلفه ,  بأنه مبعوث العناية الإلهية ،  لانقاذ البشرية  ! 

يؤمن العقيد بانه النبي نوح  ( وليس الامام الغائب  او المسيح العائد  ) , الذي ارسله المولي لانقاذ البشرية من الطوفان !

قال :

يحلو دوما للعقيد ان يردد بأن المشركين كانوا يهزأون من النبي  نوح حين كان يُعِدّ المركب ,  ويتندرون حول ما يقوم به!  كان قوم نوح يؤمنون بان نوح من المجانين , لانه لم تكن هنالك اي ارهصات قبلية لاي طوفان قادم ! ولكن جاء الطوفان , وهلك قوم نوح من السفهاء , الذين كانوا يسخرون منه  ,  بما في ذلك ابنه ! ونجي من قوم نوح من ركب معه في المركب !

ويؤمن العقيد بانه نوح زمانه ! وان من يركب في مركبه سوف ينجو من الطوفان القادم !

ولكنه , وبعكس النبي نوح , لا يسمح  العقيد لاي معارضة سلمية وموضوعية لافكاره ! لا يسمح بالتحزب والاحزاب في ليبيا , ويؤمن بان الاحزاب السياسية رجس من عمل الشيطان ! ويؤمن بان معارضيه السياسيين  المسالمين , كلاب ضالة وسعرانة , يجب القضاء عليها , حتي لو كانت في عروش مشيدة , خارج ليبيا !

لا يؤمن العقيد  بتعدد الاراء السياسية  , احدي منتوجات الحرية ! ويخون العقيد  كل من يحمل رأيأ مخالفأ لرائه , ويعتبر ذلك تحزبأ ! والتحزب عنده بدعة , بل كفر ومروق عن الدين ! ويوصم العقيد  المخالفين لرأيه بالكلاب الضالة  !
 
يؤمن جارك بان العقيد مريض نفسيأ , وغير سوئ التفكير  والتصرفات ( 1993 )  !

 من هو جارك !

كان جارك  في المقعد في الطائرة هو الاستاذ منصور رشيد الكيخيا , امين عام التحالف الوطني الليبي ( حزب سياسي ليبي في المنفي ومعارض للعقيد ) ! كان  منصور وزير خارجية  ليبيا  , ثم المندوب الدائم لليبيا لدي الامم المتحدة في نيويورك , قبل خلافه مع العقيد , ولجؤه  السياسي خارج ليبيا !

كان منصور في طريقه للمشاركة في المؤتمر الثالث للمنظمة العربية لحقوق الانسان  ( القاهرة  - 3و4 ديسمبر 1993 ) , وهو من مؤسسيها !

خطط  منصور  للرجوع الي باريس  بعد انتهاء المؤتمر مباشرة  ! وليته فعل , أذن لكانت ايامه في الحياة قد استطالت شيئأ ! ولكنه , وهو في الطائرة  , قرر  ان يمدد اقامته ,  لزيارة بعض اقاربه  المقيمين في الاسكندرية   , علي ان يرجع معك  الي باريس يوم الاحد 12 ديسمبر 1993 !  سلمك  منصور ,   في الطائرة ,   بطاقة سفره لتقوم  بتغيير حجزه  . عند وصولكما  القاهرة ! وطلب منك  منصور , والح عليك  ان  تنزل  معه  في فندق سفير , حيث يعقد المؤتمر جلساته , وحيث ينزل هو , طيلة مدة اقامته في القاهرة ! وكنت في غاية السعادة , لتلبية طلبه ! فقد اسرك  الرجل بثقافته الموسوعية , وفكره المتقد , وتجاربه الثرة , ووطنيته المبصرة ! وقد صرتما   اصدقاء  فكر , رغم قلة ساعات اللقاء المعدودة , ورغم فارق السن بينكما  , اذ كان منصور قد تخطي عتبة السبعين وقتها !

اعترف لك منصور  بانه اوجس منك خيفة , بادي الامر   , وافترض انك غواصة ارسلها العقيد لكي تفتك به ! ولكنه اطمأن شيئأ عندما سمع لهجتك السودانية , واكثر عندما ايقن ان رؤاكما في كثير من المواضيع , تكاد تكون متطابقة !

طلب منصور منك عدم الظهور في معيته , وانتما   بالفندق ! وطلب منك  السماح له بالمبيت ليلا , والمقيل نهارا , في حجرتك  بالفندق , لانه لا يأمن اولاد بمبة , وامنهم  الذئبي , وتحالفه الشيطاني مع الامن الليبي ! وكنت سعيدا بتلبية طلبه , واستخرجت له مفتاحأ , اضافيأ , حتي ياتي للغرفة , متي اراد ! رغم ان هذا الاجراء الاحترازي قد حرمك من متعة التواصل مع منصور ,  خارج غرفتك ,  وعلنأ !

 ترك منصور جميع حاجياته بغرفته , للتمويه  حتي ادويته , اذ كان مصابأ بداء السكري !

كان منصور علي قناعة تامة بان اولاد بمبة سوف يخترقون غرفته , وربما اذوه , بل ربما سمموه , بغازات سامة  في غرفته , في صفقة شيطانية بين  العقيد والفرعون  !

ولكنه شعر بالامان , وهو في غرفتك  ! كان يذهب الي غرفته في الصباح لتغيير ملابسه , ثم يفر منها , فرار الاجرب من السليم ! وكنت لا تراه الا ليلا , وهو يدخل غرفتك  , بعد ان يتاكد انه غير مراقب , ولا يوجد احد من عناصر الفندق  في الممر !

كان خائفا يترقب ! ربي نجئه  من القوم الظالمين !

ولكن مرت الايام بسلاسة وهدؤ !

اعدت تاكيد  حجز منصور (للرجوع الي باريس  معك ) يوم الاحد 12 ديسمبر 1993 !

وكانت اخر مرة تري فيها منصور  ...  صباح يوم الجمعة  10  ديسمبر   1993 , وهو يغادر غرفتك الي غرفته  , بعد ان  انتهي من حمامه الصباحي !  

افقت من النوم يوم السبت 11 ديسمبر 1993 , ولم تر منصور في السرير المقابل لسريرك ! خلته في الحمام ! ولكن لم تر جوز حذائه تحت السرير , ولا معطفه علي الكرسي , كما هي العادة صباح  كل  يوم !

لم يكن بوسعك عمل اي شئ  ! لا يمكنك  السؤال عنه ! ولا تعرف من تسأل !

تجرأت  ,  بعد ساعات  , وتلفنت غرفة منصور !

يرن التلفون ولا من مجيب !

عناصر الفندق لا تعرف عنه شيئأ !

ورجعت الي باريس يوم الاحد 12 ديسمبر 1993 ! بدون منصور ؟

وانت في باريس تجمعت لديك معلومات اكثر عن كيفية اختفاء منصور , رغم تحوطه الشديد !

كان العقيد يتهم منصور  بانه سرب معلومات ,  للفرنسيين  , عن تفجير طائرة لوكربي , وعن تفجير طائرة اليوتا , التي تم  أسقاطها  بواسطة العقيد  فوق النيجر!

تلقي العقيد معلومات عن وجود المعارض الليبي الدكتور محمد المقريف , في طائرة اليوتا !  ولهذا فجر العقيد  الطائرة ! ولكن الدكتور محمد المقريف سافر علي طائرة اخري , في نفس النهار !  ونجا  باعجوبة من موت محقق !

كان العقيد يعتبر منصور عدوه نمرة واحد !

يمكن بناء القصة من يوم اختفاء منصور , والي يوم اغتياله كما يلي :


وهو في القاهرة , تلقي منصور دعوة للعشاء من ابراهيم البشاري , سفير ليبيا في مصر  , ومندوب ليبيا لدى الجامعة العربية ! وهو في منزل السفير , تم تخدير منصور , وحملته ثلاثة عربات من المراسم الليبية ( لا يتم تفتيشها علي الحدود المصرية الليبية ) , من منزل السفير  الي بنغازي ! ومنها بالطائرة الي طرابلس , حيث كان العقيد في انتظاره !

تم ربط قلادة حول عنق منصور , وفي طرفها يتدلي حبل , يمسك به أحد جنود العقيد الاشداء ! تم ارغام منصور علي المشي علي اربعة , كما  الكلب , امام  المقعد الذي يجلس عليه العقيد ! كان العقيد يحمل سوطأ  , يضرب به منصور علي راسه , وعلي جسمه , ويصرخ فيه :

كلب ضال ! كلب ضال !

ويرغم العقيد منصور  لكي ينبح و يهر :

هو هو هو ... محاكيأ الكلب !

 ويرفض منصور !

 فينهال عليه العقيد بالضرب بالسوط علي راسه !

ويتكرر المشهد كل يوم ! الي ان فارق منصور الحياة , وهو يتلقي الضربات من سوط العقيد !

تم تذويب جثة منصور في محلول عالي الحموضة !

وانتهي منصور الي عدم !

تمت مكافاة السفير ابراهيم البشاري بتعيينه مديرا لجهاز الاستخبارات الليبي ! ثم غضب العقيد منه , وتم اغتياله في حادث حركة مدبر !

وبدات السماء في الانتقام لمنصور من العقيد في 17 فبراير 2011 !

السماء تمهل ! ولا تهمل !

نساله تعالي الرحمة لمنصور الكيخيا !

 



© Copyright by sudaneseonline.com