يوميات مواطن: موسم التخوين، الحاج آدم، وبونا ملوال
محمد عثمان إبراهيم
[email protected]
___________________________
قبل حوالي العقد والنصف من السنوات كنا نحرص كل أربعاء على شراء صحيفة أسبوعية صغيرة ومبهرة كانت تصدر في الخرطوم في وقت كادت فيه البلاد أن تختنق بسبب صحيفتين كبيرتين باهتتين وتلفزيون مفزع. أذكر تماماً انني كنت أبدأ قراءة الصحيفة من صفحتها الأخيرة حيث يقع على الجانب الأيمن عمود جريء وبديع عنوانه (يوميات مواطن) وكاتبه مصطفى عبدالعزيز. في مرحلة أخرى من عمر الصحيفة اضيف اسم لاحق لكاتب المقال ليصبح (مصطفى عبدالعزيز البطل). اختفى كاتب العمود زمناً ثم ترك كتابة العمود، حين اتفق على أن كل من يجيد (أو لا يجيد) التهجي صالحٌ لكتابة العمود، وصار يتحف القراء بمقالة اسبوعية باذخة وشديدة الثراء أعادت للكتابة الصحفية بعض ماء وجهها المراق. هذه المقالة مهداة لصاحب (يوميات مواطن) و (غرباً باتجاه الشرق) اعترافاً بالوهج الذي ما فتيء يمنحه لعقولنا وأرواحنا كل أسبوع.
موسم التخوين ابتدأ:
"إن موت السود، بعد ما يزيد عن المائة عام على الإلغاء الرسمي لتجارة الرقيق، ما يزال يخضع للتقييم بشكل مختلف عن موت البيض" الدورية الأفريقية للإقتصاد السياسي، العدد الأول، المجلد الأول، 1986.
السيء في الأمر إن السود/ الأفارقة أنفسهم ينظرون إلى قتلاهم بشكل مختلف عن نظرتهم لقتلى الآخرين. لقد نجح الإعلام كثيراً في أن يجعل من السود/الأفارقة مثلاً يقرون بأولوية احقية الآخرين في العيش على أحقيتهم. قبل بضعة أعوام قرأت فكرة ذات طبيعة مشابهة ناقشتها الدكتورة دلال البزري، استاذة علم الإجتماع السياسي والكاتبة المعروفة عن نظرة العرب والمسلمين لأنفسهم إزاء الآخر، وضربت مثلاً بحرب حزب الله الأخيرة ضد اسرائيل (2006) والتي احتفل فيها العرب والمسلمون بشكل عام بالإنتصار المزعوم ، الذي أعلنه السيد حسن نصرالله، لأن عدد خسائر العدو الإسرائيلي بلغ بضع عشرات على الرغم من ان قتلى العرب فى تلك المعركة كانوا بالمئات. يبدو أن العرب وإسرائيل، وهما طرفا المعركة، متفقان على أن حفنة صغيرة من النفوس الاسرائيلية تساوي مئات النفوس التي اعزها الله بالإسلام وبالعروبة أو كما يقولون. بعبارة أخرى فإن المفارقة ليست في أن اسرائيل تنظر إلى أن قتيل واحد من صفوفها يساوي عشرات بل مئات القتلى المسلمين، ولكنها في أن المسلمين ينظرون كذلك بنفس العدسات ويرون أن مقتل جنود واحد من العدو الإسرائيلي يستحق إزهاق مئات الأرواح من جانبهم. ونحن في السودان لسنا بعيدين للأسف من الترويج لاحتمالات انتصارات زائفة على هذا النحو لأن كل طرف من طرفي هويتنا (عرباً وأفارقة) لا ينظر إلى نفسه بالتقدير اللائق ولهذا فإننا نهدر ارواحنا في الحرب لأنها رخيصة بالنسبة لنا وفي نظر العالم! لعل هذا يفسر السبب وراء استسهال طرق طبول الحرب عندنا كلما احتدم بيننا خلاف. أيها الناس: النصر موت كالهزيمة، أو كما قال محمود درويش (رحمه الله رحمة واسعة).
الحقيقة أن احتمالات الحرب تراجعت الآن كثيراً بالإتفاق الأخير في جوبا بين وزير الدفاع الفريق أول عبدالرحيم محمد حسين ووزير شئون الجيش الشعبي الجنرال نيال دينق نيال، لكن إحتمالات التنازع الداخلي العنيف المؤسس على التخوين لا تزال عالية في شمال السودان وجنوبه.
في الشمال بدأت الحرب الكلامية ضد منسوبي الحركة الشعبية (قطاع الشمال) متأخرة جداً عن حرب الجنوب ضد منسوبي حزب المؤتمر الوطني. المتشددون في كل طرف ينظرون إلى المنتمين السابقين أو الحاليين للحزب الخصم بريبة وباتهام معلن ومضمر بالخيانة. سياسي شمالي ذو مواقف ملتبسة قال إن أعضاء قطاع الشمال سيعتبرون عملاء لدولة أجنبية بعد الإستفتاء. مساعد رئيس الجمهورية الدكتور نافع علي نافع وصف الداعين للإنفصال بأنهم خونة. الجنوبيون الداعون للوحدة متهمون، صراحة او تلميحاً، من قبل الغالبية الإنفصالية بأنهم خونة فأين المفر؟
لقد شاء سوء حظ كاتب هذه المقالة أن يشهد في وسائل الإعلام، مثل غيره من سكان هذا الكوكب، عشرات الحروب الدامية وشاء حظه الأسوأ أن يشهد حروباً حية دامية أبشعها الحرب الإرترية الإثيوبية الأخيرة. رأيت مدناً عامرة ثم رأيتها دماراً، وما زلت حتى اليوم أحرص على أن أنقي ذاكرتي من مشاهد بشعة لكنني لم أر في حياتي مشهداً بشعاً كمشهد معركة في موزمبيق إبان حرب التحرير ضد المستعمر البرتغالي. في الفيلم الوثائقي الرهيب الذي يصور تلك الحرب الفظيعة، يشهد المرء أطفالاً وهم يجرون ويصرخون دون معين والطائرات البرتغالية تسقط الحمم عليهم فتحيل المكان كله إلى جهنم مصغرة. الحمد لله أنني لست برتغالياً وإلا فإنني كنت سأشعر بالعار إلى الأبد. الفيلم الوثائقي المشار إليه متاح وهو بعنوان معاملة الخونة (Treatment of Traitors) للمخرج الهولندي آيك بيرتلز والصورة المرفقة لخلاصة الرعب البشري في وجه هذا الطفل البريء. أن كاتب هذه المقالة على ثقة بأن كل بشر سوي ينظر في بشاعة ما أحدثته الحرب البرتغالية التي جسدها ذلك الفيلم سيعيد النظر في أي خطوة عدائية تدفع باتجاه الحرب لأن نتيجتها معروفة سلفاً.
لقد شارك مواطنون موزمبيقيون للأسف في حرب المستعمر ضد بلادهم لكن الرئيس الموزمبيقي الراحل سامورا ماشيل قدم للعالم تجربة جديرة بالتأمل والإحتذاء في التسامح مع الخصم حتى وإن ساهم في شن الحرب عليك، فما بالك إذا ما كان الشخص الذي تتهمه بالخيانة ليس خائناً فعلاً وإنما هو شخص لديه موقف مخالف، فقط، لموقفك! الخيانة ليست موقفاً نهائياً مثلها مثل البطولة، فما كان بطولة بالأمس قد يصير اليوم خيانة وما كان يعتبر خيانة قد يتحول غداً إلى بطولة!
لقد مرت الشهر الماضي الذكرى الرابعة عشر لمقتل الزعيم الخالد سامورا ماشيل في حادث تحطم طائرة (ليس غامضاً تماماً) وفي ذكراه ليس سوى عبارته الأثيرة (ألوتا كونتينوا) أو (ليستمر النضال) لكن فقط من اجل السلام.
الحاج آدم يوسف :
في ابريل الماضي فقط كان الدكتور الحاج آدم يوسف يتنافس على منصب الوالي في ولاية جنوب دارفور. لم يكن –كما هو معروف- حاكماً ولم يكن ينتسب إلى المعارضة المدجّنة ولكنه معارض ينتسب إلى الحزب الأكثر تهديداً للسلطة فضلاً عن إنه مشتبه به في المسئولية عن أنشطة عسكرية. دخل الحاج آدم وهومواطن مدني برفقة مجموعة من المرافقين المسلحين إلى مركز الدائرة الإنتخابي المحلية رقم 4 والدائرة القومية رقم 3 بمدينة نيالا وصادر عدداً من الأوراق والمستندات لكن أحداً لم يسائله حتى الآن في بلد إذا حمل فيها الشريف سلاحاً يهدد به خلق الله لم يسأله أحد وإذا حمل فيه الضعيف سلاحاً يدفع به أذى النبلاء أذاقوه العسف إن لم يعدموه. تعرض الدكتور لمشكلات مع النظام الحاكم في السابق حيث اتهم بالمسئولية عن تدبير محاولة إنقلابية واضطر تحت وطأة هذه الظروف للخروج والعيش في المنفى لزمن وقد رأى الناس كيف أن زوجته منعت من اللحاق به والسفر عبر مطار الخرطوم. بقى الرجل في ارتريا لبعض الوقت لكنه عاد وفق حيثيات غامضة عام 2006.
عند عودته من ارتريا احتفلت به جماعته وأشار زعيم حزبه الترابي إلى رقة حاله حين خطب في الناس في منزل المحتفى به بمدينة الأزهري بضاحية الحاج يوسف أنه "جاء وسكن في الخلاء في بيت لايشبه قصور الوزراء والكبراء والامراء". فيما اشار أحد قادة المؤتمر الشعبي تلميحاً في حديث لإحدى الصحف بأن الحاج آدم إختار الحزب الغني! من جهته أنكر الدكتور (المنشق) وجود مصالح شخصية وراء خطوته الأخيرة والحقيقة ان هناك بعض الدلائل تستبعد أن تكون الظروف المعيشية للحاج آدم قد اضطرته لاتخاذ قرار الخروج فالرجل يعيش حياة متوسطة مستقرة ولم يعرف عنه شغف بالمال كما إن وسائل الكسب المالي متاحة في دارفور رغم ظروف الحرب وكان بامكانه ترك السياسة كلها والدخول إلى السوق حيث سيسعد المؤتمر الوطني لا محالة وربما سهل له سبيل الإستقرار هناك.
اللافت للنظر أن قادة المؤتمر الشعبي توافروا للحديث في الصحف للتعليق على خطوة رفيقهم، ولم يوفر البعض منهم كلماته اللاذعة ضد الرجل في خطوة مفارقة لمنهجهم الكتوم في التعبير عن حقيقة مشاعرهم إزاء خطوات مشابهة حيث ظلوا يكتفون بعبارات محايدة، وقصيرة، وصامدة.
قبل حوالي العامين تقريباً صدرت تسريبات بأن الحاج آدم ليس على وفاق مع الشيخ حسن الترابي واستمرت مثل هذه التسريبات تملأ خياشيم الخرطوم المستعدة أصلاً لمثل هذا النوع من الأخبار. والعام الماضي فقط تداولت الخرطوم مرة أخرى في أمر انتقال الرجل نحو الخصوم القدامى لكنه نفى ذلك (الأخبار5/10/2009) لكن من يعرف طريقة الشيخ حسن الترابي الدؤوبة، والمثابرة في وضع المخططات، وتجهيز الأرضيات الملائمة لتنفيذها، ربما حق له ان يشكك في تلك التسريبات وينظر إليها في إطار ديناميكيات المعركة بين الحزبين الخصمين حيث أعمال الإختراق والإختراق المتبادل ما انفكت ترهق كليهما.
على العموم يصعب استيعاب أن الحاج آدم يوسف قد أدرك أخيراً وفي هذا الظرف الدقيق ضيق آليات الشورى في المنشية، واتساعها في الجانب الآخر لكن... ما بالبئر تبينه الدلاء!
وحدة بونا ملوال:
لو كنت مكان السيد بونا ملوال لاعتذرت عن قبول عضوية الهيئة القومية لدعم الوحدة واستفتاء جنوب السودان التي صدر أمر تشكيلها بقرار جمهوري، ناهيك عن تولي منصب نائب الرئيس فيها إلا إذا اقتنع بضرورة أن يبقى الجنوبيون في موقعهم كمواطنين درجة رابعة!
السيد بونا ملوال مادوت رينغ ليس مواطناً عادياً لكنه مثقف، وناشط سياسي، ورجل دولة، وزعيم قبلي كبير حيث يعتبر عمدة قبيلة التويك ، إحدى فروع مجموعة الدينكا الكبيرة وهذا الوضع أهله لأن يحصل على اعتذار نادر ذات يوم من الحركة الشعبية لتحرير السودان ومن زعيمها الراحل الدكتور جون قرنق وفق تقاليد القبيلة الكبيرة التي تجمعهما. يتمتع ملوال بعلاقة مميزة مع زعماء جنوبيون كثر وعلاقة حميمة مع الفريق أول سلفاكير ميارديت وقد كان عوناً له خلال خلاف الأخير مع الراحل قرنق وقد اشرت تقارير صحفية مؤخراً إلى أن ملوال هو الذي نظم اللقاء النادر مؤخراً بين الخصمين اللدودين كير والدكتور لام أكول في جوبا.
طوال سنوات ظل السيد بونا ملوال يعمل بلا كلل من أجل حقوق مواطني جنوب السودان وفق رؤية خاصة ظلت على غير وئام مع رؤية الحركة الشعبية لكنه لم يخسر أبداً خطوط التواصل مع كافة أطراف اللعبة سواء في جوبا أو في الخرطوم. مشكلة السيد ملوال أنه غير مقتنع بالوحدة من اساسه ويشعر أن الجنوبيون مضطهدون ومهددون بالإسترقاق من عرب الشمال فكيف يمكن لرجل هذه قناعاته أن يقوم على خدمة مشروع الوحدة.
قال ملوال مرة " بوجود الادارة البريطانية، كنا مواطنين درجة ثانية، ولكن بعد الاستقلال اصبحنا مواطنين درجة رابعة، فالعربي المسلم درجة اولى والمسلم غير العربي درجة ثانية، والجنسيات الاخرى درجة ثالثة والجنوبي درجة رابعة". ، وقال مرة أخرى إنه رأى بعينيه عبيداً جنوبيين حقيقيين وسادة عرب لهم وهم يعيدونهم (في إشارة لعمليات منظمة التضامن المسيحي بزعامة البارونة كارولاين كوكس). ترى هل تأكد السيد ملوال الآن أن الشماليين لن يسترقوا الجنوبيين بعد اليوم ام أن السياسة تجري خطاباتها على لسانه وفق مقتضى الحال؟
القراء الكرام
كل عام وأنتم بألف خير
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة