دموع ـ نافع وحديث الوحدة والانفصال ـ إن الجرائم لا تأتي ثمارها/ الصادق حمدين
جاء في كتاب "تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين" لمؤلفه الدكتور محمد السيد سليم: نقتطف منه ما يلي (وتثير قضية إعلان فرنسا الحرب علي بروسيا قضية نظرية تتعلق بدور البيئة النفسية. ويُقصد بالبيئة النفسية كل المتغيرات الذهنية المتعلقة بفهم الفرد للبيئة الموضوعية المحيطة به كالإدراك، والعقائد، والقيم، والتصورات، والمفاهيم السياسية. وتؤكد نظرية السياسة الخارجية أن هذه البيئة الموضوعية لا تنتج أثرا في السياسة الخارجية إلا من خلال فهم القائد السياسي لتلك البيئة).
فهذا هو خطأ وهم السلطة عينهIllusion of Power الذي وقع فيه الساسة الهاييتيين وهم منتشون بخمر السلطة وزهوها عندما قاموا بتعبئة الشباب الهاييتي وسلحوهم ببنادق صدئة لمواجهة وهزيمة جيوش الولايات المتحدة الأمريكية الغازية لجزيرتهم.
ونفس الخطأ وقع فيه الساسة الصرب في تعاملهم مع المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة ومدعيها العام القاضية الكندية "لويز أربور" بتهكم وازدراء وهم يبنون حساباتهم السياسية الخاطئة بأن منطقة البلقان كلها بما فيها روسيا واليونان سوف تشتعل وتلتهب إذا تعرض قادتهم إلي خطر التوقيف والاعتقال.
ونتيجة لذلك التصور النفسي الخاطئ تم اصطيادهم بواسطة إدعاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة الواحد تلو الآخر بما فيهم رئيسهم سلوبودان ميلوسوفتش، وآخرهم رادوفان كرادتش جزار سيربينيتشا الرجل الذي كان يأخذ الحياة من الآخرين المختلف عنهم عنوة واقتدارا، فتم القبض عليه متخفيا وهو يمارس مهنة طبية تهب للناس الحياة.
وهم القائد السياسي وقراءته الخاطئة لبيئته النفسية هو الذي يورد الشعوب التي يحكم باسمها موارد التهلكة. فأمريكا روسيا قد دنا عذابها، والأمريكان "ليكم" تسلحنا، وبريطانيا، وفرنسا، وأوكامبو، وقاضيات المحكمة الجنائية الدولية الثلاث تحت جزمتى، والذي يخرج إلينا "متحزم نلاقيه عريانين"، ومن أراد السلطة فليحاول "لحسة كوعه"، لن نسلمهم جلد "كديس". كل هذه العنتريات الخاوية من كل معنى لا تخرج عن هذا السياق، والنتيجة الكوارث وحدها هي التي تحل بالشعوب المغلوب علي أمرها.
أوردت صحيفة الصحافة في مايو 2010 تصريحا للسيد رئيس الجمهورية وهو مترع بنفس كأس خمر السُلطة التي شرب منها مساعده د. نافع علي نافع حينما قال (سيظل السودان موحدا وسنسلمه للأجيال موحدا كما ـ ورثناه). انتهي الاقتباس.
وفي نوفمبر 2010 صرح لصحيفة الرائد نائب رئيس المؤتمر الوطني لشؤون الحزب د. نافع علي نافع: (أن حزب المؤتمر الآن أكثر ثباتا وقوة مما مضي. وقال لدي مخاطبته مساء أمس احتفال المعايدة الذي نظمته الأمانة الاجتماعية للمركز العام للمؤتمر الوطني أنهم سيسلمون الأجيال المقبلة سودانا موحدا)، وأضاف (سنترك للأجيال ذكرى طيبة وسودان موحد).
وجاء بصحيفة الرأي العام في نفس الشهر (أكًد د. نافع علي نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني أن الانفصال الذي عزمت عليه الحركة الشعبية لن يضر الشمال كثيرا، وسوف تمضي مسيرة السودان بقوة سياسية واقتصادية وعسكرية أكبر مما كان عليه في السابق، وأضاف: سنظل نمد حبال الوصل للجنوب في المجالات كافة في حال الانفصال).
فهل ما يدلي به د. نافع علي نافع من تصريحات سياسية فيما يتعلق بالوحدة المزعومة للدولة السودانية أو انفصالها إلي شطرين كما هو الواقع أصلا ينطلق من بيئة نفسية سليمة تستوعب مآلات وتغيرات الواقع السياسي داخل محيطه وخارجه؟.
وهل وحدة الدولة السودانية الغائبة ما قبل الاستقلال وبعده تكون بكلمات تقريرية فارغة لا تضع أي استحقاقات لهذه الوحدة المتخيلة التي يريدها د. نافع علي نافع؟. وهل صارت المقولة التي تقول "أن في الاتحاد قوة" حقيقة معكوسة كما صورتها له بيئته النفسية المتوهمة؟، وهل فعلا يملك د. نافع علي نافع بعد الانفصال القوة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية؟. وهل الضرر الذي حدده الخبراء الاقتصاديون يخضع لنسبية نافع وحده بأنه "غير كثير" متجاوزا حقائق الأرقام والبيانات؟.
التصريحات التي تحمل رسائل سياسية مباشرة أو غير مباشرة وتعبر عن وجهات النظر التنظيمية إذا لم تُوضع ضمن سياقها الشامل وتراعي المتغيرات والمستجدات المحلية والإقليمية والدولية واتجاهات الرأي العام في بلدان العالم المختلفة في قضية سياسية ما فإن هذه التصريحات تجعل من الذي يصرح بها خارج سياق الواقع السياسي المتغير.
وتجعل منه في ذات الوقت سجين لتفكير عاطفي رغائبي تغذيه الأماني والتهويمات وتصنع منه دوغمائيا سياسيا لا يعبأ بالمتغيرات والمستجدات التي تحكم قواعد اللعبة السياسية، وما الدموع التي انهمرت مدرارا من العيون التي كانت لا تري في مرآة الواقع السياسي المرير إلا انعكاسا لسياساتها، ولا تسمع صوتا إلا رجع صدي صوتها إلا دليلا دامغا بأن العملية السياسية برمتها كانت تقودها وتديرها الأطماع والأهواء الشخصية. وفي النهاية وبعد فوات الأوان أدركت هذه النخب السياسية أن الأوطان لا تُبني بالأشواق والدموع وحدهما.
ويؤكد هذين التصريحين اللذين صرح بهما د. نافع علي نافع والذي جاء أحدهما مطابقا لتصريح رئيس الجمهورية أن السيد نافع علي نافع لا يري أي حرج سياسي بأن يقول التصريح ونقيضه في نفس الوقت طالما أن الغرض من التصريح يؤدي إلي الغاية التي يرغبها ويتمناها بقطع النظر عن تطابق أو تقاطع هذه النتيجة مع الواقع السياسي المعاش.
ويعلم د. نافع علي نافع وغيره من النخب السياسية أن الدولة التي يزعم تسليمها إلي الأجيال القادمة موحدة هي دولة افتراضية بالأساس نشأت خارج حدودها ولم تتكون بناءا علي رغبات شعوبها، وإنما نشأت بموجب عقد قهري كُتب بمداد الدم والتسلط والإذعان ـ دولة مناهج تعليمها تم استيرادها من دول الجوار بما في ذلك علمُها الذي يحمل رمز عزتها وسيادتها.
دولة سلوكها الثقافي في خصام وتضاد مع ثقافات شعوبها منذ بدايات تخلقها ـ دولة حتى الانقلابات العسكرية تتم بإيعاز من الخارج بما فيها انقلاب الإنقاذ العسكر مدني نفسه، وحتى عندما تفشل الانقلابات العسكرية يكون سبب فشلها خارجيا والدور الليبي في 22 يوليو 1971 وقيامه بقرصنة جوية لطائرة الركاب البريطانية القادمة من لندن التي كانت تقل المرحومين بابكر النور سوار الذهب، وفاروق عثمان حمد الله، والدور السعودي في تفجير الطائرة التي كانت تحمل إبر الدبابات القادمة من العراق يؤكد تلك الحقيقة.
وما التصريح الذي أدلي به أحد النخب السياسية مؤخرا وهو المشير عبد الرحمن سوار الذهب الرئيس الانتقالي السابق وهو يدعو السودانيين مجددا للانضواء تحت التاج المصري وكأنما الشعوب السودانية قد خلعت ذلك التاج حتى تستظل به مرة أخرى!!، وهذا تأكيد ثانيا لهذه الحقيقة.
دولة وبعد عقود من استقلالها تسعي وتبحث في أن تكون الوحدة مع الشعوب التي تكون أحد أركانها جاذبة بموجب اتفاقيات سلام تمت كلها خارج حدودها.
يعلم د. نافع علي نافع وكل النخب السياسية التي قضت وتلك التي تنتظر أن شعب الجنوب ومنذ قيام دولة الحدود الحديثة المتكونة خارج حدودها في حالة جوار غير رسمي معها. فلم يكن شعب الجنوب يوما ضمن المنظومة الثقافية والاجتماعية مع الدولة المتوهمة. ولم يأت الاعتراف بحق تقرير المصير إلا لوضع هذا الجوار في إطاره المؤسسي والرسمي.
الانفصال الذي سيأخذ طابعه الرسمي بعد 09 يناير 2011 والذي اعترف به في هزيمة نفسية قاسية مؤخرا د. نافع علي نافع اعترافا واقفا علي شرط النزاهة، والحرية، والشفافية ، وإن لم يصرح به مباشرة إلا أن توجه نظامه يؤكد تلك النية المبيتة في النكوص علي عقبيه.
إن هذا الانفصال لم تعزم عليه الحركة الشعبية كما أراد أن يوحي د. نافع علي نافع بذلك في آخر تصريح له حتى لا يتحمل حزبه المسؤولية التاريخية بل هو نتاج لمسيرة طويلة من نقض المواثيق والعهود كان ختامها بأيدي حزبه. والانفصال كما يعلم د. نافع علي نافع لا تقرره الحركة الشعبية لتحرير السودان بقرار منها، إنما يقرره شعب الجنوب وفقا لآلية الاستفتاء التي قبل بها حزبه في ضاحية نيفاشا والشمس في كبد السماء.
ولأن السودان في ذهنية د. نافع علي نافع وغيره من النخب السياسية المتمركزة دولة افتراضية فهو باق وإن ذهب الجنوب، ومن بعده النيل الأزرق، وجنوب كردفان، وحتى لو ذهبت دارفور وتبعها الشرق، وشمال الشمال كل ذلك لا يهم طالما أن السودان المتخيل موجود علي الخارطة العروبوإسلامية المتوهمة.
لا ندري عن أي أجيال يتحدث د. نافع علي نافع هل هم أجيال دارفور الذين تربوا علي الفظائع والحرمان؟، أم أجيال جنوب السودان إذا حصلت المعجزة واختار الجنوبيون الوحدة وفقا لشروط نافع وحزبه؟، أم أجيال الشرق الذين بخلت عليهم حكومته بالخبز والكساء فتخطفهم الموت جراء الجوع والمرض؟، أم أجيال الشمال الذين صاروا مهجرين داخل وطنهم الصغير؟، وإذا كان يقصد بالأجيال أخوات نُسيبة فإن آبائهم ذوي الأيدي المتوضئة والمسيرة القاصدة لم يتركوا لهم إرثا وطنيا ينير دربهم نحو دولة سودانية يمكن أن تصير وطنا يسقط دعاوى اللون، والعرق، والدين ويتعامل مع الإنسان السوداني بوصفه إنسان وحسب.
أما مد حبال الوصل للجنوب في المجالات كافة في حال الانفصال، فهذا أمر لا تقرره دولة نافع علي نافع، إنما المصالح هي التي تحكم هذا التعامل، لأن مصالح الدول لا تحمل معها عبء فظائع وموبقات التاريخ، فالفلسطينيين ترتبط مصالحهم مع الإسرائيليين وهم محتلون لأرضهم.
قال د. نافع علي نافع في ختام تصريحه (سنترك للأجيال ذكرى طيبة وسودان موحد). هنا ضحك القلم، وبكت الحروف، وضاقت العبارة. نعم والذي رفع السماء بغير عمد أشهد بأنك تركت للأجيال ذكري طيبة!!!، وإذا لم تفعل شيئا سوي مشاركتك في تعذيب زميلك الدكتور الجامعي فاروق محمد إبراهيم فهذه الفعلة الشنعاء تقف وحدها مسبة سيلازمك عارها الدهر كله.
الصادق حمدين ـ هولندا
[email protected] |