هذا الخميس
الإنفصال : قيامة العالم ليست هناك (1-2)
محمد عثمان ابراهيم
[email protected]
· الإنفصال ليس احتمالاً مستقبلياً سيتحقق في يناير المقبل ولكنه عملية مستمرة ظلت دائرة منذ عقود وساهمت فيها النخب السياسية الشمالية دون استثناء
· الكثير من نخب الشماليين تريد وحدة مع الجنوب لا مع الجنوبيين وهي إذ تندب ذهاب الجنوب إلى حال سبيله لا تؤسس لجيرة هانئة بين الدولتين المقبلتين، وإنما تبني هرماً جديداً من العداوة والمرارات
· دعوة الدكتور عوض الجاز الواقعية لعدم التهويل من مخاطر الإنفصال تمنح ثقلاً كبيراً للمجموعة المستعدة للتعاطي الإيجابي مع خيار مواطني الجنوب وتعين على الدفع باتجاه قبول إنفصال سلس وسلمي
· إنهاء الحرب وتحقيق السلام قرار كبير له ثمنه المستحق واجتهاد بعض القوى لتحميل حزب المؤتمر الوطني وحده عبء ما يسمى بعملية تفتيت البلاد وتقسمها لا يعدو على كونه ضرب بائس من ضروب الإبتزاز السياسي
تكون الكتابة عسراً حقيقياً حين تحاول مقاربة موضوع سبقك إليه الأستاذ خالد موسى دفع الله فكلما حاولت تقديم فكرة وجدتها إما وقد خضعت للطرح أو للدحض ذات مقاربته. وإن شاء أحد تناول قضية مترتبات واستحقاقات خيار انفصال جنوب السودان أو استقلاله إذا شئت الأريحية فستكون مهمتك صعبة إذ ستتراءى أمامك لا محالة طروحات الأستاذ خالد التي أودعها ورقته الرفيعة المنشورة (ما بعد الإستفتاء: السياسة الخارجية للسودان ..تحديات وخيارات).
ولعل أهم ما تأسست عليه طروحات الورقة من ترجيح لخيار حدوث انفصال سلمي سلس وضرورة الإبتعاد عن تصوير ذلك على إنه كارثة للشمال مهم جداً كنبرة هادئة في زخم من الضجيج الإعلامي المكثف الذي تسهم فيه تصريحات مسئولين كبار في جهاز الدولة يستشعرون أن الأرض تميد من تحتهم في خريطة السلطة في عصر ما بعد دولة السودان الموحد.
هناك أصوات عاقلة لاشك داخل النخبة الحاكمة تبدو قد استعدت نفسياً بشكل جيد لتقبل اختيار مواطني جنوب السودان إقامة دولة خاصة بهم على أرضهم ومن هؤلاء الدكتور عوض أحمد الجاز الذي دعا عبر حوارهام مع هذه الصحيفة (11/10/2010) إلى الكف عن تصوير الإنفصال وكأنه يعني (قيام القيامة) واتهم وسائل الإعلام بالمسئولية عما يحدث من تهويل.
***
الحقيقة أن حديث الدكتور الجاز صحيح في خلاصاته وخطأ في هوامشه، فالتهويل من اقتراب الإنفصال، والترهيب منه هو من ترتيبات جماعة مؤثرة من حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي ينتمي إليه، وقد نشر على نطاق واسع في الوسط الصحفي خبر قيام الحزب الحاكم بحملة علاقات ضخمة في أوساط منسوبي أجهزة الإعلام لتخفيف الهجوم على الحركة الشعبية والدفع لإعلاء خيار الوحدة. نتجت عن حملة العلاقات العامة تلك – كما شهدنا - آلاف الكلمات المستجيبة دون جدوى لأنها لم تكن تعبّر عن نبض حقيقي وصادق مع الذات ومع الآخر (الجنوبي) الذي يعيش معنا في القرن الواحد والعشرين، والذي يمتلك نفس أدوات الشمالي في الفهم وتفادي الخداع خصوصاً وإن الأدب السياسي المنتج بواسطة النخبة الجنوبية يعتمد ، بشكل رئيسي، على ثيمة خداع الشماليين وعدم وفائهم للمواثيق والعقود والتعهدات. لم يعد الجنوبي ذلك الذي يشتري ريش دجاجته بضعف ثمنها.
نتج أيضاً عن حملة العلاقات العامة المتأخرة تلك تصرفات جانبها التوفيق تمثلت في إيقاف صحيفة يومية بطريقة غير موفقة ثم إعادتها بطريقة أخرى غير موفقة أيضاً، إضافة إلى تصريحات مرعبة -كما ينبغي أن توصف- من قبل مسئولين كبار أدّت إلى نتائج سالبة أثرت على الحياة اليومية للمواطن وعلى الإقتصاد بشكل كارثي. لا أعني هنا تصريحات وزير المالية السيد على محمود لصحيفة الشرق الأوسط في مناسبة يوم الغذاء العالمي – يا للبشاعة- عن ضرورة عودة السودانيين لأكل الذرة والدخن والكسرة والعواسة (16/10/2010) فمن الواضح إنها كانت خطأ عادياً، وعدم توفيق يصاحب أحاديث الكثير من مسئولينا للإعلام الأجنبي، إضافة إلى ضعف خبرة الوزير في التعامل مع الصحف وربما كان السبب الشغف الذي يسم سلوك مسئولينا حين يتحدثون لوسائل الإعلام وبالذات الأجنبية. قبل عامين ونيف شهدت مسئولاً حكومياً رفيعاً في فندق فلسطين بالإسكندرية وهو يتهافت على صحافية مصرية بصورة مخجلة فدعوت الله –مخلصاً- أن يفقد منصبه!
المهم يبدو أن حملة التهويل من الإنفصال لم تكسب كثيراً لكن هذا لا ينفي بالطبع أن هناك من هم دائماً على استعداد لطاعة أي مسئول حكومي والتقدم قبله بخطوة واسعة في أي وجهة اتخذ. من هؤلاء الأستاذ غازي سليمان المحامي الذي صرح لصحيفة صادرة في الخرطوم هذا الأسبوع متوقعاً "نشوب حرب شاملة بين الشمال والجنوب تطال كل منطقة شرق ووسط أفريقيا خلال المرحلة القادمة. بالطبع تصريحات الأستاذ غازي لا يؤبه لها، لكننا نوردها هنا دون تثبت –كما اعتدنا- ضمن لوازم مفاكهة القراء، ليس إلا!
***
على كل فمن الواضح أن الدكتور الجاز بعيد حتى الآن عن المجال المغنطيسي لتأثير الجماعة التي تتولى الترهيب من الإنفصال مما يعني أن هناك تياراً نافذاً في السلطة لا يرى في الإنفصال شراً محضاً مستطيراً ولدى هذا التيار كامل الإستعداد للتعاطي الإيجابي مع خيار مواطني جنوب السودان في الإستفتاء. من أدرك جزءاً من سيرة الدكتور الجاز في حكومة الإنقاذ هذه لا بد قد عرف الآن حجم التيار المناهض لتيار الترهيب من الإنفصال ووجود القيادي الكبير في أي تيار يعطي ثقلاً كبيراً قد يقارب الترجيح لجماعته.
***
لم يتيسر لي قراءة أفكار الدكتور جون قرنق عن الوحدة وكونها ليست نتيجة بل هي عملية مستمرة (سيرورة) لكني حظيت بالإستماع إلى فكرة مشابهة أسسها الأستاذ عادل القصاص، الكاتب القصصي المبدع والمناضل السابق في صفوف لواء السودان الجديد التابع للحركة الشعبية، على تصور الدكتور قرنق وأسماها الإنفصال كعملية مستمرة. تعتمد أطروحة القصاص على إن التصويت لصالح إنفصال جنوب السودان في الإستفتاء المقبل هو محصلة منطقية لعملية إنفصال هادئة ظلت مستمرة منذ نشوء الحركة الوطنية السودانية ما قبل الإستقلال. قدم الأستاذ القصاص عشرات الأمثلة على وجود ظلامات تأريخية عانى منها مواطنو الجنوب دون أدنى سبب بخلاف ارتباطهم غير المتكافيء مع شمال السودان الذي لم تؤسس نخبه المسيطرة لشراكة وطنية حقيقية مع النصف الجنوبي.
ليست بين يدي نسخة مكتوبة من قراءة القصاص للموضوع واعتمدت على الذاكرة في تلخيص ما قال وأجد نفسي متفقاً تماماً مع هذه الأطروحة : إن التصويت لصالح الإنفصال ليس نتيجة مفاجئة وإنما هو تكريس سياسي لعملية مستمرة وانفصال قائم على اكثر من مستوى وفي أكثر من سياق. بلغ الإنفصال ذروته بعد نيفاشا التي حكم فيها شمال السودان وجنوبه ضمن إطار ألترا-كونفيدرالي غير معلن.
ذات مرة قال الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم، وهو بالمناسبة مثقف رفيع ومفكر لماح بالرغم من الطبيعة المشاغبة لأحاديثه الصحفية، إن المؤتمر الوطني يريد وحدة مع نفط وموارد الجنوب لا وحدة مع الجنوب. هذا الحديث رغم قسوته صحيح للأسف. لا أحد في نخبة الشمال يقدم طرحاً للوحدة مع الجنوبيين الذين يعيشون في الجنوب. أطروحات الوحدة التي تتكرم بها النخبة الشمالية في الخرطوم مؤسسة على الأرض والثروات والقوة وتتجاهل الإنسان تماماً. يبكي بعض الوجدان الشمالي على أنزارا ومريدي وكبويتا وواو نار لكن لا أحد يبكي على مواطني تلك المناطق. الحقيقة لم يعترف أحد بما عاناه هؤلاء من جراء الوحدة التي جاءت قسراً واستمرت بسبب من تفاوت نمو وثقل الحركة الوطنية في الإقليمين. هذا ليس نقداً للحكومة الحالية التي تستحق المدح في شأن ما قدمته من قرارات لصالح إنهاء حالة الإحتراب الطويل وتحقيق السلام وهو هدف نبيل له ثمنه المستحق.
***
نخبة الشمال مسئولة عن تصورها المفزع للوحدة بين الشمال والجنوب وهي إذ تندب ذهاب الجنوب إلى حال سبيله لا تؤسس لجيرة هانئة بين الدولتين المقبلتين وإنما تبني هرماً جديداً من العداوات والمرارات.
ظللت لوقت طويل محباً لطريقة كتابة الدكتور كمال حنفي خصوصاً عناونينه المبهرة، وسخريته التي تكشف عن روح مرحة لطيفة لكنه خذلني مرتين: مرة حين كتب (عصابة الأربعة) في 10 ديسمبر 2009 ، ومرة أخرى حين ابتدر حملته العنيفة هذه الأيام ليس ضد انفصال/ استقلال الجنوب فحسب ولكن ضد الجنوبيين انفسهم.
والدكتور كمال حنفي على سعة وثراء مخزونه الأدبي، لا يكتفي بالأدب ولكنه إذ يكتب في السياسة يهدر الأدب ويسيء إلى السياسة بسبب انه يعتمد في تحليلاته على التخيل أكثر من مفردات الواقع وفق مدرسة الأستاذ إسحق احمد فضل الله، وهي مدرسة كتابة عنيفة، تعتمد على حماية تخيلاتها من المساءلة بالقربى من النخبة الحاكمة، وقوة العين، ثم تقدمها كحيثيات للوصول إلى فرضيات غير متوائمة مع شروط الواقع الأرضي الحي.
في عموده (بعيداً عن الحقنة، الرأي العام 17/10) يحكي الدكتور حنفي قصة حميمة عن صلة خاصة له مع جنوبيين (2) من بسطاء الإقليم الجنوبي أحدهما يعمل خادماً في منزله بدوام غير منتظم وآخر يعمل حارساً في بيت اخيه وهو يتحسر على فراقهما وأمثالهما الذين سيذهبون إلى تحت خط العرض عشرة . هذا التصور مثالي جداً للتعبير عن عملية سيرورة الإنفصال في الوجدان الشمالي. يتحسر كتابنا على خدم المنازل لكنه لا يتحسرون على ذهاب د. جون ورياك مشار وباقان أموم والفريق اول سلفاكير لأن هؤلاء لا يخدمون في المنازل المأهولة ولا يحرسون تلك الخالية ولا ينالون بالتالي، الأجر عن ذلك "نقداً وحباً". فرانسيس واستيف الذين يتحسر عليهما الدكتور كمال حنفي لم يكن باختيارهما الخدمة في المنازل ولم يكن هذا مصيراً مرتبطاً بنجمتي نحسهما، ولكن هذا وليد ظروف موضوعية هي ظروف الحرب، والتشرد، وعدم الدراسة، والتمييز العرقي، والإمتهان. نفس هذه الظروف هي التي أجبرت بعض السودانيين الشماليين إلى ممارسة مهن مشابهة (وقيل أضل سبيلاً) في البلدان العربية وفي مهاجر الغرب وفي إسرائيل!
في عموده (رفع القبعة) يضحك الدكتور ويسخر من محاولة شماليي الحركة إقناع النائب الأول سلفاكير ميارديت بزيارة مناطق في شمال السودان، ويشبّه ذلك بموت الشخص يوم القيامة فلا هو هانيء برقدة الموت، ولا هو حاضر مشهد الوقف العظيم من بدايته. على ما في المثل من غلظة يتجاهل الكاتب حملة الوحدة الجاذبة ومشاريع الملايين من الدولارات التي تقرر تقديمها في غمضة عين لصالح الجنوب، وكأن الحكومة الإتحادية أدركت الآن فقط أن الجنوب بحاجة إلى المساعدة في عملية التنمية. هكذا تهدر عشرات وقيل مئات الملايين من الدولارات ولن تتحقق الوحدة، فهل من موت في يوم القيامة اشبه من هذا؟
في يونيو الماضي كان الهزل الوحدوي قد بلغ مبلغاً عجيباً لدرجة أن عقدت مجموعة من الفرق الهزلية (الكوميدية) ورشة عمل تحت شعار شديد الإبتذال هو (إبتسامة على طريق الوحدة)! وغني عن القول إن الوحدة عمل وطني سياسي وثقافي واقتصادي جاد لا يتحقق بالإبتسامات السمجة والنكات الممجوجة. أهدر الهزليون وقت المسئولين الذين شرفوا ورشتهم حتى بلغت بأحدهم الجرأة لتقديم ما أسماها ورقة عمل حول (دور الفرق الكوميدية في ترسيخ مفاهيم الوحدة) وهي ذات الفرق الهزلية التي شاركت بشكل غير واع في تكريس سيرورة الإنفصال عبر السخف والعنصرية.
حسناً، في (أمراض الدولة الطفلة/ الرأي العام 19/10) يسخر الكاتب كمال حنفي مبكراً من دولة الجنوب القادمة فيسميها الدولة الطفلة بدلاً عن توصيفها بشكل إيجابي وله من لغة العرب متسع يصرف منه كما شاء! يقول الكاتب إنه يقلقه "على الدولة الصغيرة أنها ستقوم بلا أجهزة رقابة وبدون صحافة ... لن تكون للدولة القادمة آليات رقابة متينة ولا صحافة راسخة" ويحذر من أن دولة الجنوب المقبلة ستكون "رقماً افريقياً مخلاً بالآداب" وستنهك جسدها الرشوة. روي في كتاب الحكايات السودانية الفكهة أن السياسي السوداني الرفيع في العهد الحالي سئل من قبل صحفية ابدت زينتها، عن مخاطر التمدد الشيعي في السودان، فرد علها بطريقته الساخرة المريرة : "ويعني إنت السنة كاتلاك؟". الان لكأن دولة الشمال تمور بأجهزة الرقابة والمحاسبة والشفافية والصحافة الحرة حتى غابت عنها الرشوة وقل الفساد، اللهم اصلح الحال يا رب.
كالعادة حين يعتمد التحليل السياسي على الإستيهام تخرج النتائج خطأ مثل المقدمات إذ يبيّن الكاتب ان سبب رخص قيمة العمالة البنغالية هو فساد النخبة الحاكمة وهذا منتوج –فاسد- لتحليل خطأ يتجاهل أن بنغلاديش أكثر بلد في العالم اكتظاظاً بالسكان ويتجاهل قلة الموارد والعوامل الإقتصادية والإجتماعية والإثنية وإرادة الله الغلابة!
حسناً المحبة باقية حين يكتب الأستاذ حنفي دائماً والخلاف باق حين يكتب متحاملاً.
نواصل...
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة