مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 07:37 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-03-2015, 01:19 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الإنصات فن له معايير جودة، وله مقومات وإمكانيات، لا يعرفُها كثير من الناس .. قد تكون متحدث جيد، ولكن في نفس الوقت قد لا تعرف كيف تستمع للآخرين، وكيف تقرأ حركات الشفاه وتعبيرات الوجه، وكيف تتمكن من فك شفرة نبرات الصوت والولوج ببحر من أمامك.

    الإنصات الجيد سلوك حضاري، وهو أحد عناصر عمليه اتصالك الصحيح مع من حولك .. أن تصغي لمحدثك، يعني أن تقدم الاهتمام والتقدير لما يطرحه من أفكار وقضايا، حتى لو كان يختلف معك في الآراء، ولا تندهش حينما ترى محدثك يرتاح إليك، ويهتم بما تطرحه عليه. وهذا هو السر في أن الخطباء يهتمون في توجيه نظراتهم، والكلام إلى من يصغي إليهم جيداً، ويتلقى الأفكار منهم بكل اهتمام. أضف إلى ذلك أنَّ الإنصات الجيَّد يمنح صاحبه نوعًا من الهيبة، ويجعله يبدو في أعين الناس أكثر حكمةً وذكاءً. فضلا عن أن مَنْ يتحلى بقوة الإصغاء ويدرب نفسه على إتقانه يضمن حواراً راقياً واعترافاً حقيقياً بالآخر.

    الطريق من هنا
    • الإنصات الفعال غير الاستماع، ويعني: «الاستماع باهتمام وبالجوارح كلها» من خلال ملامح الوجه، ولغة الجسد، والرسائل الإيجابية التي يبعثها المنصت المنتبه للمتكلم .. أي يطبق المثل القائل: «كلي آذان صاغية».
    • هناك سلوكيات ودية للمنصت الجيد أثناء الاستماع منها: الابتسامة، والبشاشة، وهز الرأس، وإظهار التلهف، واستخدام الإشارات، والنظر إلى المتحدث مع تجنب تركيز النظر إلى عينيه.
    • دع الآخر يهتم بمبادلتك الحديث فلا تحاول قراءة أفكاره علناً، واجعل ملامح وجهك تبدو مهتمة من خلال حركة الرأس وتعابير العينين ( الدهشة، التعجب.. )، وابق على تواصل دائم في النظرات معه، فهكذا تساعده على الاسترسال في الكلام وتشعره بأهميته.
    • لا تهمل المشاعر غير اللفظية للمتحدث، كاحمرار الوجه ورفع الصوت ولغة العيون.
    • استمع، ركز، ثم ناقش! فبهذا يكون نقاشك غنياً ومهنياً وعلى طريقة حوارية دقيقة، وتجعل المتحدث إليك يشعر بالارتياح وبأنك تريد الاستماع إليه، وتهتم بقضيته.
    • إذا حضرت في وسط الحديث لا تتدخل مباشرة فيكون كلامك ثقيل الظل، بل انتظر حتى يستأنف الموضوع ويتم إخبارك به، ومن ثم استأذن لتأخذ دورك في الكلام.
    • من أهم مقومات فن الإصغاء عدم مقاطعة المتحدث، ومقاومة الرغبة الفورية في التحدث .. فالمقاطعة المتكررة تعطي انطباعاً سيئاً عنك في المجموعة، وتغضب الآخر وتجعله غير سعيد بالتحدث إليك، حتى ولو كنت تقاطع لتكمل جملة الشخص المتكلم نفسه.
    • ليس من اللائق أبداً أن تكرر عبارة: ( ماذا قلت؟ )، أو ( ماذا كنت تقول؟ ) فهذا يعني عدم التركيز معه.
    • إذا كنت تعتقد بأن انشغالك في تجهيز ردود على كلام محدثك وسرحانك ولو لبرهات قصيرة يمر من دون ملاحظته فاعتقادك خاطئ، لأن عينيك سرعان ما تكشف ذلك بسهولة.

    • نستطيع أن نتعرف على الأفراد الذين لا يتمتعون بإنصات جيد من خلال سلوكيات واتجاهات معينة:

    التركيز على مظهر المتحدث وملبسه، التظاهر بالإنصات وهو على عكس ذلك، الامتعاض إذا كان يحتاج الموضوع إلى تركيز وجهد، صياغة الردود والاستجابات خلال حديث المتحدث، وأخيراً الاعتقاد بمعرفة ما يدور في رأس المتحدث.
    • أن تتحلى بروح الدعابة شيء جميل، لكن لا تسرف بها كثيراً بينما الآخر يتحدث، أو تحولها إلى سخرية، فهذا يفقدك أهميتك ويجعل الآخرين لا يحملونك على محمل الجد.
    • لا تستخف بكلام الآخر أو توجه إليه عبارات مثل: ( ما أسخف كلامك )، ( بديهي ما تقول فكلنا نعرفه ).
    • لا تنتقد المتحدث بطريقة كلامه أو تجرحه أمام مجموعة.
    • احترم مشاعر المتحدث مهما كانت ولا توبخه.

    تصرفات مرفوضة :
    • هناك بعض التصرفات غير اللائقة التي يجب تجنبها أثناء تحدث أحدهم إلينا منها:

    - العبوس.
    - المشي أو إدارة الظهر له.
    - السكوت التام والتجرد من أي تعابير.
    - قضم الأظفار، أو قصها، أو تنظيفها. العبث بالشعر.
    - مشاهدة التلفزيون، أو اللعب على الكمبيوتر، أو اللهو بأشياء أخرى.
    - النظر إلى الساعة بشكل متكرر، أو الظهور بمظهر الملول الذي نفد صبره.
    - قراءة جريدة أو مجلة.
    - التثاؤب المتكرر أو النوم في مكاننا.
    - النظر في كل مكان خارج إطار الحدث ( السماء، السقف، النافذة، الأغراض من حولنا...).
    - الضحك لأنك تذكرت أمراً آخر.

    - وأخيراً .. لابد أن تعلم أن الإنسان ابن حاجته ومصلحته، فحينما تنصت لمحدثك من أجل أن تتعلم منه الأشياء التي تفيدك في حياتك، فإنك سوف تفعل ذلك وبإتقان، ولذلك أنصت لتتعلم وليس بالضرورة لتنتقد الآخرين.
    د/ خالد سعد النجار
                  

09-03-2015, 01:20 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    تمرّ بالمؤمن وبالأمّة فترات من التحديات البالغة والصعاب الجمّة لا يمكن مواجهتها ولا تجاوزها إلا برصيد وافر من الصبر العملي واليقين المبدئي ، وهذا الرصيد يرشّح أهله لنيل درجة الأستاذية الاجتماعية ، وهو ما تؤكدّه السنة الربانية التي رسمتها الآية الكريمة { وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } (سورة السجدة 24)، فصاغ العلماء هذه السنة صياغة جميلة بقولهم: " بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين " ، وكيف ترنو أبصار المؤمنين إلى قيادة ركب البشرية بشرع الله وتهفو أفئدتهم إلى ذلك إذا لم يُثبتوا في واقعهم الدعوي والشخصي والاجتماعي جدارتهم لذلك عبر الصمود الواعي والثقة الكاملة في صحّة المرجعية والمنهج وحتميّة المآل ؟.

    ومواجهة الباطل المنتفخ في ساحة التحدّي والظلم شيء آخر غير التناول النظري في قاعات الدرس وحلقات المساجد ، ولم يستحقّ الأنبياء الكرام وبعدهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة القيادة الروحية والاجتماعية للبشرية إلاّ بعد أن جسّدوا القيم التي يبشّرون بها في حركة التدافع الاجتماعي وما تستصحبه من ألوان العنت والتضييق ، فما خارت عزائمهم ولا تسلّل الوهن إلى دعوتهم ورؤيتهم ، فلمّا صدقوا الله صدقهم ، وأجرى سنّة النصر والتمكين بعد الابتلاء والتمحيص.

    عُدّة الصبر :
    إن الصبر الذي يبدئ فيه القرآن ويُعيد يشتمل على معاني امتلاك اللبّ والعقل ورباطة الجأش في ساعات المحن الشديدة والتحدّي البالغ ، فهو ضدّ الطيش والخور ، ويشير إلى تحمّل المؤمنين للعنت النفسي والمادي ، بصوره الإيجابية منها والسلبية ، كالثبات في ساحة المواجهة العسكرية والفكرية والسياسية والحضارية ، وتحمّل مرارة حملات التشويه والانتقاص ، والاستمرار في النهج السلمي رغم إغراءات السلاح والتصعيد العنيف أثناء النزاعات الداخلية التي تُلمّ بالمجتمع ، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في كلّ هذه المجالات في مكّة والمدينة ، ولولا صبره الكبير الطويل ما استطاع امتلاك قلوب القرشيّين في نهاية المطاف رغم ما أصابه منهم من أشكال الأذى التي كانت لتستدرجه لحمل السلاح في وجه قومه لولا توفيق الله تعالى الذي أفرغ عليه صبرًا وحبّب إليه الخيارات السلمية الأكثر جدوى ، وذلك ما يظهر في عرض ملك الجبال عليه أن يطبق الخشبين على مناوئيه فأعرض عن الثأر والانتقام ومال إلى الطريق الطويل المضمون العواقب وقال: " أرجو أن يخرج الله عزّ وجلّ من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا " (رواه البخاري ومسلم).

    أمّا في المدينة المنوّرة فكان على الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يواجه المشركين المتربّصين بالإسلام وأهله من القبائل العربية والدولة الرومانية ويتيقّظ في ذات الوقت للمنافقين المتواجدين داخل الصفّ الاسلامي ، المتظاهرين بالانتماء العقيدي إليه بينما هم يجوسون خلاله بأنواع المكر والكيد ، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم إلا أنه ظل إلى حين وفاته يصبر عليهم ، وكان يمكنه أن يقضي عليهم لكنه خشي قول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه ، وإنه لأمر جلل ان يتحمّل الصحابة مثل هذا الواقع ، لكن هذا ما أًمروا به " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " سورة الأحقاف 35
    وكان القرآن الكريم يذكّرهم برصيد التجربة عند من خاضوا بتوفيق وسداد تجربة حمل الرسالة : { وكأيّن من نبيّ قاتل معه ربّيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } (سورة آل عمران 146-147).

    تحمّل ورثة الأنبياء من حملة الرسالة بصبر جميل كلّ ما أصابهم في سبيل الله ، فحفظهم الله من كلّ أنواع الهزّات النفسية المهلكة كالوهن والضعف والاستكانة ، أي من الاستسلام للواقع المرير ومن الهزيمة النفسية التي تفضي إلى الانسحاب من ميدان المواجهة والدعوة والتدافع ، ومن الملفت أنهم لم يُلقوا باللائمة على العدوّ الخارجي بل اشتغلوا بالإقبال على الله وتزكية النفوس بالتوبة ليستحقّوا تنزّل النصر من عند الله.
    ولهذا كان شعار العصبة المؤمنة دائما أمام أقوامهم المخالفين لهم { ولنصبرنّ على ما آذيتمونا } ( سورة ابراهيم 12).
    يؤثرون تحمّل الأذى على الفتنة الداخلية التي لا تفيد الأمة والدعوة في شيء ، بهذا انتصروا..وباليقين كلّلوا نصرهم.

    ذخيرة اليقين:
    إذا كان الصبر يشير إلى الناحية العملية السلوكية عند الفرد والأمة فإن اليقين هو معيار القلوب و العقول ، يتناول الجانب الفكري المبدئي ، وهو الثقة الكاملة في أحقية الرسالة وسلامة المنهج وحتمية النصر والتمكين ، فالصفّ الاسلامي لا يساوره ريب في أنه على الحق طالما أنه مستمسك بوحي السماء وأن الله ناصره لا محالة ، لا يبرح مربّع اليقين مهما انتفخ الباطل وانتفش ، ومهما بدت علامات الضعف على الجماعة المؤمنة في حالات الضراء ، لأنّ الحق حقٌ دائما ، ولو اغترّ المغترّون في وقت من الأوقات بهذا الباطل وقوّته وسطوته وتبرّجه ، وإنما يحزّ في نفوس المؤمنين ما يكون عليه بعضهم من التباس بين حق أبلج وبين الباطل وهو سافر ، عندما تعمل الشائعات والتلاعب النفسي والمصالح القريبة فعلها فتصيب بعض الرموز فيكونون فتنة لبعض المخلصين وأصحاب التديّن العاطفي ، يظهر يقين المؤمنين عند غلبة الشبهات أحيانا وغلبة الشهوات أحيانا أخرى ، أما المتسلحون باليقين فلا يزيدهم التحدي الكبير إلا عزيمة وإصرارا وثباتا : {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } (سورة آل عمران 173).

    ليس هذا كلامًا من الماضي، بل هو معالم إيمانية تهدي السالكين لطريق نصرة الدين وخدمة الأمة في كلّ زمان ، يبقى غضّا طريّا مهما تباعدت الأحقاب واختلفت الأمصار ، أكّدت الأحداث جدواه مرّة بعد مرّة كلّما واجه المسلمون حالات العدوان والتحدّي ، وجرّبه الدعاة والمصلحون والدعاة وقادة الفكر والرأي واستيقنوه ، فكم ذلّل اليقين من صعاب وكم مكّن الصبر المؤمنين من تحقيق النصر والفوز في ظروف اليأس والقنوط .
    اسلام ويب
                  

09-03-2015, 01:21 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    ألهاني التكاثر!
    أعتبرُ هذا اعترافاً شخصياً وليس تصرُّفاً في لفظ الآية القرآنية الكريمة!
    أعتبره تأسِّياً بفعل الفاروق العظيم -رضي الله عنه- حين سمع حديث: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلَّا فَارْجِعْ"، فقال: (أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ!) (البخاري ومسلم).

    أيُّ تواضعٍ وإنحاءٍ على الذات يملكه ذلك الأشم المبشَّر بالجنة؟ وأيُّ صفْقٍ في الأسواق كان يُلهيه؟ وهو الذي مات ولم يخلف بعده ما يُتنازع عليه!
    ربنا يُحدِّثنا عن الدنيا وأنها: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} (20:الحديد)، ويُحذِّرنا من الالتهاء بالتكاثر حتى يصل بنا الأمر إلى خسارة الحياة حين نترك الكثير الذي خَوَّلنا وراءنا ظهرياً، ونجيء الله فرادى كما خلقنا أول مرة!
    الله يُخاطبنا ويُحذِّرنا.
    أما نحن فيتحدث بعضنا إلى بعضٍ حديث الاعتراف؛ لأننا شركاء في هذا الحجاب الكثيف الشاغل الملهي! ولا أحد منا خليق بأن يوبخ غيره فهو أولى بالتوبيخ..

    أسائل نفسي الجاهلة: فيم أقضي ما تبقى من عمري؟
    -أبحث عن المزيد من المتابعين في الشبكات الاجتماعية؛ بحجة أنني أقصد صناعة التأثير والتغيير الإيجابي.. والله أعلم بالحقيقة!
    لم أسع يوماً لشراء متابعين، ولكني أسعد بزيادتهم في حسابي "التويتري"، و"الانستقرامي"، و"اليوتيوبي"، وأنظر إلى (الرقم) وكأنه المعيار الدَّال على مدى الأهمية في الحياة!

    -كما أنظر إلى الزيادة في حسابي البنكي على أن هذا ليس مما تتعلق به نفسي، فالفتن تتفاوت من إنسان لآخر؛ ففتنة فلان المال، وفتنة آخر النساء، وفتنة ثالث الأتباع، وفتنة رابع الأولاد، وفتنة خامس المنصب، وفتنة سادس التكثُّر بالعلم والمعرفة و...
    -أتزوَّد من المعلومات بالقراءة والسماع والتحفظ والمتابعة.. وكأن المهم هو (كم) المعلومات المخزونة في ذاكرتي وهي بالطبع قليلة، ولكني لا أتساءل عن نوع هذه المعلومات ولا عن مدى انتفاعي بها، وهل صارت من العلم النافع لديّ أم هي من العلم الذي يتباهى به عند الأقران، أم هي من العلم الذي هو حجة الله على الإنسان؟

    -أريد أن أتفوق في برنامجي على زميلي، ولو كنت أدري أنه خير مني، وأكثر صدقاً، وأوسع مادةً، وأعرف بحاجات الناس!
    -وأريد أن أستأثر بقدْرٍ من اهتمام الناس وحديثهم وتعليقهم يفوق ما لغيري، ولو كان الأمر لا يضيف جديداً، ولا يصنع مفيداً ولا يَسُدّ فراغاً.
    معظم اهتماماتي واهتمامات مَنْ أعرف تدور حول (كم)، وهذا يعني الولع بالكثرة والتكاثر، وليس بالكيف، والجودة، والصفاء، والإخلاص، والموافقة للسُّنة، وما يريده الله.

    (كم) عندك من المؤلفات؟ كثير.. لكن ما القيمة المضافة الخالدة التي تُشكِّلها هذه الكتب؟
    (كم) عندك من المتابعين؟ مئات الآلاف أو ملايين، ولكن ما غناؤها عند الملمات؟ وماذا تعني المتابعة؟ وما قدر نفعك لها؟ وما قدر نفعها لك؟ ولو بتبادل دعوة أو نصحٍ خالص أو نية مؤاخاة في الله سالمة من حظوظ الدنيا..
    كم لديك من الأصدقاء؟ وكم قابلت منهم اليوم؟ وكان الأوْلى بالسؤال: نوع الأصدقاء، وماذا تُقدِّم لهم، وماذا يُقدِّمون لك؟ وعلى أيِّ أساس بنيت هذه الصداقة؟ فـ{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (67:الزخرف).

    (كم) عدد أولادك؟ ليس هذا هو السؤال.. بل ماذا تلقوا من التربية، والقدوة، وطيب المطعم؟ وإلى ماذا صاروا؟ هل هم صالحون قريبون من ربهم؟ هل أضافوا شيئاً ذا بال للحياة؟ هل خدموا أمتهم؟ هل يحملون همومها؟ هل أشبعناهم عاطفةً وبراً؟ وأوسعناهم حلماً وصبراً؟ وأتبعناهم دعاءً وذكراً؟
    (كم) زوجة عندك؟ وكان الأجدر أن تسألني عن تدفق عاطفتي وأدائي للحقوق، وتوازني، وعدلي، وقدرتي على العطاء والتربية، وتحمل المشكلات، والتوفيق بين مختلف الواجبات، وفي كافة الظروف..

    القليل الذي تؤدي شكره ولا يشغلك عن الله خير من كثير يُلهي ويُطغي، ويصنع (ازدحاماً) داخل النفس وفي ميدان الحياة حتى إذا وقف المرء بين يدي ربه لصلاة مكتوبة تشتت قلبه في أودية كثيرة، وحضرته صنوف شتَّى من الأشغال الصغيرة والكبيرة والخواطر والتكليفات، وصار يستعجل الخلاص من صلاته قبل أن ينسى؛ ليُكلِّم فلاناً ويُرسل لعلان، ويذهب لزيد، ويُنسِّق مع عبيد، ويؤكد على شيء ويُنَفّهَ ويلغي شيئاً.. فتتقاسم صلاته -على وجازتها وقصرها- مئات الأعمال!

    وبهذا تنتهي حياتنا قبل أن تبدأ؛ لأنها أصبحت تنفيذاً لمتطلبات يومية عادية رتيبة.
    ولو استحضرت معنى الحياة وأهميتها وأهمية أن أعيشها مع الله لكان لي شأن آخر، ولكنه حب الحياة وطول الأمل!

    د. سلمان بن فهد العودة
                  

09-03-2015, 01:22 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الإيثار خير دثار، وأفضل شعار، ودليل على رسوخ الإيمان والثقة بما عند الرحمن، وهو علامة حب المرء لإخوانه، وبرهان على سلامة النفس من دغل الأثرة والجشع والأنانية، فالمؤمن الحقيقي والمحب والصادق لإخوانه هو الذي يجود بما في يديه وهو محتاج إليه، يجوع ليشبع غيره، ويكد ليرتاح إخوانه، ويسهر لينام أحبابه.
    «الإيثار» هو تقديم المرء غيره على نفسه فيما هو في حاجة إليه من أمور الدنيا، ويقابله الأثرة التي هي استبداد المرء بالفضل واستحواذه عليه دون غيره.
    والإيثار أعلى درجات المعاملة مع الناس، ويليه العدل وهو اختصاص كل فرد بحقه، وأسوأ درجات المعاملة الأثرة.
    والإيثار يرفع المجتمع إلى قمة الأمن، لأن أفراده ارتفعوا عن حظوظهم الدنيوية، وآثر بها كل منهم أخاه، فهو لا يفكر في أن يستوفي حقه كاملاً فضلاً عن التفكير في الأثرة والاستبداد.

    قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩]
    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عَنْهُ- أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ مَا مَعَنَا إِلا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِى ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِى، فَقَالَ هَيِّئِى طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِى سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِى صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ فَجَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «ضَحِكَ الله اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا» فَأَنْزَلَ الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: ٩].
    ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين!.

    قال ابن القيم: "فتأمل سر التقدير، حيث قدر الحكيم الخبير سبحانه استئثار الناس على الأنصار بالدنيا وهم أهل الإيثار ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته، ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار فاعلم أنه لخير يراد بك".
    وقال -رحمه الله تعالى- أيضا: "والإيثار أن تؤثر الخلق على نفسك، فيما لا يحرم عليك دينا، ولا يقطع عليك طريقا، ولا يفسد عليك وقتا".
    يعني أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم، كأن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب ضرر أو إتلاف لا يجوز في الدين، مثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كَلا مضطرا مستشرفا للناس أو سائلا، وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه، فإنه سفه وعجز يذم المؤثر به عند الله وعند الناس «ولا يقطع عليك طريقا» أي لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله. فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار. فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى فإيثارهم عليه عين الغبن، وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره.

    وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا. مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله، فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته ويشتت خاطره، فهذا أيضا إيثار غير محمود.
    وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله، ونظائر ذلك لا تخفى بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم.
    وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثر به أحدا، فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم، وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفه فوق هذا؟

    ومن هذا المنطلق تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب وقالوا إنه مكروه أو حرام، كمن يؤثر بالصف الأول في الصلاة غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه عليه فيفوز به دونه.
    وتكلموا في إيثار عائشة - رضي الله عنها - لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بدفنه عند رسول الله في حجرتها وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته ،فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت، إذ لا تقرب في حق الميت وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر والله أعلم.

    ولا يستطاع الإيثار إلا بثلاثة أشياء: تعظيم الحقوق، ومقت الشح، والرغبة في مكارم الأخلاق.

    «الأول»: تعظيم الحقوق، فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها ورعاها حق رعايتها واستعظم إضاعتها وعلم أنه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها.
    «الثاني»: مقت الشح، فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار، فإنه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار.
    «الثالث»: الرغبة في مكارم الأخلاق، وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره، لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق.
    أقوال مأثورة
    • عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم.
    • قال يحيى بن معاذ الرازي: عجبت من رجل يرائي بعلمه الناس وهم خلق مثله، ومن رجل بقي له مال ورب العزة يستقرضه، ورجل رغب في محبة مخلوق والله يدعو إلى محبته ثم تلا {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: ٢٥].
    • قال محمد بن واسع: ما رددت أحدا عن حاجة أقدر على قضائها، ولو كان ذهاب مالي.
    • قال ابن تيمية: الإيثار مع الخصاصة أكمل من مجرد التصدق مع المحبة، فإنه ليس كل متصدق محبا مؤثرا، ولا كل متصدق يكون به خصاصة، بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا تبلغ به الخصاصة.
    • قال ابن القيم: فالمحب وصفه الإيثار، والمدعي طبعه الاستئثار.
    من لنا بمثل هؤلاء
    • قال منصور الغضاري: شاهدت الحافظ عبد الغني المقدسي في الغلاء بمصر ثلاث ليال يؤثر بعشائه ويطوى.
    • اشتهى الربيع بن خثيم حلواء، فلما صُنعت دعا بالفقراء فأكلوا، فقال أهله: أتعبتنا ولم تأكل، فقال: وهل أكل غيري؟!
    • قال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحارث، فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة، فنزع قميصه وأعطاه إياه، واستعار ثوبا فمات فيه.
    • قال حماد بن أبي حنيفة: إن مولاة كانت لداود الطائي تخدمه، قالت: لو طبخت لك دسما تأكله؟ فقال: وددت. فطبخت له دسما ثم أتته به، فقال لها، ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت: على حالهم. قال: اذهبي بهذا إليهم، فقالت: أنت لم تأكل أدما منذ كذا وكذا. فقال: إن هذا إذا أكلوه صار إلى العرش، وإذا أكلته صار إلى الحُش.
    • عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفسا ولهم أرغفة معدودة لم تُشبع جميعهم، فكسروا الأرغفة وأطفأوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله، ولم يأكل أحد منه شيئا، إيثارا لصاحبه على نفسه.
    • عن مسعر قال: شوي لنافع بن جبير دجاجة، فجاء سائل فأعطاها إياه، فقال له إنسان في ذلك، فقال: إني أبغي ما هو خير منها.
    اسلام ويب
                  

09-03-2015, 01:23 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    إذا كان "شق تمرة" ..
    يبعدنا عن النار،

    و"صدقة" ..
    تطفئ غضب الرب،

    و"كلمتان" ..
    تثقل ميزان أعمالنا:
    "سبحان الله وبحمده،
    سبحان الله العظيم"

    و"صيام يوم" ..
    يبعدنا سبعين عاماً عن النار،

    و"وضوء" ..
    يزيل من جوارحنا الخطايا،

    و"حسنة" ..
    تتضاعف لعشر أضعاف،

    فـ لماذا يعتقد البعض ..
    أن "الجنة" بعيدة المنال؟

    🌼همسة_تفاؤل🌼
                  

09-03-2015, 01:24 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    قصص الانبياء
    2- ﻫﻮﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ
    ﻧﺒﺬﺓ :
    ﺃﺭﺳﻞ ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻡ ﻋﺎﺩ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﺑﺎﻷﺣﻘﺎﻑ، ﻭﻛﺎﻧﻮﺍ ﺃﻗﻮﻳﺎﺀ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﻭﺍﻟﺒﻨﻴﺎﻥ ﻭﺁﺗﺎﻫﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺭﺯﻗﻪ ﻭﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺸﻜﺮﻭﺍ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺁﺗﺎﻫﻢ ﻭﻋﺒﺪﻭﺍ ﺍﻷﺻﻨﺎﻡ ﻓﺄﺭﺳﻞ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﻮﺩﺍ ﻧﺒﻴﺎ ﻣﺒﺸﺮﺍ، ﻛﺎﻥ ﺣﻜﻴﻤﺎ ﻭﻟﻜﻨﻬﻢ ﻛﺬﺑﻮﻩ ﻭﺁﺫﻭﻩ ﻓﺠﺎﺀ ﻋﻘﺎﺏ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺃﻫﻠﻜﻬﻢ ﺑﺮﻳﺢ ﺻﺮﺻﺮ ﻋﺎﺗﻴﺔ ﺍﺳﺘﻤﺮﺕ ﺳﺒﻊ ﻟﻴﺎﻝ ﻭﺛﻤﺎﻧﻴﺔ ﺃﻳﺎﻡ
    ﺳﻴﺮﺗﻪ :
    ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻟﻸﺻﻨﺎﻡ :
    ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺍﺑﺘﻠﻌﺖ ﺍﻷﺭﺽ ﻣﻴﺎﻩ ﺍﻟﻄﻮﻓﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻏﺮﻕ ﻣﻦ ﻛﻔﺮ ﺑﻨﻮﺡ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﻗﺎﻡ ﻣﻦ ﺁﻣﻦ ﻣﻌﻪ ﻭﻧﺠﻰ ﺑﻌﻤﺎﺭﺓ ﺍﻷﺭﺽ . ﻓﻜﺎﻥ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ . ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻛﺎﻓﺮ ﻭﺍﺣﺪ . ﻭﻣﺮﺕ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻭﺳﻨﻮﺍﺕ . ﻣﺎﺕ ﺍﻵﺑﺎﺀ ﻭﺍﻷﺑﻨﺎﺀ ﻭﺟﺎﺀ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻷﺑﻨﺎﺀ . ﻧﺴﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﺻﻴﺔ ﻧﻮﺡ، ﻭﻋﺎﺩﺕ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺍﻷﺻﻨﺎﻡ . ﺍﻧﺤﺮﻑ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻦ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ، ﻭﺗﻢ ﺍﻷﻣﺮ ﺑﻨﻔﺲ ﺍﻟﺨﺪﻋﺔ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ .
    ﻗﺎﻝ ﺃﺣﻔﺎﺩ ﻗﻮﻡ ﻧﻮﺡ : ﻻ ﻧﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻧﻨﺴﻰ ﺁﺑﺎﺋﻨﺎ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻧﺠﺎﻫﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻮﻓﺎﻥ . ﻭﺻﻨﻌﻮﺍ ﻟﻠﻨﺎﺟﻴﻦ ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﻟﻴﺬﻛﺮﻭﻫﻢ ﺑﻬﺎ، ﻭﺗﻄﻮﺭ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻌﻈﻴﻢ ﺟﻴﻼ ﺑﻌﺪ ﺟﻴﻞ، ﻓﺈﺫﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻭﺇﺫﺍ ﺑﺎﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ ﺗﺘﺤﻮﻝ ﺏﻣﻜﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺁﻟﻬﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﻠﻪ . ﻭﻋﺎﺩﺕ ﺍﻷﺭﺽ ﺗﺸﻜﻮ ﻣﻦ ﺍﻟﻈﻼﻡ ﻣﺮﺓ ﺛﺎﻧﻴﺔ . ﻭﺃﺭﺳﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻫﻮﺩﺍ ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻣﻪ .
    ﺇﺭﺳﺎﻝ ﻫﻮﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ :
    ﻛﺎﻥ " ﻫﻮﺩ " ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺍﺳﻤﻬﺎ " ﻋﺎﺩ " ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﺗﺴﻜﻦ ﻣﻜﺎﻧﺎ ﻳﺴﻤﻰ ﺍﻷﺣﻘﺎﻑ .. ﻭﻫﻮ ﺻﺤﺮﺍﺀ ﺗﻤﺘﻠﺊ ﺑﺎﻟﺮﻣﺎﻝ، ﻭﺗﻄﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ . ﺃﻣﺎ ﻣﺴﺎﻛﻨﻬﻢ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺧﻴﺎﻣﺎ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﻟﻬﺎ ﺃﻋﻤﺪﺓ ﺷﺪﻳﺪﺓ ﺍﻟﻀﺨﺎﻣﺔ ﻭﺍﻻﺭﺗﻔﺎﻉ، ﻭﻛﺎﻥ ﻗﻮﻡ ﻋﺎﺩ ﺃﻋﻈﻢ ﺃﻫﻞ ﺯﻣﺎﻧﻬﻢ ﻓﻲ ﻗﻮﺓ ﺍﻷﺟﺴﺎﻡ، ﻭﺍﻟﻄﻮﻝ ﻭﺍﻟﺸﺪﺓ .. ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻋﻤﺎﻟﻘﺔ ﻭﺃﻗﻮﻳﺎﺀ، ﻓﻜﺎﻧﻮﺍ ﻳﺘﻔﺎﺧﺮﻭﻥ ﺑﻘﻮﺗﻬﻢ . ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻧﻬﻢ ﺃﺣﺪ ﻓﻲ ﻗﻮﺗﻬﻢ . ﻭﺭﻏﻢ ﺿﺨﺎﻣﺔ ﺃﺟﺴﺎﻣﻬﻢ، ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﻢ ﻋﻘﻮﻝ ﻣﻈﻠﻤﺔ . ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻳﻌﺒﺪﻭﻥ ﺍﻷﺻﻨﺎﻡ، ﻭﻳﺪﺍﻓﻌﻮﻥ ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻳﺤﺎﺭﺑﻮﻥ ﻣﻦ ﺃﺟﻠﻬﺎ، ﻭﻳﺘﻬﻤﻮﻥ ﻧﺒﻴﻬﻢ ﻭﻳﺴﺨﺮﻭﻥ ﻣﻨﻪ . ﻭﻛﺎﻥ ﺍﻟﻤﻔﺮﻭﺽ، ﻣﺎ ﺩﺍﻣﻮﺍ ﻗﺪ ﺍﻋﺘﺮﻓﻮﺍ ﺃﻧﻬﻢ ﺃﺷﺪ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻗﻮﺓ، ﺃﻥ ﻳﺮﻭﺍ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﻠﻘﻬﻢ ﻫﻮ ﺃﺷﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻗﻮﺓ .
    ﻗﺎﻝ ﻟﻬﻢ ﻫﻮﺩ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﻟﻬﺎ ﻛﻞ ﺭﺳﻮﻝ . ﻻ ﺗﺘﻐﻴﺮ ﻭﻻ ﺗﻨﻘﺺ ﻭﻻ ﺗﺘﺮﺩﺩ ﻭﻻ ﺗﺨﺎﻑ ﻭﻻ ﺗﺘﺮﺍﺟﻊ . ﻛﻠﻤﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻫﻲ ﺍﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻛﻠﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺣﺪﻩ ( ﻳَﺎ ﻗَﻮْﻡِ ﺍﻋْﺒُﺪُﻭﺍْ ﺍﻟﻠّﻪَ ﻣَﺎ ﻟَﻜُﻢ ﻣِّﻦْ ﺇِﻟَـﻪٍ ﻏَﻴْﺮُﻩُ ﺃَﻓَﻼَ ﺗَﺘَّﻘُﻮﻥَ ) .
    ﻭﺳﺄﻟﻪ ﻗﻮﻣﻪ : ﻫﻞ ﺗﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺳﻴﺪﺍ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺑﺪﻋﻮﺗﻚ؟ ﻭﺃﻱ ﺃﺟﺮ ﺗﺮﻳﺪﻩ؟
    ﺇﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻈﻨﻮﻥ ﺍﻟﺴﺌﻴﺔ ﺗﺘﻜﺮﺭ ﻋﻠﻰ ﺃﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﻜﺎﻓﺮﻳﻦ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮﻫﻢ ﻧﺒﻴﻬﻢ ﻟﻺﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ . ﻓﻌﻘﻮﻟﻬﻢ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﻻ ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ . ﻭﻻ ﻳﻔﻜﺮﻭﺍ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻤﺠﺪ ﻭﺍﻟﺴﻠﻄﺔ ﻭﺍﻟﺮﻳﺎﺳﺔ .
    ﺃﻓﻬﻤﻬﻢ ﻫﻮﺩ ﺃﻥ ﺃﺟﺮﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ، ﺇﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺷﻴﺌﺎ ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﻐﺴﻠﻮﺍ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ . ﺣﺪﺛﻬﻢ ﻋﻦ ﻧﻌﻤﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻛﻴﻒ ﺟﻌﻠﻬﻢ ﺧﻠﻔﺎﺀ ﻟﻘﻮﻡ ﻧﻮﺡ، ﻛﻴﻒ ﺃﻋﻄﺎﻫﻢ ﺑﺴﻄﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺴﻢ، ﻭﺷﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺄﺱ، ﻛﻴﻒ ﺃﺳﻜﻨﻬﻢ ﺍﻷﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺢ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺍﻟﺰﺭﻉ . ﻛﻴﻒ ﺃﺭﺳﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺍﻟﻤﻄﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻪ ﺍﻷﺭﺽ . ﻭﺗﻠﻔﺖ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ ﺣﻮﻟﻬﻢ ﻓﻮﺟﺪﻭﺍ ﺃﻧﻬﻢ ﺃﻗﻮﻯ ﻣﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ، ﻭﺃﺻﺎﺑﺘﻬﻢ ﺍﻟﻜﺒﺮﻳﺎﺀ ﻭﺯﺍﺩﻭﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻨﺎﺩ .
    ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟﻬﻮﺩ : ﻛﻴﻒ ﺗﺘﻬﻢ ﺁﻟﻬﺘﻨﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺟﺪﻧﺎ ﺁﺑﺎﺀﻧﺎ ﻳﻌﺒﺪﻭﻧﻬﺎ؟
    ﻗﺎﻝ ﻫﻮﺩ : ﻛﺎﻥ ﺁﺑﺎﺅﻛﻢ ﻣﺨﻄﺌﻴﻦ .
    ﻗﺎﻝ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ : ﻫﻞ ﺗﻘﻮﻝ ﻳﺎ ﻫﻮﺩ ﺇﻧﻨﺎ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻧﻤﻮﺕ ﻭﻧﺼﺒﺢ ﺗﺮﺍﺑﺎ ﻳﺘﻄﺎﻳﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻬﻮﺍﺀ، ﺳﻨﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ؟
    ﻗﺎﻝ ﻫﻮﺩ : ﺳﺘﻌﻮﺩﻭﻥ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻭﻳﺴﺄﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻴﻜﻢ ﻋﻤﺎ ﻓﻌﻞ .
    ﺍﻧﻔﺠﺮﺕ ﺍﻟﻀﺤﻜﺎﺕ ﺑﻌﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻤﻠﺔ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ . ﻣﺎ ﺃﻏﺮﺏ ﺍﺩﻋﺎﺀ ﻫﻮﺩ . ﻫﻜﺬﺍ ﺗﻬﺎﻣﺲ ﺍﻟﻜﺎﻓﺮﻭﻥ ﻣﻦ ﻗﻮﻣﻪ . ﺇﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻳﻤﻮﺕ، ﻓﺈﺫﺍ ﻣﺎﺕ ﺗﺤﻠﻞ ﺟﺴﺪﻩ، ﻓﺈﺫﺍ ﺗﺤﻠﻞ ﺟﺴﺪﻩ ﺗﺤﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺗﺮﺍﺏ، ﺛﻢ ﻳﻬﺐ ﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﻭﻳﺘﻄﺎﻳﺮ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ . ﻛﻴﻒ ﻳﻌﻮﺩ ﻫﺬﺍ ﻛﻠﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﺻﻠﻪ؟ ! ﺛﻢ ﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﻳﻮﻡ ﻟﻠﻘﻴﺎﻣﺔ؟ ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻳﻘﻮﻡ ﺍﻷﻣﻮﺍﺕ ﻣﻦ ﻣﻮﺗﻬﻢ؟
    ﺍﺳﺘﻘﺒﻞ ﻫﻮﺩ ﻛﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺳﺌﻠﺔ ﺑﺼﺒﺮ ﻛﺮﻳﻢ .. ﺛﻢ ﺑﺪﺃ ﻳﺤﺪﺙ ﻗﻮﻣﻪ ﻋﻦ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ .. ﺃﻓﻬﻤﻬﻢ ﺃﻥ ﺇﻳﻤﺎﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺎﻵﺧﺮﺓ ﺿﺮﻭﺭﺓ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﻌﺪﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻫﻲ ﺿﺮﻭﺭﺓ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻨﺎﺱ . ﻗﺎﻝ ﻟﻬﻢ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﻛﻞ ﻧﺒﻲ ﻋﻦ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ . ﺇﻥ ﺣﻜﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﻤﺪﺑﺮ ﻻ ﺗﻜﺘﻤﻞ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺑﺪﺀ ﺍﻟﺨﻠﻖ، ﺛﻢ ﺍﻧﺘﻬﺎﺀ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﻴﻦ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺭﺽ . ﺇﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﺧﺘﺒﺎﺭ، ﻳﺘﻢ ﺍﻟﺤﺴﺎﺏ ﺑﻌﺪﻫﺎ . ﻓﻠﻴﺴﺖ ﺗﺼﺮﻓﺎﺕ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﻳﻈﻠﻢ، ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﻳﻘﺘﻞ، ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﻳﻌﺘﺪﻱ .. ﻭﻛﺜﻴﺮﺍ ﻣﺎ ﻧﺮﻯ ﺍﻟﻈﺎﻟﻤﻴﻦ ﻳﺬﻫﺒﻮﻥ ﺑﻐﻴﺮ ﻋﻘﺎﺏ، ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻣﺎ ﻧﺮﻯ ﺍﻟﻤﻌﺘﺪﻳﻦ ﻳﺘﻤﺘﻌﻮﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺑﺎﻻﺣﺘﺮﺍﻡ ﻭﺍﻟﺴﻠﻄﺔ . ﺃﻳﻦ ﺗﺬﻫﺐ ﺷﻜﺎﺓ ﺍﻟﻤﻈﻠﻮﻣﻴﻦ؟ ﻭﺃﻳﻦ ﻳﺬﻫﺐ ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻤﻀﻄﻬﺪﻳﻦ؟ ﻫﻞ ﻳﺪﻓﻦ ﻣﻌﻬﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻤﻮﺕ؟
    ﺇﻥ ﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﻭﺟﻮﺩ ﻳﻮﻡ ﻟﻠﻘﻴﺎﻣﺔ . ﺇﻥ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻻ ﻳﻨﺘﺼﺮ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ . ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﻳﻨﻈﻢ ﺍﻟﺸﺮ ﺟﻴﻮﺷﻪ ﻭﻳﻘﺘﻞ ﺣﻤﻠﺔ ﺍﻟﺨﻴﺮ . ﻫﻞ ﺗﺬﻫﺐ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﺮﻳﻤﺔ ﺑﻐﻴﺮ ﻋﻘﺎﺏ؟
    ﺇﻥ ﻇﻠﻤﺎ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﻳﺘﺄﻛﺪ ﻟﻮ ﺍﻓﺘﺮﺿﻨﺎ ﺃﻥ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻟﻦ ﻳﺠﺊ . ﻭﻟﻘﺪ ﺣﺮﻡ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺍﻟﻈﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﺟﻌﻠﻪ ﻣﺤﺮﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﻋﺒﺎﺩﻩ . ﻭﻣﻦ ﺗﻤﺎﻡ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﻭﺟﻮﺩ ﻳﻮﻡ ﻟﻠﻘﻴﺎﻣﺔ ﻭﺍﻟﺤﺴﺎﺏ ﻭﺍﻟﺠﺰﺍﺀ . ﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻌﺎﺩ ﻓﻴﻪ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻣﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ، ﻭﻳﻌﺎﺩ ﻧﻈﺮﻫﺎ ﻣﺮﺓ ﺃﺧﺮﻯ . ﻭﻳﺤﻜﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ . ﻫﺬﻩ ﻫﻲ ﺍﻟﻀﺮﻭﺭﺓ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻭﻫﻲ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﻌﺪﺍﻟﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﺫﺍﺗﻪ .
    ﻭﺛﻤﺔ ﺿﺮﻭﺭﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ، ﻭﻫﻲ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺴﻠﻮﻙ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻧﻔﺴﻪ . ﺇﻥ ﺍﻻﻋﺘﻘﺎﺩ ﺑﻴﻮﻡ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﺒﻌﺚ ﺍﻷﺟﺴﺎﺩ، ﻭﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻟﻠﺤﺴﺎﺏ، ﺛﻢ ﺗﻠﻘﻲ ﺍﻟﺜﻮﺍﺏ ﻭﺍﻟﻌﻘﺎﺏ، ﻭﺩﺧﻮﻝ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺎﺭ، ﻫﺬﺍ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﻠﻖ ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﺑﻌﺎﻟﻢ ﺃﺧﺮ ﺑﻌﺪ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻷﺭﺽ، ﻓﻼ ﺗﺴﺘﺒﺪ ﺑﻬﻢ ﺿﺮﻭﺭﺍﺕ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻭﻻ ﻳﺴﺘﻌﺒﺪﻫﻢ ﺍﻟﻄﻤﻊ، ﻭﻻ ﺗﺘﻤﻠﻜﻬﻢ ﺍﻷﻧﺎﻧﻴﺔ، ﻭﻻ ﻳﻘﻠﻘﻬﻢ ﺃﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺤﻘﻘﻮﺍ ﺟﺰﺍﺀ ﺳﻌﻴﻬﻢ ﻓﻲ ﻋﻤﺮﻫﻢ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩ، ﻭﺑﺬﻟﻚ ﻳﺴﻤﻮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻄﻴﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﻠﻖ ﻣﻨﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﻔﺨﻪ ﺭﺑﻪ ﻓﻴﻪ . ﻭﻟﻌﻞ ﻣﻔﺘﺮﻕ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺨﻀﻮﻉ ﻟﺘﺼﻮﺭﺍﺕ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﻗﻴﻤﻬﺎ ﻭﻣﻮﺍﺯﻳﻨﻬﺎ، ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻖ ﺑﻘﻴﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ، ﻭﺍﻻﻧﻄﻼﻕ ﺍﻟﻼﺋﻖ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻳﻜﻤﻦ ﻓﻲ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﻴﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ .
    ﺣﺪﺛﻬﻢ ﻫﻮﺩ ﺑﻬﺬﺍ ﻛﻠﻪ ﻓﺎﺳﺘﻤﻌﻮﺍ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻛﺬﺑﻮﻩ . ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟﻪ ﻫﻴﻬﺎﺕ ﻫﻴﻬﺎﺕ .. ﻭﺍﺳﺘﻐﺮﺑﻮﺍ ﺃﻥ ﻳﺒﻌﺚ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺒﻮﺭ، ﺍﺳﺘﻐﺮﺑﻮﺍ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﺧﻠﻖ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﺗﺤﻮﻟﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ، ﺭﻏﻢ ﺃﻧﻪ ﺧﻠﻘﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ . ﻭﻃﺒﻘﺎ ﻟﻠﻤﻘﺎﻳﻴﺲ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ، ﻛﺎﻥ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﺤﺲ ﺍﻟﻤﻜﺬﺑﻮﻥ ﻟﻠﺒﻌﺚ ﺃﻥ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺧﻠﻖ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﻭﺍﻟﻌﻈﺎﻡ ﺃﺳﻬﻞ ﻣﻦ ﺧﻠﻘﻪ ﺍﻷﻭﻝ . ﻟﻘﺪ ﺑﺪﺃ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺨﻠﻖ ﻓﺄﻱ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﻓﻲ ﺇﻋﺎﺩﺗﻪ؟ ! ﺇﻥ ﺍﻟﺼﻌﻮﺑﺔ - ﻃﺒﻘﺎ ﻟﻠﻤﻘﻴﺎﺱ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ - ﺗﻜﻤﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻠﻖ . ﻭﻟﻴﺲ ﺍﻟﻤﻘﻴﺎﺱ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻏﻴﺮ ﻣﻘﻴﺎﺱٍ ﺑﺸﺮﻱ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﻠﻴﺴﺖ ﻫﻨﺎﻙ ﺃﻣﻮﺭ ﺻﻌﺒﺔ ﺃﻭ ﺳﻬﻠﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﺗﺠﺮﻱ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺍﻷﻣﺮ .
    ﻣﻮﻗﻒ ﺍﻟﻤﻸ ﻣﻦ ﺩﻋﻮﺓ ﻫﻮﺩ :
    ﻳﺮﻭﻱ ﺍﻟﻤﻮﻟﻰ ﻋﺰﻝ ﻭﺟﻞ ﻣﻮﻗﻒ ﺍﻟﻤﻸ ( ﻭﻫﻢ ﺍﻟﺮﺅﺳﺎﺀ ) ﻣﻦ ﺩﻋﻮﺓ ﻫﻮﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ . ﺳﻨﺮﻯ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﻤﻸ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻗﺼﺺ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ . ﺳﻨﺮﻯ ﺭﺅﺳﺎﺀ ﺍﻟﻘﻮﻡ ﻭﺃﻏﻨﻴﺎﺋﻬﻢ ﻭﻣﺘﺮﻓﻴﻬﻢ ﻳﻘﻔﻮﻥ ﺿﺪ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ . ﻳﺼﻔﻬﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺑﻘﻮﻟﻪ : ( ﻭَﺃَﺗْﺮَﻓْﻨَﺎﻫُﻢْ ﻓِﻲ ﺍﻟْﺤَﻴَﺎﺓِ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ ) ﻣﻦ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺜﺮﺍﺀ ﻭﺍﻟﻐﻨﻰ ﻭﺍﻟﺘﺮﻑ، ﻳﻮﻟﺪ ﺍﻟﺤﺮﺹ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ . ﻭﻣﻦ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺜﺮﺍﺀ ﻭﺍﻟﻐﻨﻰ ﻭﺍﻟﺘﺮﻑ ﻭﺍﻟﺮﻳﺎﺳﺔ، ﻳﻮﻟﺪ ﺍﻟﻜﺒﺮﻳﺎﺀ . ﻭﻳﻠﺘﻔﺖ ﺍﻟﺮﺅﺳﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻮﻡ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻭﻳﺘﺴﺎﺀﻟﻮﻥ : ﺃﻟﻴﺲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺑﺸﺮﺍ ﻣﺜﻠﻨﺎ، ﻳﺄﻛﻞ ﻣﻤﺎ ﻧﺄﻛﻞ، ﻭﻳﺸﺮﺏ ﻣﻤﺎ ﻧﺸﺮﺏ؟ ﺑﻞ ﻟﻌﻠﻪ ﺑﻔﻘﺮﻩ ﻳﺄﻛﻞ ﺃﻗﻞ ﻣﻤﺎ ﻧﺄﻛﻞ، ﻭﻳﺸﺮﺏ ﻓﻲ ﺃﻛﻮﺍﺏ ﺻﺪﺋﺔ، ﻭﻧﺤﻦ ﻧﺸﺮﺏ ﻓﻲ ﺃﻛﻮﺍﺏ ﺍﻟﺬﻫﺐ ﻭﺍﻟﻔﻀﺔ .. ﻛﻴﻒ ﻳﺪﻋﻲ ﺃﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﻧﺤﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ؟ ﻫﺬﺍ ﺑﺸﺮ .. ﻛﻴﻒ ﻧﻄﻴﻊ ﺑﺸﺮﺍ ﻣﺜﻠﻨﺎ؟ ﺛﻢ .. ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺍﺧﺘﺎﺭ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺸﺮﺍ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻟﻴﻮﺣﻰ ﺇﻟﻴﻪ؟
    ﻗﺎﻝ ﺭﺅﺳﺎﺀ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ : ﺃﻟﻴﺲ ﻏﺮﻳﺒﺎ ﺃﻥ ﻳﺨﺘﺎﺭ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﺑﺸﺮﺍ ﻭﻳﻮﺣﻲ ﺇﻟﻴﻪ؟ !
    ﺗﺴﺎﺋﻞ ﻫﻮ : ﻣﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻐﺮﻳﺐ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ؟ ﺇﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﺑﻜﻢ ﻗﺪ ﺃﺭﺳﻠﻨﻲ ﺇﻟﻴﻜﻢ ﻷﺣﺬﺭﻛﻢ . ﺇﻥ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻧﻮﺡ، ﻭﻗﺼﺔ ﻧﻮﺡ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺒﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻜﻢ، ﻻ ﺗﻨﺴﻮﺍ ﻣﺎ ﺣﺪﺙ، ﻟﻘﺪ ﻫﻠﻚ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻛﻔﺮﻭﺍ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻭﺳﻴﻬﻠﻚ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻜﻔﺮﻭﻥ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺩﺍﺋﻤﺎ، ﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻮﻧﻮﺍ ﺃﻗﻮﻳﺎﺀ .
    ﻗﺎﻝ ﺭﺅﺳﺎﺀ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ : ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﺳﻴﻬﻠﻜﻨﺎ ﻳﺎ ﻫﻮﺩ؟
    ﻗﺎﻝ ﻫﻮﺩ : ﺍﻟﻠﻪ .
    ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻜﺎﻓﺮﻭﻥ ﻣﻦ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ : ﺳﺘﻨﺠﻴﻨﺎ ﺁﻟﻬﺘﻨﺎ .
    ﻭﺃﻓﻬﻤﻬﻢ ﻫﻮﺩ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻟﻬﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻌﺒﺪﻭﻧﻬﺎ ﻟﺘﻘﺮﺑﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ، ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﻌﺪﻫﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ . ﺃﻓﻬﻤﻬﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﻮ ﻭﺣﺪﻩ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻨﺠﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻭﺃﻥ ﺃﻱ ﻗﻮﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺗﻀﺮ ﺃﻭ ﺗﻨﻔﻊ .
    ﻭﺍﺳﺘﻤﺮ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﺑﻴﻦ ﻫﻮﺩ ﻭﻗﻮﻣﻪ . ﻭﻛﻠﻤﺎ ﺍﺳﺘﻤﺮ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﻭﻣﺮﺕ ﺍﻷﻳﺎﻡ، ﺯﺍﺩ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ ﺍﺳﺘﻜﺒﺎﺭﺍ ﻭﻋﻨﺎﺩﺍ ﻭﻃﻐﻴﺎﻧﺎ ﻭﺗﻜﺬﻳﺒﺎ ﻟﻨﺒﻴﻬﻢ . ﻭﺑﺪﺀﻭﺍ ﻳﺘﻬﻤﻮﻥ " ﻫﻮﺩﺍ " ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺑﺄﻧﻪ ﺳﻔﻴﻪ ﻣﺠﻨﻮﻥ .
    ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟﻪ ﻳﻮﻣﺎ : ﻟﻘﺪ ﻓﻬﻤﻨﺎ ﺍﻵﻥ ﺳﺮ ﺟﻨﻮﻧﻚ . ﺇﻧﻚ ﺗﺴﺐ ﺁﻟﻬﺘﻨﺎ ﻭﻗﺪ ﻏﻀﺒﺖ ﺁﻟﻬﺘﻨﺎ ﻋﻠﻴﻚ، ﻭﺑﺴﺒﺐ ﻏﻀﺒﻬﺎ ﺻﺮﺕ ﻣﺠﻨﻮﻧﺎ .
    ﺍﻧﻈﺮﻭﺍ ﻟﻠﺴﺬﺍﺟﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺻﻞ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺗﻔﻜﻴﺮﻫﻢ . ﺇﻧﻬﻢ ﻳﻈﻨﻮﻥ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭﺓ ﻟﻬﺎ ﻗﻮﻯ ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﺻﻨﻌﻬﺎ . ﻟﻬﺎ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻊ ﺃﻧﺎ ﻻ ﺗﺴﻤﻊ ﻭﻻ ﺗﺮﻯ ﻭﻻ ﺗﻨﻄﻖ . ﻟﻢ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻫﻮﺩ ﻋﻨﺪ ﻫﺬﻳﺎﻧﻬﻢ، ﻭﻟﻢ ﻳﻐﻀﺒﻪ ﺃﻥ ﻳﻈﻨﻮﺍ ﺑﻪ ﺍﻟﺠﻨﻮﻥ ﻭﺍﻟﻬﺬﻳﺎﻥ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺗﻮﻗﻒ ﻋﻨﺪ ﻗﻮﻟﻬﻢ : ( ﻭَﻣَﺎ ﻧَﺤْﻦُ ﺑِﺘَﺎﺭِﻛِﻲ ﺁﻟِﻬَﺘِﻨَﺎ ﻋَﻦ ﻗَﻮْﻟِﻚَ ﻭَﻣَﺎ ﻧَﺤْﻦُ ﻟَﻚَ ﺑِﻤُﺆْﻣِﻨِﻴﻦَ ) .
    ﺑﻌﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﺤﺪﻱ ﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﻟﻬﻮﺩ ﺇﻻ ﺍﻟﺘﺤﺪﻱ . ﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﻟﻪ ﺇﻻ ﺍﻟﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ . ﻟﻢ ﻳﺒﻖ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﺇﻻ ﺇﻧﺬﺍﺭ ﺃﺧﻴﺮ ﻳﻨﻄﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﻭﻋﻴﺪ ﻟﻠﻤﻜﺬﺑﻴﻦ ﻭﺗﻬﺪﻳﺪﺍ ﻟﻬﻢ .. ﻭﺗﺤﺪﺙ ﻫﻮﺩ :
    ﺇِﻥ ﻧَّﻘُﻮﻝُ ﺇِﻻَّ ﺍﻋْﺘَﺮَﺍﻙَ ﺑَﻌْﺾُ ﺁﻟِﻬَﺘِﻨَﺎ ﺑِﺴُﻮَﺀٍ ﻗَﺎﻝَ ﺇِﻧِّﻲ ﺃُﺷْﻬِﺪُ ﺍﻟﻠّﻪِ ﻭَﺍﺷْﻬَﺪُﻭﺍْ ﺃَﻧِّﻲ ﺑَﺮِﻱﺀٌ ﻣِّﻤَّﺎ ﺗُﺸْﺮِﻛُﻮﻥَ ( 54 ) ﻣِﻦ ﺩُﻭﻧِﻪِ ﻓَﻜِﻴﺪُﻭﻧِﻲ ﺟَﻤِﻴﻌًﺎ ﺛُﻢَّ ﻻَ ﺗُﻨﻈِﺮُﻭﻥِ ( 55 ) ﺇِﻧِّﻲ ﺗَﻮَﻛَّﻠْﺖُ ﻋَﻠَﻰ ﺍﻟﻠّﻪِ ﺭَﺑِّﻲ ﻭَﺭَﺑِّﻜُﻢ ﻣَّﺎ ﻣِﻦ ﺩَﺁﺑَّﺔٍ ﺇِﻻَّ ﻫُﻮَ ﺁﺧِﺬٌ ﺑِﻨَﺎﺻِﻴَﺘِﻬَﺎ ﺇِﻥَّ ﺭَﺑِّﻲ ﻋَﻠَﻰ ﺻِﺮَﺍﻁٍ ﻣُّﺴْﺘَﻘِﻴﻢٍ ( 56 ) ﻓَﺈِﻥ ﺗَﻮَﻟَّﻮْﺍْ ﻓَﻘَﺪْ ﺃَﺑْﻠَﻐْﺘُﻜُﻢ ﻣَّﺎ ﺃُﺭْﺳِﻠْﺖُ ﺑِﻪِ ﺇِﻟَﻴْﻜُﻢْ ﻭَﻳَﺴْﺘَﺨْﻠِﻒُ ﺭَﺑِّﻲ ﻗَﻮْﻣًﺎ ﻏَﻴْﺮَﻛُﻢْ ﻭَﻻَ ﺗَﻀُﺮُّﻭﻧَﻪُ ﺷَﻴْﺌًﺎ ﺇِﻥَّ ﺭَﺑِّﻲ ﻋَﻠَﻰَ ﻛُﻞِّ ﺷَﻲْﺀٍ ﺣَﻔِﻴﻆٌ ( 57 ) ( ﻫﻮﺩ )
    ﺇﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻴﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺪﻫﺸﺔ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺠﺮﺃﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻖ . ﺭﺟﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻳﻮﺍﺟﻪ ﻗﻮﻣﺎ ﻏﻼﻇﺎ ﺷﺪﺍﺩﺍ ﻭﺣﻤﻘﻰ . ﻳﺘﺼﻮﺭﻭﻥ ﺃﻥ ﺃﺻﻨﺎﻡ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭﺓ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻹﻳﺬﺍﺀ . ﺇﻧﺴﺎﻥ ﺑﻤﻔﺮﺩﻩ ﻳﻘﻒ ﺿﺪ ﺟﺒﺎﺭﻳﻦ ﻓﻴﺴﻔﻪ ﻋﻘﻴﺪﺗﻬﻢ، ﻭﻳﺘﺒﺮﺃ ﻣﻨﻬﻢ ﻭﻣﻦ ﺁﻟﻬﺘﻬﻢ، ﻭﻳﺘﺤﺪﺍﻫﻢ ﺃﻥ ﻳﻜﻴﺪﻭﺍ ﻟﻪ ﺑﻐﻴﺮ ﺇﺑﻄﺎﺀ ﺃﻭ ﺇﻫﻤﺎﻝ، ﻓﻬﻮ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻟﺘﻠﻘﻲ ﻛﻴﺪﻫﻢ، ﻭﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻟﺤﺮﺑﻬﻢ ﻓﻘﺪ ﺗﻮﻛﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ . ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻫﻮ ﺍﻟﻘﻮﻱ ﺑﺤﻖ، ﻭﻫﻮ ﺍﻵﺧﺬ ﺑﻨﺎﺻﻴﺔ ﻛﻞ ﺩﺍﺑﺔ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ . ﺳﻮﺍﺀ ﺍﻟﺪﻭﺍﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﻭ ﺩﻭﺍﺏ ﺍﻟﻮﺣﻮﺵ ﺃﻭ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ . ﻻ ﺷﻲﺀ ﻳﻌﺠﺰ ﺍﻟﻠﻪ .
    ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﻭﺍﻟﺜﻘﺔ ﺑﻮﻋﺪﻩ، ﻭﺍﻻﻃﻤﺌﻨﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﻧﺼﺮﻩ .. ﻳﺨﺎﻃﺐ ﻫﻮﺩ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻛﻔﺮﻭﺍ ﻣﻦ ﻗﻮﻣﻪ . ﻭﻫﻮ ﻳﻔﻌﻞ ﺫﻟﻚ ﺭﻏﻢ ﻭﺣﺪﺗﻪ ﻭﺿﻌﻔﻪ، ﻷﻧﻪ ﻳﻘﻒ ﻣﻊ ﺍﻷﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻭﻳﺒﻠﻎ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ . ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻳﻔﻬﻢ ﻗﻮﻣﻪ ﺃﻧﻪ ﺃﺩﻯ ﺍﻷﻣﺎﻧﺔ، ﻭﺑﻠﻎ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ . ﻓﺈﻥ ﻛﻔﺮﻭﺍ ﻓﺴﻮﻑ ﻳﺴﺘﺨﻠﻒ ﺍﻟﻠﻪ ﻗﻮﻣﺎ ﻏﻴﺮﻫﻢ، ﺳﻮﻑ ﻳﺴﺘﺒﺪﻝ ﺑﻬﻢ ﻗﻮﻣﺎ ﺁﺧﺮﻳﻦ . ﻭﻫﺬﺍ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﺃﻥ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﻨﺘﻈﺮﻭﺍ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏ .
    ﻫﻼﻙ ﻋﺎﺩ :
    ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺃﻋﻠﻦ ﻫﻮﺩ ﻟﻬﻢ ﺑﺮﺍﺀﺗﻪ ﻣﻨﻬﻢ ﻭﻣﻦ ﺁﻟﻬﺘﻬﻢ . ﻭﺗﻮﻛﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﻠﻘﻪ، ﻭﺃﺩﺭﻙ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏ ﻭﺍﻗﻊ ﺑﻤﻦ ﻛﻔﺮ ﻣﻦ ﻗﻮﻣﻪ . ﻫﺬﺍ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﻣﻦ ﻗﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ . ﻳﻌﺬﺏ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻛﻔﺮﻭﺍ، ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﺃﻗﻮﻳﺎﺀ ﺃﻭ ﺃﻏﻨﻴﺎﺀ ﺃﻭ ﺟﺒﺎﺑﺮﺓ ﺃﻭ ﻋﻤﺎﻟﻘﺔ .
    ﺍﻧﺘﻈﺮ ﻫﻮﺩ ﻭﺍﻧﺘﻈﺮ ﻗﻮﻣﻪ ﻭﻋﺪ ﺍﻟﻠﻪ . ﻭﺑﺪﺃ ﺍﻟﺠﻔﺎﻑ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ . ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺗﻤﻄﺮ . ﻭﻫﺮﻉ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ ﺇﻟﻴﻪ . ﻣﺎ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﻔﺎﻑ ﻳﺎ ﻫﻮﺩ؟ ﻗﺎﻝ ﻫﻮﺩ : ﺇﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻏﺎﺿﺐ ﻋﻠﻴﻜﻢ، ﻭﻟﻮ ﺁﻣﻨﺘﻢ ﻓﺴﻮﻑ ﻳﺮﺿﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻜﻢ ﻭﻳﺮﺳﻞ ﺍﻟﻤﻄﺮ ﻓﻴﺰﻳﺪﻛﻢ ﻗﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﻗﻮﺗﻜﻢ . ﻭﺳﺨﺮ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ ﻣﻨﻪ ﻭﺯﺍﺩﻭﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻨﺎﺩ ﻭﺍﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻜﻔﺮ . ﻭﺯﺍﺩ ﺍﻟﺠﻔﺎﻑ، ﻭﺍﺻﻔﺮﺕ ﺍﻷﺷﺠﺎﺭ ﺍﻟﺨﻀﺮﺍﺀ ﻭﻣﺎﺕ ﺍﻟﺰﺭﻉ . ﻭﺟﺎﺀ ﻳﻮﻡ ﻓﺈﺫﺍ ﺳﺤﺎﺏ ﻋﻈﻴﻢ ﻳﻤﻸ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ . ﻭﻓﺮﺡ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ ﻭﺧﺮﺟﻮﺍ ﻣﻦ ﺑﻴﻮﺗﻬﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ : ( ﻫَﺬَﺍ ﻋَﺎﺭِﺽٌ ﻣُّﻤْﻄِﺮُﻧَﺎ ) .
    ﺗﻐﻴﺮ ﺍﻟﺠﻮ ﻓﺠﺄﺓ . ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻔﺎﻑ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ ﻭﺍﻟﺤﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺮﺩ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ ﺍﻟﻘﺎﺭﺱ . ﺑﺪﺃﺕ ﺍﻟﺮﻳﺎﺡ ﺗﻬﺐ . ﺍﺭﺗﻌﺶ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﺍﺭﺗﻌﺸﺖ ﺍﻷﺷﺠﺎﺭ ﻭﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﻭﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺨﻴﺎﻡ . ﻭﺍﺳﺘﻤﺮﺕ ﺍﻟﺮﻳﺢ . ﻟﻴﻠﺔ ﺑﻌﺪ ﻟﻴﻠﺔ، ﻭﻳﻮﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻳﻮﻡ . ﻛﻞ ﺳﺎﻋﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺮﻭﺩﺗﻬﺎ ﺗﺰﺩﺍﺩ . ﻭﺑﺪﺃ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ ﻳﻔﺮﻭﻥ، ﺃﺳﺮﻋﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﻴﺎﻡ ﻭﺍﺧﺘﺒﺌﻮﺍ ﺩﺍﺧﻠﻬﺎ، ﺍﺷﺘﺪ ﻫﺒﻮﺏ ﺍﻟﺮﻳﺎﺡ ﻭﺍﻗﺘﻠﻌﺖ ﺍﻟﺨﻴﺎﻡ، ﻭﺍﺧﺘﺒﺌﻮﺍ ﺗﺤﺖ ﺍﻷﻏﻄﻴﺔ، ﻓﺎﺷﺘﺪ ﻫﺒﻮﺏ ﺍﻟﺮﻳﺎﺡ ﻭﺗﻄﺎﻳﺮﺕ ﺍﻷﻏﻄﻴﺔ . ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺮﻳﺎﺡ ﺗﻤﺰﻕ ﺍﻟﻤﻼﺑﺲ ﻭﺗﻤﺰﻕ ﺍﻟﺠﻠﺪ ﻭﺗﻨﻔﺬ ﻣﻦ ﻓﺘﺤﺎﺕ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﻭﺗﺪﻣﺮﻩ . ﻻ ﺗﻜﺎﺩ ﺍﻟﺮﻳﺢ ﺗﻤﺲ ﺷﻴﺌﺎ ﺇﻻ ﻗﺘﻠﺘﻪ ﻭﺩﻣﺮﺗﻪ، ﻭﺟﻌﻠﺘﻪ ﻛﺎﻟﺮﻣﻴﻢ .
    ﺍﺳﺘﻤﺮﺕ ﺍﻟﺮﻳﺎﺡ ﻣﺴﻠﻄﺔ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺳﺒﻊ ﻟﻴﺎﻝ ﻭﺛﻤﺎﻧﻴﺔ ﺃﻳﺎﻡ ﻟﻢ ﺗﺮ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻗﻂ . ﺛﻢ ﺗﻮﻗﻔﺖ ﺍﻟﺮﻳﺢ ﺑﺈﺫﻥ ﺭﺑﻬﺎ . ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﺑﺎﻗﻴﺎ ﻣﻤﻦ ﻛﻔﺮ ﻣﻦ ﻗﻮﻡ ﻫﻮﺩ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺨﻞ ﺍﻟﻤﻴﺖ . ﻣﺠﺮﺩ ﻏﻼﻑ ﺧﺎﺭﺟﻲ ﻻ ﺗﻜﺎﺩ ﺗﻀﻊ ﻳﺪﻙ ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻄﺎﻳﺮ ﺫﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻬﻮﺍﺀ .
    ﻧﺠﺎ ﻫﻮﺩ ﻭﻣﻦ ﺁﻣﻦ ﻣﻌﻪ .. ﻭﻫﻠﻚ ﺍﻟﺠﺒﺎﺑﺮﺓ .. ﻭﻫﺬﻩ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻋﺎﺩﻟﺔ ﻟﻤﻦ ﻳﺘﺤﺪﻯ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻳﺴﺘﻜﺒﺮ ﻋﻦ ﻋﺒﺎﺩﺗﻪ.
    منقول
                  

09-03-2015, 01:46 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    البَغْي معناه طلب الِاسْتِعْلَاءَ في الأرض بِغير حق ، وهو خُلُق ذميم يَجُرُّ خَلْفَهُ جملة أخرى من الأخلاق الذميمة مِثْلَ الكذب و الكبر و الظلم و الفساد ، ومِنْ ثَمَّ عَدَّه العلماء من الكبائر الباطنة ، ومعلوم أَنَّها أعظم من كبائر الجوارح لِعِظَمِ مفسدتها وسوء أثرها ودوامه، لذا كان الذَّمُّ عليها أعظم مِن الذَّمِّ على السرقة و شرب الخمر أعاذنا الله وَإِيَّاكُمْ مِنْها .

    و من الشواهد على خطورة البغي ما خاطب الله تعالى به البغاة فى أي مكان كانوا وفى أي زمان وُجدُوا، قال سبحانه مُنَبِّهًا و مُحَذِّرًا: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} والمعنى: يا أيها الغافلون أَمَا كفاكم بَغْياً على المستضعفين منكم اغترارا بقوتكم وكبريائكم، إِنَّما بغيكم فى الحقيقة على أنفسكم، لِأَنَّ عاقبته الوخيمة عائدة إليكم. وفى ذلك إشارة صريحة إلى أَنَّ البغي مجزىّ عليه فى الدنيا والآخرة، والمعنى نفسه جاء صريحا في الحديث الشريف :"ما مِنْ ذنب أَجْدَرُ- أَيْ: أَحَقُّ وَأَوْلَى - أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لصاحبه العقوبة في الدنيا - مع ما يُدَّخَرُ له في الآخرة - مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ".

    و السبب في تخصيص هاتين الخصلتين أَنَّ فاعلهما ارتكب ما تطابقت الكتب السماوية على النهي عنه. وقد حفظ لنا التاريخ أسماء عدد من أَهْلُ الْبَغْيِ الذين عاجلهم الله بعقوبة بغيهم ، منهم على سبيل المثال قارون الذي خَسَفَ الله به الأرض ، و كان مِنْ صور بَغْيِهِ تشويه صورة الشرفاء المخلصين الذين يأمرون بالقسط ، فقد ذكرت كتب التفسير : أَنَّه جَعَلَ لِامْرَأَةٍ من البغايا أَجْرًا على أَنْ تَقْذِفَ موسى عليه السلام!!.
    وقد تكلَّم الحكماء والبلغاء في وصف عاقبة البَغْي بجُمَلٍ بَلِيغَةٍ بَدِيعَةٍ تُصوِّر في الأذهان شقاء المتصف به، كأنَّها تقول له هذا عدوُّك فانظر ماذا تصنع، فمن أقوالهم:
    مَنْ سَلَّ سَيْفَ البَغْيِ قُتِلَ به ، ومن حفر بِئْرًا لِأَخِيهِ وَقَعَ فيها، ومن أوقد نار الفتنة كان وقوداً لها، البغي مرتعه وخيمٌ، على الباغي تدور الدَّوائر ، ما أعطى البغي أحدا شيئا إلا أخذ منه أضعافه، سَمِين البغي مهزول ووالي الْغَدْرِ معزول .. وليس البغي في ذلك فريدًا وحيدًا، بل له إخْوةٌ يشتركون معه في تعجيل العقوبة ، فمن إخْوته نَكْث الْعَهْدِ ومنها أيضا الْمَكْرُ و سأكتفي بالإشارة إليه في الكلمات التالية :

    الْمَكْر هو صرف الغَيْرِ عمَّا يقصده بنوع من الْحِيلَة، و هو أيضا اسم لكل فعل يقصد فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره ، وقد دلت النصوص على سوء عاقبة المتخلق بهذا الخلق الذميم ، منها قوله تعالى { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} أَيْ: وما يَعُودُ وَبَالُ ذلك إِلَّا عليهم أَنفسهم دون غيرهم ، وفي تفسير القرطبي أَنَّ رجلا قال لابن عباس: إِنِّي أَجِدُ في التوراة: من حفر لأخيه حفرة وقع فيها؟. فقال له ابن عباس: فَإِنِّي أُوجِدُكَ في القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) . ومنها قوله تعالى: {وكذلك جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها، وما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وما يَشْعُرُونَ} والْأَكَابِرُ جَمْعُ الْأَكْبَرِ ، والمراد بهم: مَنْ يقاومون دعوة الإصلاح ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم، خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَقْدَرُ على الفساد و المكر واستتباع الناس لهم. قال المفسرون : نزلت في مجرمي مكة حين أَجْلَسُوا على كل طريقٍ مِنْ طُرُقِها أَرْبَعَةَ نَفَرٍ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عن الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، يقولون لكل غاد ورائح: إِيَّاكَ وهذا الرَّجُل فَإِنَّهُ كاهنٌ ساحرٌ كَذَّابٌ ، كما فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ بِأَنْبِيَائِهِمْ.!!. قُلْتُ : وكما يفعله مَنْ بعدهم - إلى يومنا هذا - بنفس الطريقة، ولنفس الأسباب ، فمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارحَةِ إِنَّها سُنَّة جارية . وواضح أَنَّ الكبر النفسي - وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الْأَتْبَاعِ - مِنْ أسباب تزيين الباطل في نفوسهم، ووقوفهم من الحق والدين موقف العداء.

    إِنَّ التاريخ يشهد و نصوص الوحي تنطق و الواقع يؤكد أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ والمكر –كما يقول العلامة السعدي (المتوفى سنة 1376هـ) في تفسيره - كَذَبَةٌ مزورون، استبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، و رَدَّ الله كيدهم في صدورهم. فلم يبق لهم إلا انتظار ما يَحِلُّ بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تُغَيَّرُ وَلَا تُبَدَّلُ ، أَنَّ كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أَنْ يَحِلَّ به نقمته، و تُسْلَبُ عنه نعمته، فَلْيَتَرَّقب هؤلاء، ما فعل بأولئك. انتهى كلامه رحمه الله.
    اللَّهُمَّ إِنَّا نسألك التوفيق والسداد فإِنَّك إِذا وَفَّقْتَ أَلْهَمْتَ ، ونعوذ بك من الخزي و الخذلان فإِنَّك إِذا خَذَلْتَ أَعْمَيتَ
    د / أحمد عبد المجيد مكي-اسلام ويب
                  

09-03-2015, 01:48 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    ثلاث مهلكات
    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى أتباعه وآله وصحبه.. وبعد
    فقد روى الإمام الطبراني والبزار بسند حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه](رواه البزار والطبراني وحسنه الألباني).

    وهذا الكلام قاله عليه الصلاة والسلام في معرض التنبيه والتحذير؛ ذلك لأن هذه الثلاث هي عوامل الهلاك في الدنيا والخسران في الآخرة، لأنها أخلاق تميت القلب، وتضعف الإيمان، وتزرع النفاق والرياء، وتؤجج نيران الحقد والعدوة والبغضاء، وتسبب للمجتمع الشقاء الدائم، والفتن الماحقة، وتؤدي إلى سفك الدماء، وقطع وشائج الأرحام، واستحلال المحارم والآثام.

    أولا الشح المطاع:
    فالشح المطاع: هو تلك الصفة المذمومة الخطيرة التي أحلت بالأمم السابقة الكوارث والذل والهوان، وكانت سببا في هلاكهم، وقطع آثارهم.. وقد قال صلى الله عليه وسلم: [اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماء بعضهم، واستحلوا محارمهم](رواه مسلم).

    والشح هو مجموعة من الرذائل الخُلقية التي أجمعت العقول السليمة والشرائع على ذمها والتنفير منها، والتحذير من عواقبها المدمرة المهلكة، وفي مقدمتها الحقد والبخل والحسد، وما ابتلى امرؤ بالشح إلا أصبح جرثومة شر وفساد في المجتمع، ومصدر فتنة وبلاء على الأمة كلها؛ فالشحيح بخيل حقير النفس، يتطلع إلى ما في أيدي الناس، ويبخل بما عنده، ويتكالب على جمع المال والحطام ويحرم منه نفسه وأهله وأولاده، وهو حسود حقود، يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويتمنى زوال النعم عن غيره، ويغلي صدره بالحقد، كلما رأى رجلا قد تفضل الله عليه وأحسن إليه.

    ومن هنا تحدث الفتن والخصومات، وتنشأ الشرور والعداوات، وتنقطع حبال المودة والإخاء، وتقوى أسباب الكراهية والعداء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [إياكم واشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا](صحيح سنن أبي داود)، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: [الشحيح لا يدخل الجنة](رواه الطبراني عن ابن عمر وهو ضعيف)..

    ومكافحة الشح تكون بالتعود على الكرم والجود والسخاء، وسلامة الصدر من الغل والحقد والحسد والبغضاء، والرضا بقضاء الله وقدره، والزهد فيما في أيدي الناس، والتخلق بالشجاعة والإقدام، وبذل النفس والمال في سبيل الذود عن الكرامة والعرض والدين.

    ثانيا: الهوى المتبع
    أما الهوى المتبع، فهو ميل النفس إلى شهواتها، واتباعها لنزواتها، وإيثارها جانب المعاصي والملذات والفجور، بحيث يكون الإنسان تابعا لهواه، وعبدا لشيطانه، وقد خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته من اتباع الأهواء، وخشي عليها شهوات الغي والضلال، فقال عليه الصلاة والسلام: [إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى](صحيح الترغيب)
    واتباع الهوى يورث ضعفا في الدين، ورقة في العقيدة، ووهنا في الخُلق، ونزوعا إلى الخطايا والآثام، وعدم التورع عن مقارفة الحرام.
    والهوى المتبع إله مزيف، عبده الناس منذ القدم، واتخذوه ربا يسمع قوله، ويطاع أمره، ويتبع وحيه

    واتباع الهوى، يصد عن الحق، ويبعد عن الهدى، وقديما كان الهوى مانعا للناس من الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودافعا لهم إلى السير في عماية الباطل والضلال. قال الله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}(القصص ). وقال تعالى لنبيه داود عليه السلام: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (ص ).

    ولذلك يجب على المسلم أن يتجرد من أهوائه، وأن يصدر في أقواله وأفعاله عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، بأن يتقيد بآداب الشرع، وأحكام الدين، بحيث يكون جميع أهوائه ورغباته تابعة لسنن الحق وطرق الهدى والصواب، قال صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به](حسنه ابن حجر وصححه النووي).

    ثالثا: إعجاب المرء بنفسه
    وأما إعجاب المرء بنفسه، (أو برأيه) كما في الرواية الأخرى.. فهو الرضى عنها، والاعتداد بها، وهذا يجر إلى الفخر والتكبر، والعزة بالإثم، والبغي بغير الحق.

    وإعجاب المرء بنفسه، واتكاله على رأيه، معناه الاستبداد بالأمور، ورفض النصح والمشورة، ومدافعة الحق، ومن ثم الوقوع في الباطل، واتباع الأهواء.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بينما رجلٌ يمشي في حلةٍ، تعجبُه نفسُه، مرجِّلٌ جمتَه ، إذ خسف اللهُ به، فهو يتجلجلُ إلى يومِ القيامةِ](رواه البخاري عن أبي هريرة)

    فاتقوا الله عباد الله وطهروا قلوبكم من الشح والبخل، وخالفوا النفس والهوى والشيطان، واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، واحذروا التكبر والإعجاب بالنفس والاعتداد بالرأي، وبذلك تنجون بأنفسكم، وتنجو معكم الأمة من عوامل الهلاك وأسباب الشقاء، ويتطهر المجتمع من العداوة والبغضاء، وتصفو الحياة من مكدرات الهوى والشهوات.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    د.محمد نور المراغي
                  

09-05-2015, 00:51 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    جميل أن ترى ذلك الشاب وقد بدت عليه أمارات الخير والصلاح ، والعز والفلاح ، أطلق لحيته ، ورفع ثوبه فوق كعبه ، وتمسك بسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم فيما يرى الناس ، فعُرف بينهم بجميل أدبه ، وحُسن سمتِه ...اختار من الجلساء أحسنَهم ، وغشى مجالس أفضلِهم ...إلخ ، ولكن الأجمل من هذا كله أن يكون باطنه أجمل من ظاهره ، وخلواته أصدق مع الله تعالى من علانيته ....
    أقول هذا لأن هناك من الشباب من هاتفني والعَبَرات منه تسابق العبارات ،قد تكدر خاطره ، وضاق صدره ، يشكو ذنوباً اقترفها ، ومعاص قد ألفها إذا غابت عنه أعين البشر ، قنواتٌ فضائية سلبت منهم الألباب ، ومواقعُ إباحيّة كانت عن طاعة الله أعظم حجاب ، ومشافهاتٌ إلكترونية اختبأوا معها خلف أسماء مستعارة ، فاجترأوا على المحرمات ، وتعدوا على الخصوصيات ، ولربما اعتدوا على محارم الآخرين وأعراضهم.
    أخي الشاب : إياك إياك أن يكون الله تعالى أهون الناظرين إليك ، تخالف أوامره ، وتستجيب للشيطان وداعيه ، يقول سحنون رحمه الله: " إياك أن تكون عدوا لإبليس في العلانية صديقا له في السر"... إن هذه الذنوب التي تكون في الخلوات من أعظم المهلكات ، ومحرقةٌ للحسنات ، جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :"لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً، " قال ثوبان : يا رسول الله صِفهم لنا ،جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم ، قال :" أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها !! ".
    أترضى لنفسك يا رعاك الله أن تكون واحداً من هؤلاء المحرومين الذين كان حظهم من أعمالهم التعب والمشقة ، والآخرون في فضائل الله يتقلبون، ومن عظيم ما أعده ينهلون ؟!.
    لقد مدح الله تعالى عباده الذين يعظمونه ويخشونه خصوصا إذا غابوا عن أعين الناس: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ،وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور} (إذا أغلقت دونك الباب وأسدلت على نافذتك الستار وغابت عنك أعين البشر ، فتذكر مَنْ لا تخفى عليه خافية ، تذكر من يرى ويسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ، جل شأنه وتقدس سلطانه ، أخشى بارك الله فيك أن تَزِلَّ بك القدم بعد ثوبتها ، وأن تنحرف عن الطريق بعد أن ذقت حلاوته ، واشرأب قلبك بلذته ، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
    "أجمع العارفون بالله أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات"، فهل يفرط موفق بصيد اقتنصه ، وكنز نادر حَصَّله ؟ احذر سلمك الله ، فقد تكون تلك الهفوات المخفية سبباً لتعلق القلب بها حتى لا يقوى على مفارقتها فيختم له بها فيندم ولات ساعة مندم يقول ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله : "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس" .
    فالله الله بإصلاح الخلوات ، والصدق مع رب البريات ، لنجد بذلك اللذة في المناجاة ، والإجابة للدعوات
    (وتذكروا أن الله تعالى { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} ، وكونوا كهؤلاء الصالحين الذين تذكروا اطلاع الله عليهم فامتنعوا من المعاصي، هذه امرأة يراودها رجل ويقول لها إننا في مكان لا يرانا فيه أحد فتقول: فأين الله؟ { ألم يعلم بأن الله يرى }
    د / زيد بن عبد الله القرون
                  

09-03-2015, 01:49 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    من مقومات المجتمع المسلم ودعائم نهضته ودليل خيريته أن تتصف سلوكيات أفراده بقيم وأخلاق تضمن لهم حياة يسودها الحب والتراحم والتعاون والتسامح والإيثار والبذل والعطاء، وحب الخير للغير .. فلا قيمة لحياة ولا سعادة ولا راحة لإنسان يعيش في مجتمع تسوء فيه الأخلاق، وتضمحل فيه القيم، ويسود الشر بديلاً عن الخير، وتطغى الرذيلة، وتتلاشى الفضيلة، وتمتلئ القلوب بالحقد والغل والحسد والضغائن، وتظهر فساد ذات البين وسوء الظن، وتضعف أواصر المحبة والأخوة والتعاون والتسامح من حياة الأفراد. والله جلا وعلا عندما خلق الخلق دلهم على أسباب سعادتهم في الحياة الدنيا والآخرة، وحذرهم من طرق الفساد والضلال والانحراف، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97].

    أخوك هو نفسك
    قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فمن بصائر القرآن وأنواره في البناء التربوي والاجتماعي أن مكانة الأخ المسلم هي مكانة النفس.
    قال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}[النور:12] والمرء غالبا يظن بنفسه خيرا، فالمقصود هنا: (ظنوا بإخوانهم)، والمعنى: كما لا يحب الإنسان أن يظن به غيره إلا خيراً، كذلك يجب أن يظن الأمر ذاته بغيره، فلا يظن به سوءا، ولا يتكلم عنه إلا خيراً، كما لا يحب أن يتكلم أحدٌ عنه إلا بالخير .. قال الطبري: "وهذا عتاب من الله تعالى ذكره أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة بما أرجف به، يقول لهم تعالى ذكره: هلا أيها الناس إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظن المؤمنون منكم والمؤمنات بأنفسهم خيرا .. وقال: {بأنفسهم}، لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة، لأنهم أهل ملة واحدة".
    وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] والإنسان إذا دخل على بيت أحد من الناس فإنه يسلم عليهم، وليس على نفسه، فقد قال الله في البداية: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}[النور:27] فجعل الله أهل البيوت بمثابة الأنفس، وقد روى الطبري عن الحسن وابن زيد في قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قال: إذا دخل المسلِّمُ سُلِّم عليه، كمثل قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إنما هو: لا تقتل أخاك المسلم.

    وقال تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُم}[الحجرات:11] والإنسان عندما يلمز لا يمكن أن يلمز نفسه إنما يلمز غيره، إلا أن الله جعل الغير بمثابة النفس، ولذا قال الطبري: "وقوله {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} يقول تعالى ذكره: ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون، ولا يطعن بعضكم على بعض .. فجعل اللامز أخاه لامزاً نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير".
    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا وفصله، ففي صحيح مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: "مثل الْمؤمنينَ في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الْجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الْجسد بالسهر والحمى".
    وفي البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

    حب الخير للغير
    كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا أصبح دهن يده بدهن طيب لمصافحة إخوانه.
    ومن سلامة صدر ابن عباس رضي الله عنهما أنه شتمه رجل فرد عليه قائلًا: "أتشتمني وفيّ ثلاث خصال؛ إني لا آتي على آية إلاّ تمنيت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، ولا سمعت بقاضٍ عادل إلاّ فرحت ودعوت له وليس لي عنده قضية، ولا سمعت بالغيث في بلد إلاّ حمدت الله وفرحت، وليس لي ناقة ولا شاة".
    قال أبو سليمان الدارني: "إني لأضع اللقمة في فم أخٍ من إخواني فأجد طعمها في حلقي".
    وقال محمد بن مناذر: "كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسعي فخلع نعله، فقلت ما تصنع؟! قال أواسيك في الحفاء" أي لا يريد أن يمشي منتعلًا وأخوه بلا نعل.
    وقال مجاهد: "صحبت ابن عمر أريد أن أخدمه، فكان هو الذي يخدمني".
    ونقل الإمام المناوي عن أحدهم قوله: "لي ثلاثين سنة في الاستغفار عن قولي الحمد لله، وذلك أنه وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل فقال نجا حانوتك، فقلت الحمد لله. فمذ قلتها وأنا نادم، حيث أردت لنفسي خيراً دون المسلمين".

    أخوة العلماء الربانيين
    قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "ما حاججت أحدًا إلاّ وتمنيت أن يكون الحق على لسانه".
    وهذا الشافعي رحمه الله يقول عنه يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
    وكان الشافعي حينما يحدث عن أحمد - وهو من تلاميذه - فلا يسميه تكريمًا له، وإنما يقول: حدثنا الثقة من أصحابنا أو أخبرنا الثقة من أصحابنا".

    ويذكر الإمام أحمد عن ابن راهويه وكان يخالفه في أمور فيقول: "لم يعبر الجسر إلى خرسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا"
    وكان الوزير ابن هبيرة رحمه الله، ممن نال العلم والفقه والوزارة معاً، وكان له مجلس حافل بالعلماء من أرباب المذاهب الأربعة، وبينما هو في مجلسه إذ ذكر مسألة من مفردات الإمام أحمد -يعني أن الإمام أحمد تفرد في هذه المسألة عن الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبي حنيفة-، فقام فقيه من فقهاء المالكية يقال له أبو محمد الأشيري فقال: بل قال بهذا الإمام مالك، فقال ابن هبيرة: "هذه الكتب" وأحضرها، وإذا هي تنص على أن هذه المسألة من مفردات الإمام أحمد، فقال أبو محمد الأشيري: بل قال بذلك الإمام مالك، فتكلم العلماء الذين حضروا هذا المجلس، فقالوا: بل هي من مفردات الإمام أحمد، قال: بل قال بذلك الإمام مالك، فغضب ابن هبيرة وقال: أبهيمة أنت؟، أما تسمع هؤلاء العلماء يصرحون بأنها من مفردات الإمام أحمد، والكتب شاهدة بذلك، ثم أنت تصر على قولك.
    فتفرق المجلس، فلما انعقد المجلس في اليوم الثاني جاء الفقيه المالكي وحضر كأن شيئاً لم يكن، وجاء ابن هبيرة، وجاء العلماء، فأراد القارئ على عادته أن يقرأ ثم يعلق الوزير ابن هبيرة، فقال له: قف، فإن الفقيه الأشيري قد بدر منه ما بدر بالأمس، وحملني ذلك على أن قلت له ما قلت، فليقل لي كما قلت له، فلست بخير منكم، ولا أنا إلا كأحدكم، فضج المجلس بالبكاء، وتأثروا جداً من هذه الأخلاق العالية الرفيعة، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وجعل هذا الخصم الأشيري يعتذر ويقول: أنا المذنب، أنا الأولى بالاعتذار، والوزير ابن هبيرة يقول: القصاص القصاص، فتوفق أحد العلماء وقال: يا مولانا إذا أبى القصاص فالفداء، فقال الوزير له: حكمه يحكم بما شاء، احكم بما تريد، فقال هذا الفقيه: نعمك علي كثيرة فأي حكم بقي لي، فقال: قد جعل الله لك الحكم علينا بما ألجأتنا به إلى الافتيات عليك، فقال: عليّ بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير ابن هبيرة: يعطى مائة دينار لإبراء ذمته وذمتي، فأحضر له المال، وقال له ابن هبيرة: عفا الله عنك وعني، وغفر الله لك ولي".
    د/ خالد سعد النجار-اسلام ويب
                  

09-03-2015, 01:51 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    في كل مرة أعايش فيها محنة تتكرر المشاعر ذاتها، وكأنني لا أتعلم من تجاربي!

    ليس أنا فحسب بل جنس ذلك الإنسان العجيب في عجلته وسرعة تحوّله وغفلته حال السعة، ويأسه وتبرمه حال العسر والشدة، وصدق الله إذ يقول: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا} (83) سورة الإسراء.

    ينظر إلى حالة الضيق التي يمر بها وكأنها سرمد لا يزول، وينسى ما كان عليه قبلها من الفسحة والفيض والخير، ولا يستطيع تخيُّل ما سيأتي بعدها من الرَّوح والفرج.

    إن اليسر هو الأصل، وإنما يستخرج الله ببعض الشدائد منَّا ألواناً من العبوديات؛ غفلنا عنها حين سبحنا في تيار الحياة الرخي، فأراد بلطفه أن يسمع نجوانا وشكوانا، وأن يرى قلوبنا الموجوعة، وأن تترطَّب عيوننا ببعض الدمع الذي جفَّ في مآقينا!

    أعرف العسر الذي مرَّ بي أو يمر وأقاسي مرارته وحرارته وقسوته، ولكني لا أحتسب ولا أدري من أين يأتيني الفرج، فربي يرزقني من حيث لا أحتسب، واليسر يأتي متنكّراً ويطرق الباب كغريب!

    ومن هنا ذكر الله العسر معرَّفاً، وذكر اليسر منكَّراً فقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (6،5) سورة الشرح، ربط الآية الأولى بما قبلها بالفاء؛ لأنها تعقيب على معاناة الرسول الكريم ووعد خاص له بالتيسير، أما الآية الثانية فجاءت مطلقة وقاعدة عامة لكل من ينتظر اليسر من الله تقول له: إن اليسر موجود وقائم وليس قادماً أو منتظراً فحسب فهو (مَعَ) العسر وهو بعده أيضاً..

    إنه يسر الرضا والصبر، ومن رُزق الرضا فلا يبالي بما وراءه، وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: «الغِنَى والفقر مطيَّتان، والله ما أُبالي أيُّهما ركبت!».

    وجاء كثيراً في القرآن ذم من يعبد الله على (حَرْفٍ) أي: على حال واحدة، فإذا تغيَّرت ترك ما كان عليه.

    رضيت في حبك الأيام جائرة فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب!

    إنه يسر العطايا المغلفة يبعثها الله إلينا بصورة لا نتوقعها لتسوقنا بلطف إلى رحابه، وتساعدنا على معرفة جوانب ضعفنا، وتضع أقدامنا حيث كان يجب أن تكون.

    إنه الألم الموجع الذي يُعلّمنا أن نقف مع الضعيف قبل أن نجري الحسابات ونلمح الأرباح والخسائر والمصالح الوقتية، فمن جرّب وقْع الظلم حَرِيٌّ به أن يكره قليله وكثيره، وأن ينأى بنفسه عن مظنته، وأن يواسي المظلوم ولو بكلمة طيبة أو دعوة صالحة..

    وكما يقول الشاعر:

    لَعَمْرِي لَقُدْمًا عَضَّنِي الْجُوعُ عَضَّةً فَآلَيْتُ أَلَّا أَمْنَعَ الدَّهْرَ جَائِعَا!

    إنه اللهب المقدَّس يأتي على كل الأصباغ والمظاهر الصورية التي نتزين بها وندَّعيها ولا يبقي لنا إلا الحقيقة المجرَّدة نقف أمامها بلا تزييف.. هكذا نحن بمخاوفنا وأوهامنا، وحساباتنا الناقصة واستعجالنا، وتشاؤمنا ويأسنا..

    إنه الميزان القسط الذي تطيش عنده ادّعاءات، وتخور صداقات، وتثبت أخرى تقول لك: إن الدنيا لا تزال بخير، والطيبون فيها كثير!

    إنه محاولة الدفع بالجهد البشري الضعيف، فلا تحتقر شيئاً مهما قلّ، وعليك البدء وعلى الله التمام {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} ((25) سورة مريم)، إلى جنب التوكل على الحيِّ الذي لا يموت، ولا يعجزه كرب أن يكشفه، ولا هَمٌّ أن يرفعه، ولا بلاء أن يدفعه.

    إنه انتظار الفرج من مؤمن تشرَّب قلبه الثقة بما عند الله، وكانت ثقته بما عند الله أعظم من ثقته بما عند نفسه، وانتظار الفرج إيمان وعبادة!

    بالأمس كنت مع من تحب، وكنت فيما تحب، وأنت الآن محروم فلا تبتئس، سيعود إليك وتعود إليه بأفضل مما كان، فتنفس هواء الأمل، واستعد لفرحة الوصال، ولا تسمح لشِبَاك اليأس أن تلتف عليك.

    إذا رأيْتَ الوَداعَ فاصبِرْ ولا يَهُمَّنَّكَ البِعادُ

    وانتظِرِ العَوْدَ مِن قَريبٍ فإنَّ قَلْبَ الوَداعِ عادُوا



    {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ((36) سورة الشورى)، صدق الله العظيم.
    د / سلمان العودة
                  

09-03-2015, 01:53 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    - حب الحياة فطرة ، والمؤمن يكره الموت غالبًا، وفي الحديث القدسي: «..المؤمنُ يكره الموتَ، وأنا أكرهُ مَساءَتَه» (أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
    وقالت عائشة رضي الله عنها: «كلنا نكره الموت» (أخرجه البخاري، ومسلم).
    ولكن يجب أن يكون حب الله ورسوله أقوى وأشد..
    - من حب الحياة الإحسان إلى الأبناء.
    وكما قيل:
    لقد زاد الحياةَ إليَّ حُبًّا *** بناتي إنَّهنَّ من الضِّعافِ
    مخافةَ أن يذقن الفقرَ بعدي *** وأن يشربنَ رَنْقًا غير صافِ

    الإحسان إلى الوالدين، وهما أوسط أبواب الجنة.
    الإحسان إلى الزوجة، وبناء الأسرة الصالحة.
    الإحسان إلى الضعفاء والمساكين والمرضى والغرباء والمعوزين.. وما أكثرهم في العالم، وفي العالم المسلم خاصة!

    - إن الزواج استجابة لغريزة فطرية، ولكنك ترضي ربك، وتقتدي برسولك صلى الله عليه وسلم، وتنفع مسلمة، وتفيد صاحب البيت الذي تستأجره، وصاحب البقالة التي إلى جوارك، وتعزِّز العائلة التي صاهرتها، وتتيح عملًا لسائق أو خادمة في أحيان كثيرة، وتنفع صاحب السيارة، وتتدرَّب على تحمل المسؤوليات، وقد تنجب ذرية، تكون ذكرًا لك في الأرض، ورفعة لك في السماء.

    - إن الرفض المطلق للحياة ومشاريعها لا يصنع شيئًا، والمشاركة هي الأفضل والأبقى والأتقى.
    والله تعالى جعل الليل والنهار خلفة لـمَن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا.
    فكم في الحياة من فرص التعبد والاقتراب من الله، ومناجاته، وإشباع العقل والقلب والروح بذكره، وتسبيحه، وتلاوة كتابه، والتدرُّب على القيام، والصلاة، والاستحضار والخشوع، وهذه مقامات جليلة، يرفع الله بها عباده المصطَفين الأخيار، ولذا أحبوا الحياة من أجل صف الأقدام بين يدي الملك العلَّام في جنح الظلام، ومن أجل ظمأ الهواجر في اليوم الصائف، بعيد ما بين الطرفين، ومن أجل بذل المعروف والنَّدى، وكف الأذى، وتدارك النفس من آفاتها وعيوبها الباطنة قبل الظاهرة.

    - طول الحياة يسمح لك بتجديد النية، وتصحيح المقصد، وقد يغلب على الشاب حب الظهور، أو الاستعجال، أو الإعجاب بالنفس، أو ما سوى ذلك من الشهوات الخفية، وكم من قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، وإنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
    وكان بعض السلف يقول: «طلبنا العلم لغير الله، فأَبَى إلا أن يكون لله».
    أن يمهلك الله حتى تسدِّد، وتقارب، وتحاول، وتتسع تجربتك، وتعطي الأشياء مقدارها، دون غلو أو اجحاف، وتصحِّح نواياك ومقاصدك التي يراها الله ولا يراها الناس؛ فهو من فضل الله عليك.

    - بينما جهاد الإحسان إلى الناس لا يفتقر إلى نية، كما ذكر أهل العلم، أن تغيث ذا الحاجة الملهوف، أو تعين صانعًا، أو تصنع لأخرقَ، أو تسقي أخاك من مائك، أو تميط شوكًا عن طريق الناس.. فذلك كله من الخير الممدوح عند الله، حتى لو لم تحضرك فيه نية، وما ذلك إلا تسهيلًا لفعله، وتحفيزًا إليه دون تردد.

    - التوازن إذًا بين صناعة الموت في ميدانها وبشرطها ونيتها، وهي الاستثناء الذي لابد منه لحفظ الأمة وديانتها وحياتها، وبين صناعة الحياة التي هي المشروع الأصل الذي نضحِّي من أجله ونحميه، فتلك قضية تربوية وأخلاقية، يجب أن يقف عندها الشاب المخلص لنفسه ولأمته طويلًا، قبل أن يتخذ قرار وجهته!

    - الأب الحاني، والصديق الوفي، والأستاذ المشفق، والخطيب الموفَّق، كلهم عون على بناء الحياة، وتجنب المغامرات غير المحسوبة، التي قد يندفع إليها شاب لم تكتمل خبرته، ولم تنضج تجربته، ولا زال في مدارج الحياة الأولى، وربما سبقت إليه فكرة، فتشبَّع بها، ولم ير غيرها، حتى لم يعد في عقله وقلبه متسع إلا لمشروعه الوحيد، الذي يظنه قضاءً على كل المشكلات، وحلًّا لكل المعضلات.
    ولو أنه أقبل على برامج الحياة الإيجابية، وتلمَّس مقعده منها؛ لوجد من وراء ذلك خيرًا كثيرًا، والموفَّق مَن وفَّقه الله، والله يحول بين المرء وقلبه، وإليه المصير.
    د / سلمان العودة
                  

09-03-2015, 01:55 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    ظُلْمُ الْعِبَاد سَبَبُ خراب البلاد
    الأدلّة على تحريم الظُّلم مِنَ القرآن والسّنّة كثيرة لَا تُحْصَى، ويكفي أنَّ الله سُبْحَانَهُ حَرَّمَهُ على نَفسه وجعله مُحَرَّمًا بَين عباده، وأخبر سبحانه أنّه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، كما يشير إِلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، وما ذلك إِلَّا لِأَنَّ الظلم سببٌ لخراب العمران، وزوال الدُّوَل، وفناء الأمم، ووقوع الفوضى، وغموض المستقبل.
    وقد حَذَّرَنَا علماء الْمِلَّةِ -على مر العصور– من النتيجة الحتمية للظلم ، وَنَبَّهَوا على المفاسد النَّاشِئَةِ مِنْ ذلك، و من هؤلاء العلماء- على سبيل المثال لا الحصر-الْإِمَامُ الماوردي (المتوفى سنة 450هـ) الذي يقول :

    " إِنَّ مما تصلح به حالُ الدنيا: قاعدة العدل الشامل الذي يدعو إلى الأُلفة، ويبعث على الطاعة، وتَعْمُر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النَّسْل، ويأمن به السلطان، وليس شيءٌ أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجَوْر؛ لأنه ليس يقف على حدٍّ، ولا ينتهي إلى غاية".

    إِذا انتقلنا إِلى شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى سنة 728هـ) نجده يقرر أنَّ العدل الذي يتوصل الناس إِليه بعقولهم يحمي مجتمعهم من السقوط وإنْ كانوا كفارا، في حين أنَّ المجتمع الذي يرعى الظلم أو يغض الطرف عنه يسقط ولا بد وإنْ كان مُسْلِمًا، و نَصٌّ عبارته : " وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإنْ لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إِنَّ الله يقيم الدولة العادلة وإنْ كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإنْ كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. .. وذلك أنَّ العدل نظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بعدلٍ قامت، وإنْ لم يكن لصاحبها في الآخرة من خَلاق، ومتى لم تَقُمْ بعدلٍ لم تَقُمْ، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخِرة" وقد كرر رحمه الله هذا المعنى في أكثر مِنْ موضع مِنْ مجموع فتاواه.

    أما الْعَلَّامَة ابن خلدون- أحد رواد علم الاجتماع ، توفى سنة 808هـ - فقد تناول أثر الظلم وعواقبه على المجتمع في مواضع كثيرة مِنْ كتابه "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب... " ، لدرجة أنَّه خصص له فصلا كاملا بعنوان "الظلم مُؤْذِنٌ بخراب العمران" افتتحه بقوله:

    " اعْلَمْ أَنَّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لِمَا يرونه حينئذ مِنْ أَنَّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي في ذلك ..... والعمران ووفوره ورواج أسواقه إنّما هو بالأعمال وسعي النّاس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين، فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال و تفرق النّاس في الآفاق، فخفّ ساكن القطر وخلت دياره واختلّ باختلاله حال الدّولة والسّلطان ".
    وقد استفاض رحمه الله في بيان أنواع الظلم و بَيَّنَ أَنَّهَا لا تقتصر فقط على الظلم المادي المحسوس و إِنَّمَا تمتد لتشمل الظلم النفسي و المعنوي الذي قد يكون أقسى وَقْعًا وأشد أَثَرًا.

    وما قرره هؤلاء الائمة إِنَّما هو قانون عام في البشرية و سُنَّةَ من سُنَنِ الله في سائر الْأُمَمِ لا تتبدل، وهي أنَّ الظالمين في النهاية لا يفلحون وإنْ بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الاتجاه، وقد تواطأت نصوص عِدَّة على تقرير هذه السُنَّةَ، أكتفي منها بنصين اثنين فقط ، أَمَّا الأول فقوله تعالى :{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (القصص: 37)، والمعنى : سوف تعلمون هل العاقبة الحسنى في الدنيا -بالنصر والظفر والتأييد-للعادل الذي يضع الأمور في موضعها، أو للظالم الذي إنْ وجد بعض مقاصده أولا استدراجا، فلا يفوز أبدا بالعقبى الحميدة، وإِنَّما غاية أمره انقطاع أثره وسوء ذكره ؟ .

    وأَمَّا النَّصُّ الثاني فقوله تعالى : {وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ} (هود: 117).
    والمعنى كما يقول المفسرون: أنَّ الله تعالى لا ينزل عذاب الاستئصال على مجرد كون القوم مشركين أو كافرين، وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم، أو في أمورهم الاجتماعية، يتعاطون الحقّ فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر، ولكن ينزل العذاب إذا أساءوا في المعاملات، وسعوا في الإيذاء والظلم، كما فعل قوم شعيب، وقوم هود، وقوم فرعون، وقوم لوط. ويؤيده أنّ الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظّلم، وإن كان عذاب الشّرك في الآخرة أصعب.

    والخلاصة أنَّ صلاح حياة الناس لا يكون إلا بالعدل، ولا يتنافى هذا أَبَدًا مع الشدة والقوة والحزم، أَمَّا الشدة أو القوة وحدها في غياب العدل فلا تبني مجتمعاً ولا تصلح وضعاً ولا تؤسس حكماً. وقد طُبِّقَ العدل على الأرض زَمَانًا فآتَى أُكُلَهُ واجتنى القاصي والداني ثَمَرَه ، ومن المواقف التي يذكرها التاريخ ما ذكره الْإِمَامُ جلال الدين السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء": أنَّ والي خُرَاسَان الْجراح بْن عَبْد اللَّهِ الْحكمِي كتب رسالة إلى عمر بن عبد العزيز يشتكي أهلها ، جاء فيها: إِنَّ أهل خراسان قومٌ ساءت رعيتهم، و إِنَّه لا يصلحهم إلا السيف والسوط ، فإنْ رأى أمير المؤمنين أنْ يأذن في ذلك. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر إِنَّ أهل خراسان قد ساءت رعيتهم وأنَّه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابْسُط ذلك فيهم. والسلام. وعمر بن عبد العزيز هذا – كما يذكر ابن الجوزي في مناقبه- هو الذي ضرب على النقود في زمانه عبارة: " أَمَرَ الله بالوفاء والعدل".

    اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِنا شَيْئًا فَشَقَّ علينا، فَاشْقُقْ عليه، ومَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِنا شَيْئًا فَرَفَقَ بِنا، فَارْفُقْ به، آمين آمين.
    د/ أحمد عبد المجيد مكي
                  

09-03-2015, 01:57 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    مما لاشك فيه أن أصل الحياة الطيبة في الدنيا وأساس السعادة في الآخرة هو الإيمان مع العمل الصالح ، يقول الله تبارك وتعالى: :{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97، سورة النحل).ويقول سبحانه:{ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (من الآية40، سورة غافر).
    هذا الإيمان الذي بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أركانه في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"، هو الذي يجلب لصاحبه السعادة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يزينه بزينة الإيمان ، في الحديث الذي رواه النسائي وصححه الألباني عن قيس بن عباد قال:صلى عمار بن ياسر بالقوم صلاة أخفَّها فكأنهم أنكروها، فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى، قال: أما إني دعوت فيها بدعاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به: "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِين".

    وإذا رزق العبد الإيمان والاستقامة فإنها أعظم كرامة فليجتهد في المحافظة عليها وليكثر من دعاء ربه أن يرزقه الثبات كما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي روته الترمذي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ".

    وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يسأل الله تعالى الإيمان الذي لا يرتد –أي الإيمان المستمر الدائم الذي لا يزول- ويسأله النعيم الذي لا ينفد، وكان ذلك في صلاته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.. كما ثبت ذلك من حديث زر بن حُبيش عن ابن مسعود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهو بين أبي بكر وعمر وإذا ابن مسعود يصلي، وإذا هو يقرأ النساء، فانتهى إلى رأس المائة فجعل ابن مسعود يدعو وهو قائم يصلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سل تعطه، سل تعطه" ثم قال: "من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه بقراءة بن أم عبد" فلما أصبح غدا إليه أبو بكر رضي الله عنه ليبشره وقال له: ما سألت الله البارحة؟ قال: قلت: "اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد ومرافقة محمد في أعلى جنة الخلد" ثم جاء عمر رضي الله عنه فقيل له: إن أبا بكر قد سبقك، قال: يرحم الله أبا بكر ما سبقته إلى خير قط إلا سبقني إليه.

    الإيمان والسعادة
    لقد سجل الله في القرآن الكريم أن السعادة قرين الإيمان.
    يقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}(الأنعام:82).
    الأمن في قلوبهم وحياتهم ودنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن المؤمنين كلما صح إيمانهم؛ قويت قلوبهم، وتمت سعادتهم.
    وما أصاب الإنسان من نقص ذلك {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(الشورى:30).
    الأستاذ "بودلي"رجل غربي، عاش في الصحراء الغربية بين الأعراب وارتدى زيهم، وأكل طعامهم، واشترى قطيعاً من الغنم يرعاه في الصحراء.
    وكتب كتاباً عن الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه: (الرسول) .
    عاش التجربة الغربية، وعاش التجربة الإسلامية عند مسلمين بسطاء عاديين، ليسوا علماء، ولا متخصصين ولا طلبة علم، إنهم رعاة في الصحراء فماذا يقول؟.

    يقول: تعلمتُ من عرب الصحراء، كيف أتغلب على القلق؟
    فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، فيعيشون أوقاتهم بأمان، لكنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي إزاء الكوارث التي يمكن أن تحل بهم.
    يقول: هبت ذات يوم ريح عاصفة صحراوية رملية، فأهلكت كثيراً من الغنم, وألقت ببعضها في الرمال، ولما هدأت العاصفة كنتُ في غاية الانفعال والتأثر، بينما وجدت هؤلاء الأعراب يركض بعضهم إلى بعض، وينادي بعضهم بعضاً، وهم يضحكون، ويهتفون بأغانيهم المعتاد، ويحمدون الله فيقولون: الحمد لله لقد بقي 40% من الأغنام لم تصب بأذى.
    ولما رأوا تأثري؛ قالوا لي: إن الغضب والانفعال لا يصنع شيئاً، وهذا أمر كتبه الله وقدره وقضاه.
    يقول: ومع ذلك وجدتهم يحاولون جهدهم أن يتخلصوا من آثار الكارثة، وأن يعالجوها بقدر الإمكان.

    فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ولكن لا يفهمون أن القضاء والقدر معناه الاستسلام، وترك العمل، وترك الأسباب.
    يقول: وسافرت معهم ذات مرة بسيارة في الصحراء، وفي وسط الصحراء القاحلة توقفنا، فإذا بإحدى العجلات (إطار السيارة) قد انفجرت؛ فغضبت!
    فقالوا لي: الغضب لا يصنع شيئاً.
    ومشت السيارة قليلاً على ثلاث عجلات، ثم توقفت؛ لنكتشف بعد ذلك أن الوقود قد انتهى!
    ووجدتهم ينزلون من السيارة ويدعونها جانباً، ثم يسيرون على أقدامهم، ويتقافزون مثل الظباء، بروح عالي، وسرور وبهجة وأنس، وهم يتناشدون الأشعار، ويتحدثون معي.
    يقول هذا الرجل:
    لقد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء أن الملتاثين، ومرضى النفوس، والسكيرين والمعربدين في أوروبا وأمريكا، ما هم إلا ضحايا المدنية الغربية، التي تتخذ من السرعة أساساً لها.
    نسأل الله تعالى أن يرزقنا إيمانا لا يرتد ونعيما لا ينفد ومرافقة محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد.


    اسلام ويب
                  

09-03-2015, 01:59 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    ليس عجبا أن يفوق امرؤ أخاه في علم أو خبرة أو في أي مجال من مجالات الحياة، كما أنه ليس من المستهجن أن يسعى الأدنى للحاق بالأعلى، وأن يبذل جهده للتفوق عليه، في حدود ابتغاء رضا الله، والسلامة من آفات الكبر والعجب والرياء، وبقيد طهارة المشاعر القلبية، ونقاء العلاقات الأخوية، وبضابط الإنصاف، والعدل في التقويم، للنفس وللآخرين بحيث يؤدي ذلك كله في النتيجة إلى تحقيق مصلحة إسلامية عليا، بعيدا عن هوى النفس وتقديس الذات.
    حين تتفشى المنافسة الشريفة تكون وقودا للهمم، ومحرضا على البذل المتواصل، وسبيلا لتوجيه الأبصار إلى أعمال الخير، التي يفجر التنافس فيها مزيدا من الخير للفرد والمجتمع، حتى يصبح الفرد من هذه الأمة يتطلع دائما إلى الأسمى، وكيف يرضى بالدون؟! وهو الذي يطمح أن يجعله الله للمتقين إماما، وهو الذي يتطلع إلى الفردوس الأعلى وصحبة النبيين والشهداء والصالحين، وهو الذي يرجو أن يكون من السابقين بالخيرات:{ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} (المؤمنون) ، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (البقرة 148)، { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} (المطففين).
    ومن ذلك التنافس الشريف ما جاء في الحديث الشريف عن القائم والمنفق: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا، فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل" (البخاري).
    يقول ابن حجر: (وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة وأطلق الحسد عليها مجازا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود...).

    ومن صور ذلك التنافس الشريف المسابقة إلى صور من العبادة قد لا يصبر على المداومة عليها إلا السابقون، وذلك كالأذان والصف الأول والتبكير إلى الصلوات، والحرص على جماعتي العشاء والفجر قال صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا"(البخاري).
    ومن الصور العملية لذلك التنافس الشريف ما يكون بين الأنداد من التسابق في الخير، كالذي كان من المسابقة في البر بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك أنهما سمعا ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراءة ابن مسعود، بقوله: "من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه من ابن أم عبد". فبادر عمر ليلا لينقل البشرى لابن مسعود، فقال ابن مسعود: ما جاء بك هذه الساعة؟ قال عمر جئت لأبشرك بما قال رسو الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود: قد سبقك أبو بكر رضي الله عنه قال عمر: إن يفعل فإنه سباق بالخيرات، ما استبقنا خيرا قط إلا سبقنا إليها أبو بكر.
    ومثل هذه الصورة تكررت عندما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته أن يتصدقوا، يقول عمر: ووافق ذلك عندي مالا فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟" قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، عندئذ قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبدا.

    هكذا يكون التنافس بين الأنداد بحب واحترام، وليس بالحقد والامتهان، أما التنافس غير الشريف فيبدأ فيما بيَّنه النووي في شرح مسلم: قال العلماء: التنافس إلى الشيء المسابقة إليه، وكراهة أخذ غيرك إياه وهو أول درجات الحسد. وأما الحسد فهو تمني زوال النعمة.
    ومثل ذلك ما بينه ابن حجر: (والتنافس من المنافسة: وهي الرغبة في الشيء، ومحبة الانفراد به، والمغالبة عليه)، وفي موضع آخر قال عن الحسد: (الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أولا فإن سعى كان باغيا، وإن لم يسع في ذلك، ولا أظهره، ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم، نظر فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل، فهذا مأزور. وإن كان المانع له من ذلك التقوى، فقد يعذر، لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية، فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها، ولا يعزم على العمل بها).
    وأحيانا تصيب الإنسان مشاعر لا يملك مدافعتها، فأقل ما يعمله إيقافها عند حد الأمان ،فعن الحسن البصري قال: ما من آدمي إلا وفيه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم، لم يتبعه منه شيء.

    ويوضح القرطبي الحسد المذموم بقوله: فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا.. وإنما كان مذموما لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق.
    وهذا التنافس الذي قد يؤول إلى الحسد، هو الذي توقعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتحت على المسلمين فارس والروم فقال: "تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون ثم تتباغضون..." وهو المنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا".
    وأخشى ما يخافه المرء على نفسه، أن ينزلق إلى التنافس في المعاصي أو التنافس على الدنيا وزينتها، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من هذا المنزلق فقال: "إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها".
    ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسارعة الناس عندما علموا بقدوم أبي عبيدة بأموال من اليمن قال لهم: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها، كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم".

    إن مجتمعا شأنه التنافس الشريف، يتسابق فيه الأطفال ليشاركوا في القتال، وتتسابق فيه النسوة لخدمة المجاهدين، ويتبارى فيه الناس فيما يحفظون من كتاب الله، وفيما يعملون به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين يفقد مثل هذا الجو النظيف، يكون التنافس في الاستكثار من المتاع، وفي التهافت على كل جديد، حتى يصيب أحدهم انتفاشة جوفاء، إن هو حاز على شيء من الدنيا، لم يسبقه إليه غيره.
    والأخطر من هذا كله تنافس الكسالى والبليدين، الذين ينتظرون أن تصب نعم الله عليهم صبا، رغم بلادتهم وضعف هممهم، وإن لم تغمرهم هذه النعم وهم قاعدون، حركتهم همة الشر للكيد لمن يعملون، والتشفي بمن يفوقهم، والحسد لمن سبقهم، والحقد على من أنعم الله عليه مما لم ينعم عليهم، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر. والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا. أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم". والسلام الحقيقي هو الارتياح القلبي المتبادل، وما التحية إلا مظهرا من مظاهره.

    وحين يشيع مجال التنافس في الخيرات، لا يتطلع المرء إلا للحاق بمن يفوقه ورعا وعبادة، ودعوة وجهادا.
    والذين يمدون أعينهم إلى ما متع الله به بعض خلقه، فتحدثهم أنفسهم أن يسابقوهم في الاشتغال بالتكاثر من النعم، أو بالنظر إليهم نظرة الحسد المقيت، يردهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
    ومن أقوال العلماء التي استشهد بها النووي في فهم الحديث: قال ابن جرير وغيره: هذا حديث جامع لأنواع الخير، لأن الإنسان إذا رأى من فضل عليه في الدنيا، طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحرص على الازدياد، ليلحق بذلك أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس، وأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها، ظهرت له نعمة الله تعالى عليه، فشكرها، وتواضع، وفعل فيه الخير. وهذا الصنف من الناس أشار اليه النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل : أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب ؟ قال هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد".

    ولا يكتمل الإيمان في قلب من انجرف به التنافس غير الشريف إلى الحسد كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد".
    وللحسد عواقب وخيمة على الحاسد قبل غيره، وفي بيان بعض عواقب الحسد يقول القرطبي: والحسد مذموم، وصاحبه مغموم، وهو يأكل الحسنات.. وقال الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد، نَفَس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: لا تعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
    وما شرعت الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد إلا لما يدفعه إليه تنافسه غير الشريف: من كيد، ومكر، وحيلة، ووقيعة، وما ذنب المحسود إلا أن الله فضله ببعض نعمه، أو وفقه لاغتنام وقته وقدراته، إلى أن حاز قدم السبق، وصار محط الأنظار. يقول الشوكاني: ومعنى إذا حسد: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه، وحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود.

    قد تتكرر قصة ابني آدم: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ..} والسعيد من ثبته الله على ألا يقابل الإساءة بالإساءة كما فعل ابن آدم الأول حين قال : {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. وتتكرر القصة في أبناء آدم حسدا على دنيا، أو غيرة من صلاح وهمة أو غير ذلك.

    ومن أقبح الحسد: ما يكون من المنعمين والسباقين في كثير من مجالات الحياة، وكأنما يريدون احتكارها لأنفسهم. يقول صاحب الظلال: (إنه لمن ألأم الحسد: أن يحسد ذو النعمة الموهوب، لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة، أما أن يحسد المغمور بالنعمة فهذا هو الشر الأصيل العميق).
    ومن أبواب السقوط في التنافس غير الشريف ما يكون بين الأنداد والمتشابهين من علماء الفن الواحد، أو المهنة الواحدة، أو المنزلة الاجتماعية، أو المرتبة الإدارية.. حيث يتتبع كل واحد سقطات الآخر، بدلا من أن يعمل الفكر والجهد لتقديم الأنفع والأصلح والأبدع .
    ويشخص ابن قدامة المقدسي هذا المرض فيقول: (تعلم أن النفس قد جبلت على حب الرفعة، فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليها شق عليها، وكرهته، وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي، وهذا أمر مركوز في الطباع فأما إن أحب أن يسبق أقرانه، ويطلع على ما لم يدركوه، فإنه لا يأثم بذلك، لأنه لم يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم، ليزيد حظه عند ربه).

    والأمر خطير يحتاج إلى ضبط المشاعر، وتنقية القلب وإخلاص القصد لئلا يخرج هذا التنافس عن الحد المحمود إلى الحسد والتباغض.
    ومن بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب التنافس الشريف، والبراءة من التحاسد: أن أول زمرة يدخلون الجنة "قلوبهم على قلب رجل واحد، لا تباغض بينهم ولا تحاسد".
    ولا يمكن أن يتماسك مجتمع الساعين لاستئناف المجتمع الإسلامي الكبير، ما لم يتطهر مجتمعهم الصغير الناشئ من الكيد والتحاسد، وما لم يستنزف جهودهم التنافس في الخيرات.

    محمود الخزندار - رحمه الله
                  

09-03-2015, 02:01 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    بين الحق والباطل
    قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
    وقال الله تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
    وقال الله تعالى:{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) } [العصر].
    إن العلم نوعان:
    العلم بالله.. والعلم بدينه.
    فأما العلم بالله فهو العلم بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
    وأما العلم بدينه فمرتبتان:
    الأولى: العلم بدينه الأمري الشرعي، المتضمن أمره ونهيه، وما أحله وما حرمه، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.
    الثانية: العلم بدينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه، ويدخل فيه العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
    والحق: هو الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهو يتضمن: معرفة الحق، وإيثاره، وتقديمه على غيره، ومحبته، والانقياد له، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد أعدائه، وما سواه فهو صراط أهل الباطل، أهل الغضب والضلال، كما قال سبحانه:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة].

    فالطرق ثلاثة:

    الأول: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهي طريق من عرف الحق وعمل به.
    الثاني: طريق أهل الغضب، وهي طريق من عرف الحق وعانده كاليهود.
    الثالث: طريق أهل الضلال، وهي طريق من عرف الحق وضل عنه.
    وسنة الله عزَّ وجلَّ سير الحق تدريجياً شيئاً فشيئاً، يظهر ويرتفع مستواه كالنبات ينمو شيئاً فشيئاً.
    فلا نستعجل ظهوره، بل نصبر ونستمر حتى ينتشر الحق ويرتفع مستواه بما يشاء، كما أيد الأنبياء والرسل، وأظهر دينهم، وخذل أعداءهم.

    وإذا اشتدت الأمور والأحوال نثبت على الحق، ولا نخالف الأوامر ولا نغير الترتيب، فالله يسمع ويرى ويعلم ما يفعله أهل الحق، وما يفعله أهل الباطل.
    فأبو بكر رضي الله عنه لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب، لم يغير شيئاً أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنفذ جيش أسامة مع شدة الأحوال، وبعث الجيوش لحرب المرتدين مع شدة الأحوال، فكان نصر الله، وعاد الناس إلى الدين.

    والنصر والتأييد يأتي تدريجياً، وأحياناً يتأخر لحكمة حتى يقول الناس متى نصر الله؟.
    فلا نيأس ولا نمل، بل نستمر وندعو الله وننتظر الفرج، فتلك سنة الله:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
    فلا بدَّ مع الدعوة والعمل من الدعاء.
    ولكن الأمة لما تركت الجهد والعمل لم تجد لذة الدعاء والمناجاة، وجاء الشك في الدعاء، وهذا مرض كبير، وإذا قمنا بجهد الدعوة فالله عزَّ وجلَّ يعطينا قوة الدعاء، ولذة المناجاة.

    وقد عرض الله عزَّ وجلَّ الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبت حملها، وأشفقت منها، وحملها الإنسان فيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخلق، فإن قام بها أثابه الله، وإن فرط فيها عاقبه الله.
    فكل إنسان متحمل أمانة نفسه بأن يحملها على طاعة الله، واجتناب معصيته، ومتحمل أمانة أهله، ومتحمل أمانة الأمة بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    وقد انقسم الناس في تحمل الأمانة إلى ثلاثة أصناف:
    الأول: الذين تحملوا الأمانة ظاهراً وباطناً، وهم المؤمنون والمؤمنات، وهم درجات.
    الثاني: الذين تحملوا الأمانة ظاهراً، وضيعوها باطناً، وهم المنافقون والمنافقات.
    الثالث: الذين فرطوا في الأمانة، فلم يتحملوها لا ظاهراً ولا باطناً، وهم المشركون والمشركات.
    فهؤلاء والمنافقون والمنافقات ضيعوا الأمانة؛ لأنهم كفروا بالله وأشركوا به.
    وقد وعد الله الصنف الأول الذين تحملوا الأمانة بالتوبة والمغفرة، وتوعد الصنفين بعدهم، الذين ضيعوا الأمانة بالعذاب الأليم فقال سبحانه:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) } [الأحزاب].
    ومن رحمة الله بالخلق وعنايته بهم أن بعث إليهم الرسل تبين الحق وتميزه من الباطل، بحيث يصير مشهوداً للقلب كشهود العين للمرئيات، وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه، والتي لا يعذب أحداً ولا يضله إلا بعد وصوله إليها كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[التوبة: 115].

    فهذا الإضلال عقوبة من الله لهم حين بين لهم الحق فلم يقبلوه، فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى، وما أضل الله أحداً قط إلا بعد هذا البيان، كما قال سبحانه:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].

    وهذا البيان نوعان:
    بيان بالآيات المسموعة المتلوة.. وبيان بالآيات المشهودة المرئية.
    وكلاهما أدلة على توحيد الله، وصدق ما أخبرت به رسله عنه.
    وهذا البيان الذي بعث الله به رسله، وجعله إليهم وإلى العلماء من بعدهم، وبعد ذلك يضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء كما قال سبحانه:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4].
    فالرسل تبين الحق.. والله يضل من يشاء.. ويهدي من يشاء.
    والكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب.

    والسماع له ثلاث مراتب:

    فسماع لفظه حظ الأذن.. وسماع حقيقة معناه حظ القلب.. وسماع القبول والإجابة حظ العقل.
    فالكفار يسمعون الألفاظ التي هي حظ الأذن فقط كما قال سبحانه:{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) } [محمد].
    فهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه.
    وسماع الحق لفظه ومعناه وقبوله خاص بمن أراد الله هدايته كما قال سبحانه:{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) } [الزمر].

    وسنة الله التي لا تتبدل أن الحق إذا جاء زهق الباطل، فالباطل لا يمكن أن يثبت للحق كما قال سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء: 81].
    وإن ظهور الباطل وبقاءه منتفشاً فترة من الزمن.. ليس معناه أن الله تاركه.. أو أنه من القوة بحيث لا يغلب.. أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً.
    وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك وبقاءه ضعيف الحول والقوة فترة من الزمن.. ليس معناه أن الله جافيه أو ناسيه.. أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه.
    كلا.. إنما هي حكمة وتدبير من الحكيم الخبير هنا وهناك.
    يملي سبحانه للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق، وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].

    فالله عزَّ وجلَّ يملي للظالم حتى يزداد طغيانه، ويترادف كفرانه، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر، فليحذر الظالمون من الإمهال، ولا يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
    ويبتلي سبحانه الحق؛ ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74].

    والإيمان والكفر.. والهدى والضلال.. لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق.. فالحق برهان ذاته.. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله، ويخضع له، ويؤثره، ولكن المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق من الهوى والشهوات، والشبهات، وحب الدنيا، والعادات ونحو ذلك.
    وقد ركب الله سبحانه في كل إنسان نفسين:
    نفساً أمارة.. ونفساً مطمئنة.
    وهما متعاديتان، فكل ما خف على هذه ثقل على الأخرى، وكل ما التذت به هذه تألمت به الأخرى.
    فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله.. وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله.
    والملك مع هذه عن يمنة القلب، والشيطان مع تلك يسرة القلب.
    فالباطل كله مع الشيطان والأمارة.. والحق كله مع الملك والمطمئنة، والحروب مستمرة دول وسجال، والنصر مع الصبر.
    موسوعة فقه القلوب للشيخ التويجري
                  

09-03-2015, 02:06 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الأخلاق الكريمة مشترك إنساني أطبقت الشرائع على تطلبه والثناء عليه وفضيلة السعي في تحصيله. وهو جزء أساس وضروري من مضمون الرسالات حتى قال صاحب الرسالة الخاتمة –صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" (الموطأ والبيهقي والحاكم بلفظ "صالح الأخلاق").
    وها هنا حصر يدل على تعاظم أهمية الأخلاق ورسوخها.
    ولا أجدني محتاجاً إلى الاسترسال في هذا المطلب؛ لأنه مما أجمع عليه الناس فحتى الذين يحاربون الأخلاق أو يمارسون نقيضها؛ يعترفون بألسنتهم بقيمتها العالية ومكانها الرفيع!
    وقد يتكلف المرء الخلق في حال ما .. اعتياداً وتدريباً وهذا جيد.
    وفي الأثر عن أبي الدرداء، ويروى مرفوعاً: "إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعلُّمِ والحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ وَمَن يَتَحَرّ الخيرَ يُعْطَه ومن يَتوقَّ الشر يُوقه" (الخطيب البغدادي في تاريخه بسند حسن وابن عساكر في تاريخه).
    لكن من المذموم جداً أن يتظاهر المرء بالخلق استغفالاً للآخرين واستجلاباً لمصلحة أو مداراة لظرف خاص.

    إن المحك الحقيقي للخلق الكريم هو الدأب والديمومة؛ ولذا قيل عن السفر: إنه يسفر عن أخلاق الرجال.
    فالخلق الحق يتجلى في البيت حين يتعامل المرء مع زوجه سنوات طوالاً في العسر واليسر والمنشط والمكره ويحاول أن يظل ممسكاً بزمام نفسه متحلياً بالصبر معرضاً عن اللغو متسامحاً كريماً فالخلق الصادق يبين على محك الزوجية والأسرة.
    وهكذا في الصحبة حين يكون الصاحب وفياً لا تغيره الأحوال.
    وما أندر الأوفياء!
    يا أوفياء وما أحلى الوفاء على.....تقلب الدهر من مُعط ومستلب
    أفديكمُ عصبةً لله قد خلصت.....فما تَغَيَّرُ في خصب ولا جدب

    وما أكثر الذين يظن المرء أنهم عدته للدهر فإذا هم عون للشدائد عليه.
    كما قال ابن صمادح:
    وزهَّدني في الناس معرفتي بهم.....وطُول اختباري صاحباً بعد صاحبِ
    فلم تُرِني الأيامُ خِلّاً يسرُّني.... .مباديه إلا ساءني في العواقبِ
    ولا قلت أرجوه لكشف مصيبة.....من الدهر إلا كان إحدى المصائب

    وتظل الحياة تجمل وتطيب بكم أيها الأوفياء الأخفياء الذين آليتم على أنفسكم ألا تغيركم الأحداث ولا تهزكم العواصف!.
    فلله أنتم ما أندركم!
    وما أطيب معدنكم!
    فطول الصحبة والزمالة والاختلاط تكشف متانة الأخلاق من سطحيتها .

    وثمة محك آخر يكشف عن صدق الأخلاق من كذبها، وهو:

    القوة والقدرة:

    فالضعيف قد يبدو حسن الخلق هادئ الطبع مسالماً ليس لأن هذا من طبعه ولكن لأنه يعجز ...!
    وفي هذا يقول المتنبي:
    والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عـــفة فلعلة لا يظــلم

    ولعل المتنبي أخذ هذا القول من قول أرسطو: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: علة دينية، أو علة سياسية لخوف الانتقام.

    وقد قرأت في كتاب "الفروع" (1/535) لابن مفلح كلاماً منقولاً عن ابن الجوزي يضرب في صميم الهدف حيث يقول: رَأَيْت جَمَاعَةً مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ يَعْمَلُونَ عَمَلَ الْعَوَامّ، فَإِذَا صَلَّى الْحَنْبَلِيُّ فِي مَسْجِدِ شَافِعِيٍّ وَلَمْ يَجْهَرْ غَضِبَت الشَّافِعِيَّةُ، وَإِذَا صَلَّى شَافِعِيٌّ فِي مَسْجِدِ حَنْبَلِيٍّ وَجَهَرَ غَضِبَتْ الْحَنَابِلَةُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْعَصَبِيَّةُ فِيهَا مُجَرَّدُ هَوًى يَمْنَعُ مِنْهُ الْعِلْم قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
    رَأَيْت النَّاسَ لَا يَعْصِمُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ إلَّا الْعَجْزُ. وَلَا أَقُولُ الْعَوَامُّ، بَلْ الْعُلَمَاءُ، كَانَتْ أَيْدِي الْحَنَابِلَةِ مَبْسُوطَةً فِي أَيَّامِ ابْنِ يُوسُفَ، فَكَانُوا يَتَسَلَّطُونَ بِالْبَغْيِ عَلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ، حَتَّى لَا يُمَكِّنُوهُمْ مِنْ الْجَهْرِ وَالْقُنُوتِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، فَلَمَّا جَاءَتْ أَيَّامُ النَّظَّامِ وَمَاتَ ابْنُ يُوسُفَ وَزَالَتْ شَوْكَةُ الْحَنَابِلَةِ اسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ اسْتِطَالَةَ السَّلَاطِينِ الظَّلَمَةِ، فَاسْتَعْدَوْا بِالسِّجْنِ، وَآذَوْا الْعَوَامَّ بِالسِّعَايَاتِ، وَالْفُقَهَاءَ بِالنَّبْزِ بِالتَّجْسِيمِ، قَالَ: فَتَدَبَّرْت أَمْرَ الْفَرِيقَيْنِ، فَإِذَا بِهِمْ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِمْ آدَابُ الْعِلْمِ، وَهَلْ هَذِهِ [الْأَفْعَالُ] إلَّا أَفْعَال الْأَجْنَادِ يَصُولُونَ فِي دَوْلَتِهِمْ، وَيَلْزَمُونَ الْمَسَاجِدَ فِي بَطَالَتِهِمْ " انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ .
    وهذا لعمر الله كلام مجرِّب عركته الليالي وخبر الناس وخبزهم!

    ففي القوة تتبين الأخلاق فإذا حافظ المرء في سلطانه أو غناه أو مجده أو قدرته على مكارم الأخلاق وحفظ الود والتزم التواضع وعفا عن المسيء كان ذلك دليلاً على شرف نفسه وطيب محتده وكرم عنصره...
    ومن لي بمثل هذا!
    من الذي لا يغيره المنصب؟! أو الغنى الطارئ؟! أو الشهرة؟!

    والمحك الثالث: هو الاختلاف.
    فجل الناس يتخلقون مع نظرائهم ومشاكليهم وأصحابهم وموافقيهم إذ هو هنا مصلحة متبادلة لكن حين يقع الاختلاف في الرأي أو الموقف أو الاجتهاد أو التنازع على أمرٍ، فكرياً كان أو مادياً تنكشف دخيلة الإنسان وتبدو حقيقته.
    فهذا شريف عزيز يحافظ على هدوئه واتزانه ويعبر عن اختلافه بلغة واضحة ولكنها راقية ليس فيها طعن ولا تشهير ولا تذرع بالقول المسف ولا اتهام ولا تجريح ولا استعلاء ولا استعداء؛ لأن الخلق يحجز صاحبه عن كل هذا ... فيدار الحديث مع تباين الرأي على ضبط النفس، وتحكيم العقل، ودفع نزوة الانفعال المرذول التي لا تدل على أكثر من نقص صاحبها وعجزه عن إلجامها.
    وآخر يفلت زمامه، فيتهم ويجرح ويتقوّل ويسخر ويزدري ويجعل لنفسه الحسنى ولغيره السوأى وتنهار حصونه الأخلاقية أمام غضبة في غير محلها.
    ويتطور به الحال إلى اختراع الأقاويل وادعاء ما لا حقيقة له، اللهث وراء الأغلوطات وتحريف الكلم عن مواضعه
    وهكذا يكون الالتزام الأخلاقي في امتحان أمام أزمة الاختلاف.
    وحين يقول الناس: (الاختلاف لا يفسد للود قضية) فهذا معنى حسن في ظاهره لكن العبرة بالامتثال الواقعي الحي وليس بالتنظير المجرد.
    وقد سمعت يوماً بيتين من الشعر العامي تفيضان رقة وعذوبة، يقول قائلها:

    على رفيقي ما يتغضب حجاجي.....إن قال:قم.سو الغرض، قمت أسويه
    أدرى رفيقي مثل ضو السراج..... أقل نسناس من الريح يطفيه!

    ثم علمت أن قائلها انتهك الحرمات، وتجرأ على الدم الحرام، فما أوسع الفرق بين اللغة الرقيقة مع ( الرفيق )، ولغة السلاح مع المخالف!
    وقد كنت حيناً من الدهر أرقب بعض الشباب المتدين حين يختلفون فأقرأ من رديء القول وشططه ما تدمع له العين ويحزن القلب من التسفيه والشتم والتسارع إلى الرمي بالبدعة والفسق والكفر والخيانة ...
    وكنت أقول لنفسي: متى تنتهي هذه النزعات المريضة؟!
    متى نرتقي إلى المستوى الأخلاقي الجدير بأمة اصطفاها الله وفضلها؟
    متى نتمثل قيم القرآن والسنة في ضبط العلاقة حتى مع الأعداء: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)؟
    متى ندرك أن بعض دوافعنا مزاجية عاطفية تنطلق من ذواتنا وإن تلبست بلبوس الغيرة الدينية؟!
    متى..؟ متى..؟ ...

    ثم تأملت مسالك بعض الكتبة ممن ينظر إليهم على أنهم (نخب مثقفة) وليسوا عامة أو دهماء؛ فوجدتها لا تختلف, إن لم تكن أسوأ وأكثر ازدواجية وأقل حياء.
    فهناك شعور كامن يشجع على الانقضاض والافتراس ( نحن هنا في غابة ) والروح العدوانية في حالة تربص, وبمجرد ظهور نزعة اختلاف فكري أو سياسي تزول قشرة التمظهر ونبدو بعضنا مع بعض أشد ضراوة مما نحن عليه مع أعدائنا الحقيقيين .
    وهنا أجدني مرة أخرى متسائلاً:

    متى نتعلم أن نختلف ونحافظ على علاقاتنا, بل على الصورة التي نريد أن يأخذها الآخرون عنا؟!
    متى نحول نظرياتنا الأخلاقية إلى برنامج عمل واقعي؛ يستمر معنا في حياتنا كلها مهما طال اتصالنا ببعض؟ ويستمر معنا حين نكون أقوياء, حين نرتقي إلى مناصب إدارية, أو مواقع إعلامية, أو وجاهة اجتماعية, أو منزلة تجارية!
    ويستمر معنا حين نختلف فلا نطيح بعلاقاتنا ولا نسكت على الخطأ أو الرأي المختلف: { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} .
    وبالصراحة ... أقول هذا القول ... فيحرن القلم ويتباطأ ... ويقول: أأنت كذلك؟
    فأقول: لا, ولكني أعدك بأني سأحاول, ومهما تكرر الفشل ... سأحاول.
    والسلام
    سلمان بن فهد العودة - الإسلام اليوم
                  

09-03-2015, 02:11 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    القرآن الكريم هو أصل الأخلاق الإسلامية , والإسلام يربط بين القول والعمل والقيمة والسلوك . والأخلاق في الإسلام قاسم مشترك على مختلف أوجه الحياة , سياسية واجتماعية وقانونية وتربوية. وغاية الأخلاق في الإسلام بناء مفهوم (( التقوى )) الذي يجعل أداء العمل الطيب واجباً محتماً ويجعل تجنب العمل الضار واجباً محتماً، ويجعل الخوف من الله أقوى .

    فالقيم الأساسية في الإسلام ثابتة لا تتغير لأنها صالحة لكل زمان ومكان وإن الأخلاق والعقيدة والشريعة ليست من صنع الإنسان ولذلك فهي قائمة على الزمان ما بقي الزمان على اختلاف البيئات والعصور وإن الحق سيظل هو الحق لا يتغير.
    ولذلك فإن أبرز قواعد الإسلام هو ( ثبات القيم ) وبالتالي (ثبات الأخلاق) وإن الالتزام الخلقي هو قانون أساسي يمثل المحور الذي تدور حوله القيم الأخلاقية فإذا زالت فكرة الالتزام قضي على جوهر الهدف الأخلاقي، ذلك انه إذا انعدم الالتزام انعدمت المسؤولية وإذا انعدمت المسؤولية ضاع كل أمل في وضع الحق في نصابه .
    والإسلام يحمل قواعد نظرية أخلاقية متكاملة تقود إلى الفضائل في أحسن ما تكون عليه، وهذا ينبع من غاية رسالة الإسلام التي هي رحمة للعالمين.

    وفي النص القرآني نجد أن كلمة (خُلُق) قد وردت مرتين :
    الأولى : في رد قوم هود عليه السلام عندما دعاهم لعدم التعلق بالدنيا والتطاول بالعمران، وأن يعبدوا الله فذلك أقوم وافضل لهم . فأجابوه وفق ما جاء في الآية الكريمة { إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(137) } (الشعراء).
    فردهم هذا يتضمن مقولة مفادها : أن هذا الذي جئتنا به، هو سنة وعادة قوم سبقوك في الظهور، وادّعوا مثل دعواك.
    وفي تلمس معاني هذه الآية الكريمة يتبين لنا أن دعوة الأنبياء والرسل كانت دوما تعتمد خطاً واحدا في منهاجها الأخلاقي الذي يقود إلى صلاح المجتمعات، وصلاح الأفراد.

    الثانية : في قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) }(القلم).
    جاء الخطاب من الله تعالى إلى النبي محمد صلى الله عليه ، وهو من كانت سيرته سنة يقتدى بها. وتؤكد كتب السيرة انه لم يكن لبشر ما كان ! للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأخلاق، فقد كان أحسن الناس خلقاً.. وأكثرهم محبة ورأفة ورحمة.
    فدلت الآية على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق أنه يكون على خلق عظيم وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق , فمن ذلك قوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(237)} (البقرة).
    فانظر ما في هذه الآية من الحض على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل.

    وقال تعالى:{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)} (المائدة).
    فانظر ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق والأمر بأن تعامل من عصى الله فيك بأن تطيع الله فيه. وقال تعال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا(36)} (النساء).
    فهذه الآية تأمر بالإحسان إلى المحتاجين والضعفاء .

    وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)} (النحل )
    وقال تعالى:{ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)} (الأنعام ).
    وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(58)} (النساء )
    وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ(12)}(الحجرات).

    إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
    فعنوان الأخلاق الإسلامية استمد منه الرحمة, الرحمة من الإنسان لأخيه الإنسان، والرحمة من الإنسان للحيوان فلا يجهده أو يحمله فوق طاقته.
    والرحمة تكون من الإنسان للطبيعة فلا يعبث بثرواتها التي هي خيرات أمده الله بها.
    فالأخلاق الإسلامية ينبوع رحمة يوصل إلى الفضيلة مما يثمر سعادة عامة شاملة لكل أبناء المجتمعات .
    فالخلق كلهم عباد الله. وتبدو الحاجة اليوم أكثر منها في أي وقت مضى للالتزام بالخلق القرآني.

    الكلم الطيب
                  

09-03-2015, 02:12 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    (التزكية هي تلك الرحلة الطويلة والشاقة لإقامة النفس على الحق وفطامها عن الهوى والباطل، حتى تكون رهن إشارة الوحي والتنزيل بكل رضا وإذعان.
    وهي الخطوة الأولى للسير على طريق التغيير. فهي بمثابة بناء ذلك الإنسان المؤهل لإجراء التغيير ... فيفجر الطاقات الكامنة. ويوظفها في إنشاء الحياة الطبية والحضارة الشامخة ... بعد أن انتصر على معركته الأولى مع نفسه..وأصلح تلك المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب ).

    (فالتزكية تعني أن أسلك السبيل الذي يخلصني من كبريائي .. ويخلصني من أنانيتي .. ومن الأحقاد والضغائن .. ومن تعشُّق الدنيا التي وصفها الله بأنها فانية وبأنها عرض زائل ... وأن أجعل من قلبي مرآة لحب خالد باقٍ ، بعد مسح حب عَرَض الحياة الدنيا الفاني ).

    ويقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: (إن تغيير النفس وإصلاحها ينبغي أن ينطلق من تصحيح معتقداتها على أساس توحيد الخالق..وتصحيح قناعاتها ومفاهيمها عن الكون والحياة والإنسان والتاريخ والفرد والمجتمع.. والمرأة والرجل..والدين والحكم..
    ومن هنا وجدنا الاستخراب (الاستعمار) حين دخل بلاد المسلمين؛ جعل همَّه الأكبر في تغيير مفاهيمها وأفكارها عن طريق التعليم والثقافة والإعلام.. فيغرس في الأذهان:

    أن الدين لا علاقة له بالسياسة..وأن الدين لا علاقة له بالأخلاق..وأن الحرية فوق القيم..وأن المرأة مساوية تماماً للرجل..وأن الأزياء - وما يتعلق بها من أمور - خاضعة للعرف والتقاليد لا للشرع..).

    فإذا وثقت النفس أنها بدأت تستوي على الطريق الصحيح؛ فإنها تكون مهيئة حينئذٍ للإصلاح ودعوة غيرها انطلاقاً من قاعدة: (أصلح نفسك وادع غيرك).
    • كن أنت قدوة لأهلك وجيرانك وأصحابك، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة لأمته في كل شيء.

    وكذلك تجسدت القدوة الصالحة في صحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان، وبتلك القدوة انتشر الإسلام شرقاً و غرباً.
    ووصل الإسلام إلى كثير من البقاع على أيدي تجار مسلمين، ودعاة صادقين، جعلوا من أنفسهم القدوة والصورة الحسنة للإسلام.
    فهل نحن صورة صادقة للإسلام؟

    هل نعطي الآخرين من غير المسلمين الذين يفدون إلى بلادنا، صورة المسلم الصادق الأمين، الذي لا يكذب ولا يغش ولا يخدع، ولا يأكل أموال المسلمين، ويحافظ على أعراضهم وعهودهم، يفي بالوعد ولا يقول: ((سيأتي في الموعد إن شاء الله)) وهو يعلم في حقيقة نفسه أنه سيخلف هذا الموعد، ولن يأتي أبداً؛ حتى جعلنا - للأسف - هذه الكلمة مثار تهكم واستهزاء من الأجانب في بلادنا!!.
    ورحم الله الشاعر الذي يوبخ أولئك الذين يعلّمون غيرهم بما لا يفعلونه فيقول:
    فـيـا أيـهــا الـرجــلُ المـعـلِّـمُ غـيــرَهُ هــــلَّا لـنـفـسـكَ كــــان ذا الـتـعـلـيـمُ
    تصِفُ الدواءَ لذي السقام وذي الضنا كـيـمـا يـصــحُّ بـــه وأنـــت سـقـيــمُ
    ابــدَأْ بنفـسِـــكَ فانْهَـهَـا عـــن غـيِّـهـا فــإذا انـتـهـتْ عـنــهُ فـأنــتَ حـكـيـمُ
    فهنــاك يُقـبَـلُ مــا وعـظـتَ ويُقـتـدى بـالـعـلـم مــنــكَ ويـنــفــعُ الـتـعـلـيـمُ

    ذكر الجاحظ أن عقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى المؤدِّب قال له:(ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك..فإن أعينهم معقودة بعينك..فالحسنُ عندهم ما استحسنت..والقبيحُ عندهم ما استقبحت..وعلّمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء..وكن لهم كالطبيب الذي لا يعمل بالدواء حتى يعرف الداء).
    ويقول سفيان الثوري في وصاياه لعلي بن الحسن:(يا أخي! عليك بتقوى الله، ولسان صادق، ونية خالصة، وأعمال صالحة, ليس فيها غش ولا خدعة، فإن الله يراك وإن لم تكن تراه، وهو معك أينما كنت، ولا يخفى عليه شيء من أمرك.
    لا تخدع الله فيخدعك ويخلع منك الإيمان وأنت لا تشعر، ولا تمكرن بأحد من المسلمين المكر السيِّئ, فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله..ولا تبغينَّ على أحد من المسلمين، فإن الله تعالى يقول:{يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } (يونس: 23)
    وأحسنْ سريرتك يُحسن الله علانيتك.

    وأصلح فيما بينك وبين الله، يُصلح الله فيما بينك وبين الناس..واعمل لآخرتك، يكفيك الله أمر دنياك.
    بعْ دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولاتبعْ آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً..عليك بالصدق في المواطن كلها، وإياك والكذب والخيانة ومجالسة أصحابها، فإنها وزرٌ كلها..وإيّاك والعُجْب، فإن العمل الصالح لا يرفع وفيه عُجب ..ولا تأخذن دينك إلا ممن هو مشفقٌ على دينه، كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه وينصح لنفسه، فكيف يعالج داء الناس و ينصح لهم؟!...)).

    ثانياً : سنن التغير في الكون:

    تذكر يا أخي أن هناك سنناً كونية في التغيير لا تتبدل على مر العصور لأنها السنن الإلهية. ومن هذه السنن:
    1- التغيير ضروري حتى تستقيم الحياة وتطهر الأرض من الظالمين:قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بَخَلْقٍ جَدِيدٍ} (9 ).
    2- التغيير مرهون بسلوكيات البشر، قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } (الرعد: 11)
    3- التغيير إلى الأسوأ مرتبط بظلم العباد (الإساءة): قال تعالى: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمَاً ءَاخَرِينَ} (الأنبياء:11).
    4-التغيير إلى الأحسن مرهون بعمل الصالحات (الإحسان):قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَتَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بَأَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل :97).

    5- أن الإحسان والإساءة يدوران في خلل الهوى والضلال قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكَاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيٰمَةِ أَعْمَى} (طه :123 - 124).
    وقال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وءَاثَرَ الحَيَوٰةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى * وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} (النازعات :37 - 41).

    6- التغيير أداة تمحيص وابتلاء لتمييز الصالحين من عباده:قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } (العنكبوت:1-2).
    وقال تعالى: {وَتِلْكَ الَأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } (آل عمران :140).

    ثالثاً : مفهوم التغيير:

    يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في شرح مفهوم التغيير:إنهما تغييران لا ثالث لهما :
    أحدهما: يتعلق بعالم المادة الذي من حولنا. وقد تكفل الله عزَّ وجلَّ به، وحمَّل ذاته العلية هذا التغيير.
    التغيير الثاني: يتعلق بالنفس الإنسانية، من حيث تعلق هذه النفس بالله عزَّ وجلَّ. وهذا هو التغيير الذي حمَّل اللهُ الإنسانَ مسؤوليته.
    فكأن الله عزَّ وجلَّ يقول: يا بن آدم عليك أن تعود إلى نفسك، فتقيم علاقتك معي على النهج الذي تقتضيه فطرتك .. وعلى النهج الذي تقتضيه ربوبيتي .. أضمن لك أن أغيِّر الدنيا من حولك .. وأخضعها لسلطانك وحكمك..
    ألم تسمعوا جيداً إلى قوله تعالى: { وَقَاَل الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّن أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إٍلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ} (إبراهيم: 13 – 14).
    هذا هو قرار الله في إخضاع المادة لهؤلاء المؤمنين، ثم أعطانا القانون فقال:{ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}(إبراهيم :14).
    أنا سأُخضعُ الدنيا لهؤلاء الناس..ولسوف أجعل أنظمة الكون تدور على رغائبهم طبق قانون كلما تكرر، تكرر هذا العطاء. وعبَّر عن هذا القانون بكلمة أخّاذة جامعة فقال: { ذَلِكَ} - أي هذا القانون يتكرر وليس حالة عابرة: { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }.

    من الشباب من يريد استعجال النتائج .. يقول: عملنا .. وعملنا، ولم نرَ نتيجة بعد!!.
    فكأنه يريد أن يعمل اليوم .. ويحصد نتائج عمله في الغد.
    ولكن سنن الله في الكون غير ذلك .. فقد أرسى الله الحياة على الارتقاء والتدرّج .. فلا الشمس تشرق فجأة .. ولا النبتة تظهر فجأة .. وكذلك حال الدين.
    ولقد استعجل بعض الصحابة النتائج. فماذا أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
    قال: " والذي نفسه بيده ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من حضرموت إلى اليمن..أو من اليمن إلى حضرموت..لا يخشى إلا الله و الذئب على غنمه .. ولكنكم تستعجلون "!!.
    فهكذا الحياة .. صعود تارة..وهبوط تارة أخرى..عقبات وعراقيل..وهضاب وسفوح..إلى أن تصل إلى غايتك في هذه الحياة.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (كتاب همسة في أذن شباب)
                  

09-03-2015, 02:14 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الحلم .. البضاعة التي لا تبور
    ذات يوم بينما كان الأب يلمع سيارته الأنيقة، فوجئ بابنه ذي الست سنوات يكتب عليها بخدوش مسمار التقطه من الأرض على حين غفلة من أبيه، وفي قمة غضبه واندفاعه أخذ الأب بيد ابنه وضربه عليها عدة مرات بدون أن يشعر أنه كان يستخدم للعقاب قضيبا حديديا ضخما.
    كانت ثورة الأب عارمة فالسيارة جديدة وتخريب الابن كان غير متوقع، لهذا كانت الضربات قاسية وقوية مما أدى إلى بتر أصابع الابن في المستشفى لاحقا، وتحول العقاب إلى مأساة خاصة عندما كانت براءة الطفل تتألم ويسأل المسكين أباه: «متى ستنمو أصابعي ثانية يا أبي؟»
    هذا السؤال كان يمزق قلب الأب ويحرقه حسرة وندما .. ترك الأب المستشفى عائدا للبيت وتوجه إلى السيارة وبدأ يركلها بقدمه عدة مرات حتى أعياه التعب فجلس بجوارها يجفف دموعه ثم إذا به ينظر إلى جانب السيارة المخدوش فوجد ابنه كان قد كتب: «أحبك يا أبي».

    الحِلْم هو الإمْهَال بتأخير العقاب المستحقِّ، ولا يصحُّ الحِلْم إلَّا ممَّن يقدر على العقوبة. والوَقَار هو السكينة والهدوء وتجنب الطَّيش عند الغضب، مأخوذ مِن الوَقْر وهو: الحِمْل. وأمَّا الأَنَاة فهي التَّأنِّي في الأمور وعدم العجلة، وألَّا يأخذ الإنسان الأمور بظاهرها فيتعجَّل ويحْكُم على الشَّيء قبل أن يتمهل فيه وينظر.
    ولقد ووصف الله تعالى نفسه بالحِلْم، وسمَّى نفسه الحليم، فقال تعال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} [الأحزاب:51] قال الإمام أبو حامد الغزالي: "الحليم هو الذي يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة الأمْر، ثم لا يستفزُّه غضبٌ، ولا يعتريه غيظ، ولا يحمله على المشاركة إلى الانتقام، مع غاية الاقتدار".

    عن عبد الرحمن بن جبير -رضي الله عنه- قال: "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- شيخ كبير هرم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدعم على عصا [أي: متكئًا على عصا] حتى قام بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجة ولا حاجة إلا أتاها، لو قُسِّمَت خطيئته على أهل الأرض لأوبقَتْهم [لأهلكَتْهم] أَلَهُ من توبة؟
    فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هل أسلمت؟" قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
    قال -صلى الله عليه وسلم-: "تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات"
    قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟
    قال عليه الصلاة والسلام: "نعم، وغدراتك وفجراتك".
    فقال: الله أكبر، الله أكبر ثم ادعم على عصاه، فلم يزل يُردِّد: الله أكبر، حتى توارى عن الأنظار [مسند البزار].

    وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] وإذا ورد لفظ الحلم فعلم أن العبد مستحق للعقوبة، والعقوبة هنا لترك الذكر، وفي حديث وصية نوح: (وأوصيك بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق) [مسند أحمد] فالمفترض أن ترك التسبيح لا يرزق العبد معه، ولكنه لطف الله تعالى الحليم الغفور.
    كما تعددت الآيات التي تدعو المسلمين إلى التَّحلِّي بهذا الخُلُق النَّبيل، وعدم المعاملة بالمثل ومقابلة الإساءة بالإساءة، والحثِّ على الدَّفع بالتي هي أحسن، والتَّرغيب في الصَّفح عن الأذى والعفو عن الإساءة.

    قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] فأركان الحلم ثلاثة كما ورد بالآية، لا يوصف المرء بالحلم إلا إذا استوعبها .. فالحلم دليل رجاحة العقل واتزان النفس، وعلي النقيض فإن التهور والاندفاع والطيش والهوى والعجلة دليل خفة العقل وسفه النفس.
    ولم ينعت الله تعالى الأنبياء بأقلَّ مِن الحِلْم وذلك لعزّة وجوده، فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التَّوبة:114] {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود:75].

    وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-:"التَّأنِّي مِن الله، والعجلة مِن الشَّيطان، وما أحدٌ أكثر معاذير مِن الله، وما مِن شيءٍ أحبُّ إلى الله مِن الحِلْم" [صحيح الجامع]
    وقال - صلى الله عليه وسلم - لأشجِّ عبد القيس: "إنَّ فيك لخصلتين يحبُّهما الله: الحِلْم والأَنَاة" [رواه مسلم]
    وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "التروي في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة".
    وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "ليس الخير أن يَكْثُر مالك وولدك، ولكنَّ الخير أن يَكْثُر علمك ويَعْظُم حلمك، وأن لا تباهي النَّاس بعبادة الله، وإذا أحسنت: حمدت الله تعالى، وإذا أسأت: استغفرت الله تعالى".
    وقال أيضا: "من لانتْ كلمتُه وجبتْ محبتُه، وحلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه".
    وقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: "لا يبلغ العبد مبلغ الرَّأي حتى يغلب حِلْمُه جهله، وصبرُه شهوته، ولا يبلغ ذلك إلَّا بقوَّة الحِلْم".

    فكم من اندفاعة في غير موضعها أورثت حزناً طويلا!
    وكم من قول أو فعل متهور طائش أهلك صاحبه وحرمه النجاة!
    تذكر دائما أن تعطي فرصة لنفسك وأن تهدأ قبل أن تتخذ قرارا قد تندم عليه مدى الحياة!!
    واعلم بأن الحلم يرفع المرء ولو كان وضيعا، ويؤلف القلوب ولو كانت متنافرة، ويزيل العداوة والحسد ولو كان مستحكما، وكفي بالحلم فضلا أن عواقبه محمودة، والندامة منه مفقودة.
    والحليم لا ينتصف من جاهل أبدا .. كان الأحنف بن قيس يقول: مَن لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورُبَّ غيظٍ قد تجرَّعته مخافة ما هو أشدُّ منه، وأنشد:

    رضيت ببعض الذُّل خوف جميعه كذلك بعض الشَّرِّ أهونُ مِن بعض

    وعن حفص بن غياث قال: كنت جالسًا عند جعفر بن محمد، ورجل يشكو رجلًا عنده، قال لي كذا، وفعل لي كذا، فقال له جعفر: مَن أكرمك فأكرمه، ومَن استخفَّ بك فأكرم نفسك عنه.
    وقال رجل لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-: والله لأتفرَّغنَّ لك، قال: هنالك وقعت في الشُّغل، قال: كأنَّك تهدِّدني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنَّ لك عشرًا، فقال عمرو: وأنت والله لئن قلتَ لي عشرًا لم أقلْ لك واحدة.

    إن الحلم يحفظ على نفس الرجل عزتها وكرامتها وحشمتها، ويرفعها عن مجاراة السفلة والسوقة، ويكثر أهل الخير من حوله .. قال معاوية رضي الله عنه لعَرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة؟ قال: "يا أمير المؤمنين كنت أحلم على جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في قضاء حوائجهم".
    فعادة البشر أنهم يكرهون جافي الطبع، ولا يجتمعون حول من يأخذه الغضب لأدنى هفوة إلا أن يساقوا إليه سوقاً أو يحتاجون إليه ضرورة.
    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-03-2015, 02:17 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الحمد لله الأول، والآخر، الظاهر، والباطن؛ الأول فليس قبله شيء، و الآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء ، والباطن فليس دونه شيء. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم، الحمد لله القائل في محكم التنزيل : {اقرأ باسم ربك الذي خلق؛ خلق الإنسان من علق} .
    أما بعد :

    فإن (الإيجابية) و(السلبية) كلمتان شاع استعمالهما في الأزمنة الأخيرة استعمالاً كثيراً على كافة المستويات؛ يستعملهما الصحفيون، والمؤلفون، وعامة الناس، فتجدهم يقولون هذه (ظاهرة إيجابية) وتلك (ظاهرة سلبية) و(فلان إيجابي) و(فلان سلبي). ولا نعلم لهاتين الكلمتين مدلولاً شرعيا، لكن كما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح. فالألفاظ أوعية للمعاني .

    الإيجابية : تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء، والمساهمة، والاقتراح البنَّاء. والشخص الإيجابي : هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه .

    والسلبية : تحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبلادة، والانغلاق.
    والشخص السلبي: هو الفرد البليد، الذي يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه، ولا يمد يده إلى الآخرين، ولا يخطو إلى الأمام .
    وهذا التصنيف، أمر مشهور في القديم والحديث، فإن الله قسم الأخلاق، كما قسم الأرزاق. لكن الذي يهمنا، في هذا المقام، واقع الشباب المسلم الذين انتظموا في سلك الدعوة إلى الله، وحُسبوا من شباب الصحوة الإسلامية، فقد يصاب الشاب بداء السلبية، ويفقد مزية الإيجابية دون أن يشعر. تضمه حلقة ذكر، فيظن نفسه إيجابياً ويرى أقرانه في الشوارع، لا يشهدون ما يشهد، فيقول : هؤلاء سلبيون، وأنا الإيجابي.

    فلا يسوغ أن نخدع أنفسنا، ونغش ذواتنا، بل علينا أن نتأكد بصورة حقيقيةٍ، من واقعنا وحالنا.
    إننا حين نرصد هاتين الظاهرتين (الإيجابية)، و(السلبية)، في حياة المؤمنين، فإننا نجد أمثلة نادرة لقوم منَّ الله تعالى عليهم بالإيمان الفاعل، المتحرك، الذي نسميه في مصطلحنا المعاصر(الإيجابية). ومن تلكم الأمثلة :

    أولاً :قصة مؤمن القرية

    قال: الله عز وجل:{وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} لنتأمل حال هذا الرجل الداعية، من خلال عدة وقفات :
    الوقفة الأولى :(وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) جاء من مكان بعيد؛ لم يمنعه بُعد المكان أن يأتي ليبلغ دعوته، وينشر معتقده، فقد جاء من أقصا المدينة! فلم يقل: الشُّقة بعيدة، والمسافة طويلة، والأمر صعب، بل اطرح جميع هذه المعوقات. هذه واحدة.

    والوقفة الثانية: إنه جاء (يَسْعَى) ولم يأتي ماشياً! فإن ما قام في قلبه من الحماس، والحمية، والحركة، والرغبة، في نقل ما عنده إلى الآخرين، حمله على أن يسعى.

    الوقفة الثالثة : (من أقصا المدينة) وعادةً، لا سيما في الأزمنة السابقة، لا يسكن أقصا المدينة إلا بسطاء الناس، وضعفاؤهم، وفقراؤهم، فلم يمنعه ما هو عليه من شظف العيش ودنو المنزلة الاجتماعية، من أن يجهر بدعوته .

    الوقفة الرابعة : {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}كلمة ً صريحةً، واضحةً، صرخ بها بين ظهراني قومه. ولربما كان هذا الإنسان قبل أن يمن الله تعالى عليه بالإيمان، لا يقوى أن يرفع طرفه إلى الملأ من قومه، مما يجد في نفسه من الشعور بالذلة والمهانة، فهو ليس من علية القوم، يعيش في قصر في قلب البلد، لا وإنما يعيش في ضواحيه، وأطرافه وكما قال بعض المفسرين: أنه كان يعمل (إسكافاً) وهي مهنة بسيطة دنيئة. لكن الإيمان الذي وقر في قلبه، حمله على أن يشعر بعزة الإيمان، واستعلائه، فيصيح بين ظهراني قومه، قائلاً: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، دون سابق ممارسة، واعتياد. وإنما يتكلم الإنسان، ويمتلك الشجاعة الأدبية، لما يقوم في قلبه من الإيمان العميق بالحق الذي يعتقده. فلماذا نتلجلج أحياناً؟ ولماذا نتلكأ؟ ولماذا نحجم؟ إن هذا ناتج عن ضعف الإيمان، وبرودة المعاني التي نعتقدها، أما إذا حَيَت في قلوبنا هذه المعاني، فإنها ستظهر على فلتات اللسان، وحركة الأبدان، للتعبير عنها.

    الوقفة الخامسة :{اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ}: هاهو يناظرهم، ويجادلهم، ويشير إلى بعض نقاط الخلاف بين قومه وبين أولئك الرسل الكرام الذين أرسلوا إليهم، ثم يسوق الحجج العقلية، والفطرية، فيقول:{وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}
    هذا مثال لمؤمن حمله إيمانه الحق الصادق، على أن يجهر بدعوته، لا يجمجم، ولا يهمهم، وإنما يأتي بها صريحة، واضحة، بينة، في منتديات الناس. إيمان فاعل، إيمان ناشط، إيمان واعٍ؛ يدرك تبعاتها، وآثارها، وما سوف تجر عليه من مسؤوليات، لكن ذلك لم يمنعه ولهذا قال ذلك الكلام بين ظهراني قومه، ونادى بملأ فيه :{إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ }فقتله قومه شر قتله، حتى ذكر بعض التابعين الذين يروون عن أهل الكتاب أن قومه وطئوه بأقدامهم حتى قضوا عليه، وقيل إنهم قطعوه إرباً.

    ولكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد ! يظل الإيمان الفاعل يحمل صاحبه على النصح للآخرين، قائماً، فبعد أن بُشِّر:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}! سبحان الله! حتى بعد الموت، والفوز بالجنة، لا يزال في قلبه الشعور بالرغبة في العطاء، الرغبة في البذل، والنصح للآخرين . ولم يشأ أن يتشفى بهم، أو يجعل ذلك ذريعةً للنيل منهم، وإنما تمنى من سويداء قلبه أن يعلم قومه بعاقبته، لعل ذلك يحملهم على أن يقبلوا نصحه. قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشا؛ لما عاين من كرامة الله. وقال ابن عباس: نصح قومه في حياته بقوله: "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"، وبعد مماته في قوله: " يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ"رواه ابن أبي حاتم.
    قال ابن كثير رحمه الله: (ومقصوده: أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب، والجزاء، والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه).

    ثانياً : قصة الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه:
    كان يتحاشى، ويحاذر أن يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب تحذير قريش. فلما سمعه، وأدرك صدقه، بعقله، وثاقب نظره، وفطرته السليمة، آمن. ولكن الرجل لم يكتم إيمانه في قبيلته (دوس)، ولم ينكفئ على نفسه، دون أن يكون له أثر. وإنما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل له آية. فلما أقبل على قومه، جعل الله له نورا ً بين عينيه. فسأل الله تعالى أن تكون في غير هذا الموضع، حتى لا يظنها قومه مُثله. فكانت في رأس سوطه. فلما جاءه أبوه قال: إليك عني، ما أنا منك، ولا أنت مني! وصنع ذلك مع زوجه، وقبيلته. فقالوا: ماذا أصابك؟ قال: إني ءامنت بالله، فإما أن تؤمنوا بما آمنت به، أو أفارقكم. فلم يزل بهم حتى وافقوه.
    وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، ومعه سبعون من قبيلته دوس! رجل واحد يأتي بسبعين رجلاً، منهم أبو هريرة!.

    فلو لم يكن من فضائله، رضي الله عنه، إلا أن أسلم على يديه أبو هريرة، رضي الله عنه، لكفى. كفى أن أبا هريرة، أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسنة من حسنات هذا المؤمن الفاعل النشيط، الذي وقر الإيمان في قلبه، فظهر على أعماله وسلوكه.
    وللحديث بقية حول هذه الظاهرة إن شاء الله ويسر، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصف الظاهرة
    اسمحوا لي الآن بعد عرض هذين المثلين الإيجابيين، أن أعرض لوصف مظاهر السلبية، التي صارت تتفشى في مجتمعات كثير من الشباب الصالحين هذه الأوقات. فقد كان الشباب في مطلع هذه الصحوة المباركة، فيهم من القوة، والبذل، والتضحية، بالأوقات، والحماس للدعوة إلى الله عز وجل، ما هو مضرب المثل. وكانوا قلة يواجهون باللوم، والتقريع، وإطلاق ألقاب السوء عليهم. فلم يزالوا صابرين، ناصحين، باذلين، حتى فتح الله على أيديهم، وكثر المهتدون بسببهم. ثم بتنا نرى جموعاً من الشباب، يحبون الخير، ويشهدون مجالسه، ولكنهم أقل عطاءً، وأضعف إنتاجاً، وأثرهم في المجتمع ضعيف. أصيبوا بداء (السلبية).

    وهذه الظاهرة تنشأ عبر خطوات؛ فتجد الشاب يعيش في مرحلة ما قبل الاستقامة حياةً ممتلئة، فعالة، مؤثرة، تضج بالعطاء، والحيوية، والذهاب، والإياب، والانشغال، لكن في مجال الباطل، والغفلة، واللهو؛ رحلات متتابعة، سفريات، وزيارات، ومشاريع كثيرة جداً. ثم يلتزم الشاب، ويجد طعم الراحة الإيمانية، وتتساقط عنه همومه، وإشكالاته، ويحس بالخفة النفسية. وهذه مرحلة طبيعية، وفرح إيماني صحيح. لكن بعضهم يسيطر عليه شعور بالانسحاب من الحياة العامة، والعيش في جو مغلق محدود، لا يتناسب من حيث العطاء مع وضعه السابق، إذا به يعود منغلقاً على نفسه، مطأطأ الرأس، خافت الصوت، لا ينتج، ولا يبذل. ويصدق عليه المثل القائل: (جبَّار في الجاهلية خوار في الإسلام)
    ثم تجد أن هذا الشاب الذي أصيب بهذا الداء داء (السلبية) يطمئن نفسه ببعض المسكنات، فيقول: هاأناذا أساهم مع الشباب في حضور بعض الأنشطة، وهاأناذا أحضر مناسبات الخير، وإذا دعيت أجبت. ويعتقد أنه بهذه المساهمات المحدودة، البسيطة قد أدى ما عليه. يشعر بالاكتفاء، والامتلاء. وهذا في الحقيقة داء.

    ليس المقصود أن تكون رقما فقط، ، كلا! إنك حينما اهتديت إلى الله عز وجل، بات المطلوب منك أن تحمل غيرك، كما حملك غيرك، وأن تكون فاعلاً، مؤثراً، كما كنت قبل ذلك، لا أن تملأ المجالس، ويكون دورك فقط الدور الحضوري.
    ثم لا يلبث صاحبنا أن تنشأ عنده اهتمامات جانبية، تافهة، تكون هي شغله الشاغل. وقد يتعدى الأمر إلى خطر أكبر، فيقع في الفتور، إذا طال عليه الأمد كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد:16)، فيقسو قلبه، وتموت أحاسيسه، وانفعالاته الإيمانية، ولا يستجيب لما كان يستجيب له من قبل. وربما أفضى به ذلك إلى الردة، والانتكاسة، كما نسمع بين الوقت والآخر: إن فلاناً أصابه شيء، وانتكس والعياذ بالله.

    وربما ابتلي هذا الإنسان السلبي، بمرض آخر خطير، وهو (حب النقد) و(توزيع التهم) و(الانشغال بتجريح الآخرين). فإنك، غالباً، لا تجد من يشتغل بالنقد، والتجريح، والوقيعة في الناس، ولاسيما الدعاة، والعلماء، إلا الفارغين. فالفارغون الذين ليس عندهم عمل، ولا دعوة، ولا طلب علم، ولا حسبة، شغلهم الشاغل أن يتكئ أحدهم على أريكته، ويشير بأصبعه السبابة، قائلاً: هذا صح، وهذا خطأ! وفلان أصاب، وفلان أخطأ! وربما لم يبلغ بعد أن يحسن تلاوة الفاتحة، أو يحفظ باباً من العلم .
    السلبية في البيت
    ففي البيت، ليس له تميز ، ولا أثر؛ لا يأمر بالمعروف، ولا ينهي عن المنكر. وربما قصر في الحقوق الواجبة عليه من البر والصلة. لا يميز أهله بينه، وبين أخيه غير المستقيم، بل قد يفوقه بعض إخوانه في نفع أهله. وربما لا يقوم بتعليمهم ما يتعلم، ولا يجلب لهم الأشرطة، ولا الكتيبات، ولا يجلس معهم، ولا يحدثهم بأحاديث إيمانية، ولا يناصحهم ولا يسألهم عن مجريات أمورهم. فهذا لاشك أنه نوع من السلبية.
    وليستذكر كل واحد الآن، ماذا يصنع في بيته ؟ هل أنت شعلة مضيئة ؟ هل أنت زهرة فواحة، تنشر أريجها، وعبقها في كل ركن من أركان البيت ؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "خيركم، خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"رواه الترمذي. فلماذا نحرص على الخير خارج بيوتنا، ونهمل بيوتنا، وهي ألصق بنا، وأولى ببرنا، وعطائنا ؟ ! لا شك أن هذا يكشف خللاً في التربية، والتدين.

    السلبية مع الزملاء
    في المدرسة، أو الكلية، تجد علاقة هذا الإنسان المصاب بداء السلبية، مع زملائه علاقةً عادية في أحسن أحوالها، لا قدوة، ولا أخلاق، ولا تميز. فالمفترض في من يحمل بين جنبيه إيماناً دافقاً، أن يكون بين زملائه، الذين هم أصلاً مهياؤن لطلب العلم، داعية، ومذكراً، وأن يباشرهم، و يتعرف على أحوالهم، ويدعوهم إلى الله، ويربيهم، ويتبادل معهم الخبرات، والمعلومات. يعطي هذا شريطاً، ويهدي لهذا كتيباً، ويتفقد حال هذا، ويزور ذاك في بيته. إلى غير ذلك من صور التفاعل الإيجابي، لا أن يقعد ويحتل كرسياً في الفصل، دون أن يكون له أثر. وربما اجتاح الميدان غيره من دعاة السوء، واللهو، والعبث، فصاروا هم المقدمين، الذين لهم الكلمة النافذة، الذين يوجهون مناشط الفصل، ومناشط المدرسة، وبرامج الكلية، وهو يتفرج، لا يحرك ساكناً، لا يقدم ولا يؤخر. كما قيل :
    ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
    سائل نفسك: حين تكون عضواً في جمعية النشاط المدرسي، أو برامج النشاط التي تقام في الكليات، والجامعات، هل أنت تقدم الأفكار، والاقتراحات، والملاحظات، والمبادرات؟ فإن هذا لون من ألوان التفاعل و الإيجابية، أم تكتفي بالحضور الصامت؟

    السلبية في المسجد والحي
    تجد هذا الشاب الموصوف بالسلبية، لا ثقل له بين جماعة مسجده، ولا اعتبار. نكرة من النكرات، لا يعرفه أحد ! لأنه لا يبذل نفسه، ولا يسعى في حاجة المسجد، ولا يساعد جماعته، ولا يعظ، ولا ينصح، بل يأتي ليصلي، ثم ينصرف سريعاً، كأنه عابر سبيل. بل إنك تجد أحيانا ً بعض العامة يبذل في هذا المجال بذلاً عظيما ؛ إذا جاء شهر رمضان، رأيت طائفة من الناس يشتغل في تهيئة المسجد، لصلاة التراويح، والعناية بالصوت، والإضاءة، وغير ذلك، وصاحبنا لا ناقة له، ولا جمل.
    سائل نفسك :حين تكون منتمياً لحلقة تحفيظ القرآن في المسجد، هل أنت على صلة بزملائك، تناصحهم، وترشدهم، وتثبتهم، وتحضهم على المواصلة في الحفظ؟ وسائل نفسك : ما هو دورك حيال قضايا المجتمع ؟ أنت عضو في هذا المجتمع، عضو في هذا البلد، هل تشعر بالاهتمامات على المستوى العام؟ وهل تحاول أن تصلح إذا سمعت بمنكر، فتسعى في إزالته بالطرق المناسبة ؟ وإذا سمعت بمعروف شاركت فيه وأيدت ؟ أم أنك تكتفي فقط بتلقي الأخبار، و تحليلها وينتهي دورك؟

    أسباب السلبية
    لماذا يقع بعض الشباب في السلبية؟ ما هو السبب الذي جرهم إلى ذلك، مع أن المنطلق كان صحيحا ؟ هذا يرجع في الحقيقة إلى عدة أسباب منها :
    أولاً: عدم الفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية:
    كأن يتصور أن الدخول في عقد الإيمان، يعني أن يكون حاله حال دراويش الصوفية، الذين يقبعون في الزوايا، والتكايا. ولا ريب أن هذا فهم خاطئ أساساً. فالعقيدة الإسلامية عقيدة تقوم على الإيمان الصحيح بالله عز وجل، وما يقتضي ذلك من الدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه. قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}وتواصوا : صيغة مفاعلة، أي أوصى بعضهم بعضاً. فعلى كل واحد أن يصحح معتقده، ويفهم دينه على الوجه الصحيح .

    ثانياً: اعتقاد الإنسان أن من شروط الإيجابية حصول الكمال:
    وهذا عذر مشهور يعلق عليه كثير من الناس تقصيرهم، وتقاعسهم. يقول أحدهم: ومن أنا حتى أفعل كذا، ويتواضع، ويتمسكن، ويقول ما عندي من العلم، وما عندي من الإيمان، وما عندي من التقوى، حتى أفعل كذا، وكذا ! هذا ليس تواضعاً شرعياً، وإنما هو تواضع بارد مذموم. نعم لا تتكلم بما لا تعلم، بل تكلم بما تعلم. ولو تأملت لوجدت أن ما تعرف خيراً كثيراً، تملك أن تدعو إليه. وفي نفس الوقت، اسعَ لتكميل علمك، وعملك، وكلما زاد علمك وعملك زادت مسئوليتك، وفضلك.

    ثالثاً: دعوى أن المبادرة، مدعاة للرياء:
    هذه حيلة شيطانية، تحول بين الإنسان وبين العمل الصالح. إذا صلحت نيتك الأولى لم يضرك ما قد يقع من ثناء الناس، أو حصول مغنم، بادر في هذا المشروع الطيب، وكن رأساً فيه، فإذا رأيت من هو أولى منك، فكن عوناً له. ولكن لا يجوز أن ينظر بعضنا إلى بعض، ونقول: (من يعلق الجرس)؟ كل منا مطالبٌ أن يعمل قدر وسعه، فلا يتعلل الإنسان بهذه العلل المقعدة.

    رابعاً: التربية الرخوة:
    قد يتربى بعض الشباب على منهج تطغى فيه الوسائل على الغايات، فلا يتربى على منهج جاد، بل يُنشَّأ على برامج خفيفة، بسيطة، ليس فيها حزم، ولا صبر، ولا جلد، ولا ثني ركب. لابد من الصبر، والمصابرة في تحصيل العلم، والتربية، والدعوة.
    كثير من الشباب يدخل في سلك الصالحين بواسطة ما يسمى (الأناشيد الإسلامية) والبرامج المشوقة، والجذابة، وأنا لا أعترض على التدرج، بشرط أن يكون هذا الأسلوب أسلوباً ملتزماً بالضوابط الشرعية، ولمرحلة مؤقتة. ولا يجوز بحال، أن يُستمَر عليه، وأن يكبر الشاب وهو لا يعيش إلا على صدح الأناشيد، والمسرحيات، والرياضة، والسباحة، والرحلات، ونحو ذلك، ويستثقل حضور مجالس العلم، وحفظ كتاب الله . إن هذا المنهج الرخو يخرِّج أفراداً لا يقوون بعد ذلك على المواصلة، ويكونون سلبيين، ولا يملكون رؤيةً واضحة. فيجب أن نفرق بين الوسائل و الغايات. هذا في الحقيقة منافٍ للمنهج النبوي في التربية. المنهج النبوي منهج جاد، متين، قوي، وفي نفس الوقت ميسر، رفيق.

    الختام
    لابد أن نفتش في أنفسنا، لعل بعض الشباب، لازال يعيش على ذكريات الطفولة! قد كبرت يا عبد الله!
    قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
    هذه كلمات، أرجوا أن تنبه أذهانكم إلى هذه القضية الخطيرة وأن يراجع كل امرئ نفسه ويرى حظه من القيام بأمر الإيمان. فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، ففي العمر متسع، فارجع، وصحح المسار من جديد.
    هذا، واسأل الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق، والهدى، والسداد.
    وصلى الله، و سلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله، وصحبه، أجمعين.
    الشيخ الدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي
                  

09-03-2015, 02:19 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الأخلاق.. مشترك إنساني عام من القيم والفضائل التي جبل الله الناس عليها، فأصناف البشرية كلها تعترف بالمعاني الفاضلة والأخلاق العالية، وأصول هذه الأخلاق قدر متفق عليه، بل هناك فلسفة خاصة للأخلاق والفضائل في كل أمة وتراث وعصر وثقافة، فالصدق والكرم والوفاء والعدل والصبر والتسامح معانٍ محمودة في كل القيم الإنسانية، وفي مقابل ذلك معانٍ مذمومة فيها: كالكذب والظلم والزور والعقوق والبخل وغيرها.

    وهذا معنى أصالة الأخلاق وعظمتها وقوتها وسيادتها الفعلية على منظومة القيم الإنسانية، وذلك معنى فطرية الأخلاق، فالفطرة فيها أصول الأخلاق التي يحتاجها الإنسان، حتى إن الجاهلية الأولى كان العرب فيها يمتدحون مكارم الأخلاق، ويعدونها دليلاً على عقل الرجل وسيادته، فكانوا يمدحون الصدق والأمانة والكرم والشجاعة وغيرها .

    ولو قرأت في تراث كل أمة فستجد عندها قدراً معروفاً من أصول الأخلاق لا تختلف فيه لبقاء الفطرة في عناصرها، وذلك معنىً من معاني حديث الصحيحين: " كل مولود يولد على الفطرة "، ولقد جاءت الرسالات السماوية لتذكي المعاني الفطرية، وتؤكد القيم المشتركة بين بني الإنسان، وتزيدها وضوحاً، وتحث الناس على فعلها، وتعدهم بالأجر والثواب، وتحذرهم من تركها بالوعيد والعقاب، وجاءت أيضا هذه الشرائع السماوية لتضع الأطر المحددة لتطبيقات هذه الأخلاق، وبهذا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " أخرجه أحمد ، فكأن المعنى والله أعلم أن صالح الأخلاق موجودة في الفطرة فجاء البيان النبوي ليتممها، فبذلك تكتمل للإنسان أخلاقه الفطرية، مع الأخلاق المكتسبة التي يتعلمها من الشرائع السماوية.

    والأخلاق من تزكية النفوس، فحقيقة الأخلاق في داخل النفس، وإنما السلوك العملي تعبير مباشر عن ذلك، ونتيجة له، ولذلك إذا كان القلب فاسداً لا يستطيع الإنسان أن يستمر في التظاهر والمجادلة بالأخلاق السطحية، فبعض الناس قد يتكلفون الأخلاق، لكن ذلك لن يدوم إن لم يكن ذلك نابعاً من اعتراف داخلي بقيمة هذه الأخلاق وحب لها، ومثل ذلك الخلق المؤقت، يعني أن في النفس ضعفاً أخلاقياً تنكشف النفس فيه لأدنى امتحان، يقول الحسن البصري: "ما أخفى رجل شيئا إلا ظهر على فلتات لسانه وقسمات وجهه" .
    والشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى يقرر هذا المعنى، فيقول:
    ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم

    فالأخلاق القوية الحقيقية وعاء يستوعب حياة الإنسان كلها، فتتبين الأخلاق القوية بالدأب والصبر والمداومة وإتمام الخلق، يقول أبو حامد الغزالي: "إن أخلاق الإنسان الحقيقية هي أخلاقه بالمنـزل" . أي: لمداومته على حسن الخلق والتلطف حتى في بيته.
    وعند الإنجليز مثل يقول:" إن الملِكَ لن يكون ملكاً في كل وقت". أي أنه في بيته ومكانه الخاص سيبدو بسيطاً ضعيفاً، ربما يستفزه أي شيء، وربما يتشاجر لأجل أتفه قضية.

    وقوة الأخلاق تبدو حين نختلف، وهناك من يستخدم أخلاق القوة للضرب تحت الحزام كما يقولون، واستخدام نقاط الضعف والفجور في الخصومة، فيطيح بكل القيم الأخلاقية لأدنى اختلاف، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من آية المنافق أنه " إذا خاصم فجر "، لكن قوة الأخلاق في العفو والعفة عن نقاط الضعف، وقول الحق حتى على النفس {يَا اَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى اَنْفُسِكُمْ } .

    وقوة الأخلاق تبدو أيضاً عند الانشغال الشديد والفراغ، فيفقد الإنسان هدوءه وتتوتر أعصابه، فيظهر أولو العزم من أصحاب الأخلاق رابطي الجأش، فلا يقولون إلا خيراً، كما كان يفعل نبينا صلى الله عليه وسلم حين يجر أحد الأعراب رداءه فيظهر الأثر على صفحة عنقه، أو يتكلم عليه أحد المنافقين، أو يطالبه بدين أحد اليهود، ولقد أجمل القرآن وصف خلقه فقال: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم }.

    وإننا نجد اليوم كثيرين يتحدثون عن الأخلاق، وقد يلقون برامج ومحاضرات ودورات، ويكتبون كتباً، لكن حين تنظر إلى الممارسات تجد بعداً عن هذا التنظير، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هناك فجوة بين ما يدعو إليه وبين ما يفعله.
    وقوة الأخلاق هي أيضا القوة الخلقية الداخلية في صفاء النفس وصدقها، وهذا معنى عظيم من معاني الأخلاق، ولا يتحدث عنه أصحاب فلسفة الأخلاق؛ لأنه شيء لا يقاس إلا بميزان الصدق وصلاح الضمير.. هل رأى أحد يوماً وجهاً يشعّ بالأخلاق، بالبسمة، وبأبعد من ذلك.. بالصدق؟
    إنه وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا عبد الله بن سلام -وكان يهودياً- يقول: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما رأيت وجهه واستبنته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب" أخرجه الترمذي وابن ماجه .

    وقوة الأخلاق هي في الحكمة ووضع الأمور في مواضعها، ولذلك أقول: إن فقه الموازنات من أهم وأعظم الأنواع الفقهية التي يحتاج إليها الناس كلهم جميعاً، والأخذ بالأهم، وعدم تضخيم شيء على حساب آخر، مما يبعث جوا من الأخطاء والممارسات البعيدة عن الشرع، وإن استظلت بظلاله، ولذلك يقول الله عز وجل: { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ اَحْسَنَه } ، فلم يقل: "حسنه"، وقال: { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } .

    وقوة الأخلاق في العدل وترك الظلم، وإشاعة ذلك في حقل العلم والمعرفة، وحقل التجارة والصناعة، وحقل السياسة، وحقل السلوك والتعامل الاجتماعي، وكل الحقول الأخرى. كل ذلك لن يحصل إلا بالمجاهدة: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } والمحاسبة: {وَلَا اُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة } ، ودعم الجوانب الفطرية في الإنسان وتوجيهها لخلق الخير والبر.
    هذه هي القوة الحقيقية: قوة الأخلاق. أما القوة الموهومة: أخلاق القوة فهي مهترئة سريعة الزوال، وإذا صار الإنسان قوياً فتسلط على الناس واستطال عليهم وظلمهم فإنه في داخله وفي حقيقته ضعيف، لا يثق حتى بنفسه، وإن بدا للناس عكس ذلك، وإذا قوي الإنسان وأصبحت له شوكة وسلطة كان ذلك امتحاناً عسيراً لقوته الحقيقية، قوة أخلاقه، وأما العاجز الذي لا يستبد فذلك ضعف عند الله وعند الناس.

    إن قوة الأخلاق تغلب أخلاق القوة، وإن سخط الناس أو رضوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ". قال ذلك تصحيحاً للمفاهيم المشوهة المشوشة عند الناس حول القوة. فليس القوي الذي يقاتل ويصارع، وإنما القوي الذي يملك نفسه عند القتال والصراع، ويخالق الناس بخلق حسن.

    د/ سلمان العودة
                  

09-03-2015, 02:22 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    التوفيق .. رزق الأبرار
    العبد المؤمن في حله وترحالة لا يستغني إطلاقا عن معية الله تعالى وهدايته ومدده، وهذا عين الفلاح الذي يقابله الخذلان والبوار جراء سخط العزيز الجبار على أهل الضلال، فالله جل شأنه إذا غضب على عبد لا يبالي به في أي واد هلك، وفي الحديث النبوي الشريف: "إِنَّكَ إِن تَكِلنِي إلى نفْسي تَكِلنِي إلى ضَعْفٍ، وَعَوْرَةٍ، وَذَنْبٍ، وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لا أَثِقُ إِلا بِرحمتِكَ، فَاغْفِرْ لِي ذُنوبِي كُلَّهَا، إِنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلا أنتَ، وَتُبْ عليَّ إِنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ" [رواه أحمد (5 /191) عن زيد بن ثابت].
    قال أبو داود للإمام أحمد بن حنبل: جمعت هذا العلم لله؟ فقال: "لله عزيز، ولكن حبب إلى أمر ففعلته" .. وتلك إشارة جامعة لنعمة «التوفيق» الذي هو من أجل نعم رب العالمين لعباده المخلصين.

    والتوفيق جعل الشيء وفقا لآخر، أي طبقا له، ولذلك عرفوه بأنه خَلْق القدرة الداعية إلى الخير والطاعة، وقال الراغب: "والاتفاق مطابقة فعل الإنسان القدر، ويقال ذلك في الخير والشر، يقال: اتفق لفلان خير، واتفق له شر. والتوفيق نحوه لكنه يختص في التعارف بالخير دون الشر".

    وحقيقة «التوفيق» إمداد الله تعالى العبد بعونه وإعانته وتسديده وتيسير أموره وتسخير الأسباب المعينة عليها.
    والتوفيق بيده سبحانه هو لا بيد من سواه. وأعظم التوفيق: التوفيق إلى الحق وقبوله، وإلى الخير والعمل به، وتلك نعمة لا يملكها إلا رب العباد، ومقلب القلوب والأبصار، والذي يحول بين المرء وقلبه .. قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بْاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] فالله تعالى يوفّق من يشاء، ويخذل من يشاء ..

    التوفيق: فَضْل لأنَّهُ إعانة. وأما الخذلان: فهو سلب الإعانة .. التوفيق إعطَاءٌ، مَنٌّ، كَرَمٌ، .. وأما الخذلان فهو عَدْلٌ وسلبٌ.
    وعن أبي سليمان الضَّبِّي، قال: "كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز إلى خراسان فيها الأمر والنهي فيكتب في آخرها: وما كنت في ذلك إلا كما قال العبد الصالح: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بْاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

    وأما قوله تعالى: {والله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي لا يوفقهم للإيمان، مثل قوله: {والله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالمين}، {والله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .. فالهداية المنفية: هداية التوفيق، أما هداية البيان والإرشاد فهذه موجودة، فالله هدى كل النّاس مؤمنهم وكافرهم ببيان معالم طريق الخير من طريق الشر.. أما هداية التوفيق والإيمان فهي خاصة بالمؤمنين.

    حتى فتنة الدجال آخر الزمان لا ينجو منها إلا أهل التوفيق الذين لا يغترون ولا ينخدعون بما معه من الدلائل المكذوبة، مع ما سبق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول المؤمن الذي يقتله الدجال ثم يحييه: "ما ازددت فيك إلا بصيرة ".
    بل إن دخول الجنَّة بسبب الأعمال، ثمّ التوفِيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها برحمة اللَّه تعالى وفضله.
    وجاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرا استعمله" قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال:"يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه" [أحمد والترمذي].
    قال المناوي: "وتفريغ المحل شرط لدخول غيث الرحمة، فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف الغيث محلاً قابلاً للنزول، وهذا كمن أصلح أرضه لقبول الزرع ثم يبذر .. فإذا طهر العبد تعرض لنفحات رياح الرحمة ونزول الغيث في أوانه، وحينئذ يكون جديراً بحصول الغلة " [فيض القدير].

    ومن أَسماء الله تعالى الحسنى «الباسِط» فهو الذي يَبْسُطُ الرزق لعباده بجُوده ورحمته، ويوسّعه عليهم ببالغ حكمته، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].
    لذلك ندعوه بدعاء المسألة كما ورد عند أحمد وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ الزُّرَقِيِّ -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو: "اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِىَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، وأعوذ بك مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ منا".

    أما دعاء العبادة فهو أثر الإيمان باسمه "الباسط" على الموحد، فأعلاه بسط الإيمان حيث يفرح بتوفيق الله، ويثق في وعده بالنجاة، وأن رحمته واسعة مبسوطة على العباد، فيبادر العبد إلى الزيادة الإيمانية المستمرة بإقباله عليه جل شأنه، فالله يقبض القلوب بإعراضها، ويبسطها بإقبالها، والبسط الحقيقي من جهة التوفيق الإلهي للعبد في بلوغه درجة الإيمان، فالبسط على هذا نور ينبسط على القلب يخلقه اللَّه فيه، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11].
    والله عز وجل قرن بسط الرزق بالإيمان، فقال عز من قائل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [لأعراف:96].

    وباب التوفيق الأعظم هو التبرؤ من حولك وقوتك .. فإن العبد لا حَوْلَ له ولا قوة إلا بالله, فإنْ نسيَ ذلك وتعلق بغير الله, أو أُعجِب بنفسه, فَرَآها أهلاً للنجاح على وجهِ الاستقلال والتشبث بالأسباب وحدها, خابَ وخسِرَ في سَعْيِه, ويُخْشى أن يُعَجِّلَ اللهُ عقوبتَه، لِيُرِيَه خَيْبَتَهُ وعجزة قبل موتِه والعياذ بالله.

    أما الدعاء فهو من أعظم الأسباب لحيازة التوفيق، خاصة إذا اقترن بالتوكل على الله تعالى وبذل الداعي الوسائل التي تقربه من محبة الله تعالى، وفي الحديث القدسي الصحيح: "فإذا أحْبَبْتُهُ, كُنتُ سَمْعَهُ الذي يسمع به, وبَصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويده التي يبطش بها, وَرِجْلَه التي يمشي بها, وإن سَأَلني لأُعْطِيَنَّه، ولَئِن استعاذني لأُعِيذَنَّه" [رواه البخاري]
    والعلماء أجمعوا على أن التوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك.
    قَالَ غِذَاء بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله: "مَنْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الْهَوَى وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ، انْقَطَعَتْ عَنْهُ مَوَادُّ التَّوْفِيقِ".
    وقيل لحكيم: ما الشيء الذي لا يستغني عنه المرء في كل حال؟ فقال: "التوفيق .. من حرم التوفيق، فأقطع ما يكون إذا اجتهد".

    وقال شقيق بن إبراهيم: أغلق باب التوفيق على الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها. ورغبتهم في العلم وتركهم العمل. والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة. والاغترار بالصالحين وترك الاقتداء بأفعالهم. وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها. وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها.
    يقول الشيخ الشعراوي: "وهكذا نعلم أن هناك فرقاً بين العمل؛ وبين التوفيق في العمل؛ لأن جوارحك قد تنشغل بالعمل؛ ولكن النية قد تكون غير خالصة؛ عندئذ لا يأتي التوفيق من الله. أما إن أقبلت على العمل؛ وفي نيتك أن يوفقك الله سبحانه لتؤدي هذا العمل بإخلاص؛ فستجد الله تعالى يصوِّب لك أيَّ خطأ تقع فيه؛ وستنجز العمل بإتقان وتشعر بجمال الإتقان، وفي الجمال جلال".
    فعلينا معاشر المسلمين أن نبتهل ونتضرع إلى ربنا أن يُثبتنا، وأن لا يزيغنا، وأن لا يُحوِّل قلوبنا إلا لما يرضيه جل وعلا .. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان قلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا يصرفه كيف يشاء .. فيا مقلب القلوب، مثبت من شاء، ومضل من شاء، وهادي من شاء، ومضل من شاء، ثبت قلوبنا على دينك، ولذا أثنى جل وعلا على عباده الراسخين في العلم بأنهم يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} إلى أن قال عنهم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} [آل عمران: 7- 8].
    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اسلام ويب ( د / خالد سعد النجار )
                  

09-03-2015, 02:24 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    هناك أشخاصٌ مرنون، أينما حلوا وأينما جلسوا يأنَسون ويؤنسون، يألفون ويؤلفون، ينبسطون مع من حولهم، لا تشعر أنهم غرباء، لا تحس بفوقية في سلوكهم، ولا انزواءٍ في تصرفاتهم، يتصرفون على سجيتهم في أدب وتواضع، وفي المقابل هناك أناس تشعر أن حياتهم مصطنعة كلها تصنع وتكلف وأمثال هؤلاء هم أبعد الناس عن كسب قلوب من حولهم ، وقد نهى الشرع الحنيف عن التكلف والتصنع وإظهار الإنسان وجها آخر غير حقيقته، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(نهينا عن التكلف)رواه البخاري.
    وقال الله تعالى {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}.قال السعدي: أن أدعي أمرا ليس لي، وأقفو ما ليس لي به علم، لا أتبع إلا ما يوحى إليَّ.
    وعن أسماء رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " متفق عليه.
    قال النووي رحمه الله تعالى: المتشبع: هو الذي يظهر الشبع وليس بشبعان، ومعناها هنا أنه يظهر أنه حصل له فضيلة وليست حاصلة ولابس ثوبي زور أي: ذي زور وهو الذي يزور على الناس بأن يتزي بزي أهل الزهد أو العلم أو الثروة ليغتر به الناس وليس هو بتلك الصفة وقيل غير ذلك والله أعلم.
    إن من سمات الصالحين أنهم لا يقولون ولا يفعلون ولا يتصفون بشيء ليس له حقيقةً راسخة في قلوبهم، فلا يظهرون للناس صالح أفعالهم ويخفون قبيحها، و لقد كان السلف يسترون أحوالهم وينصحون بترك التصنع.
    صور من التصنع:
    نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شاب نكس رأسه، فقال: يا هذا ارفع رأسك؛ فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب؛ فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً على نفاق.
    عن كهمس بن الحسن: أن رجلاً تنفس عند عمر كأنه يتحازن فلكزه عمر " أو قال: فلكمه ".
    الرياء من التصنع: الرياء الأصغر ومثاله التصنع للمخلوق وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة بل يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة أخرى.
    ومن صور التصنع ما يحدث في حفلات الزواج وغيرها من الحفلات من تكلف في الملابس ووسائل التجميل وغيره من المظاهر الفارغة حتى إنه في بعض المجتمعات إذا حضرت المرأة حفلا بفستان وأقيم حفل آخر في نفس الأسبوع فإن من الطقوس أن تشتري فستانا آخر ؛ إذ من العيب أن تلبس نفس الفستان مرتين، فهل هذا إلا الإسراف والسفه والتكلف؟!!.
    أخيرا أيها الأحبة لنتذكر أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية وهو يعلم السر وأخفى { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)} (سورة الأنفال).وقال تعالى: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) } ( سورة غافر). وقد كان الصالحون يقولون ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية.
    وصدق زهير:
    ومهما تكنْ عند امرئٍ من خليقةٍ وإنْ خَالَها تَخْفي على الناس تُعْلَمِ
    إذا علم العبد هذه الحقيقة فإنه سيبتعد عن التصنع للمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو أي معنى من هذه المعاني، سوى التقرب إلى الله، ولنتذكر وقوفنا بين يدي الله يوم القيامة { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)} (سورة الطارق).
    اسلام ويب
                  

09-03-2015, 02:26 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    لا تكتئب
    ما زلنا نتأمل أسماء ربنا وصفاته لنحبه حبًا لا يتزعزع، تعالوا اليوم نتأمل مغفرة الله، وعفو الله، وتوبة الله على عباده.

    أحيانًا نمر بظروف صعبة فنتذكر قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، نفتش في أعمالنا فنرى أننا أخطأنا في حق الله كثيرًا، نندم حينئذ، وهذا الندم أمر مطلوب حتى يدفعنا إلى التوبة الجادة، هذا الندم ينبغي أن يكون إحساساً مؤقتاً يدفعنا فوراً إلى إصلاح أخطائنا بإيجابية وحسن ظن بالله، أنه سيعيننا ويقبل منا توبتنا، ويعطينا فرصة أخرى لتصويب أوضاعنا.

    لكن أحيانًا تسير الأمور مع الواحد منا بطريقة مختلفة، فبدلاً من هذه الإيجابية وحسن الظن بالله يتجمد عند مرحلة الندم، واجترار الذكريات وجلد الذات ومقت النفس، فتفسد نفسه وتتكدر، ويبدأ يشعر بأن هذا البلاء عقوبة محضة لا رحمة فيها, قاصمة الظهر التي ليس بعدها قائمة! لأن الله تعالى بعدما أعطاه فرصاً في الماضي فلم يستغلها قد مقته وسخط عليه ولن يعطيه فرصة أخرى!

    ثم يتسرب إليه الشعور بالجفوة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى! يحس بأن الباب قد أغلق والدعاء قد رُدَّ والشقاوة قد ضربت عليه ما امتدت به الحياة!

    أخي، أختي احذر! هذه مكيدة من الشيطان، بل هي من أخطر مكايده! فهو يجعلك تتوهم في البداية أن لوم نفسك بهذا الشكل مطلوب لأنه اعتراف بالذنب لكن الشيطان أوقفك عند مرحلة اللوم والندم وجعلك تبالغ فيها ليقودك إلى توهم شيء خطير للغاية! تتوهم قسوة القدر ومن قدره سبحانه! وفي هذه اللحظة من سوء الظن ستحس بالضياع المخيف!

    أنت عندما يشتد بلاؤك تشكو بثك وحزنك إلى الله، عندما تنقطع بك السبل وتغلق دونك الأبواب، فإنك لا تجد ملجأ ولا منجى إلا إلى الله، فإذا قنَّطك الشيطان من رحمة الله وأوهمك أن بلاءك عقوبة محضة ومقت من الله، فإلى أين تفر؟ وإلى من تلتجيء؟ وإلى من تتضرع؟ ومن ترجو؟ ستحس بالضياع المخيف وهذا ما يريده الشيطان لك! طُرِد من رحمة الله فلا يحب أن يرى مرحومين أو طامعين في رحمة الله!

    أخي، أختي: لاحظ أن الشيطان لن يأتيك من باب التشكيك في مغفرة الله هكذا مباشرة، لن يقول لك: الله ليس غفورًا رحيمًا، هذه محاولة فاشلة بوضوح، لكنه سيأتيك من باب آخر! سيقول لك: الله غفور، لكنك لا تستحق مغفرته لأنه أعطاك فرصًا في الماضي ولم تستغلها، الله تواب، لكن أنت طبيعتك سيئة غير مؤهلة للإصلاح، الله عفو لكن أنت أفشل من أن تفعل ما تستحق به عفوه.

    ماذا يريد الشيطان من هذا؟ يريد أن يوقعك في الاكتئاب! الاكتئابِ الذي يشل إرادتك عن إصلاح وضعك والعودة إلى ربك ؟ هناك مصطلحات علمية توصف بها أعراض الاكتئاب المرضي، منها الشعور العميق بالحزن وشعور مبالغ فيه بالذنب (exaggerated sense of guilt)، وانعدامِ القيمة (worthlessness)، ونقصُ الدافعية (lack of motivation)

    الشيطان يجمدك عند مرحلة الإحساس بالذنب ويجعل التفكير بالذنب يسيطر عليك بطريقة وسواسية، ويُشعرك أنك عديم القيمة غير قابل للإصلاح، غير قابل لأن تكون من عباد الله الصالحين، ليشل إرادتك للطاعة ودافعيتك للتغيير وهجر المعصية، ولتفقد السعادة والفرح بربك ومولاك سبحانه وتعالى. لا يريد لك أن تحب ربك!

    إخواني: إن الولد الذي يعاقبه أبوه يحب أباه إذا علم أن هذه عقوبة دافعُها محبة أبيه له وحرصه على مصلحته, أما إن ظن أن أباه يعاقبه بدافع الكراهية فإن قلبه سيقسو تجاه أبيه، ولله المثل الأعلى لا تسمح للشعور بأن البلاء عقوبة محضة لاتسمح له أن يغزو قلبك، بل استحضر صورة الأب الذي يفرك أذن ولده المخطئ، فإذا طأطأ الولد رأسه ضمه أبوه إلى صدره وأغدق عليه من حنانه ولله المثل الأعلى.

    فاعتصم بحبل حسن الظن بالله التواب العفو الغفور، إنه تعالى أرحم من أن يتربص بذنوب عباده المؤمنين فيبطش بهم ويخرجهم من رحمته ويحرمهم فرصة أخرى في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: «أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال : أيْ رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك».

    طبعًا لا يوحي الله تعالى إلى عبد أن أذنب وسأغفر لك.
    فمعنى الحديث أنه قد سبق في مشيئة الله أن العبد مهما عمل إن كان في كل مرة يتوب بصدق ويعزم على عدم فعل المعصية، فإن الله تواب سيبقى يتوب عليه، غفور سيغفر له، عفو سيعفو عنه وهو يعلم سبحانه أن هذا العبد التائب سيذنب في المستقبل.

    أخي: لا تقنط من رحمة الله أن يعينك على التقرب إليه والتمتع بالحظوة عنده.
    إذا جاءك الشيطان فقال لك: أنت لا تستحق رحمة الله.
    فقل: نعم، أنا لا أستحقها لكنه تعالى سيرحمني لأنه أكرم من أن يعامل عباده بما يستحقونه!
    إن قال لك الشيطان: لن يعطيك الله فرصة أخرى فقد نجاك من قبل ولم تحفظ المعروف.
    فقل: بلا، سيعطيني وينجيني، فهو العفو الغفور.

    إذا قال لك الشيطان: إن الله يبتليك عقوبة لأنه يكرهك.
    فقل له: بل يبتليني ليطهرني ويربيني.
    إذا قال لك: أنت أحط من أن تستأهل رحمة الله.
    فقل له: رحمة الله أوسع من أن تضيق عني ولا تشملني.

    عبد الله الذي يتحدث إليكم الآن! تفكر أثناء أسره في ماضيه وأيقن أنه قصر في حق الله كثيرًا، كان الله سبحانه وتعالى قد أعطاه فرصًا وابتلاه ابتلاءات أخف ليصحو من سهوته، خاصة فيما يتعلق بترتيب الأولويات في حياته وأعمال القلوب، لكن هذا العبد الضعيف عاد إلى الأخطاء ذاتها، فجاء هذا البلاء الأشد، ندم وتألم وخاف من أن هذه العقوبة ستطول وتشتد ولربما تتجاوز استطاعته وتحمله، فزاد هذا من ألمه وندمه..

    ثم شاء الله تعالى أن يقرأ صاحبكم حديثًا عظيمًا قرأه من قبل، لكنه هذه المرة جاء حبل نجاة من الله وبلسمًا لجراحه! الحديث (رواه مسلم)، وفيه أن الله عز وجل يُشفِّع بعض خلقه في إخراج أناس من النار الخير فيهم قليل جدًا، ومع ذلك رحمة الله ستشمل من هم دونهم أيضًا، فيقول الله عز وجل: «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين»، سبحان الله! يخرج ربنا سبحانه وتعالى أناسًا بعدما طهرهم بالنار ويدخلهم الجنة برحمته لا بأعمالهم.

    هز هذا الموضع من الحديث كياني وأيقظني، ونجاني من الاكتئاب الذي كان الشيطان يحاول إيقاعي فيه.
    قلت لنفسي: نعم أخطأت لكنْ أحسِب أن الله جعلني خيرًا من هؤلاء الذين أخرجهم، فإن كانت رحمة الله شملتهم فستشملني في الدنيا والآخرة، فانقذفت في قلبي دفعة كبيرة من محبة الله والاطمئنان إلى رحمته.

    إخواني وأخواتي: الله تعالى أرحم بكثير مما قد يهيئ لنا الشيطان في لحظات اليأس {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].

    الخلاصة .. : لا تدع الشيطان يوقعك في الاكتئاب، بل حول ندمك إلى قوة إيجابية للتقرب من الله التواب العفو الغفور.
    إياد قنيبي – موقع الفرقان
                  

09-03-2015, 02:28 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    حين يكون الحديث عن خليل الرحمن ومن خلال القرآن، فإنه حديث يأخذ بالألباب، ومجلسٌ كهذا لا يُراد منه الإحاطة بحديث القرآن عنه، ولكن هي إشارة إلى آيةٍ واحدة فقط، جاءت ضمن تزكية الله له بقوله: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، وهنا ينبغي لقارئ القرآن أن يطرح السؤال التالي: ما القلب السليم؟ الذي أثنى الله به على خليله إبراهيم؟
    وأقرب ما قيل في ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله حين قال: "هو الذي قد سَلِم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تُعارِض خبره، فسَلِم من عبودية ما سواه، وسَلِم من تحكيم غير رسوله، فسَلِم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله، في خوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذُّل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق"(إغاثة اللهفان: ص: [7]).
    وإبراهيم عليه السلام الذي جعله الله إمامًا كان نقيّ السريرة، سليم القلب، شهد الله له بذلك: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام الذي رأينا بعض صفاته وأفعاله وبلاءه، لا شك أنه يحمل قلبًا سليمًا خَيِّرًا.
    لم ينقل عنه أنه دعا على أحد من أعدائه، برغم الأذى الذي ناله، بل المنقول دعاؤه لهم: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم من الآية:36]، أما دعاؤه للمؤمنين فما أكثره في القرآن والسنة، ودعاؤه لأهل مكة بالبركة مشهورٌ معروف، حتى إننا نرى أثره اليوم.
    ومما يظهر سلامة قلبه عليه السلام دعاؤه لأبيه حتى تبيّن له أنه عدوٌّ لله، فلمّا تبيّن أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه.
    ومن تأمَّل سيرته وجد سلامة قلبه عليه السلام في حواراته ومناقشاته وبُعْده عن حَظِّ النَّفس، فقد كان يدرك عليه السلام ما لسلامة القلب من الأثر، بل كان ذلك همه؛ ولهذا لمّا دعا قال: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ . يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:78-98]، وكلنا نحتاج إلى ذلك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم..
    فيا معاشر الدعاة والمربّين! ربُّوا الأجيال على طهارة القلوب وسلامتها من أدوائها، من الغِل والحسد والبغي حتى على الخصوم! وأقول: بعض المنتسبين إلى الدعوة والعلم -هداهم الله- يُربُّون أجيالًا على الحقد والبغض، يُلوِّثون قلوب الناشئة ببُغض علمائهم ودعاة الإسلام الذين بين أظهرهم، فليتهم يسيرون مع إخوانهم من المسلمين بسيرة إبراهيم مع أعدائه!
    لم يُؤْثَر عنه عليه السلام أنه دعا على أحدٍ من قومه، بل تجد منه الدُّعاء بالهداية، والرغبة في استقامتهم، تجد عِفّة اللسان، تجد الحكمة.
    فانظر إلى قلبك أخا الإسلام! فأنت وحدك دون الناس من يُبصِره! قد ينظر الناس إلى هيئتِك، إلى عملك، إلى تصرّفاتك، إلى سلوكك، لكنهم لا يرون ما انطوى عليه قلبك، فانظر أنت إلى قلبك وفتشه، هل فيه غِش؟ هل فيه حِقد؟ هل فيه مرض؟ قبل أن يجيء العرض على ربك الذي لا تخفى عليه خافية {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] هناك {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10].
    واعلم أن سلامة القلب غُنمٍ لك في العاجل والآجل، ولقد رأيتُ عددًا من الناس ممن عُرِفوا بمسامحة الناس وسلامة الصدر، رأيتهم يعيشون في راحة بالٍ وسعادةٍ وهناء.
    والمقصود فتش قلبك، وانظر حالك، وحذارِ حذارِ من أن تنطوي نفسك على الحِقد والغِل والحسد وأمراض القلب وأدوائها، فإنها قد تقضي على صاحبها في الدنيا، فما بالك في الآخرة؟ ولن ينجو في الآخرة إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، أسأل الله أن يجعلني وإيَّاكم منهم.
    ناصر بن سليمان العمر – موقع المسلم
                  

09-03-2015, 02:29 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    العيدُ يوم جديد يُفيضُ على الحياة معنى جديدا لمْ يكُ حاضرا فيها منْ قبل، فالعيدُ يوم واحد يختلفُ عنْ باقي الأيام، وزمن قصير قدْ يُقضى فيه ما لا يكونُ في عمر طويل، وهذا منْ فضل الله على الناس يوم شرع لهم الأعياد وجعلها موضع اتفاق بينهم، وهي أعياد شرعية تجيءُ بعد مواسم فاضلة فيها البركاتُ والرحمات؛ فما أعظم فضل الله على عباده حين جعل توديعهم للمواسم في يومي عيد لا مثيل لهما؛ فقدْ جاءا بوحي رباني على النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ولذا اتصلا بالسماء في معانيهما الجميلة واتصفا بخير مشهود للفرد والمجتمع.

    ولأن العيد يحوي كثيرًا منْ القيم النبيلة يفرحُ به الجميع؛ فلكل واحد فيه مطلب وأمنية يسعى في تحقيقها اقتباسا منْ خيراته، غير أن أسمى المطالب ما كان خالصا لوجه الله ونافعا للكافة دون تحجير على رغبات الأفراد مادامتْ شرعية ومقبولة؛ إذْ لا يخلو فكر منْ غاية ولا تنفك نفس عنْ بُغية.

    ومن المعاني التي يأتي بها العيد: معنى اللحمة والوحدة وشعور الجسد الواحد؛ فكمْ نحنُ بحاجة للتلاحم على مستوى الأمة الكبيرة وعلى مستوى الأقطار المختلفة فما دونها، ومنْ أعظم صوره أنْ يكون المرجعُ الأعلى للتحاكم وحل الخلافات واحدا، ومنْ اللحمة أنْ لا يبخس الحاكمُ حقوق شعبه وألا يتكاسل الشعبُ عنْ أداء حقوق ولاة الأمر والأمة، ومنها فتحُ الباب والقلب والعقل لأي رأي سديد أوْ قول وجيه بلا تثريب أوْ عقاب، وألا تُظلم فئات بسبب إقليمي أوْ اجتماعي أوْ طائفي مع مراعاة أحكام الشريعة ومقتضيات المصلحة العامة، ومن أجل تعميم الحرص على وحدة الصف بمقتضى الشريعة المطهرة.

    وأي حلم لذيذ ذاك الذي يقودُ لتوحيد المجاهدين في البلدان المحتلة تحت راية شرعية واحدة ولغاية سامية مشتركة تتلخصُ في طرد المعتدي وتحكيم أمر الله، وما أجمل أنْ يصير العيدُ يوما لرأب صدع الأسر وإصلاح ذات البين وإعادة معنى السكن للحياة الزوجية المتعثرة.

    ومن معاني العيد: معنى الرحمة والرفق، وما أسعد المجتمع إذْ يتراحمُ أهلُه، فكمْ بيننا منْ فقير ومعوز لا يجدُ قوت بعض يومه ولا يعرفُ جوابا يسكتُ بكاء صغاره، وبالرحمة الفطرية لا يبقى على ظهرها فقير يتضورُ وفينا منْ يعيشُ في بحبوحة باذخة لا يمكنُ تصورها فضلا عنْ تصويرها، وفي مجتمع المسلمين أيتام فقدوا العائل بحنانه ونصحه وحدبه، ومع ما للمؤسسات المعنية منْ جهود مباركة إلا أن كفالة اليتيم ورحمته والإحسان إليه وجبر كسره فضائل نعرفُها لكننا قدْ ننساها على أرض الواقع.

    وفينا أرامل ومطلقات ينهشُ الوقتُ نضارتهن وتقتلُ أنظارُ الناس البقية الباقية منْ سعادتهن، ومع كثرة جمعيات الزواج وعظم بركتها إلا أن الالتفات لهذين الصنفين من النساء معدوم أو محدود حتى باتا نهبا لغير الجادين من الرجال في سوق التجربة وموت المروءة، وفي السجون والمعتقلات أناس حُرموا فرحة العيد وأنس القرب من الأهل؛ حيثُ تمنعُ القضبانُ البهجة من الزيارة؛ ويزحفُ اليومُ على المظلوم منهم بتثاقل كليل طويل لمْ ينجل بصبح عدل أوْ فجر شهامة.

    وليس للعيد مذاق بلا وحدة ولحمة ؟ وأي جمال لعيد بلا تسامح ورحمة ؟ ومنْ خير التلاحم ما ترعاه وسائلُ الإعلام والتوجيه؛ فهلْ ستنضجُ منابرُنا الثقافية لتعين على الاتحاد ؟ وهلْ سنرى يدا "تشتري حسن الثناء بفعالها" تعيدُ للإعلام توازنه وترحمُ مجتمعنا ممنْ يحاولُ تجريده من دينه وتبديل قيمه وتشطير أهله ؟ وهل سنعيشُ تلاحما شعبيا ورسميا في سبيل إشاعة معاني الرحمة واللحمة في المجتمع حتى لا تقوم قائمة للسوء أيا كان لبوسه؛ وحتى ننعم بثمار دعوة نبي الله إبراهيم دون إفساد مجاهر أوْ تنغيص غال أوْ غواية وسيلة أوْ غثاثة مرجف؟

    ألا يكونُ فينا رجال ونساء يحملون هم المجتمع في كل طبقاته وفئاته للإصلاح والبناء والتطوير، ولو طال الزمانُ وتطاول الباطل، فللحق دوما بعد الخفوت ظهور وبعد الذهاب أوبة، وليس بعزيز على الله أنْ يرتقي العملُ الاجتماعيُ المباركُ ليدخل كل حي وحارة وبيت حاملاً معه بذور الرحمة وجذور اللحمة لننطلق إلى أفق رحب من العمل والتصحيح.
    أحمد بن عبد المحسن العساف
                  

09-03-2015, 02:31 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الأخلاق من حيث اللغة هي جمع (خُلُق)، وهي ما يصدر عن الإنسان من أفعال أو أقوال بصورة إرادية أو غير إرادية، وهي (أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة) (أحمد) وهي تكتسب وتنمى، ولم تخل حضارة من الحضارات السابقة من الكلام عن الأخلاق، وعلاقتها بالإنسان، فالحضارة المصرية القديمة تحدثت عن الفضائل والأخلاق، وعن أهميتهما بالنسبة للفرد والمجتمع، وكذلك الحضارة الصينية واليونانية، ثم جاء الإسلام ليتمم هذا البناء الأخلاقى للإنسان، وقد كان صلى الله عليه وسلم قدوة عملية لنا في حسن خلقه وطيب سيرته، تمثل ذلك في أقواله وأفعاله، كيف لا وقد أرسله ربه رحمة للعالمين، كيف لا وقد وصفه الله بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم:4] ووصفته زوجته أم المؤمين خديجة وهي أعرف الناس به فقالت: (إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) (البخاري) وكَانَ صلى الله عليه وسلم (أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ) (البخاري) وكان يحب التواضع ويحث عليه ويقول: (مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ) (مسلم). ويقول: (وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَد،ٍ وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) (مسلم).
    ويأتي لفظ (الخلق) أو (الأخلاق) أو الصيغ التي تنبثق عنهما وصفاً لفكر الإنسان وسلوكه دون غيره من المخلوقات؛ لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذى منحه الله طاقات متميزة من الإدراك والتفكير وحرية الإرادة، لذا جاء سلوكه مرتبطاً بفكره، ومتوافقاً مع ما يدين به من اعتقاد.
    وهناك العديد من الوسائل والطرق - ذكرها العلماء – تساعد المسلم في تحسين أخلاقه، يدور مدارها على التدريب والمجاهدة، حتى تصبح هذه الأخلاق صفة من صفاته.
    وتظهر ثمرة الأخلاق الحسنة في القيم والمبادئ التي تقود الإنسان إلى السلوك الحسن والأهداف العالية، التي يتحرك بها الإنسان في تعاملاته مع أبناء مجتمعه، نحو تحقيق أسمى المعاني، وأكمل الأهداف العامة والخاصة، والتي تتمثل في جميع شؤون حياته.
    والأخلاق منها المحمود، ومنها المذموم، والمحمودة هي التي أمرنا الشارع بها، ولها صور كثيرة يصعب حصرها، منها على سبيل المثال: الرحمة، والكرم، والعفة، والصبر، ومساعدة الآخرين في قضاء حوائجهم، وغيرها، والأخلاق المذمومة هي التي نهانا الإسلام عنها، وهي تكاد تكون عكس المحمودة، ويندرج تحت كل خلق من الأخلاق بشقيها (المحمودة والمذمومة) العديد من الفروع والصفات.
    وكل خلق من الأخلاق المحمودة هو في حقيقته توسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وهما مذمومان، فكل شيء زاد عن حده ينقلب إلى ضده. فعلى سبيل المثال فإن خُلُق السخاء هو وسط بين البخل والإسراف. أما الأخلاق المذمومة فأصلها ينحصر في حب الشهوة بأنواعها التي تقود إلى الظلم والجور، وفي الجهل الذي يقود إلى الخطأ في الحكم أو التصور.
    وقد حث الإسلام على مكارم الأخلاق، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (الموطأ)، والمتمسك بالأخلاق الحسنة هو من أقرب الناس منزلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، كما جاء في الحديث: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) (الترمذي).
    ويتمثل حسن الخلق في أبسط صوره في بسط الوجه للناس، وكف الأذى عنهم، قال صلى الله عليه وسلم: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ) (الترمذي) وقال: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) (البخاري).
    وتتصف أخلاق الإسلام بالشمول، فهي تشمل كافة جوانب حياة الإنسان، فصاحب الخلق ينسجم في عبادته مع ربه، وفي تعامله مع نفسه ومع غيره، فلا يظلم نفسه، ولا يجور أو يتعدى على غيره، بل يعامل الناس جميعاً بالصدق والإنصاف، منطلقاً من القيم والمبادئ التي أمره الله بها، ولا فرق في ذلك بين تعامله مع من يحب، أو مع من يكره، قال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]، فمن العدل أن يتحلى الإنسان بالإنصاف في حكمه على أقوال الناس أو أفعالهم، سواء صدرت هذه الأعمال ممن يحب أو ممن يكره، وينبغي على المسلم كذلك أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، فيقبل من تصرفاتهم وأقوالهم ما يقبل من نفسه، ولا يبرر لنفسه من المواقف والأفعال مالا يمكنه أن يبرر لغيره. وتتصف أخلاق الإسلام كذلك بالواقعية، فالله تعالى لم يكلفنا بأكثر مما نطيق، قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة:286]. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) (مسلم). والخطأ أمر طبيعي في حياة المسلم، فـ(كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) (ابن ماجه) فمن حصل منه الخطأ أو التقصير فعليه الاستغفار والتوبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة) (البخاري)، وجاء في بعض الروايات (مئة مرة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ) (مسلم).
    وهناك صلة وثيقة بين إيمان الإنسان واعتقاده وبين سلوكه وأخلاقه، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 119] وجاء في الحديث الشريف: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع) (متفق عليه) فالعبادات ينبغي أن يكون لها آثارها الأخلاقية، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهرهم وتزكيهم، والحج لا رفث فيه ولا فسوق، ولا جدال. والأخلاق شرط لصحة المعاملات، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) [النساء:29] وفي الحديث الشريف: (من غشنا فليس منا) (مسلم). وذلك باعتبار أن الإسلام دين يسعى لتنظيم حياة الناس بعضهم مع بعض. ومما ينبغي التذكير به في هذا المقام أن التمسك بالأخلاق الإسلامية ينبغي أن يكون قولاً وفعلا، لا أن يكون مجرد تنظير، فكما هو معلوم أن هناك فرق كبير بين أن يجيد الإنسان الكلام عن التقوى أو الخشوع أو الورع، وبين أن يكون متصفاً بهذه الصفات. وفرق كبير كذلك بين من يتكلم عن أخلاق الإسلام كالصدق، وبين أن يمارسه في حياته، ومن الأمثلة على ذلك ما يتعلق برحمة اليتيم، ففرق بين من يتحدث عن رحمة اليتيم، وبين من يرحمه ويعطف عليه قولاً وفعلاً، وحول هذا المعنى يقول ابن خلدون في تاريخه: والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتصاف، وشرحه أن كثيراً من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها، ويقول بذلك ويعترف به، ويذكر مأخذه من الشريعة، وهو لو رأى يتيماً أو مسكيناً من أبناء المستضعفين لفر عنه واستنكف أن يباشره، فضلاً عن التمسح عليه للرحمة، وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنو والصدقة فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم، ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف، ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول وهو الاتصاف بالرحمة وحصول ملكتها فمتى رأى يتيماً أو مسكيناً بادر إليه ومسح عليه، والتمس الثواب في الشفقة عليه.
    وينبغي على المسلم أن يتدرب على تحسين سلوكه مع الناس كلِّهِم، لاستجلاب مودتهم ونيل محبتهم، ولتحقيق ذلك ينبغي أن يُظهر البشاشة لكلِّ أحدٍ، ويبدأ في التدرب على هذا الخلق منذ الصغر، فالصبي المميز يمكن تأديبه وتعليمه السلوك الطيب والأخلاق الحميدة، والبداية تكون في تعلم الإنصات وحسن الاستماع، وهي سبيل المخلصين الصادقين، فينبغي أن يتعلم الطفل أن مرضاة الله هي مراده منذ أيامه الأولى، وأن يتربى على أن يكون الأجر والثواب هو مطلوبه من أعماله وأقواله، وأن يحرص على كل عمل يوصله إلى مرضاة الله، ومن سنن هذا الكون التي كتبها الله على الإنسان سنة التدرج في كل شيء، ومن هنا فقد كانت التوبة هي أول درجات السلوك، ثم الدعاء بالاستقامة والثبات، ثم الشعور الدائم بالافتقار إلى الله تعالى والصدق في اللجوء إليه.
    اسلام ويب ( د. عبدالله عطا محمد عمر )
                  

09-04-2015, 01:45 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    مُثُل عليا في السلوك الإداري
    عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به"[رواه مسلم].

    كان للسلوك الإداري في العهد الأول للحكم الإسلامي أثر عظيم في إقامة الدولة على أساس متين يشد بعضه بعضا، وأهم ما كان يتميز به السهر على مصالح الأمة، ورعاية العدل بين أبنائها، والقضاء على أسباب الفساد، لا فرق بين شريف ووضيع، وسرعة البت في الأمور حتى لا يستعصى علاجها بتواليها من غير حسم، والتحرر من الأثرة وحب الذات.
    كان ذلك تطبيقا أمينا لقوله تعالي: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}((90) سورة النحل).
    وقوله: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}((8) سورة المائدة)، وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(الصف: 3))، إلى غير ذلك من النصوص التي توجب العدل والإحسان، والمساواة بين أصحاب الحقوق في القضاء والعطاء والقصاص وصدق الكلمة والوفاء بالمعهد.

    الرسول صلى الله عليه وسلم يوزع المسؤوليات علي ذويها
    الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوزع المسؤوليات على أهلها، ويحذرهم من التفريط فيها، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته"(متفق عليه)، وتراه يسوي بين الحاكم والمحكوم والشريف والوضيع في تنفيذ حدود الله.
    عن عائشة - رضي الله عنها - أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم: فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله؟!" ثم قام فاختطب، ثم قال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"(متفق عليه).

    عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصور مسؤولية الحاكم:
    قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مصوراً مسئوولية الحاكم في أمته: "إنما مثل العرب كمثل جمل أنف أتبع قائده، فلينظر قائده أين يقود؟ أما أنا فورب الكعبة لأحملكنم على الطريق والجمل، والأنف وهو الذي اشتكى من الحلقة التي أدخلت فيه لإخضاعه في القيادة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مشبهاً المؤمن به: "المؤمن كالجمل الأنف كلما قيد انقاد" وذلك للوجع الذي به، فهو ذلول منقاد.

    وهكذا كان العرب في عهده أمة مطواعة، إذا أمرت ائتمرت وإذا نهيت انتهت، لما تعلمته من الآداب الإسلامية والأخلاق النبوية، وبما تركته فيهم عملية الزجر والردع من أبي بكر -رضي الله عنه- للمرتدين ومانعي الزكاة بعد الهزة الكبرى التي أصابت المسلمين لفراق رسول الله صلي الله عليه وسلم، والمقصود من كلام الفاروق - رضي الله عنه -، أن قائد الأمة المطيعة مسؤول أعظم مسؤولية عن سلامة أمته ورخائها وطمأنينتها على مستقبلها، فعليه أن يسوسها برفق وأن يقودها إلى سبيل الأمن والعزة والكرامة، والطمأنينة على مصالحها، بما يعد لها من أسباب القوة والمنعة التي ترهب العدو وتردعه، وتضمن لها السلامة من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، ومسؤول عمن يختارهم لها من الحكام القادرين الصابرين المستيقظين الحريصين على مصالحها، الباطشين بمن يعبث بها، ولم يكتف أمير المؤمنين بذلك، بل أقسم على أن يحمل الأمة العربية على الطريق الأقوى الذي لا عوج فيه، ولا عثرات يصعب التغلب عليها، وقد بر بقسمة -رضي الله عنه- فقد قاد الأمة فأطاعته وأخلصت له، وتوسعت جيوشها في عهده في الفتوحات شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حتى اتسعت رقعة البلاد المستظلة بظل الإسلام، الناعمة بأمنه وسلامه، الناطقة بوجدانية الرحمن الرحيم، المؤمنة بشرعية القرآن السالكة منهاجه المستقيم، كذلك يفعل القائد لأمته العظيمة.

    إسناد الوظائف الإدارية:
    وهو ما يعبر عنه بـ " وضع الرجل المناسب في المكان المناسب": وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لا يسند الوظائف الإدارية، على اختلاف مستوياتها وتخصصاتها، إلا لمن تثبت قدراتهم الإدارية، وملكاتهم الذهنية وخبراتهم المكتسبة، وصفاتهم الأخلاقية حتى يتسنى لهم النهوض بما يناط بهم من الأعمال. وكان ينهى عن إسناد هذه المناصب إلى من يشك في قدرتهم من الرجال، ويروي أن رجلا سأله، متى تقوم الساعة فقال له: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر لغير أهله، فانتظر الساعة".
    كما نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ العواطف والروابط الشخصية، معياراً للاستحقاق في شغل المناصب ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "من استعمل رجلا من عصابة - أي اختار رجلا لعمل عام أو شارك في اختياره- وفيهم من هو أرضي لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين"[الجامع الصغير: ج 2 ص 278)].

    وطلب أبو ذر الغفاري من الرسول صلى الله عليه وسلم يوما أن يعينه واليا على إحدى الولايات، فوجده الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير مستوف للشروط الخاصة بهذه الولاية أو أن هناك من هو أحق منه بها فأبى عليه ذلك. وقال له: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"[رواه مسلم].
    ويقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في معيار الاختيار لشغل المناصب، أو للترقي إلى المناصب الأعلى: "الرجل وقِدَمُه، والرجل وبلاؤه"؛ كما يقول علي -رضي الله عنه-: "قيمة كل امرئ ما يحسن".

    ويري الماوردي في كتاب "أدب الوزير" أن نجاح العمل الإداري لا يتوقف على كثرة من يعهد إليهم بأدائه، بل يتوقف على صلاحية من يختار لهذا الأداء فيقول: "إن رجاء -أي نجاح- الأعمال ليس بكثرة الأعوان، ولكن بصالحي الإخوان".
    ثم يقول: "الوجه الذي يستقيم تدبير الوزير في أمرهم- يقصد عماله- من قد عرف أن له من الرأي والقوة، ما يحتاج إليه، إلى أن يقول: "اقتصر من الأعوان بحسب حاجتك إليهم، ولا تستكثر منهم لتكثر بهم، فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو ارتفاق يتشاكل به العمل، وليكن أعوانك وفق عملك، فإنه أنظم للشمل، وأجمع للعمل، وأبعث على النصح" ويطابق ذلك القول مبدأ من المبادئ في الإدارة، ويقصد به تقدير احتياجات الأجهزة الإدارية من العاملين على اختلاف تخصصاتهم ومستوياتهم الوظيفية في ضوء القياس العملي لحجم العمل في الجهاز، ومعدلات الأداء.

    ضغط الإنفاق وعدم الإسراف
    حرص الخلفاء وغيرهم من حكام المسلمين على تجنب الإسراف في الإنفاق من مال الدولة، حتى إن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، كان يحث على الكتابة بأقلام دقيقة، لتصغير المساحات التي تشغلها الكتابة، للاقتصاد فيما يستهلك من صحائف الكتابة ومن المداد، فقد كتب إلى عماله يقوله: "إذا كتبتم فأرقوا الأقلام، وأقلوا الكلام، واقتصروا على المعاني، وقاربوا بين الحروف، واكتفوا من القراطيس -أي صحائف الكتابة- بالقليل".
    وحدث أن قيل له: "ما بال هذه الطوامير -وهو نوع فسيح من صحائف الكتابة- التي تكتب بالقلم الجليل ويمد فيها وهي من بيت مال المسلمين" فكتب إلى العمال: "لا تكتبوا في طومار، ولا يمد فيه".
    وكان جعفر بن يحيي - رضي الله عنه - يقول لكتابه: "إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا".
    وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا يأخذ من بيت المال إلا قوته وقوت عياله، وكسوته وكسوتهم للشتاء والصيف، ودابتين لجهاده وحوائجه وصلاته وحجه، هذا بالنسبة لنفسه، أما عماله، فكان يرى أن الراتب حق لكل منهم، يأخذه لو كان غنيا، ثم يتصدق به إذا شاء، وكان يرزق العامل منهم بحسب حاجته، والبلد الذي يعيش فيه، وقد شرح الماوردي تقدير العطاء للجند بقوله: "إن تقدير العطاء يعتبر بالكفاية، أي بما يكفي الشخص جميع طلباته... وأن الكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه: أحدها عدد من يعول من الذراري والمماليك، والثاني عدد ما يرتبطه من الخيل والدواب، والثالث الموضع الذي يحله من حيث الغلا والرخص".

    المحاسبة على الكسب غير المشروع
    كان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على عماله، ويحاسبهم على ما جمعوه من زكاة وغيرها، وما أنفقوه، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعث واليا على صدقات الأزد، فلما جاء إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمسك بعض ما معه وقال: هذا لكم وهذا لي هدية، فقال صلي الله عليه وسلم: "ألا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا"، ثم قال: "ما لي أستعمل الرجل منكم فيقول: هذا لكم وهذا لي هدية؟ ألا جلس في بيت أمه ليهدى له؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم أحد شيئا بغير حق إلا أتى الله يحمله، فلا يأتين أحدكم ببعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر (تصيح) ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت" هذا منهاج من مناهج الحق والعدل التي سارت عليها الدولة الإسلامية في فجر نشأتها، فعز بها شأنها، وانتظم كل شيء فيها، وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يقبل من بعض عماله، دعواهم أنهم ربحوا من التجارة، وقال لهم: "إنا بعثناكم ولاة، ولم نبعثكم تجاراً".

    وعلم أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عامله على مصر كثرت أمواله ومتاعه وعبيده وخيله، ولم تكن له تلك الثروة حين ولاه مصر، فسأل عن ذلك فذكر أن ثروته من التجارة بمصر، فلم يقتنع عمر - رضي الله عنه -، وأودع ما زاد من ماله في بيت المال، ومر ببناء يبنى بحجارة وجص في المدينة فسأل: لمن هذا؟ فذكروا له أبا هريرة -رضي الله عنه- عامله على البحرين، فلما ناقشه في مصدر ثروته، قال: إن خيله تناسلت، وسهامه تلاحقت، وإنه اتجر، فقال له: "لا يحل لوال أن يتجر في سلطانه " أي في نطاق اختصاصه الوظيفي، ثم قال له: "انظر رأس مالك ورزقك أي راتبك فخذه واجعل ماعدا ذلك في بيت المال". وكذلك فعل مع عماله في ولايات أخرى.

    فمتى نعود إلي ينابيع ديننا الحنيف لنرتوي منها ونقوى بها على أعدائنا.

    الخضري عبد المنعم السيد - المختار الإسلامي
                  

09-05-2015, 00:55 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    أين زادك للرحيل
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد:
    أخي الكريم: ما أحوجنا إلى وقفة متأملة.. مع حقيقة الموت.. تلك الحقيقة المرّة التي يرحل بها الإنسان من حياة إلى أخرى.. ومن دار إلى دار.
    تلك الحقيقة التي حيّرت العقول.. وحطّمت أماني الخلود.. وأجبرت الناس على اختلاف منازلهم أن يروا الحياة محطة عابرة.. لا خلود فيها ولا قرار.
    ففريق منهم أدرك سرّ الحياة.. فآمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً ورسولاً، وعلم من دينه أن الحياة رحلة ابتلاء، يعبرها المؤمن مسافراً إلى ربه، يرجو زاداً يبلغه إليه سالماً غانماً.
    وفريق منهم أدرك تفاهة الحياة، وقصرها، واندثارها، بَيْدَ أنه ضلّ الطريق، فاتخذها قراراً، ورضي بها منزلاً، ولم يعمل لزاد رحلته حسابا! فهو في تناقض واضطراب، وتضادٍّ وعذاب.
    أخي الكريم: فمن أي الفريقين أنت؟ وهل أعددت زاداً للرحيل؟
    أنت عابر سبيل
    فرسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك أن تكون كذلك، ويقول: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " (رواه البخاري)، وابن عمر رضي الله عنهما الذي وجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
    هذه الوصية يقول: ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك ) (رواه البخاري).
    أخي: وسواء عددت نفسك من العابرين لسبيل الحياة أم عددت نفسك من المخلّدين المقيمين.. فأنت في النهاية سترحل ! وفي سائر الحالات أنت عابرها ! فمُنى الخلود.. كالظل الزائل.. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } (الأنبياء:34).
    هكذا خلق الله الحياة.. وهكذا أرادها.. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبَقَى وَجْهُ رَبِكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } (الرحمن:27،26).
    الكل وإن طالت الأعمار راحل، وبريق الدنيا مهما لمع زائل، وعمودها مهما استقام مائل.

    ألا أيها الناسي ليوم رحيله *** أراك عن الموت المفرق لاهيا
    ولا ترعوي بالظاعنين إلى البلى *** وقد تركوا الدنيا جميعاً كما هيا
    ولم يخرجوا إلا بقطن وخرقة *** وما عمروا من منزل ظل خاويا
    وهم في بطون الأرض صرعى جفاهم *** صديق وخلّ كان قبل موافيا
    وأنت غداً أو بعده في جوارهم *** وحيداً فريداً في المقابر ثاويا
    جفاك الذي قد كنت ترجو وداده *** ولم تر إنساناً بعهدك وافيا
    فكن مستعداً للحمام فإنه *** قريب ودع عنك المنى والأمانيا

    دخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: ( إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا )، قال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، قال: ( إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه ).
    فتأمل أخي في هذا الفقه النبيه إذ قال أبو ذر: ( إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه !) فالمنزل الدنيا.. وصاحبها هو الله، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاع وَإنَّ الآخرةَ هِي دَارُ الْقَرَارِ } (غافر:39)، وهل يزين عاقل محطة عبور هو يدرك أنه عن قريب سيتركها؟!.
    ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل، أمرتحل؟، فقال: لا، أطرد طرداً.
    وقال عمر بن عبد العزيز: ( إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ).
    وأحسن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها " (رواه الترمذي وأحمد).

    أخي: أنت معنيّ بالرحيل على كل حال، أيامك تسوقك إليه، وخطواتك تقبل بك عليه، وأنت في الحياة مجبور على العبور، وخاضع لموت مقدور.
    موتك فاصل بين حياة وحياة.. وليس هو نهاية المطاف.. بل هو نقلة تسير بك إلى عالم جديد.. عالم البرزخ بما فيه من هول القبر وسؤاله.. وهول البعث وأحواله.. وطول الحساب وجلاله..
    {أَفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْنَاكُم عَبَثاً وَأنكُمْ إلَينْاَ لا تُرْجَعُونَ } (المؤمنون:115).
    لأجل فهم هذه الحقيقة أخي بعث الله النبيين والرسل، كلهم اتفقوا على بيان هذه الحقيقة لقولهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاع وَإنَّ الآخِرةَ هَيَ دَارُ الْقَرَارِ } (غافر:39).
    لا تغفل فإنك لم تخلق سدى، وإذا رأيت الناس قد سخّروا فِطنَتَهم للدنيا، فاستعمل فِطْنَتك في الآخرة.. تفكر في رحيلك.. واجعل همك كل همك في معادك.. تذكر أن الموت يأتي على غرة.. وأعدّ لفجأته حساباً !
    تفكر في لحظة احتضارك.. بم قد يختم لك.. وكيف يكون وقتها حالك !
    تأمل في الناس وقد تمايلت بحملك أكتافهم.. إذ حملوك.. فأقبروك ودفنوك وودعوك.. ولم يملك لك أحدهم نفعاً ولا ضراً.. كيف ستلاقي يومها ربك؟! كيف ستدخل عالم البرزخ وحدك؟! كيف تجيب؟! وهل ستسعد وقتها أم تخيب؟!
    اعرض أعمالك وانظر ماذا قدمت.. {بَلِ الإنسانُ عَلَى نَفْسِهِ بصيِرة } (القيامة:14).

    قال ابن الجوزي رحمه الله في نصيحته لابنه: ( ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجد رأى مدة طويلة، فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج منها رأى مدة طويلة، وعلم أن اللبث في القبور طويل فإذا تفكر في يوم القيامة علم أنه خمسون ألف سنة، فإذا تفكر في اللبث في الجنة والنار علم أنه لا نهاية له، فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا فرضنا ستين سنة مثلاً فإنه يمضي منها ثلاثون سنة في النوم ونحو من خمس عشرة من الصبا، فإذا حسب الباقي كان أكثره الشهوات والمطاعم والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيراً، فبماذا تشتري الحياة الأبدية؟ وإنما الثمن هذه الساعات !! ) (لفتة الكبد لابن الجوزي:16).
    أجل أخي هي ساعات معدودات.. تحملك وتسوقك وتطوي بك مراحل الطريق.. وكلما انقضت ساعة انقضت مرحلة..

    نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأيامنا تطوى وهن مراحلُ
    ولم أر مثل الموت حقاً كأنه *** إذا ما تخطته الأماني باطلُ
    وما أقبح التفريط في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شاملُ
    ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمرك أيام وهن قلائلُ
    وكتب بعض السلف إلى أخ له: ( يا أخي يُخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكار عليك حتى يكر عليك يوم التغابن ).
    زادك في هذا الرحيل
    أخي.. يا من أيقن قلبك بطول السفر، وعلمت أنك إلى الله عائد ومحتضر، لا تناقض بأعمالك يقينك، ولا تدع الغفلة تنخره وتضعفه، حتى تنسيك زادك ومعادك.
    فإن أقواماً أنستهم الغفلة زاد الرحل فقال الله لهم عند القدوم عليه: {لَقَدْ كُنتَ فيِ غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَدِيِد } (ق:22).
    قال الفضيل بن عياض لرجل: ( كم أتت عليك؟ ) قال: ستون سنة، قال: ( فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ )، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال الفضيل: ( أتعرف تفسيره !؟ تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول، فليٌعِدّ للسؤال جواباً ). فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: ( يسيرة ). قال: ما هي؟
    قال: ( تحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي ).
    وأنت أخي أيضاً عبد لله.. وعائد إليه.. {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِح إلى رَبِكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ } (الانشقاق:6).. أحسن فيما بقي يغفر الله لك ما مضى.. ربك حليم غفور.. تواب كريم.. يحب التائبين.. ويبدل سيئاتهم حسنات.. ويعفو عن الخطايا والزلات..
    فبادر أخي.. بتوبة صادقة مع الله.. أظهر له فيها عزمك على طاعته.. وندمك إلى معصيته.. وحبك لدينه.. واسأله برحمته فإنه لا أحد أرحم منه.. وبإحسانه ونعمه.. وبين له ضعف حيلتك.. وشدة افتقارك إليه.. واعلم مهما كانت ذنوبك.. فهو يغفر الذنوب جميعاً.

    أسرع أخي بالتوبة.. فإنه زاد الرحيل الأول.. وبدونها لن تظفر بزاد. بادر قبل بغتة المنية.. وحلول الحسرة والعذاب !
    {قًل يَا عِباديَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رّحْمة الله إنَّ الله يَغْفرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأنيُبوا إلى رَبِكُمْ وَأسْلُموا لهُ مِن قَبْلِ أن يَأتَيِكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبعُوا أحْسَنَ مَا أُنزَلَ إِلَيَكُم مّن رَّبّكُم من قَبل أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أن تَقُولَ نَفْس يَا حَسْرتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ في جَنبِ الله وَإن كُنتُ لَمنَ السَّاخِرِينَ (56) أو تَقُولَ لَو أَنّ الله هَدَاني لَكُنتُ َمنَ المُتَّقِينَ (56) أوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَو أَنَّ ليِ كرّة فَأكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (الزمر:53-57).
    أخي.. الإنابة الإنابة.. قبل غلق باب الإجابة.. الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة. ما أحسن قلق التواب.. ما أحلى قدوم الغياب ! ما أجمل وقوفهم بالباب !
    أسأت ولم أحسن وجئتك تائباً *** وأنى لعبد من مواليه مهربُ
    يؤمل غفراناً فإن خاب ظنه *** فما أحد منه على الأرض أخيبُ
    أخي.. غدك قريب.. فانظر ما قدمت له.. {يَا أيُهَا الْذيِنَ آمَنُوا اتَّقُوا الله ولْتَنظُرْ نَفْس مَّا قَدَّمتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إنَّ الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
    قال ابن كثير رحمه الله: {ولتَنَظُر نَفْس مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }أي: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم.. واعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية ) (تفسير القرآن العظيم:4/365).
    قال إبراهيم التميمي رحمه الله: ( مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي أي نفس: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً. قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي ).

    واعلم أخي أن خير زادك في الرحيل هو زاد التقوى.. {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }، وهي: اسم جامع لكل ما يحبه ويرضاه من القيام بفرائضه، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه، والمسارعة إلى محابه.
    فصحح أخي مسارك.. وابذل جهدك لمعرفة حقيقة أعمالك.. أين تصرف نظراتك؟ وأين تخطو خطواتك؟ وبم تتكلم لفظاتك؟ وما هي آمالك وخطراتك؟
    يا غافل القلب عن ذكر المنيات *** عما قليل ستثوى بين أموات
    فاذكر محلك من قبل الحلول به *** وتب إلى الله من لهو ولذات
    إن الحمام له وقت إلى أجل *** فاذكر مصائب أيام وساعات
    لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها *** قد حان للموت يا ذا اللب أن يأت

    يقول ابن القيم رحمه الله: ( إن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم بل أسوأ حالاً منه، فإن العاقل يعلم وعد الله ووعيده.. لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك، ويقعده عن الاستدراك سنة القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده.. وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات.. ومخالطة أهل البطالات.. ورضي بالتشبه بأهل إضاعة الأوقات، فهو في رقاده مع النائمين.. فمتى انكشف عن قلبه سنة الغفلة بِزَجرَة من زواجر الحق في قلبه، استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن.. ورأى سرعة انقضاء الدنيا.. فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فيِ جَنبِ اللهِ }، فاستقبل بقية عمره مستدركاً بها ما فات، مُحيياً بها ما أمات، مستقبلاً بها ما تقدم له من العثرات ) (الروح لابن القيم:223).

    فاجعل أخي التقوى زادك.. واحذر الغفلة فإنها تنسيك حقيقة سفرك.. وتغريك بزخرف الدنيا وتمنيك بالإقامة الزائفة..
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

    أبو الحسن بن محمد الفقيه - دار ابن خزيمة
                  

09-05-2015, 00:57 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    عَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً" رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ، وَرَوَاهُ الحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
    وَمَعْنَى: تَغْدُوْ خِمَاصاً. تَذْهَبُ أَوَّلَ النَّهَارِ خَالِيَةً بُطُوْنُهَا مِنْ شِدَّةِ الجُوْعِ. وَتَرُوْحُ بِطَاناً. تَعُوْدُ آخِرَ النَّهَارِ مُمْتَلِئَةً بُطُوْنُهَا لِأَنَّهَا قَدْ شَبِعَتْ.
    قَالَ الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبَ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ جَامِعِ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ: هَذَا الحَدِيْثُ أَصْلٌ فِي التَّوَكُّلِ ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الأُمُوْرِ الَّتِيْ يُسْتَجْلَبُ بِهَا الرِّزْقُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا 2 وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا}(٣ الطَّلَاقِ).

    رَوَى الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيْرِهِ (جَامِعُ البَيَانِ عَنْ تَأْوِيْلِ آيِ القُرْآنِ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَكْبَرَ آيَةٍ فِي القُرْآنِ تَفْوِيْضاً: {وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُه}. وَمِنْ هُنَا يُسْتَشَفُّ مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَتُعْرَفُ حَقِيْقَتُهُ.

    فَمَعْنَاهُ صِدْقُ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَفْوِيْضِ الأَمْرِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ مُدَبِّرُ الأَمْرِ، وَلَهُ الخَلْقُ، وَهُوَ العَلِيْمُ: {أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ}(المُلْكِ:14).
    وَقَالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيْرِهِ: التَّوَكُّلُ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ مَعَ إِظْهَارِ العَجْزِ. انْتَهَى.

    فَالعَبْدُ مَهْمَا أُوْتِيَ مِنْ قُوَّةٍ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ وَمُحْتَاجٌ إِلَى الغَنِيِّ الحَمِيْدِ الَّذِيْ خَلَقَهُ: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ}(فَاِطر:15}. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الإِمَامِ سَهْلِ بن عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ حَيْثُ وَضَّحَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ بِقَوْلِهِ: "التَّوَكُّلُ أَنْ يَكُوْنَ العَبْدُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الغَاسِلِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يُرِيْدُ". رَوَاهُ الإِمَامُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شُعَبِ الإِيْمَانِ.

    فهَذِهِ غَايَةُ التَّسْلِيْمِ المُطْلَقِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا مِنَ الإِيْمَانِ بِهِ، وَالعَبْدُ بِهَذَا يَجْلِبُ لِنَفْسِهِ مَحَبَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} ١٥٩ آلَ عِمْرَانَ. وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِيْنَ: {وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (١٢٢ آلَ عِمْرَانَ).

    وَلِبَيَانِ مَكَانَةِ هَذِهِ العِبَادَةِ العَظِيْمَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيْرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ المَجِيْدِ، فَهِيَ حَالُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَهَذَا نُوْحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: {وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} ٧١ يُوْنُسَ.

    قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: وَإِنَّمَا خَصَّ نُوْحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا المَقَامَ بِالتَّوَكُّلِ مَعَ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ فِي جَمِيْعِ أَحْوَالِهِ لِيُبَيِّنَ لِقَوْمِهِ أَنَّ اللَّهَ كَافِيْهِ أَمْرَهُمْ، فَهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا هُمْ وَشُرَكَاؤُهُمْ عَلَى أَذَاهُ فَلَنْ يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ؛ فَاللَّهُ حَامِيْهِ. وَهَذَا مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالتَّوَكُّلِ، وَقَدْ نَالُوا مَا نَالُوا مِنَ الأَذَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُوْدِهِ: {وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِين . فَقَالُواْ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَا رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحۡمَتِكَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِين} (سورة يُوْنُسَ). وَهَذَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ المُتَوَكِّلِيْنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {ٱ لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ ١٧٣ فَٱنقَلَبُواْ بِنِعۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٖ لَّمۡ يَمۡسَسۡهُمۡ سُوٓءٞ وَٱتَّبَعُواْ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَظِيمٍ} (آلَ عِمْرَانَ:١٧٤). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيْحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ. قَالَهَا إِبْرَاهِيْمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِيْنَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيْمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ}.

    وَلَا يَتَعَارَضُ التَّوَكُّلُ مَعَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ، وَفِي الحَدِيْثِ إِشَارَةٌ لِهَذَا؛ فَالطَّيْرُ الجَائِعَةُ تَبْحَثُ عَنْ مَا يَسُدُّ رَمَقَهَا فَتَجِدُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهَا، فَالعَالِمُ لَا يَكُوْنُ عَالِماً إِلَّا إِذَا جَلَسَ مَعَ العُلَمَاءِ وَنَظَرَ فِي الكُتُبِ، وَالمَحْظُوْرُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الأَسْبَابِ، أَمَّا الأَخْذُ بِهَا مَعَ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِيَدِهِ الرِّزْقُ فَهَذَا هُوَ المَطْلُوْبُ، وَهُوَ الَّذِيْ حَثَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ، أَمَّا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ بِالتَوَّكُّلِ دُوْنَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ فَمَمْنُوْعٌ، وَهُوَ التَّوَاكُلُ، وَهُوَ لَا يُجْزِئُ، كَمَا أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالإِيْمَانِ دُوْنَ العَمَلِ لَا يُجْزِئُ. ذَكَرَ الإِمَامُ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شُعَبِ الإِيْمَانِ أَنَّ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِأَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ المُتَوَكِّلُوْنَ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمُ المُتَّكِلُوْنَ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالمُتَوَكِّلِيْنَ؟ رَجُلٌ أَلْقَى حَبَّةً فِي الأَرْضِ ثُمَّ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّوْنَ وَلَا يَتَزَوَّدُوْنَ، وَيَقُوْلُوْنَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُوْنَ. فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ}(البَقَرَةِ:١٩٧). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
    وَقَالَ الإِمَامُ سَعِيْدُ بن جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّوَكُّلُ جِمَاعُ الإِيْمَانِ. وَقَالَ الإِمَامُ التُّسْتَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الطَّعْنُ فِي الحَرَكَةِ (يَعْنِيْ السَّعْيَ) طَعْنٌ فِي السُّنَّةِ، وَالطَّعْنُ فِي التَّوَكُّلِ طَعْنٌ فِي الإِيْمَانِ؛ فَالتَّوَكُّلُ إِيْمَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالحَرَكَةُ سُنَّتُهُ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ.

    وَلْيُعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى نَصْرِنَا عَلَى أَعْدَائِنَا مِنْ دُوْنِ مُقَدِّمَاتٍ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الأَمْرَ فَقَالَ تَعَالَى: {ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖ}(مُحَمَّدٍ:3).
    فَالنَّصْرُ لَهُ أَسْبَابٌ وَكَذَلِكَ الهَزِيْمَةُ، فَمِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ بَعْدَ الِالْتِزَامِ بِشَرْعِ اللَّهِ القِتَالُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، فَيَا مَنْ تُجَاهِدُوْنَ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ فِي كل مكان تَوَكَّلُوا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ النَّصْرُ: {وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ}(الأَنْفَالِ:10).

    وَمَنْ أَرَادَ الرِّزْقَ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى الرَّزَّاقِ، وَقَدْ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِيْ ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ} ثُمَّ قَالَ:"يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ" رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَرَوَاهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ الإِمَامُ شِهَابُ الدِّيْنِ البُوْصِيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ فِي زَوَائِدِ ابْنِ مَاجَهْ: هَذَا إِسْنَادٌ رجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ؛ أَبُوْ السَّلِيْلِ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا ذَرٍّ، قَالَهُ فِي التَّهْذِيْبِ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهَذَا الحَدِيْثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيْفاً لِهَذِهِ العِلَّةِ إِلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ هُنَا ؛ فَقَدِ اسْتَشْهَدَ الأَئِمَّةُ العُلَمَاءُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ كَمَا بَيَّنَ العُلَمَاءُ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهِ أَئِمَّةٌ كِبَارٌ مِنْ جَهَابِذَةِ عِلْمِ الحَدِيْثِ، كَالإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ رَوَاهُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الفَتَاوَى.

    اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ المُتَوَكِّلِيْنَ عَلَيْكَ حَقَّ التَّوَكُّلِ، وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَنْ مَنْ سِوَاكَ، وَانْصُرِ المُجَاهِدِيْنَ فِي سَبِيْلِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
    أَحْمَدَ بن نَوَّافٍ المِجْلَادِ القَطَرِيِّ الضَّرِيْرِ
                  

09-05-2015, 00:59 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    هي إطلالة على البيت النبوي، ذلك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيرًا، إطلالة من كوّة فتحتها أمّنا عائشة رضي الله عنها حينما توارد عليها السؤال من عدد من التابعين: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته إذا كان عندك؟" إنه تساؤل عن هذه الشخصية العامة كيف تكون في هذه الحالة الخاصة، كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعيش خارج بيته متصديًا لقضايا الأمة، متحمّلاً لأعبائها، فإذا دخل بيته، وأغلق بابه وخلا بأهله فكيف يكون؟ وماذا يصنع؟

    ولقد تلقّت عائشة رضي الله عنها السؤال بحفاوة واهتمام، وأشرعت نافذة على بيت النبوة؛ لنرى منها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة الخاصة في بيته ومع أهله، فإذا هي تصفه بهذا الوصف الوجيز البليغ.

    قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم إلاّ أنه كان ضحّاكًا بسّامًا، وما كان إلاّ بشرًا من البشر، كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، فإذا أحضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، ولا رأيته ضرب بيده امرأة ولا خادمًا".

    إنها باقة معطرة من الصفات النبوية أحسنت أمُّنا عائشة رضي الله عنها وصفها في هذه الجمل الوجيزة بهذا البيان البليغ، وبقي أن نفتح أبصار البصائر على معانٍ عظام.

    1- "ما كان إلاّ بشرًا من البشر" لا أحسب أن عائشة كانت تقرر بشريّة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس ملكًا بل بشرًا رسولاً، ولكنها كانت تقرر معنى أخص من ذلك، وهو بشريّته في التعامل الأسري بحيث إنه صلى الله عليه وسلم يدخل بيته ليس على أنه القائد أو الزعيم أو الإمام، ولكن على أنه الزوج ليعيش حياة السكن الزوجي مع أهله، لتجتمع معاني العظمة المحمدية في عظمة التعامل الزوجي، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعيش في بيته سمته الذي يلقى به الناس، ولكن يعيش بساطة الحياة الأسرية وعفويتها، فلا ترى فيه زوجه إلاّ الزوج الوادّ الرحيم، وهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وإمام البشرية، والعظيم لا تمتلئ الأعين من النظر إليه مهابة وإجلالاً، ولكنه يعيش في بيته ومع أهله زوجاً أولاً.

    كم ننسى هذا المعنى النبوي العظيم حينما نصطحب معنا إلى بيوتنا المعاني والألقاب الخارجية؛ ليعيش أحدنا في بيته على أنه صاحب السعادة أو الفضيلة، مع أن هذه ألقاب تخلع عند الباب ليعود، ومن كان كذلك بشراً من البشر.

    2- "كان يكون في مهنة أهله" يثب إلى ذهني سؤال ثاقب يقول: وهل كانت أمُّنا عائشة تشكو كثرة العمل ومشتتة حتى يكون عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها معونتها وخدمتها؟ أما كانت حجرتها متقاربة الجدر صغيرة، المساحة، بحيث لم يتجاوز طولها عشرة أذرع، وعرضها سبعة أذرع (5 أمتار* 3.5) وأما العمل فيها فقد كانت تنقضي الشهران بتمامها وما أوقد فيها نار لطعام يُصنع، فهل ثمة عمل يحتاج إلى جهد، فضلاً عن أن يحتاج إلى معونة بحيث يكون النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مشغولاً بمهنة أهله؟

    إن الجواب عن هذا التساؤل: أن نبيك صلى الله عليه وسلم ما كان يصنع ما يصنع لكثرة الشغل وجهد العمل، ولكن هناك معنى أعمق، وهو المواساة والإشعار بالمشاركة التامة في الحياة الزوجية ، وتحقيق أحد معاني السكن إلى الزوجة {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم من الآية:21]، ولم يقل لتسكنوا معها.

    إن هذه الأعمال اليسيرة في المنـزل تصل إلى قلب الزوجة مشفوعة بمذكرة تفسيرية تضج بمعاني الحب والمودة والرحمة، وتشعر الزوجة بالدنو القريب إلى زوجها، والامتزاج الروحي والعاطفي، كون الرجل في مهنة أهله، وأي عمل وعلى أي صفة رسالة حياة تقول: هويتنا جميعاً كما هي حياتنا جميعاً، وإن معاني الالتحام الزوجي تنسجها هذه اللمسات المعبرة، فيكبر في عين زوجته بقدر تواضعه، ويعظم في نفسها بقدر بساطته.

    3- إننا نطل من هذه النافذة على البيت، فنراه صغيراً في مساحته، بسيطاً في متاعه، ولكن الخلق النبوي العظيم جعله وعاءً كبيراً مترعاً بالأنس والبهجة، ترنّ فيه الضحكات، وتشرق البسمات، ويتدفق ينبوعاً غامراً من السعادة والإبهاج "كان رجلاً من رجالكم إلاّ أنه كان ضحّاكاً بسّاماً".

    ليس في بيت النبوة التواقر المتكلّف، ولا التزمّت المقيت، ولا تجهّم العبوس، ولكنه حبور الضحك وإيناس التبسم، ومتعة الحياة الطيبة التي تملأ البيت حبرة وسروراً، حتى كأنما يعيش أهله في زاوية من الجنة .

    4- إن هذا الفن الراقي في التعامل الزوجي، والمبادرة من الزوج إلى المشاركة المعبرة والأنس المبهج سوف يجعله يحتل المساحة الأكبر من قلب زوجته ووجدانها. إن هذا التعامل الرفيع يجعل لحضوره فرحة وأنساً، ولغيابه وحشة وفقداً، وسيكون من المرأة بمكان.

    إن على الذين يشتكون برودة الحياة الزوجية وجفافها أن يتعلموا من هذا الدرس النبوي: أن الدماء تتدفق حارة في حياتهم بمثل هذه اللمسات الساحرة، حينها لن يبقى في قلب المرأة ووجدانها مساحة شاغرة؛ فقد ملأ ذلك كله زوج أشعرها بالمشاركة الحقيقية في الحياة، ولوّن يومها بالبسمات.

    5- يبهرنا هذا التوازن في الحياة النبوية فقد كان -صلى الله عليه وسلم مع الناس أكثرهم تبسماً، وفي بيته أيضاً ضحوكاً بسّاماً، وكان مع الناس كالريح المرسلة بالخير، وفي بيته في مهنة أهله، وكان خير الناس للناس، وخيرهم لأهله.

    إن هذا التوازن يفتقد عند أناس يبذلون المجاملات الرقيقة بسخاء في تعاملهم العام، ولكنهم يخزنون عبوس وجوههم وقترة نفوسهم لزوجاتهم، فلا يرين إلا قتامة التجهم، وملالة التضجر، مع أنهم أولى الناس ببشره وحسن خلقه، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد وسع الناس بحسن خلقه، وكان أهل بيته أسعد الناس بهذا الخلق.
    عبد الوهاب الطريري – طريق الإسلام
                  

09-05-2015, 01:01 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    للعبادة أثر كبير في بناء الشباب جسمانياً ونفسياً وأخلاقياً واجتماعياً , فهي تدريب عملي على الإخلاص والإتقان والإجادة والتميز , فالعبادة شعور دائم بوجود الله وإيقاظ مستمر للضمير والوجدان ,وللعبادة آثار وقائية، وأخرى علاجية؛ تتمثّل في إنقاذ المتعبِّد من التعقيد واليأس والشعور بالذنب وتفاهة الذات، لأن وقوف الإنسان بين يدي الله تعالى، واسـتمرار العلاقة به؛ يشـعره بقربه من مالك الوجود، وحبِّه له، وعطفه عليه، كما يشعره بقيمته الإنسانية، وعلو قدره.
    فالصلاة التي هي أهم الأركان في الإسلام بعد توحيد الله تعالى نجد أنها من أعظم وسائل تزكية النفوس، قال تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)} (العنكبوت) .
    وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ:كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ ، قَالَ : وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ ، قَالَ : وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا ، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ ، قَالَ : "أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ ، أَوْ قَالَ : حَدَّكَ".(أخرجه البُخَارِي ومسلم).
    فكأن حقيقة الصلاة أنها تزكية للنفس وتطهير لها من الأخلاق الرديئة والصفات السيئة, لذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتخذ من العبادات فرصة للتدريب على السلوكيات الطيبة , فلقد كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن تكون صفوف الصلاة منتظمة وأن يقف المسلمون في الصلاة متكاتفين متساوين وأن يلين كل واحد لأخيه ولا يتركوا بينهم فرجة للشيطان , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَقِيمُوا الصُّفُوفَ فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ وَلاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ". (أخرجه أحمد وغيره).
    وطبيعي أن ذلك التدريب على النظام والتلاحم والتواصل لا يكون داخل الصلاة أو داخل المسجد وفقط بل لا بد أن يمتد أثره خارج الصلاة وفي العلاقات والمعاملات .

    عن عبد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن قول الله عز وجل (الذين هم في صلاتهم خاشعون) قال الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمرء المسلم وأن لا تلتفت في صلاتك.
    وهنالك آثار نفسية عظيمة للصلاة، فعندما يتم المؤمن خشوع الصلاة فإن ذلك يساعده على التأمل والتركيز والذي هو أهم طريقة لمعالجة التوتر والإرهاق العصبي. كذلك الصلاة علاج ناجع للغضب والتسرع والتهور فهي تعلم الإنسان كيف يكون هادئاً وخاشعاً وخاضعاً لله عز وجل وتعلمه الصبر والتواضع. هذه الأشياء تؤثر بشكل جيد على الجملة العصبية وعلى عمل القلب وتنظيم ضرباته وتدفق الدم خلاله.(عبد الدائم الكحيل : روائع الإعجاز النفسي في القرآن والسنة 47).
    لذا فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم الآباء على تعويد وتدريب أبناءهم الصغار على الصلاة , والحزم معهم إذا كبروا في هذا الأمر , عَنْ شُعَيْبٍ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ" (أخرجه أحمد وأبو داود).
    كان الحسن البصري يقول : يقول يا ابن آدم أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك و أنت أول ما تسأل عنها يوم القيامة.
    و قال حاتم الأصم : فاتتني مرة صلاة الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده و لو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف إنسان لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا ! .
    لا يُصنع الأبطال إلا *** في مساجدنا الفساح
    في روضة القرآن في *** ظل الأحاديث الصحاح
    شعب بغير عقيدة *** ورق يذريه الرياح
    من خان حي على الصلاة * * * يخون حي على الكفاح
    والصيام غايته العظمى تحقيق التقوى كما قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ((183) سورة البقرة).
    ولا تتم التقوى عند العبد إلا إذا حسن خلقه مع خلق الله تعالى ، ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الوصية بالتقوى والوصية بحسن الخلق , فعنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ". (أخرجه أحمد وغيره) .
    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الصِّيَامُ جُنَّةٌ ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا ، فَلاَ يَرْفُثْ ، وَلاَ يَجْهَلْ ، فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ ، فَلْيَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ ، إِنِّي صَائِمٌ". (البُخاري ومسلم) .
    فللصيام قدرة فائقة على علاج الاضطرابات النفسية القوية مثل الفصام!! حيث يقدم الصوم للدماغ وخلايا المخ استراحة جيدة، وبنفس الوقت يقوم بتطهير خلايا الجسم من السموم، وهذا ينعكس إيجابياً على استقرار الوضع النفسي لدى الصائم.
    حتى إننا نجد أن كثيراً من علماء النفس يعالجون مرضاهم النفسيين بالصيام فقط وقد حصلوا على نتائج مبهرة وناجحة! ولذلك يعتبر الصوم هو الدواء الناجع لكثير من الأمراض النفسية المزمنة مثل مرض الفصام والاكتئاب والقلق والإحباط. (عبد الدائم الكحيل : روائع الإعجاز النفسي في القرآن والسنة 56).

    والزكاة كذلك هي عبادة وفريضة وهي أيضا وسيلة من أعظم وسائل تطهير النفس من البخل والشح والأنانية، وزرع معاني الفضيلة والألفة والرحمة والشفقة، ولهذا قال الله عز وجل:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ((103)التوبة).
    لذا فإن الصدقة لا تقبل إذا صحبها وتبعها من وأذى ومعايرة , قال تعالى : {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} (سورة البقرة).
    أما الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام فإننا نرى له أثرا عجيبا في إصلاح الأخلاق وتهذيب السلوك كيف لا والله عز وجل يقول: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} (سورة البقرة).
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ حَتَّى يَرْجِعَ ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". (أحمد والبُخاري).
    ولو أن المسلمين استلهموا هذه الروح واستشعروا هذه الغاية من عباداتهم في كل أحوالهم لتحسنت الأخلاق كثيرا ولنعم المجتمع المسلم بعلاقات ملؤها الحب والمودة والرحمة ولابتعدوا عن سفاسف الأخلاق ومذمومها .
    إذ أن العبادة تعمل دائماً على تطهير الذات الإنسانية من كل تلك المعوقات، وتساهم بإنقاذها من مختلف الأمراض النفسية والأخلاقية، وتسعى لأن يكون المحتوى الداخلي مطابقاً للمظهر والسلوك الخارجي، لإزالة التناقض والتوتر الداخلي، ولتحقيق انسجام كامل بين الشخصية، وبين القيم والمبادئ الحياتية السامية.
    كما تعمل على غرس حبّ الكمال والتسامي الّذي يدفع الإنسان إلى التعالي، وتوجيه نظره إلى المثل الأعلى المتحقق في الكمالات الإلهية، والقيم الروحية السامية .
    فالإنسان عندما يتعبّد إنّما يعبِّر عن حقيقة الموقف الإنساني أمام بارئه، وعلاقة الإنسانية به، ليعيش الإنسانية كلّها متمثلة في إنسانيته المتوجهة إلى بارئها.
    ولقد ربط الله تعالى في كتابه الكريم ربطاً وثيقاً متلازماً بين الإيمان قولاً والإيمان تطبيقاً وعملاً , قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} (سورة البقرة).
    فالعبادة لا تكون وسيلة للتربية إلا إذا ارتبطت بالسلوك والخلق , قال تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (سورة البقرة).
    وقال تعالى : {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} (سورة العصر).
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا ، قَالَ : "هِيَ فِي النَّارِ" ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا ، وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ باِلأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : "هِيَ فِي الْجَنَّةِ". (أخرجه أحمد والبُخاري في الأدب المفرد).
    ولقد عرف الرسول الإفلاس الحقيقي بأنه ليس إفلاس المال والمادة بل هو إفلاس الخلق والتصرف , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، قَالَ : "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَيَامٍ وَصَلاَةٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ". (أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما).
    وقال الإمام علي رضي الله عنه : ليست الصلاة قيامك وقعودك ، إنما الصلاة إخلاصك ، وأن تريد بها الله وحده.
    لذا فقد طبق السلف الصالح هذه المفاهيم في تربيتهم لأولادهم , فقد ربوهم على تطبيق العبادات وتحويلها إلى سلوك وتقوى وإخلاص وإتقان , فهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد فرغ من دفن سليمان بن عبد الملك الخليفة الذي كان قبله، وانتهى من الخطبة التي افتتح بها حكمه بعد أن بايعه الناس، ينزل عن المنبر ويتجه إلى بيته، ويأوي إلى حجرته يبتغي أن يصيب ساعة من الراحة بعد هذا الجهد، وذلك العناء اللذين كان فيهما منذ وفاة الخليفة سليمان بن عبد الملك. وما يكاد يسلم جنبه إلى مضجعه حتى يقبل عليه ولده عبد الملك - وكان يومئذ يتجه نحو السابعة عشرة من عمره - ويقول له: ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بني، أريد أن أغفو قليلا، فلم تبق في جسدي طاقة، فقال: أتغفو قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: أي بني، إني قد سهرت البارحة في عمك سليمان، وإني إذا حان الظهر صليت في الناس، ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله، فقال: ومن لك يا أمير المؤمنين بأن تعيش إلى الظهر؟ فألهبت هذه الكلمة عزيمة عمر، وأطارت النوم من عينيه وبعثت القوة والعزم في جسده المتعب، وقال: ادن مني أي بني، فدنا منه، فضمه إليه، وقبل ما بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي، من يعينني على ديني، ثم قام، وأمر أن ينادي في الناس: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها.
    يقول الشاعر:
    إن الغصون إذا قوَّمْتَها اعتدلت * * *ولا يلين إذا قوَّمْتَه الخشبُ
    وكما قال صالح بن عبد القدوس:
    وإن من أدبته في الصبا * * * كالعود يسقى الماء في غرسه
    حتى تراه ناظراً مورقا * * * بعد الذي قد كان من يبسه
    فعلينا أن نربي الشباب على حسن إتقان العبادة لأنها الطريق الموصلة إلى حسن إتقان العمل وإلى طيب التخلق بالخلق الفاضل الكريم.
    د. بدر عبد الحميد هميسه
                  

09-05-2015, 01:03 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    تعظيم الله تعالى
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
    فإن الله تعالى لم يخلق الخلق ولم يرسل الرسل ولم ينزل الكتب إلا من أجل تحقيق أسمى الغايات ألا وهي عبادته سبحانه وتحكيم شرعه ، ولا يمكن أن تصل العبادة إلى أعلى كمالها إلا بتعظيم المعبود ؛ فقد ذكر المناوي في تعريف العبادة أنها فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه . وقيل أي العبادة هي تعظيم الله وامتثال أوامره. فمن هذا التعريف تتضح أهمية تعظيم الله ، وأنها العبادة التي خلقنا الله لتحقيقها .

    ولقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة في بيان فضل تعظيم الله ؛ فمنها قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ( الفاتحة : 5 ) ، قال القرطبي رحمه الله : ثم الآية الرابعة جعلها الله بينه وبين عبده ؛ لأنها تضمنت تذلل العبد لربه وطلب الاستعانة منه ؛ وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى.
    ومنها قوله تعالى في معرض ذكر صفات عباده المؤمنين : { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } ( الرعد : 22 ) ، قال ابن جرير الطبري رحمه الله : ابتغاء وجه ربهم أي طلب تعظيم الله وتنزيهاً له أن يخالف في أمره أو يأتي أمراً كره إتيانه فيعصيه به.
    ومنها قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام مع قومه : { مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } ( نوح : 13 ) ، قال أبو السعود : أي ما لكم لا تؤملون له تعالى توقيراً أي تعظيماً لمن عبده وأطاعه.
    ومنها قوله تعالى لما ذكر قصة أصحاب الجنة : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } ( القلم : 28 ) ، قال الثعالبي : قيل هي عبارة عن تعظيم الله والعمل بطاعته سبحانه.

    ومنها حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه حيث قال : أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابي ، فقال : يا رسول الله ! جُهدت الأنفس ، وضاعت العيال ، ونُهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ؛ فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويحك أتدري ما تقول ؟ » ، وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : "ويحك إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك .. ".(رواه أبو داوود وضعفه الألباني)؛ فالأعرابي لما قال : ( فإنا نستشفع بالله عليك ) جعل الله في مقام الشافع عند رسوله ، وهذا تنقيص من قدره جل وعلا ؛ ولهذا سبَّح الرسول صلى الله عليه وسلم ونبَّه الأعرابي إلى هذا الخطأ الفادح لما قال :« ويحك ! أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك » إلى آخر الحديث .
    ولكي نتصور أخي الكريم حقيقة التعظيم فإن علينا أن نتفكر في هذا المثال : انظر إلى حال رفقاء الملوك والأمراء والرؤساء إلا من رحم الله تجد أحدهم لا يستطيع أن يرد لهذا الملك أو لهذا الرئيس أمراً ولا أن يرتكب نهياً حتى وإن كان هذا الأمر والنهي يضره في بدنه أو ماله أو أهله ، وعندما نسأله عن سر هذه الطاعة العمياء نجد أن تعظيمه لهذا الرئيس هو السبب الحقيقي لهذه الطاعة .

    إذاً فالتعظيم يولِّد في النفس الخوف من المعظَّم . ولهذا ما فتئ علماء الأمة يجتهدون في تذكير الناس بمسألة تعظيم الله ؛ فها هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يصنف كتاب التوحيد ، ويقرر فيه مسائل العقيدة ثم يختم كتابه بأبواب عديدة كلها تتعلق بتعظيم الله ، مثل : باب فيمن لم يقنع بالحلف بالله باب التسمي بقاضي القضاة باب احترام أسماء الله باب لا يرد من سأل بالله باب قوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ( الزمر : 67 ) . وهذا آخر باب ذكره الشيخ في كتابه القيم .
    لكن هل نحن معظمون لله أم لا ؟ للإجابة عن هذا التساؤل لا بد أن ننظر إلى حالنا عند الإقدام على فعل طاعة من الطاعات : هل نؤديها رغبة ورهبة ، خوفاً وطمعاً ؟ أم أن الطاعة أصبحت عادة من العادات نعملها كل يوم دون استشعار الهدف من أدائها ؟ وهل المرأة حين تلبس الحجاب الشرعي تلبسه لأنه شرعٌ من الله أم أنه تراث وتقاليد ؟ كذلك ننظر إلى حالنا عند فعل المعصية : هل نحس كأننا تحت جبل يكاد أن يسقط علينا أم كذبابة وقعت على أنف أحدنا فقال بها هكذا ؟ كذلك لننظر إلى حالنا أثناء أداء الصلاة والقيام لرب العالمين هل نستشعر عظمة من نقابله فنخشع في صلاتنا أم تشغلنا الأفكار والهواجس ؟ وهل إذا قابلنا ملكاً من ملوك الدنيا صنعنا عنده مثل ما نصنع في صلاتنا ؟ إذا أجبنا عن هذه التساؤلات بكل تجرد فسنعرف يقيناً هل نحن معظمون لله أم لا ؟أخي الكريم ! لنتأمل حال أولئك المعظمين لله تعالى عند قيامهم للصلاة ، فقد قال مجاهد رحمه الله : كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء ، أو أن يلتفت أو يقلب الحصى ، أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته ، وكان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع ، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه ، وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه فقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر . وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه ، فقيل له : ما لك ؟ فقال : جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها .

    وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خدَّيه على لحيته . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه ... وهذا غيض من فيض من أخبار وأحوال أولئك المعظمين لله ، اللهم كما رزقتهم تعظيمك فارزقنا إياه يا سميع الدعاء .

    بل إن من العجيب أن كفار قريش كان في قلوبهم شيءٌ من تعظيم الله ، وإليك بعض الشواهد على ذلك :

    1 - قصة عتبة بن ربيعة حينما قرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فواتح سورة فصلت فلما بلغ قوله تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } ( فصلت : 13 ) ، وضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله والرحم ليسكتن.
    2 - قصة جبير بن مطعم أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ } ( الطور : 35-37 ) كاد قلبي أن يطير .
    3 - كان الرسول صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وحوله صناديد قريش فقرأ عليهم سورة النجم فلما وصل إلى السجدة في آخر السورة سجد فسجدوا معه.

    فهذه الشواهد تدل على أن كفار قريش رغم كفرهم وإشراكهم كان في قلوبهم شيء من تعظيم الله . قال شيخ الإسلام : « والمشركون ما كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه ولكن كانوا يعبدون معه آلهةً أخرى ».
    أخي الكريم ! إن عدم تعظيم الله في القلوب سيُسأل عنه كل فرد منا ؛ فلا بد من المحاسبة والمراجعة وتقويم النفس والنظر في علاقتنا بربنا جل وعلا .

    ولعل من أعظم أسباب عدم تعظيم الله ما يلي :
    1 - الوقوع في المعاصي ، وهذه هي المعضلة ، وهي السبب في كل بلاء ومحنة وبعد عن الله تعالى . قال ابن القيم رحمه الله : « وكفى بالعاصي عقوبةً أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته ، ويهون عليه حقه ، ومن بعض عقوبة هذا أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم ويستخفُّون به كما هان عليه أمره واستخف به » ، وقال بشر بن الحارث : لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله .
    2 - التساهل في أوامر الله ؛ فتجد كثيراً من الناس لا يؤدون العبادات على الوجه المطلوب ؛ فلو كانوا يعظمون الله حق التعظيم لعظموا أمره كذلك .
    3 - عدم تدبر القرآن حال قراءته ، وعدم الوقوف عند وعده ووعيده ، وأصبح همُّ القارئ آخر السورة فحسب دون اعتبار للهدف الذي أُنزل من أجله القرآن . قال تعالى { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( ص: (29 .
    4 - الغفلة عن ذكر الله فتجد أحدنا في المستشفيات أو في إحدى الدوائر الحكومية جالساً على كرسي الانتظار زمناً طويلاً وهو لا يذكر الله ولا يسبحه ولا يكبره ؛ حتى وإن سبح وكبر فهو لا يعي معنى هذا التسبيح وهذا التكبير ، وهذه مشكلة لا بد أن نعالجها في نفوسنا .
    5 - النظر فيما حرم الله تعالى ؛ فالنظر الحرام يولد في القلب القسوة والجفاء ، وهذا لا يتأتى مع التعظيم ؛ لأن التعظيم لا يكون إلا من قلب خاضع خاشع لين مقبل على الله بكليته .
    ولهذا فلا عجب أن يكون السلف الصالح رضوان الله عليهم من أشد الناس تعظيماً لله ؛ لأنهم أحرص الناس على طاعته وأبعدهم عن معصيته . قال القنوجي : وهم أي السلف الصالح أشد تعظيماً لله وتنزيهاً له عما لا يليق بحاله . وقال ابن منده في كتاب الإيمان : والعباد يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب والإجلال له ، والمراقبة لله في السر والعلانية .

    أخي الكريم ! وبعد هذا كله فحريٌ بنا أن نتطرق إلى الأمور المعينة على تعظيم الله وهي كثيرة ولله الحمد ؛ ولكن قبل أن نذكرها ننبه إلى نقطة مهمة وهي أن المسلم إذا أراد أن يكون ممن يعظم الله حق التعظيم ، فلا بد من وجود نية صادقة تدفعه دفعاً للوصول إلى هذه الغاية ، وأن يكون حرصه على تعظيم الله نابعاً من استشعاره لأهمية التعظيم ، وأن يريد بعمله وجه الله تعالى لا أن يمدحه الناس ويثنوا عليه .

    أما الأمور المعينة على تعظيم الله فنذكر منها :
    1 - تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى ؛ فالعبد كلما تقرب إلى ربه بأنواع العبادات وأصناف القرُبات عظُم في قلبه أمر الله ؛ فتراه مسارعاً لفعل الطاعات مبتعداً عن المعاصي والسيئات . قال شيخ الإسلام : « وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ».
    2 -التدبر الدقيق للقرآن الكريم وما فيه من حِكم وأحكام ، والنظر فيما فيه من الدروس والعبر ، وأن نتدبر في الآيات التي تتحدث عن خلق الله وبديع صنعه ، والآيات التي تتحدث عن عقوبته وشديد بطشه ، وآيات الوعد والوعيد ، فإن تدبر القرآن يؤثر في القلب ولا شك ، ويُذكي فيه عظمة الخالق والخوف منه . قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم صاحب حاشية الروض رحمه الله : بل قراءة آية بتدبر وتفهُّم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهُّم ، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة الإيمان ، وهكذا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده ، حتى إنه ليردد الآية إلى الصباح ، وهذا هو أصل صلاح القلب ، ومن مكائد الشيطان تنفير عباد الله من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع في التدبر .

    3 - التفكر في خلق السماوات والأرض ؛ فإن الناظر فيها ليدهش من بديع صنعها وعظيم خلقها واتساعها ؛ ومع هذا فهو لا يرى فيها شقوقاً ولا فطوراً قال تعالى : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } ( الملك : 3-4 ) .
    ولهذا أثنى الله على عباده الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ؛ قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ( آل عمران: 190-191 ).

    ومن الأحاديث الدالة على عظمة السماوات ما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ». فهذا الحديث يبين عظمة السماوات وعظمة الكرسي والعرش ؛ ونحن بني آدم لا نساوي شيئاً أمام هذه المخلوقات العظيمة ، ومع ذلك يقول الله تعالى في السماء والأرض : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ( فصلت : 11 ) ، قال الشوكاني : أي أتينا أمرك منقادين ؛ فيا سبحان الله ! كيف بالإنسان هذا الضعيف الذليل يتكبر ويتبجح ويقارع جبار السماوات والأرض بالمعاصي والآثام ؟ ! نسأل الله السلامة والعافية .

    4 - النظر في حال من غبر ؛ فلقد عاش على هذه الأرض أقوام وشعوب أعطاهم الله بسطة في الجسم وقوة في البدن لم يعطها أمة من الأمم ولكنها كفرت بالله وكذبت بالرسل ؛ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ودمرهم تدميراً ؛ فها هم قوم عاد الذين قالوا : من أشد منا قوة ؟ ! أهلكهم الله { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } ( الحاقة : 6-7 ) ، وها هم ثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين أهلكهم الله بالصيحة {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ( هود : 67 ) ، فالله سبحانه لم يتكلف في عذاب هذه الأمم ولم يكن له سبحانه أن يتكلف ؛ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ؛ فما بالنا نحن الأضعف والأقل قوة وبطشاً لا نخشى أن يصيبنا مثل ما أصاب أولئك ؟.
    5 - الدعاء : وهو أنفع الأدوية وأقوى الأسباب متى ما حضر القلب وصدقت النية ؛ فإن الله لا يخيب من رجاه قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ }(البقرة :186) .
    فاللهم إنا نسألك تعظيمك والخوف منك ، وأن تمن علينا بتوبة صادقة تعيننا على طاعتك واجتناب معصيتك .
    والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
    أديب بن محمد المحيذيف – مجلة البيان
                  

09-05-2015, 01:05 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    هذه هي الدنيا
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:
    فقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالسوق والناس عن جانبيه فمر بجدي أسك (صغير الأذن) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: " أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟ " قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: " أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً، إنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: " فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " (رواه مسلم).
    هذه هي حقيقة الدنيا التي تهافت الناس عليها وتنافسوا وتصارعوا من أجلها، وأشربت نفوسهم حبها والركون إليها.
    أصبح الكثير من الناس لا يحب ولا يكره إلا من أجل الدنيا، مع أن الأصل أن يكون الولاء البراء لله وفي الله، وهذا الانشغال بالدنيا عن الآخرة هو الجهل العظيم والخطب الجسيم.

    ولقد وصف الله الدنيا فبين حقيقتها وضرب لذلك المثل فقال:
    {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }(العنكبوت:64)، وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }(يونس:24).

    (فلله در رجال عرفوا لماذا خلقوا، ومن أجل أي شيء وجدوا. فأين نحن اليوم من رجال الأمس؟ أولئك الرجال الذين رغبوا فيما عند الله والدار الآخرة، تركوا الدنيا في كامل زينتها وأبهى حلتها، وأقبلوا على ربهم ـ سبحانه ـ راجين مغفرته ورضوانه، تركوا الفاني وأقبلوا على الباقي، أتعلم لماذا؟ لأنهم عرفوا الحق من الباطل، عرفوا ما ينفعهم وما يضرهم، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }(الأحزاب:23)، أولئك الذين اعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله الذين عرفوا الله حق معرفته، فلم يخشوا أحدا إلا الله، والله أحق أن يخشى، صدقوا مع الله فصدقهم الله عز وجل، إذا عملوا فلله، وإذا أحبوا فلله، وإذا أبغضوا ففي الله، أعمالهم وأقوالهم خالصة لله دون سواه.

    أمّا من ركنوا إلى الدنيا وأحبوا أهلها، وزهدوا في الآخرة وبقائها فأولئك محبتهم وعداؤهم وولاؤهم من أجل الدنيا، وأهلها، ومناصبها، وما يحصلون عليه من كراس، ومراتب، ودرجات، فكانت المفاجآت أن حلت بهم النكبات، ودارت عليهم الدائرات، وجعل الله بأسهم بينهم شديدا، فإذا اجتمعوا أظهروا خلاف ما يبطنون، وإذا تفرّقوا أكل بعضهم بعضا، قال الله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }(الزخرف:67)، وما حصل كل ذلك إلا لبعدهم عن منهج الله القويم، وانحرافهم عن صراطه المستقيم، فضلوا وغووا وركنوا إلى ما لم يؤمروا به، فاتبعوا الهوى والشهوات، وحصلت بينهم المنافسات على المناصب الكاذبات، فلا إله إلا رب الأرض والسموات، كل من أولئك يريد البقاء له وله وحده، وكأنه لم يخلق إلا للبقاء والخلود في هذه الدنيا وعمارتها، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }(آل عمران:185)، ويقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }(الأنبياء:34-35)، وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }(الذاريات:56)، هذه هي والله الغاية السامية التي من أجلها خلق الله الخلق، خلقهم من أجل العبادة، عبادته وحده، لا شريك له في ذلك فهو سبحانه المستحق للعبادة دون سواه، فهل عقل ذلك كثير من الناس؟ وكل ما عدا العبادة فهو وسيلة لا غاية، وعجبا لمن بدّل الغاية إلى وسيلة والوسيلة إلى غاية، فلا حول ولا قوة إلا بالله).

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تفاهة الدنيا وحقارتها فقال صلى الله عليه وسلم: " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً " (رواه الترمذي وهو حديث حسن)، وقال عليه الصلاة والسلام: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح).

    فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودها كثير من الناس كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي مبغوضة، ساقطة لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكم يساوي جناح البعوضة في موازين الناس؟ قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }(الحديد:20)، يحذر المولى عز وجل عباده من الانجراف في مزالق الحياة الغادرة، أو اتخاذها وطناً وسكناً ، ويبين أنها غادرة ماكرة ما لجأ إليها أحد أو رجاها من دون الله إلا خذلته، وتخلت عنه؛ فهي حقيرة عند الله عز وجل كحقارة الميتة عند الناس، وإنما جعلها الله فتنة للعباد؛ ليرى الصابر والشاكر، والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربه سبحانه، ممن عكف عليها وانشغل بها عما خلق له من عبادة الله تعالى، فلا يستوي الفريقان عند الله أبداً، قال تعالى: {فريق في الجنة وفريق في السعير }(الشورى:7) وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ }(فاطر:19-22)، الأعمى هو من ضل عن منهج الله تعالى وركن إلى الدنيا واطمأن لأنه عاش في هذه الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى }(طه:124-127).

    وأما من باع الدنيا واشترى الآخرة فهو البصير المبصر العارف تمام المعرفة لم خلق، وهذا حق معلوم لا ينكره إلا جاهل أو فاقد عقل، قال صلى الله عليه وسلم: " أبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم " (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء " (رواه مسلم)، وهذا تحذير آخر من نبي الرحمة والهدى لأمته من الركون إلى الدنيا أو الاستئناس بها، والانخراط في سلك اللاهين المحبين لها ولزخرفها وزينتها، والحذر كل الحذر من الانجراف وراء مغريات الحياة الزائفة.

    فكم ضاع بسبب حب الدنيا والاغترار بها من حقوق، وكم قطعت أرحام ، وكم قامت حروب قضت على الأخضر واليابس، وكم وكم مع أن الله تعالى ينادي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }(فاطر:5)، ولأن الدنيا أصبحت هي الشغل الشاغل الذي ملأ قلوب كثير من الناس اليوم، فقد انتشرت بينهم أمراض القلوب من حسد، وحقد وكذب، وبغضاء، وشحناء، وغيرها من الأمراض التي سادت بين أولئك الناس.

    لقد أنسى كثيرا من الناس حب الدنيا والتشاغل بها طاعة الله عز وجل والخوف منه، ألا يعقل أولئك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما لي وللدنيا؟ ما أنا إلا كراكب، استظل تحت شجرة ثم راح وتركها وتركها؟ " (رواه الترمذي، وهو حسن صحيح)، وقال صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس" (متفق عليه)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء " (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }(هود:102) (متفق عليه).
    وهذه هي النتيجة الحتمية لكل ظالم، ولا مناص عنها ولا مفر منها، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وما ربك بظلام للعبيد ـ حاشا وكلا ـ ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

    (وكان الواجب على المؤمن تجاه الدنيا ودناءتها ألا ينظر إلى من هو فوقه وأعلى منه منزلة، بل ينظر إلى من هو دونه، حتى لا يزدري نعمة الله عليه فيقع في الإثم والمعصية، أمّا في أمور الدين والآخرة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون بلا حقد، ولا حسد، ولا كراهية، ولا تقاطع، ولا تدابر. فلو ترك الناس بعضهم بعضا بما أنعم الله على كل منهم لساد الحب، والفرح، والإخاء، ولعم الأمن والسلام، والرخاء لأن: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }(الجمعة:4)، ولكن لما لم يدخل الإيمان قلوب الكثير منهم استساغوا ذلك الفضل من الله على بعضهم البعض، بل تجرّعوا الغصص والآهات، وطغت عليهم الحضارة المادية الزائفة بكل ما تعنيه الكلمة من معان، فأصبح الصراع والقتال من أجل متاع الدنيا الزائل، فإلى الله المهرب والملتجأ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

    فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أننا ما خلقنا وما وجدنا على هذه البسيطة إلا لعبادة الواحد الديان الذي له ملك السموات والأرض، وبيده خزائن كل شيء، وعلينا أن نتسابق ونتسارع إلى جنة الخلد وملك لا يبلى، جنة عرضها كعرض السموات والأرض، أعدها الله للمتقين الذين آمنوا بالله ورسله، قال صلى الله عليه وسلم: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة " (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن)، فأين المشمرون؟ وأين المشترون؟ وأين المتقون؟.

    عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " (متفق عليه)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " (رواه مسلم).، ودونك يا من أحببت الدنيا وزينتها، وركنت إليها، وقاتلت من أجلها، واهتممت بالمناصب والشياخة، والكراسي والرياسة، أقول: دونك هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا الله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة، فيقال له: يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا الله ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط " (رواه مسلم).
    فيا بشرى من اشترى الآخرة بالدنيا، ويا حسرة من اشترى الدنيا بالآخرة ).
    إسلام ويب
                  

09-05-2015, 01:07 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    القلب وعاء يحتاج إلى الرعاية لما قد يعتريه من صنوف الدرن والغبش التي تذهب بنضارته وتشل حيويته، وهو لب الجسد الذي بصلاحه يصلح الجسد كله، لذلك كان حقه في الرعاية آكد ومزيد وصله بالاهتمام زائدا، والكلمات النورانية والنصائح الجلية من أنفع الوسائل للقلب، ومن أعظم وسائل ثباته، وهل مشكلة القلب إلا في تقلبه، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.

    قال أحد الصالحين: عليك يا أخي بمحاربة الشيطان وقهره، وذلك لخصلتين:
    ( أحدهما ) أنه عدو مضل مبين، لا مطمع فيه بمصالحة واتقاء شره أبدا، لأنه لا يرضيه ويقنعه إلا هلاكك أصلا، فلا وجه إذا للأمن من هذا العدو والغفلة عنه، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس:60] وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].

    ( والخصلة الثانية ) أنه مجبول على عداوتك، ومنتصب لمحاربتك، في الليل والنهار يرميك بسهامه، وأنت غافل عنه، ثم هو له مع جميع المؤمنين عداوة عامة، ومع المجتهد في العبادة والعلم عداوة خاصة، ومعه عليك أعوان: نفسك الأمارة بالسوء، والهوى، والدنيا، وهو فارغ وأنت مشغول، وهو يراك وأنت لا تراه، وأنت تنساه وهو لا ينساك، فإذا لابد من محاربته وقهره وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك والدمار، ومحاربته بالاستعاذة بالله والإكثار من ذكره.

    عباد الله .. سيصحو السكران من سكره، حين لا يمكنه تلافي أمره، وسيندم المضيع على تضيعه، إذا قابله أمر صنيعه، وسيقصر الأمل من أمله وقت هجوم أجله، وتعذر الزيادة في عمله، والخروج من بين ماله وأهله .. هنالك يستحيل حلو العيش مرا، وينقلب عرف الأمر نكرا، ويعلم جامع الحطام الذي أضاع به أوقاته أن الباقيات الصالحات أبقى ذكرا وأنفع ذخرا، ليس في ظل الدنيا ولا على هذه الحياة تعويل.

    كيف يطمع عاقل في الإقامة بدار الرحيل؟، كيف يضحك من هو محفوف بموجبات البكاء والعويل؟، أسمعنا الناصح فتصاممنا، وأيقظنا الغير فتناومنا، ورضينا بالحياة الدنيا من الآخرة، واشترينا ما يفنى بما يبقى، فتلك إذا صفقة خاسرة.
    أين الآذان الواعية، أين الأعين الباكية، قول بلا فعال وأمر بلا امتثال، رسل ملك الموت في كل نفس تدنوا إلى أنفسنا، وأجساد أحبتنا تحت أطباق الثرى هامدة .. قد أوحشت منهم ديارهم، ودرست رسومهم وآثارهم، وتقطعت بالبلاء أوصالهم، ومحت أيدي الحوادث والقبور محاسن تلك الصور، وأطبقت عليهم ظلمات تلك الحفر، فلا شمس فيها ولا نور ولا قمر، ونحن عما قريب إلى ما صاروا إليه صائرون، وبالكأس الذي شربوا منه شاربون، ثم مع هذا اليقين إلى دار الغرور راكنون.

    عباد الله .. انتهزوا فرص الزمان، قبل تعذر الإمكان، قبل أن تنقل من اسم مازال إلى خبر كان ، فانتبه يا من نظنه صاح وإذا هو سكران.
    عباد الله .. كيف يثق بالحياة مَن المنية تقفوا إثره وتقف له في دربه، كيف يرجو راحة الدنيا من لا راحة له دون لقاء ربه .. تالله لو كانت الدنيا صافية المشارب من كل شائب، ميسرة المطالب لكل صالب، باقية علينا لا يسلبها منا سالب، لكان الزاهد فيها هو اللبيب الصائب، لأنها تشغل عن الله، والنعم إذا أشغلت عن المنعم كانت من المصائب.

    عباد الله .. لقد تراكمت عليكم الذنوب، وأنتم في غيكم ولهوكم في دنياكم مشتغلون، أحاطت بكم البلايا من كل جانب ولستم لإصلاح أنفسكم تجنحون، كلما أوضح لكم الواعظ طريق الهداية تعاميتم فلا أنتم بالكروب معتبرون ولا من البلايا منزجرون، أما سمعتم قول الله جل وعلا: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44-45] وقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] وقوله عز وجل: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56].

    روي عن على بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، ويقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي من الدنيا لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، ويأمر الناس بما لا يأتيه، يحب الصالحين ولا يعمل أعمالهم، ويبغض المسيئين وهو منهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره له الموت، إن سقم ظل نادما، وإن صح أمن لاهيا، تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن، ولا يثق من الرزق بما ضمن له، ولا يعمل من العمل بما فرض عليه، إن استغنى بطر، وإن افتقر قنط وحزن، فهو من الذنب في حال النعمة والمحنة موقر، يطلب الزيادة ولا يشكر، ويتكلف من الناس مالا يؤمر، ويضيع الموت ولا يبادر الفوت، يستكبر من معصية غيره ما يسهل أكثره من نفسه، مزاهر اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره لنفسه ولا يحكم عليها لغيره".

    أخي انظر في نفسك هل تجدها عاملة بمقتضى هدي سيد المرسلين؟ هل أتيت بالصلاة على الوجه الأكمل واجتنبت المعاصي المنافية للدين؟ هل أديت الزكاة كاملة مكملة بيقين؟ هل تجد في نفسك حياء من الله رب العالمين؟ هل أنت سالم من الكذب والخيانة والاحتيال؟ هل أنت سالم من الرياء في أقوالك وأعمالك؟ هل أنت سالم من الربا في معاملاتك؟ هل أنت سالم من المداهنة والنفاق؟ هل أنت سالم من الغيبة والنميمة والبهت واللعن وسيء القول؟.

    هل أنت سالم من الغش في بيعك وشرائك وسائر تصرفاتك؟ هل أنت صائن لسانك عن ما يضرك من الأقوال والأعمال؟ هل أنت سالم من الكبر والإعجاب وقطيعة الرحم والعقوق؟ هل أنت سالم من أذية الجار؟ هل قلبك لين رحيم ترحم المسكين وتكرم اليتيم؟ فعليك أن تتفقد نفسك بدقة، وتعالج ما بك من هذه الأمراض المهلكات فإنها أشد ضررا وفتكا من أمراض البدن.
    يا أخي التوبة التوبة قبل أن تصل إليك النوبة، الإنابة الإنابة قبل أن يغلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة فيا قرب وقت الفاقة، إنما الدنيا سوق للتجر ومجلس وعظ للزجر وليل صيف قريب الفجر، المكنة مزنة صيف، الفرصة زورة طيف، الصحة رقدة ضيف، الغرة نقدة زيف، البدار البدار فالوقت سيف.

    يا غافلا عن مصيره، يا واقفا في تقصيره، سبقك أهل العزائم وأنت في اليقظة نائم، قف على الباب وقوف نادم، ونكس رأس الذل وقل أنا ظالم، وناد في الأسحار مذنب وواجم، وتشبه بالقوم وإن لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمع ساجم، قم في الدجى نادبا، وقف على الباب تائبا، واستدرك من العمر ذاهبا، ودع اللهو والهوى جانبا، وإذا لاح الغرور رأى راهبا، وطلق الدنيا إن كنت للأخرى طالبا.
    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-05-2015, 01:09 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    أسمى مراتب محبة الله تعالى أن يتفقد العبد أوامره سبحانه فيأتيها ومناهيه فيجافيها .. أن يتجاوب العبد مع نداءات الله تعالى له حين يناديه ويدعوه فيلبيه .. أن يأتي إليه بحب طمعا في جنته قبل الخوف من ناره .. أن يستجيب استجابة فريدة كاستجابة الرعيل الأول من السلف الصالح، حين دعاهم الله في أكثر من موقف فكان منهم أعاجيب لا تنم إلا على صدق المحبة: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} .. نداءات خالدات وتصرفات نيرات نعيشها لحظات لعلها تجلو قسوة القلوب وتنير ظلمة العقول.

    ألا تحبون أن يغفر الله لكم
    قال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور:22]
    قال ابن كثير: "وهذه الآية نزلت في الصديق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال [أي إبان حادثة الإفك].. فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه - شرع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطف الصديق على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد ولق ولقة تاب الله عليه منها، وضرب الحد عليها.

    وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب - يا ربنا - أن تغفر لنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته".

    وفي بعض الروايات أن الصديق رضي الله عنه أنفقَ عليه ضعف ما كان ينفق عليه من قبل.
    {أُوْلُوا الْفَضْلِ} أي في الدين، وهذه شهادة من الله جلّ جلاله لِسيّدنا الصِّديق؛ الذي ما طلعَت شمس على رجل بعد نبيّ أفضل من أبي بكر، وهذا ما قالهُ بعض العلماء إنَّه أفضل الصحابة على الإطلاق.
    {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} خاطبه الله تعالى بصيغة الجمع تعظيما لشأنه وتكريما لقدره .. قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: فانْظر إلى الشخص الذي كنَّاهُ الله سبحانه وتعالى مع جلاله بِصيغة الجمع، كيف يكون علُوّ شأنه عند الله؟
    إنه الإيمان الصادق الذي حول الإساءة إلى إحسان، والإعراض إلى رغبة عارمة في المغفرة، وهكذا يصنع الإيمان بالمرء من الأعاجيب التي يقف الإنسان أمامها مشدوها وتجاه أحداثها مبهورا.

    القرض الحسن
    قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11]
    قال ابن كثير: "عن عبد اللّه بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول اللّه، وإن اللّه ليريد منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك يا رسول اللّه، قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عزَّ وجلَّ.

    وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "كم من عِذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح" .. العذق: القنو من النخل، والعنقود من العنب، ورداح: ضخم، مخصب.
    هكذا يكون رد الفعل، ويكون الرجال، ويكون الشوق إلى البذل في غير تردد ولا استجابة لرغبات النفس الطامحة للشح وإمساك المال .. هكذا كانوا، ولذلك أتت منهم الأعاجيب التي فتحوا بها قلاع الجبابرة وأملاك الأكاسرة والقياصرة، ونشروا التوحيد، وعبّدوا الناس لرب الناس، فرضي الله عنهم أجمعين.

    فهل أنتم منتهون
    قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة:91]
    روي أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] قال عمر رضي الله عنه: "اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا"، فلما نزلت هذه الآية قال عمر: "انتهينا يا رب" وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حرمت; فكسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة.
    يقول الشيخ سفر الحوالي: "في أمريكا حرمت الخمر سنوات؛ ثم اضطرت أن تبيحها لما رأت انهماك الناس وإقبالهم عليها في المصانع وفي البيوت، فالدستور الأمريكي لم يتغير فيه إلا مادتين فقط مدة عمر هذا الدستور، هما: المادة التي حرمت الخمر، والمادة التي ألغت التحريم، وبقية الأمور ثابتة.

    ومن الغرائب عن الشيوعيين - وهم الذين يتزعمون الجبهة الشرقية - ما جاء في كتاب ميخائيل جورباتشوف «إعادة البناء» يقول - فيما معنى كلامه-: إن الخمر فتكت بشبابنا، ونريد أن نقضي على مشكلة الخمور والإدمان، وقد بذلنا جهوداً في ذلك، وقد اقترح البعض عدة تشريعات لمنع الخمر، وقد فكرنا في ذلك، ولكن هذا لا يجدي؛ لأنه ما إن فُكِّرَ في اتخاذ هذا الإجراء حتى انتشرت صناعة الخمور الجوفية، فصنعوها في البيوت، إذاً فلا فائدة من ذلك .. فالقضية ليست قضية وعي، ولا قضية ثقافة، ولا قضية أن الناس يرون شعارات براقة فيتركون ما حرم الله، إنما المسألة مسألة إيمان وقع في القلوب".

    الخشوع لله
    قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]
    عن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين.
    وعن ابن عباس رضي الله عنه: استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن .
    وقيل: كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت.
    وعن أبي بكر رضي الله عنه: إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديداً، فنظر إليهم فقال: «هكذا كنا حتى قست قلوبنا».

    وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل بن عياض .. يقول ابن عساكر في سبب توبته: كان الفضيل شاطراً، يقطع الطريق في مفازة، بين «أبيورد ومرو»؛ فربما كان ينتمي إلى أبيورد، وقيل كان يقطع على أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع قارئاً يتلو {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد16]، فقال: يا رب قد آن؛ فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة سابلة، فقال بعضهم لبعض: نرحل الليلة، وقال قوم: بل نبقى هنا حتى نصبح؛ فإنَّ «فضيلاً» على الطريق يقطع علينا، ولما كان الله سبحانه قد أراد هدايته {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ} فقد تاب الفضيل وأمّنهم، وجاور الحرم حتى مات. وقيل إنه قال: ففكرتُ وقلتُ: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني، وما أرى الذي ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إنني قد تُبْتُ إليك وجعلت توبتي مجاورة بيتك.

    وقال عنه «إبراهيم بن الأشعث»: ما رأيت أحداً كان خوف الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذُكر عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من يحضره، وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت يريد إلا الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غيره، كنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ ويذكّر ويبكي، كأنه مودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء، حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-05-2015, 01:11 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    وإذا الجحيم سعرت
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
    لقد خلق الله تعالى النار وجعلها مقراً لأعدائه المخالفين لأمره، وملأها من غضبه وسخطه وأودعها أنواعاً من العذاب الذي لا يطاق، وحذر عباده وبين لهم السبل المنجية منها لئلا يكون لهم حجة بعد ذلك، وعلى الرغم من كل هذا التحذير من النار إلا أن البعض من الناس ممن قل علمهم وقصر نظرهم على هذه الدنيا أبوا إلا المخالفة والعناد والتمرد على مولاهم ومعصيته جهلاً منهم بحق ربهم عليهم، وجهلاً منهم بحقيقة النار التي توعدهم الله بها، فما هي هذه النار؟ وما صفتها؟
    إنها كما قال الله تعالى عنها: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }[التحريم:6] قيل: يا رسول الله أهي مثل حجارة الدنيا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده إنها حجارة كالجبال ".

    وقال صلى الله عليه وسلم: " ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم "، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: " فإنها فُضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها " (متفق عليه).
    وقال صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بجهنم يوم القيامة ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " (رواه مسلم).

    وروي عن كعب الأحبار أنه قال: ( والذي نفس كعب بيده لو كنت بالمشرق والنار بالمغرب ثم كُشف عنها لخرج دماغك من منخريك من شدة حرها! فيا قوم هل لكم بهذا قرار؟ أم لكم على هذا صبر؟ يا قوم إن طاعة الله أهون عليكم والله من هذا العذاب فأطيعوه ) أ. هـ.
    طعام أهلها الزقوم وشرابهم الحميم. قال صلى الله عليه وسلم: " لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه " (رواه الترمذي وقال حسن صحيح).

    وأهل النار في عذاب دائم، لا راحة ولا نوم، ولا قرار لهم، بل من عذاب إلى عذاب قال صلى الله عليه وسلم: " إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً " (رواه مسلم).
    وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون! قد اسودت وجوههم، وأُعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم وكسرت عظامهم {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }(المائدة:37). {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ }(النساء:56).

    يقول الحسن: ( تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة ). لباس أهلها من نار، {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ }(إبراهيم:50) وشرابهم وطعامهم من نار {وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ }(محمد:15).
    قال ابن الجوزي رحمه الله في وصف النار: ( هي دار خص أهلها بالبعاد، وحرموا لذة المنى والإسعاد، بُدلت وضاءة وجوههم بالسواد، وضربوا بمقامع أقوى من الأطواد، عليها ملائكة غلاظ شداد، لو رأيتهم في الحميم يسرحون وعلى الزمهرير يطرحون، فحزنُهم دائم فلا يفرحون، مقامهم دائم فلا يبرحون أبد الآباد، عليها ملائكة غلاظ شداد، توبيخهم أعظم من العذاب، تأسفهم أقوى من المصاب، يبكون على تضييع أوقات الشباب وكلما جاد البكاء زاد، عليها ملائكة غلاظ شداد، يا حسرتهم لغضب الخالق، يا محنتهم لعظم البوائق، يا فضيحتهم بين الخلائق، أين كسبهم للحطام؟ أين سعيهم في الآثام؟ أين تتبعهم لزلات الأنام؟ كأنه أضغاث أحلام، ثم أحرقت تلك الأجساد، وكلما أحرقت تعاد، عليها ملائكة غلاظ شداد ) أ. هـ.
    فتأمل أخي الكريم حال أولئك التعساء وهم يتقلبون في أنواع العذاب ويعانون في جهنم ما لا تطيقه الجبال، وما يفتت ذكره الأكباد ولا تسأل عما يعانونه من ثقل السلاسل والأغلال {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ }(غافر:71)، وقال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ }(الحاقة:32).
    قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( تُسلسل في دبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقدر أن يقوم على رجليه ثم ينظمون فيها كما يُنظم الجراد في العود حين يُشوى ).

    أرأيت أخي حال أهل النار وما هم فيه من الشقاء، فليتصور العبد نفسه لو كان منهم - نسأل الله أن لا نكون منهم - ليتصور نفسه عندما يؤمر به إلى جهنم عندما ينظر إلى الصراط ودقته وهوله وعظيم خطره وهو ينظر إلى الزالين والزالات من بين يديه ومن خلفه وقد تنكست هاماتهم وارتفعت على الصراط أرجلهم وثارت إليهم النار بطلبتها، وهم بالويل ينادون وبينما ينظر اليهم مرعوباً خائفاً أن تتبعهم لم يشعر إلا وقد زلت قدمه عن الصراط فطار عقله ثم زلت الأخرى فتنكست هامته، فلم يشعر إلا والكلوب قد دخل في جلده ولحمه، فجذب به وبادرت إليه النار ثائرة غضبانة لغضب ربها، فهي تجذبه وهو ينادي: ويلي ويلي حتى إذا صار في جوفها التحمت عليه بحريقها فتورم أول ما ألقي فيها، ثم لم يلبث أن تقطر بدنه وتساقط لحمه، وتكسرت عظامه، وهو ينادي ولا يُرحم ويتمنى أن يعود ليتوب فلا يجاب نداؤه:{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ }(الرحمن:44). فيطلب الراحة بين الحميم وبين النار، فلا راحة ولا سكون أبداً.

    فلما اشتد به الكرب والعطش وبلغ منه المجهود ذكر الجنان فهاجت غصة من فؤاده إلى حلقه أسفاً على فوات جوار الله عز وجل وحزناً على نعيم الجنة الذي أضاعه بنفسه بسبب الذنوب والمعاصي، ففزع إلى الله بالنداء بأن يرده إلى الدنيا ليعمل صالحاً فمكث عنه دهراً طويلاً لا يجيبه هواناً به، ثم ناداه بعد ذلك بالخيبة منه أن {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ }(المؤمنون:108) ثم أراد أن يزيده إياساً وحسرة فأطبق أبواب النار عليه وعلى أعدائه فيها فيا إياسه ويا إياس سكان جهنم حين سمعوا وقع أبوابها تطبق عليهم، فعلموا عند ذلك أن الله عز وجل إنما أطبقها لئلا يخرج منها أحد أبداً، فتقطعت قلوبهم إياساً وانقطع الرجاء منهم أن لا فرج أبداً، ولا مخرج منها، ولا محيص من عذاب الله عز وجل أبداً، خلودٌ فلا موت. وعذابٌ لا زوال له عن أبدانهم، وأحزان لا تنقضي، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تحل، وأغلال لا تفك أبداً وعطش لا يروون بعده أبداً، لا يُرحم بكاؤهم، ولا يُجاب دعاؤهم، ولا تقبل توبتهم فهم في عذاب دائم وهوان لا ينقطع، ثم يبعث الله بعد ذلك الملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار، وعمد من نار، فتطبق عليهم بتلك الأطباق وتشد بتلك المسامير، وتمد بتلك العمد، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيها روح ولا يخرج منه غم، وينساهم الرحمن بعد ذلك {نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }(التوبة:67) فذلك قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ }(الهمزة:9،8) ينادون الله ويدعونه ليخفف عنهم هذا العذاب فيجيبهم بعد مدة {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ )(المؤمنون:108).

    قال الحسن: ( هذا هو آخر كلام يتكلم به أهل النار وما بعد ذلك إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب... )، فما أشقى والله هذه الحياة وما أشقى أصحابها - نسأل الله أن لا نكون منهم - وما أعظمها والله من خسارة لا تجبر أبداً، ويا حسرةً والله على عقول تسمع بكل هذا العذاب وهذا الشقاء وتؤمن به ثم لا تبالي به ولا تهرب منه بل تسعى إليه برضاها واختيارها.

    فيا أخي الحبيب: يا من تعصي الله تصور نفسك لو كنت من أهل النار؟ هل سترضى بشيء من هذا العذاب؟ لا أعتقد ذلك، إذاً فتب إلى الله وارجع عما يكرهه وتقرب إليه بالأعمال الصالحة عسى أن يرضى عنك، وابك من خشيته عسى أن يرحمك ويقيل عثراتك، فإن الخطر عظيم والبدن ضعيف، والموت منك قريب، والله جل جلاله مطلع عليك ويراك فاستح منه وأجِلَّه ولا تستخف بنظره إليك، ولا تستهين بمعصيته ولا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من تعصيه وهو الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، واملأ قلبك من خشيته قبل أن يأخذك بغتة، ولا تتعرض له وتبارزه بالمعاصي فإنك لا طاقة لك بغضبه ولا قوة لك بعذابه، ولا صبر لك على عقابه، فتدارك نفسك قبل لقائه لعله أن يرحمك ويتجاوز عنك، فكأنك بالموت قد نزل بك وحينها لا ينفعك ندم ولا استدراك ما مضى.

    وفقني الله وإياك لما يحب ويرضى ونجانا بعفوه وكرمه من أليم عقابه وعظيم سخطه.
    والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

    اسلام ويب - دار ابن خزيمة
                  

09-05-2015, 01:13 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الأمانة.. بين الصيانة والخيانة
    روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال فأئتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدا فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وأني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي أسلفه، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا).

    هذا الحديث ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لأمته أهمية الأمانة والوفاء، ويربي فيهم هذا الخلق الجميل كما يربي أتباعه دائما على خير السجايا، وأنبل الشمائل، وأحسن الأخلاق.

    والأمانة عظيم في الدين قدرها، وكبير ـ عند الله ـ شأنها، وجليل بين الناس أثرها.. ولذلك جاء الأمر من الله برعايتها وتحقيقها.. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}(النساء: 58) وقال سبحانه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}(البقرة:283)
    ونهى عن الخيانة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(الأنفال:27).
    وجعل أعظم علامات الإيمان وصفات المؤمنين مراعاة الأمانة وحفظها {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}(المؤمنون:8)، وأعاد الآية نفسها في وصف أهل الصلاة أهل الإيمان في سورة المعارج {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}(المعارج:32).

    وأعظم آية في بيان مكانة الأمانة وعظم منزلتها قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(الأحزاب:72).
    فانظر كيف أشفقت السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة، وخفن من عواقب حملها لما يترتب على التقصير في ذلك من النكال والعذاب الأليم.

    الأمانة في السنة:
    وفي السنة المطهرة نَسْجٌ على منوال القرآن.. فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن خيانة الأمانة ليست من صفات أهل الإيمان الطاهرين وإنما هي من صفة المنافقين الخائنين.. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: [آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان].

    وفي حديث عبدالله بن عمرو قال عليه السلام: [أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلةٌ منهن كانت فيه خلةٌ من نفاقٍ حتى يدعَها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر](متفق عليه).

    ونهى أن تكون الخيانة في خلق المسلم حتى وإن خانه غيره.. كما روى ذلك أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام: [أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك](قال الترمذي حسن غريب.. وضعفه جماعة).

    وأخبر عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات أن ذهاب الإيمان مع ذهاب الأمانة، وأن ذهاب الدين مع خيانة العهد.. فقد روى الإمام أحمد وأبو يعلى عن أنس قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: [لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له](حسنه ابن حجر والمنذري)..

    معنى الأمانة:
    ربما يظن من سمع حديث الرجلين في أول المقال أن مفهوم الأمانة يقتصر فقط على حفظ الودائع وردها عند طلب أصحابها.. ولعمري.. إن هذا لمن الأمانة ولكنه جزء يسير من أجزائها الكثيرة، وصورة واحدة من صورها الوفيرة: فالأمانة في الإسلام حقيقتها أوسع وأكبر، ومفهومها أضخم وأشمل.. فهي تشمل كل أمر يوكل إلى المسلم حفظه والقيام به، وكل مسئولية تقع على عاتقه سواء من أمر الدنيا أو من أمر الآخرة، سواء من التكاليف الشرعية أو من الوظائف الدنيوية، سواء من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.

    ومن أعظم الأمانات التي تحملها المسلم أمانة توحيد الله وإفراده بالعبادة وإخلاص العمل له.. وإن الشرك به أو الكفر من أعظم الظلم وأشد الخيانات.

    والإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام واتباع سنته والتزام أخلاقه وسيرته، والسير على منهجه وطريق صحابته أمانة، وترك ذلك والتخبط في طرق البدع الضلال والغواية خيانة.

    وتحكيم شرع الله وحكمه أمانة على الأمة حكامها ومحكوميها، وترك ذلك وتحكيم غيره من القوانين الأرضية والأعراف الجاهلية خيانة وأي خيانة.

    والعبادات كلها من وضوء وصلاة، وصيام وزكاة، وحج لبيت الله.. كلها أمانات من أداها كما أمر فقد أدى الأمانة، ومن ضيعها أو فرط فيها أو انتقصها فقد خان بقدر ما ضيع.. {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون}.. وإن أعظم الناس سرقة الذي يسرق من صلاته. أي لا يقيمها كما أمر..

    كما وأن أمور السلوك والأخلاق (من صدق ووفاء، وبر وصلة، وحلم وأمانة، وغيرها) كل ذلك من الأمانات فمن تركها إلى الكذب والغدر والقطيعة والجهل والزنا والقتل فقد ضيع وفرط وخان.

    وإن الزوجة أمانة، والأولاد أمانة والمرأة في بيت قيمها أمانة في حجابها وعفافها وحشمتها وبعدها عن الرجال، وفي قرارها في بيتها وبعدها عن مواطن الخلطة والافتتان.. كل ذلك أمانة وتضييعه خيانة.

    ومن أعظم الأمانات التي يغفلها المسلمون أو عنها يتغافلون "الوظائف العامة" بداية من أعلى وظيفة في الأمة وهي الرئاسة وولاية الأمر إلى أقل وظيفة فيها مرورا بالوزراء والمدراء والرؤساء الأقسام إلى أصغر موظف.. أقول لهم جميعا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته].

    فمن الأمانة أن يقوموا بواجباتهم، ويتحملوا مسئولياتهم، ويكونوا عند حسن الظن بهم، وينصحوا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فيسهلوا على العباد، وييسروا أمورهم وينجزوا معاملاتهم دون تسويف أو تعسير، ولا يغلقوا دونهم الأبواب فإنها خيانة للوظيفة وخيانة للأمة وخيانة لله ولرسوله.. "ومن أغلق بابه دون حوائج الناس أغلق الله بابه دون حاجته" والجزاء من جنس العمل.

    الأمانة مصدر الفلاح
    إن مقياس حضارة الأمم، ومعيار رقيها وتقدمها إنما هو بنزاهة أفرادها، وأمانة أبنائها، فإذا استشرى فيها الغدر وسادتها الخيانة والمكر، اختل أمرها، وتصدع بنيانها، وسقطت في مهاوي الردى والضياع.
    وإن ما تعانيه كثير من المجتمعات من خيانة وفساد إداري ووظيفي ومالي واجتماعي واقتصادي وغير ذلك من صور الفساد إنما هو بسبب رفع الأمانة من بينهم.

    إضاعة الأمانة:
    وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ضياع الأمانة مؤذن بقيام القيامة، وأن في آخر الزمان يقل بين الناس الوفاء وترفع الأمانة من بينهم كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال. ثم نزل القرآن. فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه. فيظل أثرها مثل الوكت. ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه. فيظل أثرها مثل المجل. كجمر دحرجته على رجلك. فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله.. فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا. حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت. لئن كان مسلما ليردنه علي دينه. ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه. وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا.

    وارتفاع الأمانة وتضييعها مؤذن بقيام الساعة وهو علامة على قربها.. ففي صحيح البخاري: [بينما النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مجلسٍ يُحدِّثُ القومَ، جاءه أعرابيٌّ فقال: متى الساعةُ؟... قال: إذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظِرِ الساعةَ. قال: كيف إضاعتُها؟ قال: إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِه فانتظِرِ الساعةَ].
    إسلام ويب
                  

09-05-2015, 01:16 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    تعظيم الله تعالى
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فإن الله تعالى لم يخلق الخلق ولم يرسل الرسل ولم ينزل الكتب إلا من أجل تحقيق أسمى الغايات ألا وهي عبادته سبحانه وتحكيم شرعه ، ولا يمكن أن تصل العبادة إلى أعلى كمالها إلا بتعظيم المعبود ؛ فقد ذكر المناوي في تعريف العبادة أنها فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه . وقيل أي العبادة هي تعظيم الله وامتثال أوامره. فمن هذا التعريف تتضح أهمية تعظيم الله ، وأنها العبادة التي خلقنا الله لتحقيقها .

    ولقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة في بيان فضل تعظيم الله ؛ فمنها قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ( الفاتحة : 5 ) ، قال القرطبي رحمه الله عن هذه الآية : جعلها الله بينه وبين عبده ؛ لأنها تضمنت تذلل العبد لربه وطلب الاستعانة منه ؛ وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى.

    ومنها قوله تعالى في معرض ذكر صفات عباده المؤمنين : {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } ( الرعد : 22 ) ، قال ابن جرير الطبري رحمه الله : ابتغاء وجه ربهم أي طلب تعظيم الله وتنزيهاً له أن يخالف في أمره أو يأتي أمراً كره إتيانه فيعصيه به.
    ومنها قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام مع قومه : {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } ( نوح : 13 ) ، قال أبو السعود : أي ما لكم لا تؤملون له تعالى توقيراً أي تعظيماً لمن عبده وأطاعه.

    ومنها قوله تعالى لما ذكر قصة أصحاب الجنة : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } ( القلم : 28 ) ، قال الثعالبي : قيل هي عبارة عن تعظيم الله والعمل بطاعته سبحانه.
    ومنها حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه حيث قال : أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابي ، فقال : يا رسول الله ! جُهدت الأنفس ، وضاعت العيال ، ونُهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ؛ فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ويحك أتدري ما تقول ؟ " ، وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : "ويحك إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك .. ".(رواه أبو داوود وضعفه الألباني)؛ فالأعرابي لما قال : ( فإنا نستشفع بالله عليك ) جعل الله في مقام الشافع عند رسوله ، وهذا تنقيص من قدره جل وعلا ؛ ولهذا سبَّح الرسول صلى الله عليه وسلم ونبَّه الأعرابي إلى هذا الخطأ الفادح لما قال :« ويحك ! أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك » إلى آخر الحديث .

    ولكي نتصور أخي الكريم حقيقة التعظيم فإن علينا أن نتفكر في هذا المثال : انظر إلى حال رفقاء الملوك والأمراء والرؤساء إلا من رحم الله تجد أحدهم لا يستطيع أن يرد لهذا الملك أو لهذا الرئيس أمراً ولا أن يرتكب نهياً حتى وإن كان هذا الأمر والنهي يضره في بدنه أو ماله أو أهله ، وعندما نسأله عن سر هذه الطاعة العمياء نجد أن تعظيمه لهذا الرئيس هو السبب الحقيقي لهذه الطاعة .

    إذاً فالتعظيم يولِّد في النفس الخوف من المعظَّم . ولهذا ما فتئ علماء الأمة يجتهدون في تذكير الناس بمسألة تعظيم الله ؛ فها هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يصنف كتاب التوحيد ، ويقرر فيه مسائل العقيدة ثم يختم كتابه بأبواب عديدة كلها تتعلق بتعظيم الله ، مثل : باب فيمن لم يقنع بالحلف بالله باب التسمي بقاضي القضاة باب احترام أسماء الله باب لا يرد من سأل بالله باب قوله : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ( الزمر : 67 ) . وهذا آخر باب ذكره الشيخ في كتابه القيم .

    لكن هل نحن معظمون لله أم لا ؟ للإجابة عن هذا التساؤل لا بد أن ننظر إلى حالنا عند الإقدام على فعل طاعة من الطاعات : هل نؤديها رغبة ورهبة ، خوفاً وطمعاً ؟ أم أن الطاعة أصبحت عادة من العادات نعملها كل يوم دون استشعار الهدف من أدائها ؟ وهل المرأة حين تلبس الحجاب الشرعي تلبسه لأنه شرعٌ من الله أم أنه تراث وتقاليد ؟ كذلك ننظر إلى حالنا عند فعل المعصية : هل نحس كأننا تحت جبل يكاد أن يسقط علينا أم كذبابة وقعت على أنف أحدنا فقال بها هكذا ؟ كذلك لننظر إلى حالنا أثناء أداء الصلاة والقيام لرب العالمين هل نستشعر عظمة من نقابله فنخشع في صلاتنا أم تشغلنا الأفكار والهواجس ؟ وهل إذا قابلنا ملكاً من ملوك الدنيا صنعنا عنده مثل ما نصنع في صلاتنا ؟ إذا أجبنا عن هذه التساؤلات بكل تجرد فسنعرف يقيناً هل نحن معظمون لله أم لا ؟.

    أخي الكريم ! لنتأمل حال أولئك المعظمين لله تعالى عند قيامهم للصلاة ، فقد قال مجاهد رحمه الله : كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء ، أو أن يلتفت أو يقلب الحصى ، أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته ، وكان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع ، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه ، وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه فقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر . وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه ، فقيل له : ما لك ؟ فقال : جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها .
    وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خدَّيه على لحيته . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه ... وهذا غيض من فيض من أخبار وأحوال أولئك المعظمين لله ، اللهم كما رزقتهم تعظيمك فارزقنا إياه يا سميع الدعاء .

    بل إن من العجيب أن كفار قريش كان في قلوبهم شيءٌ من تعظيم الله ، وإليك بعض الشواهد على ذلك :
    1 - قصة عتبة بن ربيعة حينما قرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فواتح سورة فصلت فلما بلغ قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } ( فصلت : 13 ) ، وضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله والرحم ليسكتن [11] .

    2 - قصة جبير بن مطعم أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ } ( الطور : 35-37 ) كاد قلبي أن يطير .
    3 - كان الرسول صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وحوله صناديد قريش فقرأ عليهم سورة النجم فلما وصل إلى السجدة في آخر السورة سجد فسجدوا معه.

    فهذه الشواهد تدل على أن كفار قريش رغم كفرهم وإشراكهم كان في قلوبهم شيء من تعظيم الله . قال شيخ الإسلام : « والمشركون ما كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه ولكن كانوا يعبدون معه آلهةً أخرى ».
    أخي الكريم ! إن عدم تعظيم الله في القلوب سيُسأل عنه كل فرد منا ؛ فلا بد من المحاسبة والمراجعة وتقويم النفس والنظر في علاقتنا بربنا جل وعلا.
    وللحديث بقية إن شاء الله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    نتكلم عن أهم أسباب تعظيم الله وأهم أسباب عدم تعظيمه سبحانه والتي نبدأ بها وهي:

    1- الوقوع في المعاصي ، وهذه هي المعضلة ، وهي السبب في كل بلاء ومحنة وبُعد عن الله تعالى . قال ابن القيم رحمه الله : « وكفى بالعاصي عقوبةً أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته ، ويهون عليه حقه ، ومن بعض عقوبة هذا أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم ويستخفُّون به كما هان عليه أمره واستخف به » ، وقال بشر بن الحارث : لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله .

    2 - التساهل في أوامر الله ؛ فتجد كثيراً من الناس لا يؤدون العبادات على الوجه المطلوب ؛ فلو كانوا يعظمون الله حق التعظيم لعظموا أمره كذلك .

    3 - عدم تدبر القرآن حال قراءته ، وعدم الوقوف عند وعده ووعيده ، وأصبح همُّ القارئ آخر السورة فحسب دون اعتبار للهدف الذي أُنزل من أجله القرآن .قال تعالى { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ( ص: 29) .
    4 - الغفلة عن ذكر الله فتجد أحدنا في المستشفيات أو في إحدى الدوائر الحكومية جالساً على كرسي الانتظار زمناً طويلاً وهو لا يذكر الله ولا يسبحه ولا يكبره ؛ حتى وإن سبح وكبر فهو لا يعي معنى هذا التسبيح وهذا التكبير ، وهذه مشكلة لا بد أن نعالجها في نفوسنا .

    5 - النظر فيما حرم الله تعالى ؛ فالنظر الحرام يولد في القلب القسوة والجفاء ، وهذا لا يتأتى مع التعظيم ؛ لأن التعظيم لا يكون إلا من قلب خاضع خاشع لين مقبل على الله بكليته .

    ولهذا فلا عجب أن يكون السلف الصالح رضوان الله عليهم من أشد الناس تعظيماً لله ؛ لأنهم أحرص الناس على طاعته وأبعدهم عن معصيته . قال القنوجي : وهم أي السلف الصالح أشد تعظيماً لله وتنزيهاً له عما لا يليق بحاله. وقال ابن منده في كتاب الإيمان : والعباد يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب والإجلال له ، والمراقبة لله في السر والعلانية.
    أخي الكريم ! وبعد هذا كله فحريٌ بنا أن نتطرق إلى الأمور المعينة على تعظيم الله وهي كثيرة ولله الحمد ؛ ولكن قبل أن نذكرها ننبه إلى نقطة مهمة وهي أن المسلم إذا أراد أن يكون ممن يعظم الله حق التعظيم ، فلا بد من وجود نية صادقة تدفعه دفعاً للوصول إلى هذه الغاية ، وأن يكون حرصه على تعظيم الله نابعاً من استشعاره لأهمية التعظيم ، وأن يريد بعمله وجه الله تعالى لا أن يمدحه الناس ويثنوا عليه .

    أما الأمور المعينة على تعظيم الله فنذكر منها :
    1 - تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى ؛ فالعبد كلما تقرب إلى ربه بأنواع العبادات وأصناف القرُبات عظُم في قلبه أمر الله ؛ فتراه مسارعاً لفعل الطاعات مبتعداً عن المعاصي والسيئات . قال شيخ الإسلام : « وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ».

    2 - التدبر الدقيق للقرآن الكريم وما فيه من حِكم وأحكام ، والنظر فيما فيه من الدروس والعبر ، وأن نتدبر في الآيات التي تتحدث عن خلق الله وبديع صنعه ، والآيات التي تتحدث عن عقوبته وشديد بطشه ، وآيات الوعد والوعيد ، فإن تدبر القرآن يؤثر في القلب ولا شك ، ويُذكي فيه عظمة الخالق والخوف منه . قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم صاحب حاشية الروض رحمه الله : بل قراءة آية بتدبر وتفهُّم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهُّم ، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة الإيمان ، وهكذا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده ، حتى إنه ليردد الآية إلى الصباح ، وهذا هو أصل صلاح القلب ، ومن مكائد الشيطان تنفير عباد الله من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع في التدبر.

    3 - التفكر في خلق السماوات والأرض ؛ فإن الناظر فيها ليدهش من بديع صنعها وعظيم خلقها واتساعها ؛ ومع هذا فهو لا يرى فيها شقوقاً ولا فطوراً قال تعالى : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } ( الملك : 3-4 ) .
    ولهذا أثنى الله على عباده الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ؛ قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ) آل عمران:190-191) .

    ومن الأحاديث الدالة على عظمة السماوات ما رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ". فهذا الحديث يبين عظمة السماوات وعظمة الكرسي والعرش ؛ ونحن بني آدم لا نساوي شيئاً أمام هذه المخلوقات العظيمة ، ومع ذلك يقول الله تعالى في السماء والأرض : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ( فصلت : 11 ) ، قال الشوكاني : أي أتينا أمرك منقادين ؛ فيا سبحان الله ! كيف بالإنسان هذا الضعيف الذليل يتكبر ويتبجح ويقارع جبار السماوات والأرض بالمعاصي والآثام ؟ ! نسأل الله السلامة والعافية .

    4 - النظر في حال من غبر ؛ فلقد عاش على هذه الأرض أقوام وشعوب أعطاهم الله بسطة في الجسم وقوة في البدن لم يعطها أمة من الأمم ولكنها كفرت بالله وكذبت بالرسل ؛ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ودمرهم تدميراً ؛ فها هم قوم عاد الذين قالوا : من أشد منا قوة ؟ ! أهلكهم الله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } ( الحاقة : 6-7 ) ، وقوم ثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين أهلكهم الله بالصيحة { فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ( هود : 67 ) ، فالله سبحانه لم يتكلف في عذاب هذه الأمم ولم يكن له سبحانه أن يتكلف ؛ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ؛ فما بالنا نحن الأضعف والأقل قوة وبطشاً لا نخشى أن يصيبنا مثل ما أصاب أولئك ؟.

    5 - الدعاء : وهو أنفع الأدوية وأقوى الأسباب متى ما حضر القلب وصدقت النية ؛ فإن الله لا يخيب من رجاه قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ }(البقرة:186).
    فاللهم إنا نسألك تعظيمك والخوف منك ، وأن تمن علينا بتوبة صادقة تعيننا على طاعتك واجتناب معصيتك .
    والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

    أديب بن محمد المحيذيف – ( مجلة البيان )
                  

09-05-2015, 01:18 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    عمار المساجد
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء، وسيد المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
    في الحديث:
    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - فذكر منهم -رجل قلبه معلق بالمساجد ".

    لما آثر طاعة الله تعالى، وغلب عليه حبه، صار قلبه معلقاً بالمساجد، ملتفتاً إليها يحبها ويألفها، لأنه يجد فيها حلاوة القربة، ولذة العبادة، وأنس الطاعة، ينشرح فيها صدره، وتطيب نفسه، وتقرّ عينه. فهو لا يحب الخروج منها، وإذا خرج تعلق قلبه بها حتى يعود إليها.

    وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله جل وعلا فانقادت له.
    فلا يقصر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدم عليه محبة مولاه، جل في علاه.
    أما من غلبته نفسه الأمّارة بالسوء فقلبه معلق بالجلوس في الطرقات، والمشي في الأسواق، محب لمواضع اللهو واللعب، وأماكن التجارة واكتساب الأموال.

    فضل المساجد:
    إن المساجد بيوت الله جل وعلا، وهي خير بقاع الأرض، وأحب البلاد إلى الله تعالى، أضافها إلى نفسه تشريفاً لها، تعلقت بها قلوب المحبين لله عز وجل، لنسبتها إلى محبوبهم، وانقطعت إلى ملازمتها لاظهار ذكره فيها، فأين يذهب المحبون عن بيوت مولاهم؟! قلوب المحبين ببيوت محبوبهم متعلقة، وأقدام العابدين إلى بيون معبودهم مترددة، تلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }(النور:36-38).

    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحملتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ".

    فضل التبكير إلى الصلاة:
    كم في المبادرة والتبكير إلى صلاة الجماعة في المسجد من الأجر العظيم فمن ذلك:

    1 - أن الجالس قبل الصلاة في المسجد انتظاراً لتلك الصلاة هو في صلاة - أي له ثوابها - مادامت الصلاة تحبسه. ففي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما أخر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلّى بهم، قال لهم: "إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة ". وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: " ولا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ".

    2 - أن الملائكة تدعوا له ما دام في انتظار الصلاة، ففي الحديث: " ومن ينتظر الصلاة صلّت عليه الملائكة وصلاتهم عليه اللهم اغفر له وارحمه ". وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه مالم يحدث اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ".

    قوله: " مصلاه ": المراد به موضع الصلاة التي صلاها في المسجد دون البيت كما يدل عليه آخر الحديث.
    أما المرأة فقال أهل العلم: ( لو صلت في مسجد بيتها، وجلست فيه تنتظر الصلاة فهي داخلة في هذا المعنى إذا كان يحبسها عن قيامها لأشغالها انتظار الصلاة ).

    3 - أن المبكر يتمكن من أداء السنة الراتبة - في صلاتي الفجر والظهر - ويصلي نافلة في غيرهما ففي الصحيحين عن عبدالله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بين كل أذانين صلاة قالها ثلاثاً قال في الثالثة لمن شاء ".

    4 - أن المبكر للصلاة يمكنه استغلال ذلك الوقت لقراءة القرآن فقد لا يتيسر له ذلك في أوقات آخر.
    5 - أن هذا الوقت من مواطن إجابة ففي الحديث عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء لا يُرد بين الأذان والإقامة فادعوا ".

    6 - أنه يدرك الصف الأول، ويصلي قريباً من الإمام، عن يمينه، في الحديث: " إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول ".
    7 - أنه يدرك التكبيرة الأولى مع الإمام، والتأمين معه، ويحصل له فضل صلاة الجماعة.

    فضل البقاء في المسجد انتظاراً للصلاة الأخرى:
    في جلوس المرء في المسجد بعد الصلاة انتظاراً لصلاة أخرى فضل عظيم وأجر كبير، فمن ذلك:
    1 - أنه في صلاة لما سبق في الحديث: " لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ".

    2 - وهو من نوع الرباط في سبيل الله للحديث: " وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط " (أخرجه مسلم)، قال ابن رجب: ( وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها، فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتظاره، بخلاف من صلى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول، فإن كان كلما صلّى صلاة جلس ينتظر ما بعدها استغرق عمره بالطاعة، وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل ).

    3 - أنه تصلي عليه الملائكة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " مُنتظر الصلاة من بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كشحة تصلي عليه ملائكة الله مالم يحدث أو يقوم وهو في الرباط الأكبر ".

    4 - أنه سبب لتكفير السيئات ورفع الدرجات ففي الحديث: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " فذكر منها: " وانتظار الصلاة بعد الصلاة " (أخرجه مسلم). وفي الحديث: " الكفارات: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء في المكروهات ".

    قال ابن رجب: يدخل في قوله: " والجلوس في المساجد بعد الصلوات " الجلوس للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه ونحو ذلك، لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فإن النصوص قد وردت بفضل ذلك، وهو شبيه بمن جلس ينتظر صلاة أخرى لأنه قد قضى ما جاء المسجد لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى. أ. هـ.

    عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من صلّى الفجر ثم جلس في مصلاه صلت عليه الملائكة وصلاتهم عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ".
    قال ابن رجب: ( وإنما كان ملازمة المسجد مكفراً للذنوب لأنه فيه مجاهدة النفس، وكفاً لها عن أهوائها فإنها تميل إلى الانتشار في الأرض لابتغاء الكسب، أو لمجالسة الناس ومحادثتهم، أو للتنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة ومواطن النزه ونحو ذلك، فمن حبس نفسه في المساجد على الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله، مخالف لهواها وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد ).
    وهذا الجنس - أعني ما يؤلم النفس ويخالف هواها - فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع فيه للعبد كالمرض ونحوه فكيف بما كان حاصلاً عن فعل العبد واختياره إذا قصد به التقرب إلى الله عز وجل؟! فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الذي يقتضي تكفير الذنوب كلها. أ. هـ.

    السلف وعمارة المساجد:
    1 - قال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة.
    2 - كان زياد مولى ابن عباس - أحد العباد الصالحين - يلازم مسجد المدينة فسمعوه يوماً يعاتب نفسه ويقول لها: أين تريدين أن تذهبي! إلى أحسن من هذا المسجد!! تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان.
    3 - قال سعيد بن المسيب: ( ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد ).
    4 - قال ربيعة بن يزيد: ( ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً ).
    5 - قال يحيى بن معين: ( لم يفت الزوال في المسجد يحيى بن سعيد أربعين سنة ).
    الجوار المبارك:
    في الحديث: " إن الله لينادي يوم القيامة: أين جيراني، أين جيراني؟ فتقول الملائكة: ربنا! ومن ينبغي أن يجاورك؟ فيقول: أين عمّار المساجد ".
    اللهم اجعلنا من عمار المساجد المحافظين على الصلاة فيها، وارزقنا اللهم الإخلاص في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين وآله وصحبه أجمعين

    عبد القيوم السحيباني - دار القاسم
                  

09-05-2015, 01:20 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    من منازل الصالحين: الصبر
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،، أما بعد:
    فمن المنازل التي حققها الصالحون من عباد الله، منزلة الصبر؛ التي امتدحها الله تعالى في كتابه، وأمر بها، وحث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا.. }الآية (آل عمران:200) وقال: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } (الزمر:10) وقال: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } (الشورى:43) وقال تعالى عن عبده ونبيه أيوب عليه السلام: {إنا وجدناه صابرً نعم العبد إنه أواب } (ص:44).
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصبر ضياء " (رواه مسلم) وقال: " من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيراً من الصبر " (متفق عليه) وقال: " عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له " (رواه مسلم).

    قال أهل العلم: الصبر نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.
    والصبر ثلاثة أنواع:
    1- صبر على طاعة الله:
    وبخاصة العبادات التي تصعب على النفوس بسبب الكسل كالصلاة، أو بسبب البخل كالزكاة، أو بسببهما جميعاً كالحج والجهاد. ولتحقيق هذا النوع العظيم من الصبر، ينبغي على العبد بعض الوظائف المعينة والميسرة له، وهي:
    * الاستعانة بالله: واعتقاد أنه تعالى هو المُصبّر للعبد. وإخلاص النية له تعالى، بأن يكون الباعث للعبد على الصبر هو محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه.

    * التخلص من دواعي الفتور وأسبابه ، بألا يغفل عن الله ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن فهي بمثابة المروضات للنفس، والممهدات لها لأداء الفرائض والواجبات، وبخاصة مع تعليق الفكر دائماً بأجر الصابرين الذي ادخره الله لهم.
    * تذكر أن الصبر في هذا المجال يصبح مع الوقت سهلاً تتعود النفس عليه، لأنه مع الإخلاص يتحقق بإذن الله عون الله للعبد، وتصبيره على ما كان يستثقله، كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } (العنكبوت:69).
    فهذه الوظائف إذ قام بها العبد، فإنها كفيلة بإذن الله أن تساعده على التحلي بالصبر على طاعة الله، ولزومها والثبات عليها.

    2- صبر عن معصية الله:
    وهو أشد ما يكون العبد حاجة إليه، وبخاصة إذا تيسرت أسباب المعصية، وغاب الرقيب من البشر. وكلما كان الفعل الممنوع مما يتيسر فعله، كمعاصي اللسان من الغيبة والكذب ونحوهما، كان الصبر عليه أثقل.
    مثاله: أن ترى الإنسان إذا لبس الحرير أو الذهب استنكرت ذلك. ويغتاب أكثر نهاره، فلا تستنكر ذلك. لكن العبد لم يُترك سدى فقد حباه ربه الحليم بكل ما يصلحه، فما ترك داء يصيب عبده إلا أنزل له شفاءً، لذلك كان لهذا النوع من قلة الصبر عن المعاصي ما يعالجه، ويعين الإنسان على تحقيقه. وقبل وصف علاج هذا الداء، نذكر وصفاً لحال بعض عباد الله الصالحين في صبرهم عن المعاصي، وقد توفرت لهم كل أسباب مواقعتها، لكنهم بتوفيق الله ثم بإخلاصهم لله نجوا من الوقوع فيها.

    فأفضل عباد الله أنبياؤه، ففيهم القدوة كما قال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام:90) لذلك نحاول أن نرى صورة عملية لهذا النوع من الصبر الثقيل على النفس والصعب عليها، ومن خلال موقف نبي الله يوسف عليه السلام، وقد عُرضت له الفتنة وتيسرت كل أسبابها.

    يقول ابن القيم رحمه الله عن موقف يوسف وعظيم صبره عليه السلام: ( وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية، فصبر اختياره، ورضى ومحاربة للنفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعزباً ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريباً، والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً والمملوك أيضاً ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص. ومع ذلك توعدته إن لم يفعل، بالسجن والصَغَار، ومع هذه الدواعي كلها، صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه ) (مدارج السالكين:2/156).

    وعودة إلى الحديث عن علاج قلة الصبر عن المعاصي، فنذكر مثالاً لما يصلح علاجهاً لمن لم يستطع الصبر عن شهوة اتيان النساء، التي غلبته بحيث لا يملك فرجه، ولا عينه ولا قلبه وعلاجه كالتالي:

    1- مواظبة الصوم، وتقليل الطعام قدر الإمكان فإن ذلك كاسر لهيجان الشهوة، مما يساعد من صبره قليل.

    2- قطع الأسباب المهيجة لتلك الشهوة، فإنما تهيج بالنظر وتتحرك، فدواء ذلك كف البصر عن الوقوع على الصور المشتهاة، وما أكثر انتشارها في هذا الزمان، فإن النظر سهم مسموم من سهام إبليس. ومن أسبابه الاختلاط بالنساء، والتساهل في الحديث معهن، ومصافحتهن أو الخلوة بهن، وقطع هذا السبب بمقاطعة أماكن وجود النساء، كالأسواق، وعدم الاسترسال في الحديث معهن، واجتناب لمسهن نهائياً بمصافحة أو غيرها.

    3-تسلية النفس بالمباح مما تشتهيه النفس، وهذه الشهوة لا يكسرها مثل النكاح، والقاعدة التي يجب أن يستحضرها الإنسان دائماً، هي أن كل ما يشتهيه الطبع من الحرام، ففي المباحات ما يغني عنه بحمد الله تعالى، مما يريح النفس من عناء الآثار التي تتركها المعصية في نفس العاصي أو أحواله عموماً بل الأكثر من ذلك أن العبد يؤجر على فعل المباح إذا قصد به التعفف، والابتعاد عن الحرام، وهذا من عظيم فضل الله على عباده، ييسر النعمة ويأجر عليها، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " وفي بضع أحدكم صدقة ". قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " (رواه مسلم).

    3- صبر على ابتلاء الله وامتحانه:
    بأنواع المصائب من أمراض، ونقص في الأموال والأنفس، وهذا كله مما لا كسب للإنسان، بل فعل الله بالعبد امتحاناً وتمحيصاً وتطهيراً. والصبر على هذا النوع من المقدورات من أعلى المقامات، لأن سنده اليقين في ثواب الله، وحسن عوضه، وأنه أرحم الراحمين لا يفعل ذلك بعبده إلا لحكمة يعلمها، وإلا لمصلحة ذلك العبد إما عاجلاً أو آجلاً. وما دامت هذه الابتلاءات ليست من كسب العبد، ولا حيلة له فيها أو معها، فالأفضل له الصبر عليها، واحتساب مشقتها على الله تعالى. والنصوص في فضل هذا النوع من الصبر كثيرة، ومواقف الصالحين من عباد الله في هذا الخصوص عديدة دالة على عظم يقينهم في وعد الله، وانتظارهم ثوابه جل وعلا.

    فقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها " (متفق عليه). ومن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: " الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض، وليس عليه خطيئة " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).

    ومن المواقف التي تؤنس العبد، ما يروى من سيرة بعض العلماء والصالحين، فقد روى ثابت البناني قال: ( مات عبدالله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة، وقد تطيب فغضبوا وقالوا: يموت عبدالله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدهناً؟ قال: أفأستكين لها، وقد وعدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إليّ من الدنيا وما فيها، ثم تلا قوله تعالى: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } (البقرة،157:156). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( من إجلال ومعرفة حقه، ألا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك ).

    وقال رجل للإمام أحمد رحمه الله: كيف تجدك يا أبا عبدالله؟ قال: بخير في عافية، فقال له: حممت (أي أصبت بالحمى) البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا في عافية فحسبك، ولاتخرجني إلى ما أكره.
    وعن هشام بن عروة قال: سقط أخي محمد وأمه بنت الحكيم بن العاص من أعلى سطح في اصطبل الوليد، فضربته الدواب بقوائمها فقتلته، فأتى عروة رجل يعزيه، فقال: إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتها، قال: بل أعزيك بمحمد ابنك قال: وما له؟ فأخبره: فقال: اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء، وأخذت ابناً وتركت أبناء. فلما قدم المدينة أتاه ابن المنكدر، فقال: كيف كنت؟ قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ) (السير:4/434).

    فلتحصيل هذه المنزلة العظيمة، منزلة الصبر بجميع أنواعه، فليشمر المشمرون، للدخول في زمرة عباد الله المخلصين.. الأنبياء، والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

    من طرق تحقيق منزلة الصبر

    لما لهذه المنزلة من المكانة في الدين، ولما غلب على سلف هذه الأمة، علمائها وصالحيها، من التحلي بها والتواصي بها، يجدر أن نتعرف على الأسباب المعينة على التحلي بالصبر، لأنه دواء لكثير من العلل والأمراض النفسية بل والعضوية كذلك. ولكنه دواء احتاج إلى قوة في النفس والإرادة لتحمله، لأنه محتف بمرارة الدواء، وكذلك يشق على كثير من الناس، إلا من وفقه الله تعالى. فالصبر من الأدوية التي أنزلها الله تعالى لكثير الأدواء، وقدر به الشفاء، وهو وإن كان شاقاً كما سبق فإن تحصيله يمكن إذا تحقق أمران هما العلم والعمل.
    فكل مرض يحتاج إلى علم وعمل يليق به خاص به، ومن الأمثلة العملية على ذلك: إذا افتقر المرء إلى الصبر عن شهوة الجماع، وهذا أكثر شيوعاً في الناس، وقد غلبت عليه بحيث لا يملك فرجه ولا عينه ولا قلبه، فعلاج ذلك بثلاثة أشياء:

    أحدها: المواظبة على الصوم والتقليل من الطعام وهذا من أعظم ما يحمل النفس على الصبر لأن فيه حبساً لها عن المباح، فتكون بعد ذلك أحبس عن المحرم والممنوع.

    الثاني: تسلية النفس بالمباح من جنس المشتهى، وذلك بالنكاح. وها هنا قاعدة، وهي: أن كل ما يشتهيه الطبع من الحرام، ففي المباحات غنية عنه. وهذا هو العلاج الأنفع لأكثر الناس.

    الثالث: قطع الأسباب المهيجة لتلك الشهوة، وأهمها النظر، والنظر يقع بالعين وبالقلب، والقلب محرك للشهوة، فدواء هذا الاحتراز عن مظان وقوع البصر على الصور المشتهاة لأن النظر سهم من سهام ابليس.
    فهذه الأشياء الثلاثة تجمع العلم والعمل، العلم بالوسائل المشروعة، والطرق الشرعية بتهذيب النفس، والعمل على تحقيق تلك الوسائل، وبذلك يستعان - بعد الله تعالى - على تحمل الصبر، وفيه تحقيق حسنيين هما:
    1- طاعة الله بالصبر على المكاره والتكاليف وبالصبر عن المعاصي.
    2- ثواب الله الذي ذكره في كتابه بقوله: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } (الزمر:10)، وقوله: {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } (النحل:96).
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
    اسلام ويب - موقع كلمات
                  

09-05-2015, 01:22 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    المراقبة الذاتية
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
    في الحديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً "، قيل: يا رسول الله صفهم لنا، جلّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ قال: " أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها ".

    قد يبتعد الإنسان عن المعاصي والذنوب إذا كان يحضره الناس، وعلى مشهد منهم، لكنه إذا خلا بنفسه، وغاب عن أعين الناس، أطلق لنفسه العنان، فاقترف السيئات، وارتكب المنكرات، {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً }(الإسراء:17) {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }(البقرة: 74).

    بل إن الإنسان ليقع في ذنب، لو كان بحضرته طفل لامتنع من الوقوع فيه، فصار حياؤه من هذا الطفل أشد من حيائه من الله جل وعلا، أتراه - في هذه الحالة - مستحضراً قول الله تعالى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }(البقرة:77 ) { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }(التوبة: 78).

    ويحك يا هذا، إن كانت جراءتك على معصية الله لاعتقاد أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك، وإن كان علمك باطلاعه عليك، فما أشد وقاحتك، وأقل حياءك!! {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً }(النساء:108).

    من أعجب الأشياء أن تعرف الله ثم تعصيه، وتعلم قدر غضبه ثم تعرض له، وتعرف شدة عقابه ثم لا تطلب السلامة منه، وتذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تهرب منها ولا تطلب الأنس بطاعته.
    قال قتادة: ( ابن آدم، والله إن عليك لشهوداً غير متهمة في بدنك، فراقبهم، واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله ).
    {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ }(فصلت:23،22).

    قال ابن الأعرابي: ( آخر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد ).
    {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }(ق:16).

    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيبُ

    ولا تحسبنّ الله يغفل ساعةً *** ولا أن ما نخفيه عنه يغيبُ

    إن تقوى الله في الغيب، وخشيته في السر، دليل كمال الإيمان، وسبب حصول الغفران، ودخول الجنان، بها ينال العبد كريم الأجر وكبيره {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ }(يس:11) {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }(الملك:12) {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } (ق:31-35).

    وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ". والمعنى أن العبد يخشى الله سراً وعلانية، ظاهراً وباطناً، فإن أكثر الناس قد يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن خشية الله في الغيب إذا غاب عن أعين الناس فقد مدح الله من خافه بالغيب.

    وكان بكر المزني يدعو لإخوانه: ( زهّدنا الله وإياكم في الحرام، زهادة من أمكنه الحرام والذنب في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه ).
    وقال بعضهم: ( ليس الخائف من بكى فعصر عينيه، إنما الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه ).
    إذا السر والإعلان في المؤمن استويا *** فقد عزّ في الدارين واستوجب الثنا

    فإن خالف الإعلان سراً فما له *** على سعيه فضل سوى الكدّ والعنا

    الأمور الموجبة لخشية الله عز وجل
    1- قوة الإيمان بوعده على الطاعة ووعيده على المعاصي.
    2- النظر في شدة بطشه وانتقامه وسطوته وقهره، وذلك يوجب للعبد ترك التعرض لمخالفته، كما قال الحسن: ( ابن آدم، هل لك طاقة بمحاربة الله، فإن من عصاه فقد حاربه ).
    وقال بعضهم: ( عجبت من ضعيف يعصي قوياً ).

    3- قوة المراقبة لله، والعلم بأنه شاهد رقيب على قلوب عباده وأعمالهم، وأنه مع عباده حيث كانوا فإن من علم أن الله يراه حيث كان، وأنه مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر.
    قال وهب بن الورد: ( خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه قدر قربه منك ). وقال: ( اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك ).

    4- استحضار معاني صفات الله تعالى، ومن صفاته ( السمع، والبصر، والعلم )، فكيف تعصي من يسمعك، ويبصرك ويعلم حالك؟!.. فإذا استحضر العبد معاني هذه الصفات، قوي عنده الحياء، فيستحي من ربه أن يسمع منه ما يكره، أو يراه على ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى أقواله وحركاته وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.
    قال ابن رجب: ( فتقوى الله في السر، هي علامة كمال الإيمان، ولها تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبها الثناء في قلوب المؤمنين ).
    قال أبو الدرداء: ( ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين ).
    وقال سليمان التيمي: ( إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته ).
    وقال غيره: ( إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك الذنب عليه ).
    وهذا أعظم الأدلة على وجود الإله الحق، المجازي بذرات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة، ولا يضيع عنده عمل عامل، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار.

    فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومن التمس محامد الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاماً له.

    ومن أعجب ما روي في هذا، ما روي عن أبي جعفر السائح قال: ( كان حبيب أبو محمد تاجراً يكري الدراهم، فمر ذات يوم بصبيان يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكل الربا. فنكس رأسه، وقال: يا رب، أفشيت سري إلى الصبيان. فرجع فجمع ماله كله، وقال: يا رب، إني أسير، وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح تصدق بالمال كله، وأخذ في العبادة، ثم مرّ ذات يوم بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيب العابد. فبكى، وقال: يا رب، أنت تذم مرة وتحمد مرة، وكله من عندك ).

    قال سفيان الثوري: ( إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئاً ). وودّع ابن عون رجلاً فقال: ( عليك بتقوى الله، فإن المتقي ليست عليه وحشة ).
    قال زيد بن أسلم: ( كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا ).
    نسأل الله عز وجل أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة، وفي السر والعلانية.

    عبدالقيوم السحيباني
                  

09-05-2015, 01:24 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    إذا كان يؤذيك حر الصيف
    الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
    أخي الكريم: إن في تقلب الليل والنهار وتحول الفصول عبرة وعظة لنا، كما قال ربنا تبارك وتعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ }(النور:44) وقال جلّ شأنه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }(الفرقان:62) قال بعض السلف: من عجز بالليل كان له في أول النهار مستعتب ( أي فرصة للاعتذار والاستغفار) ومن عجز عن النهار كان له في الليل مستعتب.
    وإذا كان مثل هذا في الليل والنهار، فهو أيضاً في تعاقب الفصول التي هي أيام وليال.. فإن فيها عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين، جعلنا الله وإياك منهم.

    أخي الحبيب: حديثي إليك في هذه الأسطر عن فصل من هذه الفصول، ولعلك عرفته من خلال العنوان ، نعم.. إنه فصل الصيف.. هذا الفصل الذي يذكّر حرّه بأمور كثيرة، منها:

    تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: " اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب آكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ".. فالمؤمن يتذكر النار، عند رؤيته لأمور كثيرة: منها تذكره لها كلما لفحته رياح الصيف وألهبت وجهه الناعم بحرها.. ويقول في نفسه: إذا كان هذا من نفس جهنم فكيف بجهنم نفسها؟؟!! عياذاً بالله تعالى منها.

    وإذا كنا أخي الحبيب لا نحتمل نار الدنيا وهي جزء من تسعة وستين جزءاً من نار الآخرة، فما الشأن في نار الآخرة؟؟!! ولذا قال بعض السلف: لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفي عام. يعني أنهم ينامون فيها ويرونها برداً.

    ومن ذلك: تذكر أحوال السلف الصالح رحمهم الله الذين كانت قلوبهم حية.. نعم أخي.. فكل ما يرونه ويشاهدونه في الدنيا يذكرهم بالآخرة.. ومن ذلك أن بعض السلف كان إذا شرب الماء البارد في الصيف بكى وتذكر أمنية أهل النار حينما يشتهون الماء، فيحال بينهم وبينه، ويقولون لأهل الجنة: {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ } (الأعراف:50).

    ومن ذلك، أن بعض السلف كان إذا دخل الحمام في الصيف وشعر بحر المكان تذكر النار، وتذكر يوم تطبق النار على من فيها وتوصد عليهم، ويقال لهم: خلود فلا موت، فإذا خرجوا من الحمام أحدث ذلك التذكر لهم عبادة.

    ومن ذلك أيضاً، أن بعض الصالحين صبّ على رأسه ماء من الحمام فوجده شديد الحر، فبكى وقال: ذكرت قوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } (الحج: 29) فلا إله إلا الله ما أشد تذكرهم.. وما أعظم اعتبارهم!! ورأى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى، ثم أنشد:

    من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار، يخاف الشين والشعثا

    ويألف الظلّ كي تبقي بشاشته *** فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا

    في ظلّ مقفرة غبراء مظلمة *** يطيل تحت الثرى في غمّها اللبثا

    تجهّزي بجهاز تبلغين به *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا

    وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حرّ الظهيرة، يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم يوم الجمعة.

    أخي الحبيب: وليس هذا فحسب! فهم رضي الله عنهم رغم انعدام وسائل التكييف والراحة ـ التي ننعم بها في زماننا والحمد لله ـ إلا أن ذلك لم يقطعهم عن طاعة من الطاعات، مهما كانت مشقتها على النفس، ومن تلك الطاعات التي كانت لا تنقطع في مثل هذه الحال: الجهاد في سبيل الله تعالى، ولعل أول ما يخطر في بالك تلك الغزوة العظيمة غزوة تبوك، التي خرج فيها سيد الخلق ـ بأبي هو وأمي ـ صلى الله عليه وسلم ، ومعه أصحابه رضي الله عنهم في شدة الحر، والتي لم تمنعهم عن النفير في الجهاد، لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولكنها منعت المنافقين الذين قالوا كما أخبر الله عنهم {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} (التوبة:81) فجاءهم الجواب المناسب لمقالتهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (التوبة:81) أما من تخلف من الصحابة الصادقين بغير عذر، فقد تاب الله عليهم بعد ذلك.

    أخي الحبيب: بعضنا يعجز عن مجاهدة نفسه على القيام ببعض الطاعات، وهو منطرح على فراشه الوثير تحت المكيف، آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده من ألوان الطعام الشيء الكثير، ومع ذلك يتثاقل عن صلاة الفجر جماعةً مع المسلمين، أو يتكاسل عن القيام بحقوق الوالدين، وصلة الأرحام.. إلى غيرها من أبواب الخير، أو يظن بمثل هؤلاء أن يجاهدوا أعداء الأمة وهم لم يستطيعوا جهاد أنفسهم؟؟!!.

    ومن ذلك أيضاً حرصهم على الصيام في الصيف لعظيم ثوابه، ولهذا كان معاذ بن جبل وغيره من السلف رضي الله عنهم يتأسف عند موته على.. أتدري على ماذا؟ أتظنه أسف عن قصر لم يشيّده؟! أم تراه أسف على صفقة تجارية لم يربحها؟! أم على امرأة حسناء لم ينكحها؟! كلا، لا هذا ولا ذاك.. بل أسف على ظمأ الهواجر.. ولهذا كان بعض الصالحين يحرص على صيام أشد أيام الصيف حرا، فيقال له في ذلك، فيقول: إن السعر إذا رخص، اشتراه كل أحد وهذا ـ وربي ـ من علو الهمة.

    فيا عبدالله: جاهد نفسك على هذه الطاعة العظيمة، التي اختصها الله سبحانه من بين العبادات بقوله: " الصوم لي وأنا أجزي به " كما في الصحيحين، جاهدها ولو يوماً في كل عشرة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وإن ألم العطش في اليوم الحار سيذهب في أول شربة ماء، أما أجره فأرجو الله تعالى أن تناله بل وتسرّ به يوم يقال في الدار الآخرة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (الحاقة:24)، ويوم ينادي الصائمون ليقال لهم ادخلوا من باب الريان.

    أخي: إن صيام الفرض يشترك معك فيه كل رجل من المسلمين، فأين همتك العالية؟ أين همتك التي لا ترضى بالوقوف عند الفرض في أعمال الخير؟ أين سلفك الصالح مع حرصهم على إتقان الفرائض لم يكونوا يتوقفون عندها، بل سمت هممهم إلى الذروة في المسابقة إلى الخيرات، لأنهم يعلمون أن سلعة الله ـ وهي الجنة ـ غالية، وأن دخولها وإن كان لن يتم إلا برحمة الله تعالى، إلا أن العمل سبب لذلك:
    ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر

    أخي الحبيب: إن بعض الناس ربما هرب في الإجازة الصيفية من الحر الشديد الذي يصطبغ به جو الجزيرة العربية، ربما هرب إلى أماكن باردة، أو معتدلة، وهذا لا محذور فيه ـ إذا كان ذلك السفر مضبوطاً بضوابط الشرع ـ إلا أن الملاحظ أن بعض الناس هداهم الله ـ يظن أنه بسفره للخارج قد خرج عن مراقبة الله.. فتراه يقتحم النار بأفعاله، نظر محرّم.. سماع محرّم.. مراقص، مشروبات محرّمة.. فواحش ـ والعياذ بالله ـ فإلى أولئك الفارين من الحر، والواقعين في أسباب غضب الرب جل جلاله يقال لهم: إلى أين تفرون؟ ومن أي شيء تهربون؟ إن المنافقين عصوا الله تعالى بجلوسهم في ظلال المدينة هرباً من الحرّ، وتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في حرّ الرمضاء استعداداً لقتال العدو، فياليتكم ـ معاشر الفارّين ـ تحولون هروبكم من الحر خارج البلاد إلى جهاد في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، ونشر الإسلام بصورته الصحيحة، كما خرج قدوتكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم للجهاد وقتال أعداء الله، ونشر الإسلام بين الناس، ليسعدوا به كما سعدت به أنت، وسعد به أهلك وعشيرتك.

    إن الجهاد الذي نطالبك به، لا يحتاج إلى حمل السلاح الثقيل ! ولا يحتاج إلى خبرة بأساليب الحرب! بل هو جهاد، بالقدوة الحسنة التي تترجمها بأخلاق الإسلام، والبعد عن المحرمات، وجهاد بالكلمة الطيبة، في دعوة من تلاقيه من الناس ـ في أي أرض تذهب إليها ـ مسلماً كان أم كافراً، كل حسب ما يناسبه.

    ولعلك تعتذر بأنك لست من حملة العلم الشرعي! أو لست من الدعاة! وما هذا ـ أيها الحبيب ـ بعذر، فمكاتب دعوة الجاليات منتشرة في كل مكان، وفيها كتب نافعة لأغلب لغات أهل العالم، وهل يكلفك ـ أيها الغيّور على دينك ـ الذهاب إليها لتأخذ معك بعض الكتب أو الأشرطة التي تناسب لغة البلد التي ستسافر إليها؟ لتكون بذلك داعية خير، ورسول سلام، وحامل دعوة، وما يدريك! فلعل الله تعالى أن يهدي على يديك أحداً في سفرتك هذه إلى الإسلام، فهو ـ والله ـ خير لك من الدنيا وما فيها، وغير خاف عليك أن كل عمل صالح يعمله ذلك الذي اهتدى على يديك، فسيكون في ميزان حسناتك.

    أخي.. رعاك الله: تمتع بما أحل الله لك، من وسائل تكييف، وراحة، وسفر، ولكن.. إياك أن تكون ممن يهرب من حر الدنيا ويقع بسبب التعرض للحر الأكبر في نار جهنم أعاذنا الله وإياك والمسلمين منها، وتذكر ـ حفظك الله ـ أنك بخير عظيم ما دمت تحمل همّ الدعوة إلى دينك ولو بإهداء كتيب أو إيصال شريط، ولا يكن ذلك الهندوسي القابع في زوايا بعض المزارع أو تلك الراهبة التي تعيش في غابات أفريقيا، لا يكن هؤلاء خيراً منا في الدعوة، مع أنهم يدعون إلى أديانهم الباطلة، ونحن ندعو ـ وبكلفة قليلة ـ إلى خير الأديان وخاتمتها وأكملها.

    أسأل الله تعالى أن يحفظك وأن يبارك فيك أينما كنت، وأن يعيذنا وإياك من أسباب غضبه، وأليم عقابه، وأن يجعلنا جميعاً من الدعاة إلى سبيله على بصيرة.
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
    دار القاسم
                  

09-05-2015, 01:26 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    لا تكذب على الأطفال
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين..أما بعد:
    الكذب على الأطفال خطأ كبير يقع فيه الآباء، وهم لا يدركون فداحته وتأثيره على تعود الأبناء على الكذب، وهو يزرع في قلوبهم البريئة الطاهرة الحقد والكراهية لمن يكذب عليهم، ثم يصير الكذب عادة لهم تعلموها من الكبار.

    فينبغي الحذر من الكذب عليهم بحجة أنهم صغار لا يفهمون، أو لا يدركون، بل هم يحسون ويدركون ويتأثرون، ويقلدون في نفس الوقت، وقد جاء عن عبد الله بن عامر أنه قال: دعتني أمي يوماً، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: ها، تعال أعطيك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما أردت أن تعطيه؟" قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة".
    قال صاحب عون المعبود: "وفي الحديث أن ما يتفوه به الناس للأطفال عند البكاء مثلاً بكلمات هزلاً أو كذباً بإعطاء شيء أو بتخويف من شيء حرامٌ داخل في الكذب".

    من السهل على المرء أن يتكلّم كثيراً عن أصول التربية ومنهاجها وضروراتها، ومن الممكن جدّاً تحديد القيم الفاضلة والمباديء السامية التي ينبغي غرسها في نفوس الناشئة، لكن في المقابل يصعب جدّاً الارتقاء بالدور التربوي ليكون قدوةً قبل أن يكون إرشاداً، وعملاً قبل أن يكون قولاً، وواقعاً قبل أن يكون مُثُلاً نظريّة.

    هذا هو المعنى العميق الذي انطوى تحت مظلّة الموقف النبوي سالف الذكر؛ فإنّ المربّي -سواءٌ أكان والداً في البيت، أو معلّماً في المدرسة، أو ناشطاً في حقلٍ دعوي، أو شيخاً في الحلقة- تحت المجهر دائماً من قِبَل المتربّين خصوصاً عندما يكونون في المراحل العمرية المبكرة.

    وما دام الأمر كذلك، فإن أي فعلٍ يصدر من المربّين إنما هو بمثابة التوجيه الفعلي للمتلّقي، الذي لو تعارض عنده قول المربّي وفعله فلعلّه أن يُقدّم الفعل لاشعوريّاً، لذلك كان على المربّين استشعار خطورة الأمر والتنبّه لقول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف:2-3).

    ولربما ظنّ البعض أن المسألة أهون من ذلك، وأن الأمر ليس سوى كذبة صغيرة، لكنّ الطرف الآخر لا ينظر إليها كذلك، خصوصاً وأن الأطفال يحبون المحاكاة من تلقاء أنفسهم، فينشأون على هذا الخلق الذميم.

    ويظهر الأثر المدمّر للكذب على الأطفال في صورة فقدان الطفل للثقة بأبويه جرّاء عدم التزامهما بالوعد المقطوع، الأمر الذي يجعله يشكّك في أي وعدٍ مستقبلي صادرٍ منهما، وحبل الثقة بين الوالد والولد إذا انقطع فإنه يصعب وصله.

    ومن اللطائف التي ينبغي التوجيه إليها -غير ما تقدّم-، عدم استخدام المعاريض والتورية أثناء التعامل مع الأطفال إلا على أضيق نطاق؛ والتورية هي النطق بالكلمة أو الجملة يكون لها معنى قريب يرتسم في ذهن المتلقّي ومعنى بعيد يقصده القائل، والسبب في المنع هو أن الأطفال لا ينظرون إليها إلا كحيلة أو كذبة، ولا يفهمون حقيقتها.

    وانظر إلى ما أورده صاحب المدخل حيث قال: "وقد ورد فيمن انفلتت دابته فلم يقدر على إمساكها فأراها المخلاة، فتأتي على أن العلف فيها، فيمسكها، أنها تكتب عليه كذبة يحاسب عليها يوم القيامة، مع أنه معذور في ذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن إضاعة المال، وفعله ذلك من باب صيانته،ألا ترى إلى البخاري -رحمه الله- لما رحل من بلاده إلى بعض الشيوخ ليسمع عليه الحديث، فلما أن جلس عنده جاء صغير ليقع من موضع، فقبض الشيخ يده، لكي يظن الصبي أن في يده شيئاً يعطيه إياه، ليأتي فيأخذ ما فيها، فقام البخاري -رضي الله عنه- وتركه، ولم يسمع عليه شيئاً؛ لأنه رأى أن ذلك كذباً وقدحاً في الرواية عنه". فهذا البخاري -كما ترى- يترك السماع من محدث كبير، لأنه أوهم الصبي أنه يريد أن يعطيه شيئاً، ولم يعطه، فما بالك بمن يكذب على الأطفال ليل نهار!.

    فتربية الأبناء وتنشئتهم على الصدق وهم صغار، مسئولية كبيرة على الآباء، لا بد أن يدركوا ذلك.. فما الحال إذا كان الأب هو نفسه الذي يكذب على الابن؟! يعده يقول له: سأشتري لك كذا وكذا، مرة بعد مرة، ولم يفِ بشيء من ذلك، سنذهب إلى المكان الفلاني الصباح، فيظل الابن ليلته يفكر في الرحلة في الطلعة في زيارة عمه أو خاله أو قريبه بفرح ولهفة شديدة، ثم يصحو مبكراً قبل والده، يصبح فيتفاجأ أن ذلك الكلام لم يكن صدقاً ولم يفِ الأب بما قال، فيصدم الولد، ويتألم، وخاصة إذا تكرر هذا التصرف الأرعن من الوالد، وخاصة إن لم يبدِ الأب السبب والعذر الذي جعله يتخلف.

    فقل لي بالله عليك - أيها الفاضل - كيف نتصرف مع الأطفال بهذه الطريقة، ونأمل منهم بعد ذلك أن يتربوا على الصدق، ويحبوا الصدق؟! وصدق الشاعر القائل:
    وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه

    فالأب معلم، والأم كذلك، ومتى أخطأ الأب أو الأم، قلدهما الابن، وتأثر بهما في تصرفاتهما وأخطائهما، وصدق الشاعر حين قال:
    وإذا المعلم ساء لحظ بصيرةٍ جاءت على يده البصائرُ حولا

    فإياكم إياكم والكذب على الأطفال، فإنهم مرآة بيضاء، يظهر فيها كل ما ننقش فيها، وهم أمانة في أعناقنا، فلنؤدِ الأمانة، ولنعمل على وقايتهم من النار، كما قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(6) (سورة التحريم)
    موقع إمام المسجد
                  

09-05-2015, 01:28 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الاهتمام بأمر المسلمين
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد:
    فإن رابطة الدين هي أعظم وأقوى الروابط على الإطلاق، فهي أقوى من رابطة النسب التي تنفك بمجرد النفخ في الصور: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} ( المؤمنون ).
    وهي كذلك أقوى من رابطة الجوار التي تنفك بالموت ، وأقوى من رابطة المصالح التي تنقطع باختلاف المصالح حتى إن الأخ قد يقتل أخاه إذا تعارضت المصالح وما خبر ابني آدم منا ببعيد.

    أما رابطة الدين فإنها لا تنفك أبدا { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ( الحجرات من الآية 10).
    إن هذه الرابطة لا يقطعها ما يقطع بقية الروابط فهي مستمرة حتى في يوم القيامة: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} (الزخرف).

    وإذا دخل المؤمنون الجنة فقد أخبر الله عنهم بقوله: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} (الحجر).
    ومن حقوق هذه الرابطة الإيمانية أن يهتم المسلم بشأن إخوانه المسلمين وإن اختلفت الأوطان وتعددت اللغات وتباعدت الأجساد، هذا الاهتمام الذي يدفع العبد للعمل من أجلهم ، لنفعهم لنصرتهم ، لنجدتهم ، لرفع الضيم والظلم عنهم.

    فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
    ويقول صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ".

    وقد كان اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالمسلمين متجليا في كل حياته ، فحين أتاه قوم من مضر عليهم علامات الفقر فهم حفاة الأقدام ممزقوا الثياب ليس لديهم من حطام الدنيا شيء تغير وجهه وحعل يدخل ويخرج مهموما حزينا ثم صعد المنبر فحرض المؤمنين على الصدقة لكفاية هؤلاء الفقراء فقال: " تصدق رجل من درهمه ، من ديناره من صاع بره ، من صاع تمره ، ولو بشق تمرة " فجاء رجل بصرة تعجز عنها يده وتتابع الناس ، عندئذ تهلل وجهه وعاد إليه إشراقه وتبسمه.

    كما مكث شهرا يدعو للمستضعفين من المسلمين الذين يعانون إيذاء المشركين واضطهادهم ، وكان يقول في دعائه: " اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن ربيعة وسلمة بن هشام ، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين ".
    وبلغ من اهتمامه بأمر المسلمين أنه كان يتحمل عمن مات منهم دينه حين وسع الله عليه فكان يقول: " أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم ، فمن مات وعليه دين فعلينا قضاؤه ، ومن ترك مالا فلورثته".

    وكان يعود المرضى ويدعو لهم ويشهد جنازة من مات ، ويهتم بشأن اليتامى والأرامل ، بل كان يهتم بشأن الأفراد من أمته.
    أتاه سلمان الفارسي رضي الله عنه يخبره أن أهله كاتبوه على غرس نخل وعلى ذهب يدفعه إليهم خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في شأنه وقال: "إن أخاكم قد كاتب يهود على مال وعلى غرس" ، فقام المسلمون يتبادرون حتى دفعوا ذلك كله عن سلمان وبقي منه وزن نواة أو نواتين من الذهب فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان وأمره أن يتجر وشارك معه بيده في غرس النخل فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا من النخل الذي ألزم أهل سلمان وأولياؤه سلمان بغرسه.

    وحين علم بوفاة المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد ولم يخبره الصحابة ليشاركهم دفنها والصلاة عليها عاتبهم وذهب إلى قبرها فصلى عليها ودعا لها.

    وعلى نهجه سار أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم فكانوا كالجسد الواحد لا يطمع فيهم عدوهم ولا تغيب أخبار المسلمين عنهم ، حتى إن رجلا كعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة للمسلمين يقول: والله لو عثرت بغلة بالعراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لَمْ تسو لها الطريق؟.
    وقبل وفاته بأيام قلائل يقول : لئن أبقاني الله لأعملن رأيا للمسلمين لا تحتاج فيه بعدي أيم ( وهي المرأة التي لا زوج لها) إلى رجل. لكنه مات قبل أن يتم ما عزم عليه.

    أما صلاح الدين فكان اهتمامه بأمر المسلمين عجيبا يدل على إيمانه واستشعاره هذه الرابطة حتى إنه لما عوتب لأنه لا يضحك قال: كيف أضحك والقدس أسير؟.
    فكان يحمل هم القدس وكونها تحت الاحتلال الصليبي ونتيجة حمله هذا الهم أعد العدة وأخذ بالأسباب حتى كان اليوم الموعود الذي أراد الله أن يكون تطهير بيت المقدس على يدي من حمل همه.

    والمقصود يا أيها الحبيب أن المسلم يشعر بارتباطه بإخوانه المسلمين في كل مكان فيتألم لآلامهم ويفرح لأفراحهم ويبذل ما يستطيع لتفريج كرباتهم وأقل أحواله أنه لا يغفل عن الدعاء لإخوانه بظهر الغيب ، فهل أنت كذلك؟ هل تهتم بأمور المسلمين؟ هل تتذكرهم بدعواتك؟ هل تحمل هم أمتك؟.
    اسلام ويب
                  

09-05-2015, 01:30 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    قوت القلوب
    القلوب بأنوارها الإيمانية لا بضرباتها العضلية، ونور القلوب هو محك الإيمان وهمّ أهل الإحسان، فبنور القلب تضيء الحياة كلها، ولما كانت الحكمة من أجلِّ مفاتيح استنارة القلوب حرص عليها الأخيار وتتبعها الفضلاء في كل زمان ومكان، فهي الكنز الثمين الذي تشد له الرحال ويبذل فيه الغالي والنفيس، فسعادة القلب المستنير لا يعدلها سعادة، وهداية القلوب أعظم هداية، فاللهم نور بالحق قلوبنا، وثبتنا على الحق المبين.

    أجمل خريطة للدنيا هي التي رسمها مهندسو الحكماء الذين يعرفون الفرق الحقيقي بين العمران والخراب، وبين متين الأساس ومن شيد على شفا جرف هار .. مهندسون خبرتهم منبثقة من التجارب، وبصيرتهم استنارت من مشكاة الحكمة، وهم أجدر الناس على وصف الطريق، وتحديد علاماته وعقباته.

    يقول ابن الجوزي رحمه الله:
    من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
    ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37].
    تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن.
    أعجب العجائب: سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك، عما قد خبئ لك.
    تغتر بصحتك وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم.
    لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، وأبدى مضجع سواك - قبل الممات - مضجعك.
    وقد شغلك نيل لذاتك، عن ذكر خراب ذاتك:

    كأنّك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر!
    فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الرّيح بعدك والقبر!

    كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده، حتى نزل!. [أي نزل إيمانه ودرجته]
    وكم شاهدت والي قصر، وليه عدوه لما عُزل!.
    فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، وفعله فعل من لا يفهم ولا يدري ...
    كيف تنام العين وهي قريرة ؟ ... ولم تدر من أيّ المحلين تنزل؟" [صيد الخاطر، لابن الجوزي].

    فقوله –رحمه الله-: (وكم شاهدت والي قصر، وليه عدوه لما عُزل!) .. فهذا من نكد الدنيا، فالنفس تفرح بالمنصب وحين يعزل صاحبها تحس بمرارة أضعاف لذة وفرحة يوم توليه.

    قال سليمان بن يزيد العدوي:
    عَجَبًا لأَمْنِكَ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ * وَلِفَقْدِ إِلْفٍ لا تَزَالُ تَرَوَّعُ
    أَفَقَدْ رَضِيتَ بِأَنْ تُعَلَّلَ بِالْمُنَى * وَإِلَى الْمَنِيَّةِ كُلُّ يَوْمٍ تُدْفَعُ
    لا تَخْدَعَنَّكَ بَعْدَ طُولِ تَجَارِبٍ * دُنْيَا تَكَشَّفُ لِلْبَلاءِ وَتَصْرَعُ
    أَحْلامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ * إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ
    وَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِبًا * أَلِغَيْرِ نَفْسِكَ لا أَبَا لَكَ تَجْمَعُ

    وخير الفرح: الفرح بالفضائل وإن زهد فيها الناس، وتكالبوا على الدينار والدرهم، واستعاضوا بالفاني عن الباقي، فمن لم يجد متعته في الخيرات فلن يجدها في الشهوات والملذات.

    قال ابن عباد صاحب الوزارتين: "ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة تعدل حلاوة الوزارة حتى حضرت مجلسا لأبي القاسم الطبراني وأبي بكر الجعابي فدارت بينهما مناظرة، فكان الطبراني يغلبه بحفظه والجعابي يغلبه بدهائه، ولم يفصل لأحدهما على الآخر، حتى قال أبو بكر الجعابي: عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي.
    قال له الطبراني: وما هو؟
    قال: حدثنا أبو أحمد الحاكم حدثنا سليمان بن أحمد .. وساق حديثا .. فقال له الطبراني: أنا سليمان بن أحمد .. خذه مني عاليا!
    قال: فخجل الجعابي .. ووددتُ أنه لم تكن لي الوزارة، وأني فرحت كفرح الطبراني".

    ومن شؤم العبد أن يأتي ربه يوم القيامة وقلبه خالي الوفاض من نور الإيمان، فأمثال هؤلاء في شدة من حسابهم كما كانوا في الدنيا في شدة شهواتهم، فظلمة القلب عُسرة لا تدانيها عسرة، وشدة لا تشابهها شدة.
    قال تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد:18] قال إبراهيم النخعي: "سُوء الحساب: أن يحاسبَ الرجلُ بذنبه كلّه لا يغفر له منه شيء".

    وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ، آخِذٌ بِيَدِهِ، إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْترُهُ: فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَليْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ". [البخاري].

    قال الغزالي - رحمه اللّه تعالى-: وهذا إنما يرجى لعبد مؤمن، ستر على الناس عيوبهم، واحتمل في حق نفسه تقصيرهم، ولم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون، فهو جدير بأن يجازى بذلك.

    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-05-2015, 01:32 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    فضل العبادة في زمن الفتن
    الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل ، والصلاة والسلام على البشير النذير ، وعلى آله وصحبه الأخيار الميامين ، وبعد:
    فإن أكثر الناس في أزمنة الفتن ينشغلون بها ، ويخوضون كثيرا فيها إما بالفعل والمشاركة وإما بالقول والتحليل وغير ذلك ، لكن قليلا من الناس من ينشغل في أوقات الفتن بإصلاح قلبه وتزكية نفسه بمزيد إقبال على الله تعالى وجمع القلب عليه والتوجه إليه سبحانه بأنواع القربات والطاعات.

    يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
    (إن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف الدين ويقل الاعتناء به ، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه وما يتعلق به ، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة).
    وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العبادة في الهرج كهجرة إلي". (رواه مسلم).
    والهرج هو وقت الفتن والفوضى واختلاط الأمور وشيوع القتل ، فتكون العبادة في هذه الأجواء الصعبة كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولا شك أن الفضل الوارد في هذا الحديث لمن عبد الله في أوقات الفتن فضل عظيم جدا ؛ فإن الهجرة إلى الله ورسوله من أعظم الأعمال التي يرجو بها أصحابها الخير ، ويكفيك في بيان هذا الفضل أن الله تعالى يقول: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}(سورة الحديد).
    ويقول سبحانه: { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} (سورة آل عمران).

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار".
    وقال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله".
    إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الواردة في الكتاب والسنة تبين فضل الهجرة وأجرها، هذا الأجر يدركه من انشغل بعبادة ربه في أوقات الفتن.

    ومما يزيد الأمر إيضاحا أن أدلة الشرع قد دلت على أن الفضل يتضاعف لمن عبد الله تعالى في أوقات الغفلات ، انظر إلى حال الناس في الأسواق سترى أن أكثرهم ينشغلون ببيع وشراء وربما انشغل البعض بحلف كاذب أو غش أو تدليس وغير ذلك من المخالفات ، في مثل هذا الجو من يذكر ربه ويعبده بأنواع القربات يتضاعف أجره ، قال الله تعالى ممتدحا أمثال هؤلاء: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} (سورة النور).

    وفي الحديث الذي رواه النسائي: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم الجمع من أولى بالكرم ، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون وهم قليل ، ثم يحاسب الله سائر الخلائق".

    ولعل علي بن المديني كان ينظر إلى هذا المعنى حين قال: (ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله ما قام أحمد بن حنبل ، فقيل له: يا أبا الحسن ولا أبو بكر الصديق؟ قال: إن أبا بكر كان له أصحاب وأعوان ، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب).
    ولا تظنن أن ابن المديني يُفضل أحمد بن حنبل رحمه الله على أبي بكر رضي الله عنه ، فإن الصحابي أفضل من كل من جاء بعده كما قال ابن المبارك حين سئل عن المقارنة بين أمير المؤمنين عمر بن العزيز وأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال: غبار في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز.

    ومما يدل أيضا على فضل التعبد في أوقات الغفلات والفتن قوله صلى الله عليه وسلم: " فإن من ورائكم أيام الصبر ، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله".

    وليكن معلوما ومستقرا في نفوس المؤمنين أن تسلط الظالمين وأهل الباطل على المؤمنين لا يدوم ولا يستقر بل لابد من زواله والتمكين للمؤمنين ، بهذا نطقت أدلة الشرع المبين:

    { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} (سورة المجادلة).
    {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} (سورة النور).
    {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} (سورة الرعد).
    وغيرها من الأدلة ، لكن يسيء التعامل مع هذه الأدلة فريقان:

    الأول يتواكل ولا يعمل ويترك الأخذ بالأسباب المستطاعة وهو يظن أن التمكين سيأتيه لا محالة وهو فهم خاطئ لسنن الله تعالى التي لا تحابي ولا تجامل.
    والثاني يستعجل فيرتكب من الأفعال ما يجر على الأمة الويلات ويدخلها في أتون صراعات لم تستعد لها.

    فعليك أخي الحبيب بالتعبد لله تعالى في أوقات الفتن ، والأخذ بالأسباب والعمل لنصرة هذا الدين ، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} (سورة يوسف).
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    إسلام ويب
                  

09-05-2015, 01:35 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الإساءة إلى الناس فن !!
    نعم هي فن يتقنه كل من تخلى عن الأخلاق الكريمة والصفات النبيلة الجميلة ، فكل فن من الفنون له أصوله ومقوماته وقواعده ، لكن الإساءة إلى الآخرين تحتاج التخلي عن الأصول عن القواعد عن الأدب والحياء ، والتحلي بنوع من السفاهة وسوء الأدب.
    ولهذا تجد من أدمن الإساءة إلى الناس مرة بالسخرية منهم ومرة بالغيبة ومرة بقبيح القول ومرة بتتبع العورات والنقائص لينشرها بين الناس، تجد هذا الصنف من أسافل الناس وأجهلهم وأبعدهم عن التحلي بمكارم الأخلاق.

    إن الله تعالى قد أمرنا أن نكون من المحسنين في كل شيء : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) }(سورة البقرة).
    وإساءة الواحد منا في الحقيقة ترجع إليه كما قال الله تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } (الإسراء: 7).
    (أي: فإليها ترجع الإِسَاءة لِمَا يتوجَّه إليها مِن العقاب، فرغَّب في الإحسان، وحذَّر مِن الإِسَاءة).
    وقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } (الجاثية: 15).
    قال الشيخ السعدي رحمه الله: (وفي هذا حثٌّ على فعل الخير، وترك الشَّرِّ، وانتفاع العاملين، بأعمالهم الحسنة، وضررهم بأعمالهم السَّيِّئة).

    وقال بعض السَّلف: (ما أحسنتُ إلى أحدٍ، وما أسأتُ إلى أحدٍ، وإنَّما أحسنتُ إلى نفسي، وأسأتُ إلى نفسي).
    ومن أجل هذا المعنى قيل: (مَن رضي لنفسه بالإِسَاءة، شهد على نفسه بالرَّداءة والدَّناءة).

    وقال محمود الوراق:

    إني وهبت لظالمي ظلمي وغفرت له ذاك على علمي

    ورأيته أسدى إلي يدا لما أبان بجهله حلمي

    رجعت إساءته عليه وإحــساني إلى نفسي

    وغدوت ذا أجر ومحمدة وغدا بكسب الظلم والإثم

    وكأنما الإحسان كان له وأنا المسيء في الحكم

    وما زال يظلمني وأرحمه حتى رثيت له من الظلم

    وتزداد الإساءة قبحا وذما إذا كانت متوجهة إلى من يتأكد على المرء أن يحسن إليه كالوالدين ؛ ولهذا قرن النبي صلى الله عليه وسلم الإساءة إلى الوالدين بأعظم ذنب على الإطلاق وهو الشرك فقال: " أَلَا أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا. قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ".

    وإن من العجيب أن الإساءة تمنع العبد من الشفاعة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يكون اللَّعَّانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ". وذلك لأن اللَّعن إساءة ، بل من أبلغ الإسَاءة ، والشَّفاعة إحسان ، فالمسيء في هذه الدَّار باللَّعن ، سلبه الله الإحسان في الأخرى بالشَّفاعة ، فإنَّ الإنسان إنَّما يحصد ما يزرع ، والإِسَاءة مانعة مِن الشَّفاعة التي هي إحسان.

    الوسائل المعينة على ترك الإِسَاءة:

    1- الحِلْم:
    قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96].
    قال السعدي: (أي: إذا أَسَاء إليك أعداؤك بالقول والفعل، فلا تقابلهم بالإِسَاءة، مع أنَّه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته، ولكن ادفع إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم، فإنَّ ذلك فَضْلٌ منك على المسيء. ومِن مصالح ذلك: أنَّه تَخِفُّ الإِسَاءة عنك في الحال، وفي المستقبل، وأنَّه أَدْعَى لجلب المسيء إلى الحقِّ، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتَّوبة عمَّا فعل، وليتَّصف العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوَّه الشَّيطان، وليستوجب الثَّواب مِن الرَّبِّ) .

    2- الاستغفار:
    عن علي رضي الله عنه قال: (ليس الخير أن يَكْثُر مالك وولدك، ولكن الخير أن يَكْثُر علمك، ويَعْظُم حلمك، وأن تباهي النَّاس بعبادة ربِّك، فإن أَحْسَنت حَمَدت الله، وإن أسأت استغفرت الله) .

    3- معرفة أنَّ في ترك الإِسَاءة رجاحة النَّفس، وراحة القلب:
    قال القاضي المهدي: (ولو لم يكن في الصَّفح -وترك الإِسَاءة- خَصْلَةٌ تُحمَد إلَّا رجاحة النَّفس ووَدَاع القلب، لكان الواجب على العاقل أن لا يكدِّر وقته بالدُّخول في أخلاق البهائم...) .

    4- حُسْن الظَّنِّ بالله.
    عن معمر، قال: (تلا الحسن: " وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ " [فصِّلت: 23] فقال: إنَّما عَمِل النَّاس على قَدْر ظنونهم بربِّهم؛ فأمَّا المؤمن فأَحْسَن بالله الظَّنَّ، فأَحْسَن العمل؛ وأمَّا الكافر والمنافق فأساءا الظَّنَّ، فأساءا العمل).

    5- قِصَر الأمل:
    إذ طول الأمل مدعاة إلى الإساءة ، عن الحسن رحمه الله: (ما أطال عبدٌ الأمل إلَّا أَسَاء العمل).

    نسأل الله أن يقينا مساوئ الأخلاق ، وأن يوفقنا والمسلمين لكل خير ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

    إسلام ويب
                  

09-05-2015, 01:37 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    نعمة الاستخلاف في الأرض والعيش في أرجائها والمشي في مناكبها فتنة وابتلاء، وليس أعظم من فتنة النعماء وامتحان السراء، لأن الرخاء ينسي، والمتاع يُلهي، والثراء يطغي، في دنيا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرها، مؤنقة في مظهرها، الفتنة بها حاصلة، وعدم السلامة منها غالبة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» [رواه مسلم].
    قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:2] أي ليبلوكم أيكم له أطوع، وإلى مرضاته أسرع، وعن محارمه أورع.

    يقول على الطنطاوي رحمه الله: ثلاثون سنة ما خرجت منها إلا بشيء واحد، هو أني رأيت الحياة كمائدة القمار، فمن الناس من يخسر ماله ويخرج ينفض كفه، ومنهم من يخرج مثقلا بأموال غيره التي ربحها، ومنهم من يقوم على الطريق يمسح الأحذية، ومن يمد إليه حذاءه ليمسحه له، ومن ينام على السرير، ومن يسهر في الشارع يحرس النائم، ومن يأخذ التسعة من غير عمل، ومن يكد ويدأب فلا يبلغ الواحد، وعالم يخضع لجاهل، وجاهل يترأس العلماء، ورأيت المال والعلم والخلق والشهادات قسما وهبات، فرب غني لا علم عنده، وعالم لا مال لديه، وصاحب شهادات ليس بصاحب علم، وذي علم ليس بذي شهادات، ورب مالك أخلاق لا يملك معها شيئا، ومالك لكل شيء ولكن لا أخلاق له، ورأيت في مدرسي المدارس من هو أعلم من رئيس الجامعة، وبين موظفي الوزارة من هو أفضل من الوزير .. ولكنه الحظ، أو هي حكمة الله لا يعلم سرها إلا هو، ابتلانا بخفائها لينظر: أنرضى أم نسخط.

    من الذي أمننا في الدور؟ من الذي أرخى علينا الستور؟ من الذي صرف عنا البلايا والشرور، والفتنة حولنا تدور؟ أليس هو الرحيم الغفور؟ فما لنا قد كثرت منا العثار، وقل منا الاعتبار والادكار؟ ما لنا لبسنا ثوب العصيان والغفلة والنسيان؟ غرنا بالله الغرور، برجاء رحمته عن خوف نقمته، وبرجاء عفوه عن رهبة سطوته.

    عن ابن السماك يحدث قال: بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكة في البحر فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي، ويقول: عزيز فلم تترك لعزك، غني فلم تترك لغناك، فقير فلم تترك لفقرك، جواد فلم تترك لجودك، شديد فلم تترك لشدتك، عالم فلم تترك لعلمك .. يردد هذا الكلام ويبكي.
    ولدتك إذ ولدتك أمك باكيا ... والقوم حولك يضحكون سرورا
    فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا ... في يوم موتك ضاحكا مسرورا

    كلكم يبكي لنفسه
    كان بالبصرة عابد حضرته الوفاة .. فجلس أهله يبكون حوله فقال لهم أجلسوني, فأجلسوه فأقبل عليهم وقال لأبيه: يا أبت ما الذي أبكاك؟ قال: يا بني ذكرت فقدك وانفرادي بعدك. فالتفت إلى أمه, وقال: يا أماه ما الذي أبكاك؟ قالت: لتجرعي مرارة ثكلك, فالتفت إلى الزوجة, وقال: ما الذي أبكاك؟ قالت: لفقد برك وحاجتي لغيرك, فالتفت إلى أولاده, وقال: ما الذي أبكاكم؟ قالوا: لذل اليتم والهوان من بعدك, فعند ذلك نظر إليهم وبكى.
    فقالوا له: ما يبكيك أنت؟ قال أبكي لأني رأيت كلا منكم يبكى لنفسه لا لي. أما فيكم من بكى لطول سفري؟ أما فيكم من بكى لقلة زادي؟ أما فيكم من بكى لمضجعي في التراب؟ أما فيكم من بكى لما ألقاه من سوء الحساب؟ أما فيكم من بكى لموقفي بين يدي رب الأرباب؟ ثم سقط على وجهه فحركوه, فإذا هو ميت.

    ملوك الدنيا
    قال معاوية -رضي الله عنه- عند موته لمن حوله: أجلسوني .. فأجلسوه .. فجلس يذكر الله, ثم بكى، وقال: الآن يا معاوية، جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام, أما كان هذا وغض الشباب نضير ريان؟! ثم بكى وقال: يا رب, يا رب, ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي .. اللهم أقل العثرة، واغفر الزلة، وجد بحلمك على من لم يرج غيرك، ولا وثق بأحد سواك .. ثم فاضت روحه رضي الله عنه.

    ويروى أن الخليفة عبد الملك بن مروان لما أحس بالموت قال: ارفعوني على شرف, ففعل ذلك, فتنسم الروح, ثم قال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإن كنا منك لفي غرور!.

    ولما أحتضر أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك, نظر إلى أهله يبكون حوله فقال: جاء هشام إليكم بالدنيا وجئتم له بالبكاء, ترك لكم ما جمع وتركتم له ما حمل, ما أعظم مصيبة هشام إن لم يرحمه الله.

    ولما مرض هارون الرشيد ويئس الأطباء من شفائه، وأحس بدنو أجله، قال: أحضروا لي أكفانا فأحضروا له، فاختار منها واحدا .. ثم قال: احفروا لي قبرا .. فحفروا له .. فنظر إلى القبر وقال: ما أغنى عني مالية ... هلك عني سلطانيه!

    وحينما حضر الخليفة المأمون الموت قال: أنزلوني من على السرير. فأنزلوه على الأرض، فوضع خده على التراب، وقال: يا من لا يزول ملكه .. ارحم من قد زال ملكه.
    وقال المعتصم عند موته :لو علمت أن عمري قصير هكذا ما فعلت ... !

    إنه الموت
    قال مطرف: إن هذا الموت أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيما لا موت فيه.
    وقال الحسن: فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحا.
    وقال سفيان: لو أن البهائم تعقل من الموت ما تعقلون ما أكلتم منها سمينا.
    وقال الأوزاعي: جئت إلى بيروت أرابط فيها، فلقيت سوداء عند المقابر، فقلت لها: يا سوداء، أين العمارة؟ قالت: أنت في العمارة، وإن أردت الخراب فبين يديك.

    همة ترقيك
    يقول على الطنطاوي: وجدت على نضد إبريقا من البلور الصافي طويل العنق واسع البطن، فيه نحلة قد دخلت ولم تستطع الخروج، فهي تتحفز وتتجمع وتثب متقدمة بقوة وبأس، فيضرب الزجاج رأسها ويردها، فتعاود الكرة وهي لا تبصر الجدار وإنما تبصر ما وراءه، فتحسب أنه ليس بينها وبين الفضاء حجاب. فجعلت أنظر إليها وهي تعمل دائبة، كلما ضربت مرة عادت تحاول أخرى لا تقف ولا تستريح، حتى عددت عليها أكثر من أربعين مرة، تجد الصدمة كل مرة فلا تعتبر ولا تدرك الحقيقة، ولا ترفع رأسها لتبصر الطريق وتعلم أن سبيل الفضاء وباب الحرية هو من «فوق» لا عن يمين ولا عن شمال.
    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-06-2015, 01:08 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    مَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ..سنة لا تتخلف أبدا
    المقصود بالسُّنَّة هنا: القانون العام الذي يحكم أفعال البشر وسلوكهم ، ويتسم هذا القانون بالثبات والاطراد، ويدل على اطراده أن الله تعالى قصّ علينا قصص الأمم السابقة وما حلّ بها لنتعظ ونعتبر، قال تعالى : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا} (سورة فاطر الآية 43 ).

    قال العلامة السعدي (المتوفى: 1376هـ) في تفسيرها : فمكرهم إنما يعود عليهم، وقد أبان الله لعباده ، أنهم – أي أهل الباطل - كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، ورد الله كيدهم في صدورهم. فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب، الذي هو سنة الله في الأولين، التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد، أن يحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فَلْيَتَرَّقب هؤلاء، ما فعل بأولئك. انتهى كلامه رحمه الله.

    ويتصف هذا القانون أيضا بالعموم أي يسري حكمه على الجميع دون محاباة ولا تمييز ، قال تعالى : {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } (سورة النساء من الآية 124), والمعنى: لَيْسَ الأمر بالأماني التي هي أحاديث النفس المجردة عن العمل ، ولكن من يعمل سوءاً يلق جزاءه ؛ لأن الجزاء - بحسب سنّة الله تعالى- أثر طبيعي للعمل لا يتخلف عنه . وبناء عليه فمجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها .

    ومن السنن الإلهية في الناس قوله تعالى {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18] ومعناها: مَنْ أراد الله إهانته فلن يُكرمه أحد، لا بنصرته ولا بالشفاعة له، فلا كرامة إلا بإكرام الله، ولا عزة إلا بعزة الله، لأن الأمور كلها بيده ، وهذا النص جزء من آية كريمة تسمى آية سجود المخلوقات ، وقد أكثر ابن القيم رحمه الله من الاستشهاد بهذا النص على عقوبة وآثار الذنوب والمعاصي في أكثر من موضع من كتابه الداء والدواء ، المسمى أيضا الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ،وقد جاءت هذه المواضع متناثرة ، وهَا أَنَا ذَا أجمعها لإخواني القراء مع بعض الزيادات والتوضيحات ، ولكن قبل أَنْ أسوقها أذكرك أخي القارئ بأَنَّ من كبائر الذنوب : الكذب والافتراء والبهتان و الكبر و الظلم و الفساد وقتل النفس بغير حق . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين البهيمة ووليدها ، ورأى أطفالا يلعبون بعصفور صغير و أُمُّهُ تحاول أنْ تأخذه منهم فقال النبي للصبية: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا عليها ولدها" !!.

    والآن إِلى كلام ابن القيم رحمه الله :

    - من آثار الذنوب والمعاصي: أَنَّهُ ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه. وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتك وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها،.وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب.

    - ومنها: أَنَّ كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل. فالعلو في الأرض بالفساد، ميراث عن قوم فرعون. والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود. فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله.

    - ومنها: أَنَّ المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه. قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصَوه، ولو عزّوا عليه لَعَصَمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم} ، وفي الحديث: " وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي". وإِنْ عَظَّمَهُمُ النَّاسُ في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.

    - ومنها : أَنْ يرفع الله عز وجل مهابته ـ أي العاصي ـ من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمره واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق، وعلى قدر تعظيمه لله وحرماته يعظمه الناس، وكيف ينتهك عبد حرمات الله، ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟ وقد أشار سبحانه إلى هذا في كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابها بما كسبوا، وغطى على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [سورة الحج: 18].

    - ومنها: أَنَّ غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم. فلا يكفيه عقاب ذنبه، حتى يلعنه من لا ذنب له. وكان أبو هريرة يقول: إن الْحُبَارَى لتموت في وكرها من ظلم الظالم. والْحُبَارَى نوع من الطيور ،قال ذلك حين سمع رجلاَ يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. وقالها مرة أخرى حين سمع آخر يقول: كل شاة معلقة برجلها.

    - ومنها: أَنَّ المعصية تورث الذل ولابد؛ لذا كان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك. قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهَملَجَتْ بهم البراذين، إنَّ ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى اللهُ إلا أن يُذِلَّ من عصاه. ومعنى الهملجة: أي حسن سير الدابة في سرعة وبخترة. والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العرب.

    - ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق العلم، وتحجب مواد الهداية. وقد قال مالك للشافعي لمّا اجتمع به: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية. ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحلّ، وظلام المعصية يقوى، حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم. فكم من مَهْلكٍ يسقط فيه، وهو لا يبصره ، كأعمى خرجِ بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب. فيا عزّةَ السلامة، ويا سرعةَ العطب! ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجهَ منها سوادٌ بحسب قوتها وتزايدها !!.

    - ومن عقوباتها: أنها تجعل صاحبَها من السِّفْلة بعد أن كان مُهَيًّأ لأن يكون من العِلْية. فإنّ الله خلق خلقَه قسمين: عِلية وسِفلة، وجعل أهل طاعته أكرمَ خلقه عليه، وأهلَ معصيته أهونَ خلقه عليه ، وجعل العزّة لهؤلاء ، والذلّة والصغار لهؤلاء. فكلّما عمل العبد معصيةً نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين. وكلّما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلَين. وها هنا أمر وهو أنّ العبد قد ينزل نزولًا بعيدًا أبعدَ مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض، فلا يفي صعودُه ألفَ درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح : "إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة الواحدة، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب".

    فأيُّ صعود يوازي هذه النَّزْلَةَ ؟.انتهى كلام ابن القيم ملخصا ومرتبا ، اللهم ياعزيز لا تذلنا بين خلقك ولا بين يديك ، آمين.
    اسلام ويب ( أحمد عبد المجيد مكي )
                  

09-06-2015, 01:10 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الجنة دار النعيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
    فإن الحديث عن الجنة من أعظم أسباب الاستقامة وصلاح القلوب ، والحديث عن الجن لا يُمل ، وكيف يمل الحديث عن دار بناها الله بيده ، وجعلها مقرا لأحبابه ، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه ، ووصف نعيمها بالفوز العظيم ، ومُلكها بالملك الكبير ، وأودعها جميع الخير بحذافيره ، أهلها يحيون فلا يموتون ، وينعمون فلا يبأسون ، ويشبون فلا يهرمون ، ويصحون فلا يمرضون؟.

    وهل أقض مضاجع العابدين ، وأسهر ليل المتقين ، وأرَّق الصالحين إلا خوفهم أن يُحرموا دخولها؟ وهل عاش الأنبياء والمرسلون وأتباعهم من المؤمنين إلا وهم يسألون الله الجنة؟.
    ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لرجل " كيف تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهد ، وأقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال صلى الله عليه وسلم: " حولها ندندن ".
    إنها الجنة عظيمة في اتساعها أنيقة في بنائها عجيبة في منازلها ودرجاته.

    أما اتساعها فيدل على عظمته قول الله تعالى: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) } ( الحديد ).
    وقوله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) } (آل عمران ).

    وإليك هذه الأحاديث التي تبين لك سعة الجنة:
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ في الجنَّةِ مائةَ درجةٍ ، أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيلِ اللهِ ، ما بين الدَّرجتَيْن كما بين السَّماءِ والأرضِ...".

    وأعجب من ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن نصيب آخر رجل يدخل الجنة فقال: " آخرُ مَن يدخلُ الجنَّةَ ، رجلٌ يمشي على الصِّراطِ ، فهوَ يمشي مرَّةً ، ويكبو مرَّةً ، وتسفعُهُ النَّارُ مرَّةً ، فإذا جاوزَها التفتَ إليها ، فقال : تباركَ الَّذي نجَّاني منكَ ، لقد أعطاني اللهُ شيئًا ما أعطاهُ أحدًا مِن الأوَّلينَ والآخرينَ ، فتُرْفَعُ لهُ شجرةٌ ، فيقولُ : أيْ ربِّ أدْنِنِي مِن هذهِ الشَّجرةِ فلأستَظِلَّ بظِلِّها ، وأشربَ مِن مائِها ، فيقولُ اللهُ : يا ابنَ آدمَ لعلِّي إن أعطيتُكَها سألْتَنِي غيرَها ؟ فيقولُ : لا يا ربِّ ، ويُعاهدُهُ أن لا يسألَهُ غيرَها ، وربُّهُ يعذرُهُ ، لأنَّهُ يرَى ما لا صبرَ لهُ عليهِ ، فيُدنيهِ منها ، فيستَظِلَّ بظلِّها ، ويشربَ من مائِها ، ثمَّ تُرْفَعُ لهُ شجرةٌ أُخرَى ، هيَ أحسنُ مِن الأُولَى ، فيقولُ : أيْ ربِّ أدْنِنِي من هذهِ ، لأشربَ من مائِها ، وأستَظِلَّ بظلِّها ، لا أسألُكَ غيرَها ! فيقولُ : يا ابنَ آدمَ ألَم تُعاهِدْني أن لا تسألَني غيرَها ؟ فيقولُ لعلِّي إن أدنَيتُكَ منها تسألْني غيرَها ؟ فيُعاهدُهُ أن لا يسألَهُ غيرَها ، وربُّهُ يعذرُهُ ، لأنَّهُ يرَى ما لا صبرَ لهُ عليهِ ، فيُدنيهِ منها ، فيستَظِلَّ بظلِّها ، ويشربَ من مائِها ، ثمَّ تُرْفَعُ لهُ شجرةٌ عندَ بابِ الجنَّةِ ، هيَ أحسنُ من الأُوليَيْنِ ، فيقولُ : أيْ ربِّ ! أَدْنِنِي مِن هذهِ ، فلأستَظِلَّ بظلِّها ، وأشربَ من مائِها ، لا أسألُكَ غيرَها ! فيقولُ : يا ابنَ آدمَ ألَم تُعاهدْني أن لا تسألَني غيرَها ؟ قال : بلَى يا ربِّ ، أدْنِنِي مِن هذهِ لا أسألُكَ غيرَها ، وربُّهُ يعذرُهُ ، لأنَّهُ يرَى ما لا صبرَ لهُ عليهِ ، فيُدنيهِ منها ، فإذا أدناهُ منها سمِعَ أصواتَ أهلِ الجنَّةِ ، فيقولُ : أيْ ربِّ أدخِلْنِيها ، فيقولُ : يا ابنَ آدمَ ما يَصريني منكَ ؟(أي يقطع المسألة بيني وبينك) أيُرضيكَ أن أُعطيَكَ الدُّنيا ومثلَها معها ؟ فيقولُ : أيْ ربِّ أتستَهزئُ منِّي وأنتَ ربُّ العالمينَ ؟ فيقولُ : إنِّي لا أستَهزئُ منكَ ولكنِّي على ما أشاءُ قادرٌ".

    و حين تقرأ هذا الحديث أو تسمعه قد يرد على ذهنك سؤال مهم:
    إذا كان هذا نصيب آخر رجل يدخل الجنة، فكيف يكون نصيب أعلاهم منزلة؟
    هذا السؤال سأله نبي الله موسى عليه السلام وكان الجواب من الله تعالى: " أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها . فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر" . قال:"ومصداقه في كتاب الله عز وجل : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } (السجدة / من الآية - 17 ).

    نعم إن الجنة لواسعة جدا حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في الجنَّةِ خَيمةٌ من لؤلؤةٍ مجوَّفةٍ . عرضُها ستُّونَ ميلًا . في كلِّ زاويةٍ منها أَهلٌ . ما يرونَ الآخرينَ . يطوفُ عليهِمُ المؤمنُ".

    هذه الخيمة فما بالك بالقصر؟

    وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ في الجنَّةِ لشجرةً ، يسيرُ الرَّاكبُ في ظلِّها مائةَ عامٍ لا يقطعُها".

    وأبواب الجنة عظيمة تدل على مدى سعة الجنة ، فقد خطب عتبة بن غزوان رضي الله عنه فقال: " ولقد ذُكر لنا أنَّ ما بين مِصراعَين من مصاريعِ الجنةِ مسيرةُ أربعين سنةً . وليأتينَّ عليها يومٌ وهو كظيظٌ من الزحامِ".

    فإذا عرفت أن مسيرة اليوم والليلة تعادل 75 كيلو متر تقريبا فإن عرض باب من أبواب الجنة يزيد على مليون كيلو متر ، وللجنة ثمانية أبواب .

    أما بناؤها فإنه لا يخطر على بال فقد سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن بناء الجنة فقال: " لبِنةٌ من فضَّةٍ ولبنةٌ من ذَهَبٍ ، وملاطُها المسكُ الأذفرُ ، وحصباؤُها اللُّؤلؤُ والياقوتُ ، وتُربتُها الزَّعفرانُ مَن دخلَها ينعَمُ ولا يبأسُ ، ويخلدُ ولا يموتُ ، لا تبلَى ثيابُهُم ، ولا يفنى شَبابُهُم...".

    سبحان الله ما أعجب هذا البناء وأحسنه ، لبنة من فضة ولبنة من ذهب والطين الذي يوضع بينهما من المسك الخالص ، والحصى على الأرض الياقوت واللؤلؤ ، لكن لم العجب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فاقرءوا إن شئتم: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}".
    لحديثنا بقية إن شاء الله ، نسأل الله أن يدخلنا الجنة بغير حساب ولا عذاب.
    والحمد لله رب العالمين.
    اسلام ويب
                  

09-06-2015, 01:13 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    ثلاثية .. العجز والكسل والوهن
    العجز هو وجود إرادة للفعل مع عدم وجود قدرة لإنجازه، أما الكسل فهو انتفاء تلك الإرادة .. فأي فعل هو اجتماع الإرادة مع القدرة، فالإنسان إذا توافرت له الإرادة، فقد خرج من دائرة الكسل، فإذا كان عنده القدرة فقد خرج من دائرة العجز .

    وإذا أصيب المرء بالعجز والكسل؛ فاغسل يديك منه .. فالكسل يُفوِّت علينا الفرص التي يصعب تعويضها، ويحرمنا من تحقيق ما نرغب فيه، وبالكسل تتراكم الأعمال حتى يصل المرء إلى العجز عن القيام بها، ومن بذر بذرة «لَيْتَ»، نبتت له شجرة «لعل»، يقطف فيها ثمر «الخيبة والندامة» .. قال الإمام الراغب رحمه الله: "من تعطّل وتبطّل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية وصار من جنس الموتى".

    ومن تعود الكسل ومال إلى الراحة فَقَدَ الراحة، وقد قيل: إن أردت ألا تتعب فاتعب حتى لا تتعب، وقيل أيضا: إياك والكسل والضجر، فإنك إن كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت فلن تصبر على الحق.
    ولقد ذم الله تعالى الكسل، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 – 39].
    بل عد سبحانه الكسل من صفات المنافقين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً} [النساء: 71 – 72].
    وعن أنس - رضي الله عنه – قال –صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال» [متفق عليه].

    للطب رأي
    من طريف الدراسات الطبية عن الكسل، ما أثبتته دراسة جديدة أن الكسل أكثر خطورة من التدخين، بعد أن تبين أن عدد من يقضي عليهم الكسل في (هونج كونج) أكبر من عدد من يقضي عليهم التدخين. وأظهرت الدراسة التي أجريت على سكان (هونج كونج) الذين توفوا في عمر يزيد عن 35 عاما عام 1998 أن عدم القيام بأي نشاط بدني أدى إلى وفاة أكثر من 6400 شخص في العام، مقارنة بأكثر من 5700 شخص توفوا بسبب التدخين.

    وجاء في الدراسة التي نشرتها صحيفة (ساوث تشاينا مورننغ بوست) أنه تم توجيه الأسئلة لأقارب حوالي 24079 شخصا توفوا عام 1998 حول قيام المتوفين بأية نشاطات بدنية خلال العقد الذي سبق وفاتهم. ونقلت الصحيفة عن البروفيسور (لام تاي هينج) رئيس قسم صحة المجتمع في جامعة (هونج كونج) الذي أشرف على الدراسة: "لقد حسبنا أن حوالي 20% من الوفيات التي حدثت لأشخاص في هونج كونج بعد سن 35 عاماً يمكن أن تعزى إلى عدم قيامهم بأي نشاط بدني. ويصل ذلك إلى 6450شخصاً".

    وأضاف أن الوفيات التي سببها الكسل تفوق تلك التي سببها التدخين والتي وصلت إلى 5270( عام 1998)، وتبين للباحثين أن خطر وفاة البالغين الذين لا يمارسون الرياضة بسبب الإصابة بالسرطان ترتفع بنسبة 45% عند الرجال و 28% عند النساء.
    بل إن التغلب على الكسل أولى خطوات الوقاية من الاكتئاب والتوتر لأنها ترفع قدرة الإنسان على المقاومة النابعة من سعادته، وإحساسه بالقدرة على الخروج من الدوائر الصغيرة، وأنه قادر على هزم الحصار الروتيني حوله، وبالتالي الانتصار على الأمراض.

    الطريق من هنا
    • من الطبيعي أنه قد تمر على الإنسان أحوال يفتر فيها عزمه، وتخور قواه النفسية، ويحتاج إلى تجديد العزم، وشحذ الهمة، وإنعاش الأمل في غدٍ أفضل، وسيجد ما يبحث عنه في حسن التوكل على الله، والترحال بين الأفكار والبلدان، وتشارك الهموم مع من يهتم به.
    • لكل نفس آلية خاصة لإدارة ذاتها، فابحث لنفسك عن آلية تجابه الوهن، وبإدارتك الناجحة لنفسك تكون قادراً على تخطي حواجز الوخم، وقمع الكسل وهنيئاً لك.

    • ابحث عن أهداف مقنعة وابنِ حياتك حولها .. يمكن للعديد من العوامل أن تُسهم في كَسَلك. لكن يبقى النقص في الرغبة للإنجازات أهم العوامل التي تثبط عزيمتك. فإذا لم تكن تتحرك باتجاه شيء يثيرك، فمن الصعب أن تعزز جهودك، وتتغلب على كسلك.

    • الحل يبدأ بما نسميه «البداية الصغيرة» حتى لا نقول كلاما كبيرا يؤدي إلى مزيد من الإحباط.. البداية الصغيرة تعني أن تختار من أعمالك المتراكمة عملاً واحدا.. هكذا بالتحديد عملا واحدا، وليس أكثر، ثم تحدد ساعتين يوميا -أيضا ساعتين فقط - ولا تستصغر الساعتين أو العمل الواحد .. وتبدأ في وضع خطة زمنية لإنجاز هذا العمل، ولنفرض أنه سيحتاج إلى عشر ساعات، فيكون المطلوب هو خمسة أيام لإنجازه.
    وهكذا حتى يتم إنجاز العمل الأول، فتنتقل بهدوء إلى عمل ثان أكبر قليلا، بعدد ساعات أكبر في اليوم، بعدد أيام أكبر، بنفس الطريقة السابقة....وهكذا إلى عمل ثالث ورابع.

    بهذه الطريقة ستجد أن حياتك ستنظم ووقتك سيرتب، لأنك ستتعود هذا الأسلوب في الإنجاز الهادئ المتدرج المنظم، ولا تنظر إلى أعمالك المتراكمة وتقول: ماذا ستفعل ساعتان في إنجاز كل هذه الأشياء؟ فالحقيقة الآن أنك لا تنجر شيئا على الإطلاق، ولا تحصل أي دقيقة عمل، وحياتك كلها غير منظمة.. فلننظم جزءًا من حياتنا، ولنبدأ بداية صغيرة، وبعدها سننظم حياتنا كلها، وسننجز كل أعمالنا بإذن الله تعالى.

    • من قال إن حياتنا يجب أن تكون مقصورة فقط على ما نحب؟! وهل إذا جاء يوم رأيت فيه أن في صلاة الفجر ثقلا عليك ستتملص منها؟ أم أنك ستجاهد نفسك للقيام بما هو مطلوب منك مرة بحب، ومرة من منطلق الالتزام.

    • الشفافية ومراجعة النفس ومتابعة التطورات في الحياة جهد مهم، ولابد أن ينال فاعله عظيم المثوبة.

    • ندب الحظ والتولول على النفس طريقة قديمة يتقنها الكسالى بكل احتراف، فلابد إذاً من صياغة النفس لمقاومة ودمغ التثاؤب أو الشعور به.

    • ينبغي أن نسقط العبارات التالية من قاموس حياتنا:
    o لقد فاتني القطار!
    o لم يعد في العمر متسع.. لقد شخت وتعذّر القيام بذلك.
    o ما فائدة العمل الآن.. لقد ضاعت فرص كثيرة.. إنّ الحظّ يعاكسني دائماً.
    o لقد سبقني إلى ذلك كثيرون.. لم يعد لي مكان.
    o جرّبت وفشلت لا داعي لتكرار التجربة.
    علينا أن نستبدل تلك العبارات بالعبارة التالية: «هناك دائماً وقت للعمل قبل الموت».

    • اجعل قلبك دائم الثأر من عدوه الذي يستحثه على الخمول .. أيقظ في داخلك نداء الانتباه والنشاط، ولا تتنازل عن تثبيت دعائمه، وإياك أن تُبقى خزانة أعمالك وإنجازاتك فارغة.

    • من الحالات التي قد يصاب بها المرء بعد إنجازه للأعمال - وخصوصاً تلك التي يبذل فيها جهداً كبيراً- الفتور والتراخي عن مواصلة بذل الجهد، وبالتالي الوقوع في الفراغ، والانخداع بالوقت. وهذه من الحالات التي ينبغي للجادين الانتباه إليها، لتلافي الوقوع في براثنها.
    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-06-2015, 01:15 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    إنها الجنة
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد:
    فعن حنظلة رضي الله عنه قال: لقِيني أبو بكرٍ فقال : كيف أنت يا حنظلةُ ؟! قلت : نافق حنظلةُ . قال : سبحان اللهِ ! ما تقول ؟ قلتُ : نكون عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ . يُذكِّرنا بالنار والجنةِ . حتى كأنا رأي عَينٍ . فإذا خرجنا من عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، عافَسْنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ . فنسِينا كثيرًا . قال أبو بكرٍ : فواللهِ إنا لنلقى مثل هذا! . فانطلقتُ أنا وأبو بكرٍ ، حتى دخلْنا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ . قلتُ : نافق حنظلةُ يا رسولَ اللهِ ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: " وما ذاك ؟ " قلتُ : يا رسولَ اللهِ ! نكون عندك ، تُذكِّرُنا بالنارِ والجنةِ . حتى كأنا رأى عَينٍ . فإذا خرجْنا من عندِك ، عافَسْنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ . نسينا كثيرًا . فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: " والذي نفسي بيده ! إن لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذِّكر ، لصافحتْكم الملائكةُ على فُرشِكم وفي طرقِكم . ولكن ، يا حنظلةُ ! ساعةٌ وساعةٌ ". ثلاثَ مراتٍ.(رواه مسلم).

    فانظر كيف أن الصحابي الجليل حنظلة رضي الله عنه يخبر أنهم حين يسمعون حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة فكأنهم يرونها ، ولعل هذا ما يفسر استهانتهم بأي شيء من حطام الدنيا إذا كان الثمن الجنة.
    لقد استشعر الصحابة رضي الله عنهم غلو السلعة المعروضة عليهم فبذلوا في سبيلها النفوس والأموال والأوقات والراحة ، وآثروا هذه الجنة على كل شيء.

    ولهذا فإن من أهم أدوية القلوب وأسباب إزالة الغفلة عنها التذكير بالجنة ونعيمها ، وهذا هو المسلك الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وهذا ما أخبرت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت: (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبدا ، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب :{بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).

    وقد وجدنا أثر هذه التربية في حياة الصحابة رضي الله عنهم ، فحين تنظر إلى ربيعة بن كعب الأسلمي وهو شاب يبلغ ثمانية عشر عاما ، لا يجد ما يؤيه سوى مسجد الرسول وليس عنده من الدنيا شيء فقد كان من أهل الصُّفة وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "سلني" فقال : مرافقتَكَ في الجنَّةِ ، قالَ: "أوَ غيرَ ذلِكَ". قال: هوَ ذاكَ، قالَ: "فأعنِّي على نفسِكَ بِكثرةِ السُّجودِ".

    أتصور لو إنسانا آخر في مثل حال هذا الشاب لطلب شيئا من الدنيا كبيت أو زوجة أو وظيفة ، لكنه تفكر فوجد أن الجنة لا يعدلها شيء وهي باقية لا تفنى ، وهل هذا إلا نتاج تربية؟!.

    ثم انظر إلى هذه المرأة التي كانت تصرع فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصْرَعُ، وإني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي، قال : " إن شِئتِ صبرتِ ولك الجنَّةُ، وإن شِئتِ دعَوتُ اللهَ أن يُعافيَكِ " . فقالتْ : أصبِرُ، فقالتْ : إني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أنْ لا أتَكَشَّفَ، فدَعا لها.
    عند المقارنة بين الجنة وغيرها لا يوجد مجال للتفكير ولا للمقارنة فالاختيار هو الجنة.

    بل انظر إلى أصحاب بيعة العقبة الثانية حين اشترط عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شروطا شديدة حيث قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "تبايعُوني على السَّمعِ والطاعةِ في النَّشاطِ والكسلِ والنفقةِ في العُسرِ واليُسرِ ، وعلى الأمرِ بالمعروف والنهي عنِ المنكرِ ، وأن تقولوا في اللهِ لا تخافون في اللهِ لومةَ لائمٍ ، وعلى أن تنصُروني فتمنعُوني إذا قدمتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءَكم ولكم الجنَّةُ " فقاموا إليه فبايعوه وأخذ بيده أسعدُ بنُ زُرارةَ وهو من أصغرِهم فقال : رُويدًا يا أهلَ يثربَ فإنا لم نضربْ أكبادَ الإبلِ إلا ونحن نعلمُ أنه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، وأنَّ إخراجَه اليومَ مفارقةُ العربِ كافَّةً ، وقتلُ خيارِكم ، وأنْ تعضَّكم السُّيوفُ ، فإما أنتم قومٌ تصبرون على ذلك وأجرُكم على اللهِ ، وإما أنتم قومٌ تخافون من أنفسِكم جبينةً فبيِّنوا ذلك فهو عذرٌ لكم عند اللهِ ، قالوا : أمِطْ عنا يا أسعدُ ؛ فواللهِ لا ندعُ هذه البيعةَ أبدًا ولا نُسلبَها أبدًا ، فقاموا إليه فبايعوه فأخذ عليهم وشرطَ ويُعطيهم على ذلك الجنةَ.

    وانظر إلى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وهو ذاهب للقتال في سبيل الله تعالى ، ماذا يريد؟ وبماذا يرد على الناس حين قالوا له ولمن معه من الجيش : صحبكم الله ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين؟ فقال عبدالله بن رواحة :
    لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

    أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

    حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا

    ولما تولى إمرة الجيش عقر ناقته وقاتل حتى قتل وكان يقول:

    يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارد شرابها

    وانظر إلى عمير بن الحمام رضي الله عنه حين كان في الصف يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على القتال ويقول: "قوموا إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ " فيقول عُمَيرُ بنُ الحمامِ الأنصاريُّ : يا رسولَ اللهِ ! جنةٌ عرضُها السماواتُ والأرضُ ؟ قال " نعم" قال : بخٍ بخٍ . فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما يحملك على قولِك بخٍ بخٍ " قال : لا واللهِ يا رسولَ اللهِ إلاَّ رجاءةَ أن أكون من أهلِها . قال: " فإنك من أهلِها " فأخرج تمراتٍ من قرنِه (أي جيبه) . فجعل يأكل منهنَّ . ثم قال : لئن أنا حَييتُ حتى آكلَ تمراتي هذه ، إنها لحياةٌ طويلةٌ . فرمى بما كان معه من التمرِ . ثم قاتل حتى قُتِلِ .
    فحين يسمعون عن الجنة لا يصبرون بل يبذلون كل ما يستطيعون للفوز بها.

    وعجيب أمر بي الدحداح رضي الله عنه وأمر زوجته فقد تعلقوا بالجنة تعلقا عجيبا يدل عليه ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه حين قال: إنَّ رجلًا قال يا رسولَ اللهِ إنَّ لفلانٍ نخلةً وأنا أُقيمُ نخلي بها فمُرْه أن يعطيَني إياها حتى أُقيم حائطي بها، فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : "أَعْطِها إياه بنخلةٍ في الجنةِ " فأبى، وأتاه أبو الدَّحداحِ فقال: بِعْني نخلَك بحائطي ( أي بستانه)قال:ففعل ، قال: فأتى النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ إني قد ابتعتُ النخلةَ بحائطي فاجعلْها له فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : "كم من عَذقٍ دوَّاحٍ لأبي الدَّحداحِ في الجنةِ "مِرارًا ، فأتى امرأتَه فقال : يا أمَّ الدَّحداحِ اخرُجي من الحائطِ فإني بعتُه بنخلةٍ في الجنةِ فقالت: قد ربحتِ البيعُ أو كلمةً نحوها.

    وبستان أبي الدحداح كان به ستمائة نخلة بذلها كلها في مقابل نخلة في الجنة ، ورضيت بذلك امرأته واعتبرته بيعا رابحا وهو كذلك.
    إنهم حين يجدون طريقا موصلا إلى الجنة التي تعلقت بها قلوبهم فإنهم يتسابقون ولا يتأخرون انظرلما ندب رسول الله المسلمين إلى الخروج إلى عير قريش فأسرعوا، قال خيثمة بن الحارث لابنه سعد: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك، فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة آثرتك به؛ إني أرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما فخرج سهم سعد فخرج مع رسول الله إلى غزوة بدر فاستشهد يومئذ.

    أيها الحبيب إن الأمثلة كثيرة جدا وإنما أردنا فقط الإشارة إلى شدة تعلهم بالجنة وبذلهم في سبيل الفوز بها النفس والولد والمال.
    فهل يشتاق قلبك إلى الجنة؟ وهل يحن إليها؟ وهل تؤثر أمر الله على هوى نفسك طلبا للجنة؟ وهل تقيم الفرائض وتجنب النواهي والمحرمات طمعا في الجنة؟

    أخي كيف تعلقك بالجنة وماذا تعلم عن نعيمها؟.

    نسأل الله الكريم أن يرزقنا الجنة بغير سابقة حساب ولا عذاب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    اسلام ويب
                  

09-06-2015, 01:18 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    إنها صيحة تحذير أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إن الدنيا حلوةٌ خضرةٌ . وإن اللهَ مستخلفُكم فيها . فينظرُ كيف تعملون . فاتقوا الدنيا واتقوا النساءَ . فإن أولَ فتنةِ بني إسرائيلَ كانت في النساءِ"(رواه مسلم).

    إن الله تعالى قد خلق الذكر والأنثى وجعل في كل منهما ميلا إلى الآخر، وشهوة وغريزة تجذبه إليه ، وقد جعل سبحانه الزواج هو الوسيلة المشروعة والمباحة لإشباع هذه الرغبة وقضاء الحاجة من الطرف الآخر ، قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} (الروم).
    وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)}(المعارج).

    والفتنة بالمرأة من أعظم الفتن التي يتعرض لها الإنسان ، فحين تحدث القرآن عن الشهوات التي زينت للإنسان قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}(آل عمران).
    قال القرطبي رحمه الله تعالى: (قوله تعالى: "من النساء" بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن؛ لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"(أخرجه البخاري ومسلم). ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء).أ.هـ

    وأكثر الناس إنما يؤْتَون من قبل الفتنة بالنساء ، وانظر إلى تفسير بعض السلف للضعف البشري الوارد في قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} ( سورة النساء).
    فقد قال طاووس رحمه الله في تفسيرها: أي ضعيفا في أمر النساء ، لا يكون الإنسان في شيء أضعف منه في النساء.
    وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: المرأة تمر بالرجل فلا يملك نفسه عن النظر إليها ، ولا ينتفع بها ، فأي شيء أضعف من هذا؟

    دور الأعداء في إشعال فتنة النساء
    لئن كان للشيطان حظ كبير من فتنة النساء وإغواء الرجال بهن ، فإن للأعداء دورا قد لا يقل خطرا عن دور الشيطان ، هذا الدور الذي حذر الله عباده المؤمنين منه فقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } ( النساء : 27 ) ، قال مُجاهد رحمه الله في تفسيرِ هذه الآية : أن تكونوا مثلهم ، تزنُونَ كما يزنُون .
    وأخبرنا الله سبحانه وتعالى عن محبتِهم لشيوع الفواحش فينا ، فتوعَّدَهُم قائلاً : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }(النور : 19 ) .

    (لقد أدرك أعداءُ هذا الدين عظيمَ أثر فتنة النِّساء ، ودورَها في سقوطِ الأُمَّةِ وانحلالها ، فكانَت قضيَّةُ المرأة الخنجرَ المسمومَ الذي طعنُوا به أُمَّةَ الإسلام ، فإذا بها تتغيَّرُ معالِمُها وتتشوَّهُ هويتُهَا حتى صارَ المُنكرُ معروفاً والمعروفُ مُنكراً ، وصارتِ النظرةُ الغربيَّةُ للمرأة : هي النظرة المثالية ، الدالة على المدنيَّةِ والرُّقِيِّ ، ورحمَ الله حَسَّانَ بن عَطِيَّةَ إذ قال : ( مَا أُتِيَت أُمَّةٌ قَطُّ إلا مِن قِبَلِ نِسَائِهِم) .
    ولا يصعُب على من يعرف شريعة الله تعالى ، إذا نظر في أعمال هؤلاء الفُجَّار أن يستنتج أنَّهم عَمِلُوا على مُناقَضَةِ الشريعةِ ومُعاندَتِها شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع :

    فبينما نادَت شريعة الحكيم الخبير بتحريم الزنا وجعلته جريمة من الجرائم الكُبرى التي تُوجِبُ أليمَ العقابِ ، جعلها هؤلاء من الحُرِّياتِ الشَّخصيَّة ، التي تتكفل قوانينهم بحمايَتِها.

    وبينما سَمَّت الشريعةُ الفواحشَ قاذوراتٍ وأوساخ ، فقد سمَّاها هؤلاءِ علاقاتٍ عاطفيَّةً (رومانسيَّةً) ليخفَّ وقعُها على الأسماعِ .
    وبينما جعلت الشريعةُ الحجابَ علامةَ الإيمانِ وسِمَةَ الطهارة وشعارَ العِفَّةِ والسترِ ، وجعلت التبرُّجَ كبيرةً وفاحشةً من أفعالِ الجاهليَّةِ ، جعلَ هؤلاء الحجابَ علامةَ التخلُّف والجُمُود والرجعيَّةِ ونعتُوه بأشنعِ الأوصاف ، وجعلوا التبرُّجَ تحضُّرَاً ورقياً ، وطائفةٌ منهم علِمَت مشقَّة طريق مُحاربة الحجابِ الشرعيِّ ، فمسختهُ في صُورةٍ تستهوي فتياتِ العصر ، وأملَوا لَهُنَّ : أنَّ الحجابَ لا يتعارضُ مع الأناقَةِ والجمالِ.

    وبينَمَا حثَّتِ الشريعةُ على الزَّواجِ ويسَّرَت سُبُلَهُ ، وضعَ هؤلاء أمامَهُ الحواجِزَ ونصبُوا في طريقِه العراقيلَ ، فصارت سُبُل الزواجِ طويلةً وعرةً ، وسُبُل الزِّنَا والفاحشةِ مُذلَّلةً ميسورَةً .

    وبينما جاءتِ الشريعةُ بتحريم النَّظرِ إلى النساء الأجنبياتِ ومُصافحتهنَّ والخلوةِ بهنَّ ، وتحريمِ الاختلاط المستهترِ بين الرِّجال والنساء ، جاء هؤلاء الفجار بكسرِ كُلِّ حاجزٍ بين الرِّجالِ والنساءِ ، فأشاعُوا الاختلاطَ في أماكنِ العملِ والجامعاتِ ، فيا لله كم من مجلسٍ بين شبابٍ وفتيات تعلو فيه الضحكات وتثارُ فيه الشهوات ، وكم من خلوة بين شابٍّ وفتاة تتبادل فيها المغازلات والقبلات ، ويُعصَى فيها ربُّ الأرض والسماوات ، وذلك كُلُّه تحت ستارِ التعليمِ الجامعيِّ المتحضر ، وربما انطلَى على بعضِ السُّذَّجِ أن هذا من الاختلاطِ الذي لا يمنعُه الشَّرعُ ، ولا شكَّ بأن من استحلَّ هذا النَّوع من الاختلاطِ لا يعرفُ الدينَ الذي جاءَ به محمدٌ صلى الله عليه وسلم .

    وبينما حَرَصتِ الشريعةُ على خُمُود ذكرِ الفاحشة في المُجتمع ، وعُلُوِّ ذكر العفَّةِ والطهارةِ والفضيلةِ ؛ جيَّشَ هؤلاء وسائلَ الإعلام من فضائياتٍ ومواقعَ إلكترونيَّةٍ ومجلاتٍ لتزيين الفاحشَةِ وإشاعةِ الرذيلةِ حتى يصيرَ ذكرُهَا بل النظرُ إليها أمراً مألوفاً ، فتلك أفلامٌ ومسلسلاتٌ رومانسية تدعُو إلى العلاقات الجنسيَّة المُحرَّمةِ ، يتلقَّى الشبابُ والشابات منها دروساً في أساليبِ العُهرِ والفُجُور والإغراء ، وهذه أغاني العشقِ والغرام تخدِشُ حياء العفيفاتِ وتُنبِتُ النفاق في القلوب وحُبَّ الفاحشة والمحرمات ، ويصير دعاةُ الزنا من المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات نجوماً وأبطالاً وقُدُوات ! .

    وبينما جاءت الشريعة بالحثِّ الأكيدِ على الغيرةِ على الأعراض ، وبذلِ الغالي والنفيسِ في سبيل صيانتِهَا ؛ عملِ هؤلاء الفُجَّارُ على وأدِ الغَيرةِ من قُلُوب الرِّجالِ ، حتى فشتِ الدِّياثةُ ، فالفتاة تخرجُ مُتطيِّبة متبرِّجَةً على مرأى أبيها وهو لا يُحرِّكُ ساكناً ، والزوجةُ صارت دُميةً يتباهى الرجل بجمالها وزينتها أمامَ أصحابِه ، وبعضُ من بلغت به الدياثةُ مبلغها يحاربُ ابنته أو زوجتَهُ إذا التزَمَتِ بالحجابِ الشرعيِّ ويمنعُهَا من الخُرُوج به .

    وبالجملة : فإنَّ المسلم المعاصر لا يحتاجُ إلى مُكابدَةٍ وعناء ليعلم أنَّها حملَةٌ مسعورةٌ وحربٌ شعواء ، يقودُهَا إبليسُ وأولياؤه .
    والسؤال الذي يطرح نفسه : لماذا كل هذا ؟!

    والجواب : أن المصدرَ الرئيس لقوة كل أُمَّةٍ هو في تميُّز هويتها عن سائرِ الأمم ، وهؤلاءِ يُريدُون منَّا – كما قال مجاهد رحمه الله – أن نكونَ مثلَهُم ، نزني كما يزنُون ، وإذا صِرنَا مثلَهُم لم تَعُد لنا هوية تُميِّزُنا عنهُم ، وضاعتِ أمتنا في دوامة الأُمَم الكافِرَة ، نعوذُ بحولِ الله وقوته من ذلك .

    ثمَّ إن هؤلاء الكُفَّار يُدركُون أنَّ العمل على نشرِ الفواحش والفسقِ هو الوسيلةُ السهلةُ التي يستطيعون بها قيادة الأمة نحو ما يشاؤونَ من أهدافٍ ، كما قال قائلهم : " كأسٌ وغانيةٌ يفعلانِ بالأُمَّةِ المحمديَّةِ ما لا يفعلُه ألفُ مدفع ودبابةٍ ، فأغرِقُوها في حُبِّ المادة والشهوات " .
    ويقول أحد حاخامات اليهود – عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة – : " شعبُنَا محافظٌ مؤمن ولكن علينا أن نُشجِّعَ الانحلالَ في المُجتَمَعات غيرِ اليهودِيَّةِ فيعُمَّ الكُفرُ والفسادُ وتضعف الروابطُ المتينة التي تعتبر أهمَّ مقومات الشعوب فيسهل علينا السيطرةُ عليها وتوجيهها كيفما نريد) .( بشارة الشباب بما جاء في غض البصر من الثواب).

    فهلا رجعنا إلى ديننا والتزمت نساؤنا شرع الله بالمحافظة على الحجاب والعفة وترك الاختلاط ، وهلا جعل الشباب بينهم وبين هذه الفتنة سياجا من الفضيلة والعفة يقي الأمة ويلات هذه الفواحش وعقوباتها؟!.

    نسأل الله تعالى أن يحفظنا والمسلمين وأن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

    اسلام ويب
                  

09-06-2015, 01:20 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    «بطر النعمة» من أبشع أنواع البطر وأشدها على النفس وأسوءها عاقبة ومذمة، خاصة وأن صاحبه انقطعت عنه الحجة وسقطت منه المعذرة، فصدور العصيان ممن هو في غاية الإنعام أقبح القبائح وغاية الخسران، وقد كان الأولى بالمتنعمين لزوم عتبة الشكر والاستمساك بعروة الحمد، ولكنها النفس الدنيئة التي تعلقت بالدنيا واطمأنت لها حتى تناست يوم الجزاء.

    قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] تعليلٌ لابتلائِهم بما ذُكِرَ من العذابِ أي إنَّهم كانُوا قبلَ ما ذُكِرَ من سُوءِ العذابِ في الدُّنيا منعّمينَ بأنواعِ النعمِ من المآكلِ والمشاربِ والمساكنِ الطيبةِ والمقاماتِ الكريمةِ منهمكينَ في الشهواتِ فلا جرمَ عُذبُوا بنقائضِها.[تفسير أبي السعود: 6/262].
    قال السعدي أي: قد ألهتهم دنياهم، وعملوا لها، وتنعموا وتمتعوا بها، فألهاهم الأمل عن إحسان العمل، فهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه.[تفسير السعدي: 1/834].

    وقال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11] النَّعْمَةِ: الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره. [البحر المديد: 6/442]
    قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: توبيخا لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم، وتهديدا لهم بأن الذي قال {ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} سيزيل عنهم ذلك التنعم. وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم، لأنهم كانوا يعدون سعة العيش ووفرة المال كمالا، وكانوا يعيرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}[المطففين: 29-30]،وجعلهم ذوي النعمة -المفتوحة النون- للإشارة إلى قصارى حظهم في هذه الحياة هي النعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].

    والإنسان متى استرسل مع لذاته وشهواته ربما ارتكب من الحماقات ما هو أشبه بالجنون، وقديما قالوا: «إذا جاء الترف أصاب الحضارة التلف» .. ففي أوروبا نجد الأسبان قد أدمنوا ما يعرف بمصارعة الثيران حيث يبرزون شجاعتهم أمام ثيران ضخمة وخزا بالسيوف على مرأى ومسمع من جمعيات الرفق بالحيوان التي صدعونا بشعاراتها، بل للأسبان يوما في العام تجري الثيران في الشوارع والطرقات ويتعرض لها الشباب في مهرجان كارثي لا يثمر سوى آلاف الجرحى وربما القتلى، كما يحتفل الأسبان كل عام ولمدة أسبوع كامل بمهرجان الطماطم، حيث يتراشق أكثر من أربعين ألف شخص في مقاطعة «فالنسيا» بالطماطم فيتلفون في معاركهم الهزلية تلك نحوا من مائة طن منها.

    وفي سويسرا مهرجان للبصل يقام في شهر نوفمبر من كل عام، يتفنن فيه المشاركون في تصميم أشكال فنية بديعة من البصل، وفي كافة الدول الأوروبية أقيمت فنادق للكلاب ومنهم من وهب ثروته لكلبه، وفي عالمنا العرب تسرب إلينا بعض الهوس بموسوعة الأرقام القياسية ولأننا لا باع لنا في دنيا العلوم والتكنولوجيا والاختراعات فصرنا نسمع أن أكبر طبق تبولة أو بقلاوة، وأكبر صينية كبة، وأكبر سلة فواكه، وأكبر قِدْرة فول وغيرها.

    وإن تعجب فلك أن تعجب مما جاء في تقرير نشرته منظمة الأغذية والزراعة العالمية «فاو» أن الجفاف والحرب في شرق أفريقيا خلفا أكثر من عشرين مليون شخص وهم في حاجة ماسة للمعونات الغذائية الطارئة. وأضافت أن 6500 شخص يموتون يوميا في أفريقيا بسبب الجوع، وأن مائة مليون طفل يعاني من الجوع في هذه القارة الغنية بالثروات. ومن المفارقات التي أظهرها التقرير أن أعداد البدناء في العالم تجاوز الآن المليار نسمة، وهي نفس أعداد من يعانون من سوء التغذية!!.

    ولذلك لم يذكر القرآن الكريم الترف إلا في موضع الذم، لأنه بريد الجحود قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:26-30] {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان:18].

    فالإغراق في التنعُّم والتَّرف سبب لِنُزول بلاء الله وعقابه، والحرمان من النَّصر والظفر؛ {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 64 – 65]، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 11- 13].

    وأصحاب الترف أصحب رأي معوج وحقائق مقلوبة ومنطق سقيم، فيستدلون بالنعمة على محبة الله لهم رغم معصيتهم وعنادهم، قال تعالى" {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ: 34 – 35] ولذلك رد الله عليهم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:36-37]
    بل إنهم لا يقتصرون في غيهم على أنفسهم بل هم دعاة فتنة وخراب، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16].

    وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون:33-38].

    والترف داء الأمم على مر الزمان، وهو الداء العضال والمرض القتال، الذي يحول المرء إلى وحش كاسر لا هم له إلا شهوته ولذته، فتموت نخوته وتضمحل غيرته وتفتر همته، فإن استَشرى الترف في أُمَّة، ذهب بعزِّها، وأورثها كسلاً وخمولاً، ورُكونًا إلى الدنيا، ومحبَّة لها، وحِرصًا عليها، فلا يُرتجى منها نفعٌ، ولا يُنتظر منها دفاعٌ عن الحق. قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}[هود: 116].

    ومن كنوز الوصايا النبوية قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين" [رواه أحمد]
    ورغم أن الترف شيد على الغنى وبني على بحبوحة العيش لكنه ليس بلازم له، فكم من غني يتقي في ماله ربه ويصل به رحمه، وكم من فقير نهم لتحصيل الملذات وإن غرق في الديون أو امتدت يداه للحرام .. قال - صلى الله عليه وسلم-: "لا بأس بالغنى لمن اتقى والصحة لمن اتقى خير من الغنى وطيب النفس من النعيم". قال محمد بن كعب: الغني إذا اتقى آتاه اللّه أجره مرتين لأنه امتحنه فوجده صادقاً وليس من امتحن كمن لا يمتحن.
    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-06-2015, 01:22 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    النُّصْرَةُ بالضعفاء سَهْمٌ لا يُنْسَى وَوَعْدٌ لَا يَخِيبُ
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
    فالنُّصْرَةُ : هي طلب النصر والعون. والأسباب التي يحصل بها النصر نوعان:
    النوع الأول : أسباب مادية ملموسة, وهذا النوع هو المشار إِليه في قوله تعالى :{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } أي: وَأَعِدُّوا لأعدائكم كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة والآلات ونحو ذلك مما يعين على قتالهم.

    ويلاحظ أَنَّ هذا النوع هو الذي يغلب على قلوب أكثر الخلق, ويعلّقون به وحده حصول النصر والرزق, وفي هذا من قِصَرَ النظر وضعف الإيمان وقلّة الثقة بوعد الله وكفايته ما الله به عليم.
    فالنصر ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ ، وإِنَّما هو بيد الله الواحد القهار، الذي يخذل مَنْ يريد خذلانهم مهما بلغوا مِنْ الكثرة والقوة، ، وفي هذا تنبيه لنا ألَّا نعتمد على الأسباب مهما بلغت ، فما هي الا طمأنينة للقلوب وتَثْبِيتًا لها على الخير والحق ، أَمَّا النصر الحقيقي الذي لا معارض له فهو من عند الله ، كما قال جل شأنه: {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.

    ولهذا أدب الله عز وجل صحابة نَبِيِّهِ -وهم خيار الخلق- حين أُعْجِبَ بعضهم بكثرتهم في غزوة حنين حتى قال قائلهم: « لَنْ نُغْلَبَ اليوم عَنْ قِلَّةٍ »، فَوُكِلُوا إِلَى هذه الكلمة، فَكَانت الْهَزِيمَة فِي الِابْتِدَاءِ ، وفر معظم المسلمين من الميدان, واشتدت عليهم الأزمة حتى ضاقت عليهم الأرض- على رحبها وسعتها- ثم ولوا منهزمين، إِلَّا رسول الله فإِنَّه ثبت ولم يَفِرّ، وصمد ولم يتخاذل، بل كان يدعو ربه بدعائه الخاشع قائلا: « اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَأَنْتَ نَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أقاتل »،
    فلما زال الْعُجْبُ عن الصحابة وعرفوا ضعفهم، أنزل الله السكينة عليهم ، وأنزل جنودا من عنده يثبتونهم ويبشرونهم حتى تحقق النصر.

    وأمّا النوع الثاني: فهو الأسباب المعنويّة, وهي قوّة التوكل على الله, وكمال الثقة به, وقوّة التوجّه إليه والطلب منه. وهذه الأمور تقوى جدّاً من الضعفاء العاجزين الذين ألجأتهم الضرورة إلى أن يعلموا حقّ العلم أنّ كفايتهم ورزقهم ونصرهم من عند الله, وأنّهم في غاية العجز, فتنكسر بذلك قلوبهم, وتتوجّه إلى الله ثقة فيه وطمعا في فضله وبرّه, ورجاء لما في يديه الكريمتين.
    فيُنْزِل الله لهم من نصره ورزقه ما لا يدركه القادرون, بل وييسّر للقادرين بسببهم من أسباب النصر والرزق ما لم يخطر لهم ببال, ولا دار لهم يوما في خيال.

    والسر في ذلك أَنَّ لِلَّهِ جنود السماوات والأرض ، جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، وهي لفرط كثرتها لا يعلم حقيقتها و عددها و قدرتها الا هو سبحانه ، فهو وحده الذي يكشف عما يريد الكشف عنه من أمرها، في الوقت الذي يريد و بالطريقة والهيئة التي يريدها ، لذا فهي غيب ،كما قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (المدثر: 31).

    وقد يَعْجَبُ الإنسان حين يعلم أَنَّ مِنْ هذه الجنود :الضعفاء والمرضي وذوي الاحتياجات الخاصة، ولولا ورود النصوص الصحيحة في ذلك لكان الأمر محور جدل وأخذ و رَدٍّ ، أسوق من هذه النصوص اثنين:

    الأول : ما رواه الامام البخاري في كِتَاب الجِهَادِ وَالسِّيَرِ من صحيحه- بَاب: مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْب - عن مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَى سَعْد بن أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ".
    أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حض سعد على التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حالة .

    والسؤال الذي قد يتبادر الى الذهن: ماهي المنزلة التي أراد سعد أَنْ يتميز بها عن إِخوانه؟
    نجد الجواب شافيا و تتضح لنا الصورة كاملة حين نضم الروايات بعضها إِلى بعض ، ففي رواية الامام عَبْد الرَّزَّاقِ: قال سعد يا رسول الله: أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟ فَذَكَرَ الحديث، وعلى هذا فالمراد بالفضل -كما يقول الحافظ ابن حجر -إرادة الزيادة من الغنيمة ، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أَنَّ سهام المقاتلة سواء، فإنْ كان القوي يترجح بفضل شجاعته فإِنَّ الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه.
    و الاستفهام في الحديث للتقرير، أي ليس النصر وإدرار الرزق إلا ببركتهم ، فأبرزه في صورة الاستفهام ليدل على مزيد التقرير والتوبيخ.

    الثاني- ما رواه الامام أحمد و الترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ ".
    ومعنى « أَبْغُونِي» أي اطْلُبُوا رِضَايَ فِي ضُعَفَائِكُمْ، وتقربوا إِلَيَّ بالتقرب إليهم وتفقد حالهم وحفظ حقوقهم والإحسان إليهم قولا وفعلا واستنصارا بهم، فهم الأحَقُّ بمجالستي، وبالقرب مني.

    ومعنى إِنَّما تنصرون وترزقون بضعفائكم: أي إِنَّما تُمَكَّنون من الانتفاع بما أخرجنا لكم و تعانون على عدوكم ويدفع عنكم البلاء والأذى بسبب وجود ضعفائكم بين أظهركم ، أو بسبب رعايتكم لهم أو ببركة دعائهم ، وذلك لأنهم أشد إخلاصا في الدعاء وأكثر خضوعا في العبادة لجلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا ، ومن هنا استدل بعض العلماء على استحباب إخراج الشيوخ والصبيان في صلاة الاستسقاء، فالضعيف إذا رأى عجزه وعدم قوته تبرأ عن الحول والقوة بإخلاص، ورق قلبه واستكان لربه وتضرع إليه فيستجيب الله دعاءه ويحقق له رجاءه، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، بخلاف القوي فإنه يظن أنه إنما يغلب الرجال بقوته، فيكله الله الى نفسه على قدر عجبه، ويكون ذلك سَبَبًا للخذلان .

    والمقصود بالضعفاء : مَنْ يكون ضعفه في بدنه (المرض الجسماني ) أو في نفسه (المرض الذهني والنفسي ) أو في حاله (الفقر وقلة ذات اليد ) ، والنصوص تشمل الأنواع الثلاثة ، فإِنْ قيل بأَنَّ المقصود بالضعفاء هم من يستضعفهم الناس لفقرهم ورثاثتهم ، لأنهم هم الذين يستطيعون الدعاء والصلاة ، كما في رواية النسائي: قال صلى الله عليه وسلم: " إِنما ينصُر الله هذه الأمةَ بضعيفها: بدعوتِهم، وصلاتِهم، وإِخلاصهم".

    فالجواب أَنَّ الدعاء والصلاة والاخلاص قد تتحقق في النوعين الآخرين، ليس من المريض نفسه و إِنَّمَا مِمَّنْ يقوم على رعايته ، فكم من مريض يتضرع أهله إلى الله وتنكسر له قلوبهم أكثر من صاحب المرض ذاته.

    الجمع بين التوكل واليقين وبين الأخذ بالأسباب :

    قد يظن القارئ الكريم أَنَّ هناك تعارضا بين النصوص السابقة وبين النصوص التي تمدح المؤمن القوي وتأمره بالأخذ بالقوة والاستعداد للأعداء ، وعند التأمل نجد أَنَّه لا تعارض، إذ المراد أَنَّه متى تمكن المسلم من الأخذ بأسباب القوة المادية وتيسرت له فعليه أنْ يسارع ولا يفرط ولا يقصر.

    وقد ورد الجمع بين الأمرين في قول الله عز وجل لنبيه: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } (الحجر :99).

    والمعنى: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات البدنية والمالية والقلبية، حتى يأتيك الموت، وأنت على ذلك ، وقد امتثل أمر ربه - بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم - ، فلم يزل دائبا في العبادة بجميع أنواعها حتى أتاه اليقين،
    كما جمع النبي الكريم بين الأمرين في قوله "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ، وَأَحَبُّ إِلى اللَّه مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. وفي كلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجَز..."

    فقوله: « احْرِصْ على ما ينفعك» أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص عليه، نية وهمة، فعلاً وتدبيراً.
    وقوله: «واستعن بالله» أمر بالاعتماد التام على الله في جلب المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة في تحقيق ذلك.
    أَمَّا إِذا لم يتمكن المسلم من الجمع بين الأمرين-كأن حبسه المرض في نفسه أو غيره - فعليه خفض الجناح ورقة القلب والانكسار بمشاهدة جلال الجبار.

    والخلاصة أَنَّ قلب العبد وجوارحه في حالة استنفار تام في ذات الله، الجوارح تستفرغ الوسع في الأسباب حتى يحس صاحبها من نفسه أنَّه لا مزيد ، والقلب يستجلب رضا الله وعونه وثقته ورجاءه والطمع فيه ، فإِنْ حدث وقعدت به الأسباب فليتحرك بقلبه الى الله ، فإِنَّ الله منجز له ما وعد، و ليس هذا فحسب بل ربما تَفَجَّرَتْ ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه .

    فلنحرص على تذكير الضعفاء وذويهم بهذه الْمِنَّةِ، وأن يقبلوا من الله صدقته ، وألَّا يستصغروا جهودهم ، فدعاؤهم لا يقل تأثيرا في الأعداء عن تأثير الأسباب المادية من أسلحة وعتاد.
    اللهم أَصْلِحْ لنا شَأْنَنَا كُلَّهُ، ولا تَكِلْنَا إِلى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، ولا إِلى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ. آمين
    إسلام ويب - أحمد عبد المجيد مكى
                  

09-06-2015, 01:24 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    السداد في القول من شيم الأبرار، وشعار الأطهار، وتوفيق من العزيز القهار، القائم على كل نفس بما كسبت، وهو ثمرة مجاهدة طويلة، ومذاكرة للعلم مديدة، فالعلم يهذب المنطق ويجلو الفكرة ويسدد البيان، فالحمد لله الذي خلق فهدى وأنعم فأجزل النعم.

    يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم مخاطبا عباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 69-70]، ويقول سبحانه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9]
    هاتان الآيتان الكريمتان اختصتا بمصطلح قرآني وأدب رباني لم يرد في غيرهما من آيات الذكر الحكيم، وهو خلق «السداد في القول».

    وفي اللغة: السداد والسدد: الاستقامة. والسَّدادُ: إصابةُ القَصد. وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض. قال ابن فارس: "ومن ذلك السَّديد، ذُو السَّداد، أي الاستقامة كأنّه لا ثُلْمة فيه". فالسداد بالمعنى العام هو التوفيق للصواب وإصابة القصد في القول والعمل.
    غير أننا إذا تأملنا نصي ورود المصطلح نلاحظ أنهما يشتركان في أمور هي:

    - ارتباط السداد بالقول في الآيتين معا.
    - الدعوة إلى القول السديد مسبوقة في النصين بالدعوة إلى التقوى.
    - أن المأمور بالسداد هم المؤمنون لا غيرهم.

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا} أي: في كل ما تأتون وما تذرون، لاسيما في ارتكاب ما يكرهه {قَوْلاً سَدِيداً} أي: قويماً حقاً صواباً.

    قال القاشاني: السداد: في القول، الذي هو الصدق والصواب، هو مادة كل سعادة، وأصل كل كمال؛ لأنه من صفاء القلب، وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات، وهو وإن كان داخلاً في التقوى المأمور بها، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى، لكنه أفرد بالذكر للفضيلة، كأنه جنس برأسه، كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.

    والقول يكون بابا عظيما من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر. وفي الحديث: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" [أحمد والترمذي] فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.

    {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فجعل صلاحَ الأعمال وغفران الذنوب متوقفاً على سداد القول. وذكر {لَكُمْ} مع فعلي {يُصْلِحْ} {يَغْفِرْ} للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].

    {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (والطاعة بذاتها فوز عظيم. فهي استقامة على نهج الله. والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة. والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه. وليس الذي يسير في الطريق الممهود المنير وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه! فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها؛ وهي الفوز العظيم، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم. أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة. فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل. والله يرزق من يشاء بغير حساب). [في ظلال القرآن].

    قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ" [أحمد] فالتحرّي في المنطق منهج الصادقين، وطريقة المؤمنين الصالحين، ومن علامات فضل الإنسان وصلاحه: «صلاحُ قوله وفعله»، ومن لم يعتنِ بما يقول ويعاتب نفسه على زلات لسانه فهو ناقص الدين والعقل والتجربة.

    قال أبو جعفر محمد بن يعقوب: كل صواب من القول ورث فعلا صحيحا فهو حكمة.

    ومن الأدعية التي يرجى نفعها في هذا الأمر ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- عليا -رضي الله عنه- أن يدعو به: "اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم". وفي رواية: "اللهم إني أسألك الهدى والسداد" [مسلم].

    قال القاضي: أمره بأن يسأل اللّه الهداية والسداد، وأن يكون في ذلك مخطراً بباله أن المطلوب هداية كهداية من ركب متن الطريق وأخذ في المنهج المستقيم، وسداداً كسداد السهم نحو الغرض، والمعنى أن يكون في سؤاله طالباً غاية الهدى ونهاية السداد.

    نماذج طيبة

    كان الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله رجلاً صالحًا عاقلاً، وقورًا كاملاً، مفرط الذكاء، وأكثر ما كان من صفاته بعد سيادته في العلم وانقطاعه له ما كان من زهده وورعه؛ إذ كان متقللاً من الدنيا جدًّا، متقشفًا متعبدًا، صبورًا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: "إني لأغلق عليَّ بابي فما يجاوزه همي".

    وليس أدل على ذلك مما حكاه عنه تلميذه النضر بن شميل حيث قال: "أقام الخليل في خُصٍّ من أخصاص البصرة، لا يقدرُ على فَلْسَيْنِ، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال" أي كان الناس يأكلون الدنيا بعلمه - رحمه الله -، كان بعضهم إذا أخذوا العلم عنه قربهم الحاكم وصاروا من حاشيته.

    أرسل الأمير إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي - رحمه الله - ليخبره إن كان يريد منه أن يصله بشيء، فقال له الخليل: "أنا مستغنٍ عنك بالذي أغناك عني".. فانظر إلى بليغ قوله وسداد رأيه رحمه الله.

    ومن حكايات زهده أن سليمان بن عليٍّ والي البصرة وجَّه إليه يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده نظير راتب يُجرِيه عليه، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا، وقال: ما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فأنشأ يقول:

    أبلغ سليمان أني عنـه في سعـةٍ *** وفي غِنًى غير أني لسـت ذا مـالِ

    سخي بنفسيَ أني لا أرى أحـدًا *** يموت هزلاً ولا يبقي على حـالِ

    والفقر في النفس لا في المال نعرفه *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المـالِ

    فالرزق عن قَدَرٍ لا العجز ينقصـه *** ولا يزيـدك فيه حَـْولُ محتـال

    فقطع عنه سليمان الراتب، فقال الخليل:

    إن الذي شقَّ فمي ضامن *** للـرزق حتى يتوفـاني

    حرمتني خيرًا قليلاً فما *** زادك في مالك حرمـاني

    فبلغت سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه، فقال الخليل:

    وزَلَّة يكثر الشيطان إن ذكرت *** منها التعـجب جاءت من سليمـانا

    لا تعجبَنَّ لخيرٍ زلَّ عن يـده *** فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا

    اسلام ويب (د. خالد سعد النجار )
                  

09-06-2015, 01:27 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الثقة بنصر الله
    تظهر حقيقة اليقين بالله في مراحل الضعف، إذ ليس صاحب اليقين مَن تنفرج أساريره وينشرح صدره ويتهلل وجهه حين يرى قوة الإسلام وعزة أهله وبشائر نصره، وإنما يكون اليقين لصاحب الثقة بالله مهما حلك الظلام، واشتد الضيق، واجتمعت الكروب، وتكالبت الأمم، لأن أمله بالله كبير ويقينه بأن العاقبة للمتقين، وأن المستقبل لهذا الدين.

    ولأن المجاهد يسعى لإقامة دين الله في الأرض، فإن سبيله إلى ذلك الصبر واليقين، يقول ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} (السجدة).
    وأهم ما يؤتاه المرء اليقين، كما في الحديث: "وسلوا الله اليقين والمعافاة، فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة"(صحيح الجامع، صححه الألباني).

    ولا تهلك هذه الأمة إلا حين يبخل أبناؤها بتقديم الجهود المتاحة لنصرتها، ثم يتجرعون كؤوس الأمل بلا عمل، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل"(صحيح الجامع،حسنه الألباني).

    ولأن الله وحده هو عالم الغيب فلا ندري متى النصر؟ ولا نعلم أين الخير؟ ولكن الذي نعلمه أن أمتنا أمة خير بإذن الله يرجى لها النصر من الله ولو بعد حين، ويشير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره"(صحيح الجامع، صحيح).

    ولا ندري على يد أي جيل يكشف الله الغمة، ويرفع شأن هذه الأمة ولكن الذي ندريه أن سنة الله في الكون كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة"(صحيح الجامع، حديث حسن).

    لقد جاءت بشائر كثيرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجدد الأمل وتثبت اليقين، منها وعد الله بأن يبلغ ملك الأمة المشارق والمغارب ومازالت هناك بقاع لم تقع تحت المسلمين، ولابد أن يفتحها الإسلام، كما في الحديث:
    "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها"(رواه مسلم).

    فإذا عرفنا أن الأصل في الإسلام العلو والسيادة والتمكين، فلا نستيئس من ضعف المسلمين حينا من الدهر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى"(صحيح الجامع، حديث حسن).

    وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم باستمرار زيادة الإسلام: " ولا يزال الإسلام يزيد وينقص الشرك وأهله، حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جورا، والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي، حتى يبلغ هذه الدين مبلغ هذا النجم" (صحيح الجامع، صحيح).

    فالأمل باق، وامتداد سلطان المسلمين مستمر بإذن الله .

    وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببشريات تذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط، وتثبت كل صاحب محنة، وتريح قلب كل فاقد للأمل بأبناء هذا الدين، حين لا يجد بصيص أمل يلمع له حيث قال: "بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض.... ".

    والجهاد مستمر إلى يوم القيامة، والطائفة الظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها، وهي مستمرة حتى يأتي أمر الله، وفي ذلك يقول: " لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" (رواه مسلم).

    والمقياس عند الله غير مقياس البشر، إن الله يجعل من الضعف قوة ، وذلك واضح من التأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم" (صحيح سنن النسائي للألباني).

    إن ذلك المسلم المسوق بالأغلال، المحبوس في الأقبية، الملاحق في كل مكان، الفاقد للسلاح، الفقير المعدم، بدعوته وصلاته وإخلاصه ينصر الله هذه الأمة، رغم كل صور الضعف التي تمثلت فيه، وكما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم الله على الله لأبره"(رواه مسلم).

    قد نرى القوة اليوم بيد أعدائنا والغلبة لهم علينا... ولكن لا ننسى أن الله هو المتصرف بهذا الكون، وعينه لا تغفل عن عباده المؤمنين، ولن يرضى لهم دوام الذلة واستمرار القهر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الميزان بيد الرحمن، يرفع أقواما، ويضع آخرين"(صحيح الجامع، صحيح).

    ولابد أن يرفعنا بعد أن وضعنا، إذا رأى منا صدق السعي لمرضاته.

    وفي كل قرن يعيد الله اليقين إلى نفوس الأمة، بأن يجعل فيها سباقين في الخير، لا يبالون بالمحن، يتأسى الناس بهم كما في الحديث: " في كل قرن من أمتي سابقون " (صحيح الجامع، حسن).
    كما يجعل في الأمة من يصحح لها المفاهيم، ويسير بها على الجادة، ويقودها إلى الهداية، ويجدد لها أمر دينها، وقد بشر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " (رواه أبو داود وصححه الألباني). فإما أن يأتي الفرج على أيدي السابقين، وإما أن يأتي على أيدي المجددين، ولكن الكرب لا يدوم.

    وجميع أعداء الإسلام واقعون في دائرة تهديد الله لهم بالحرب، ومن كان الله حربا عليه فلا خوف منه ولا أمل باستمرار سلطانه علينا كما جاء في الحديث القدسي: " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب... " (رواه البخاري).

    فلنتواص بالصبر على البلاء، والثبات إذا وقع القضاء، ولنكن بشير خير، ولا نكونن نذير شر، ولنقل للمتشائمين بعد طول انتظار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما اشتكوا من كثرة البلاء وشدته: " والله ليتمن الله هذا الأمر.... ولكنكم تستعجلون ".

    إن الثقة التي يريدها الرب سبحانه وتعالى من عباده هي الثقة التي تحققت في أم موسى عمليا حين قال عنها: { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (من الآية:7) وهكذا ألقته في اليم ولم تخف ولم تحزن، مع أن اليم خطير على الطفل الرضيع عادة، وكتب الله له النجاة، وتلقى فرعون الطفل الرضيع، ولم يخف من كفالته في قصره، لأن الطفل الرضيع لا يخيف من رباه عادة، فكان هلاك فرعون على يديه، وهكذا تجري عجائب قدر الله...

    وقد حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أصناف من الناس لا خير فيهم: "ثلاثة لا تسأل عنهم.. ورجل في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله .." (صحيح الجامع، صحيح).

    ولذلك فإن الأمة التي نخرها الشك، ونهشها القنوط لا يرجى خيرها ما لم تستعد الثقة واليقين بنصر رب العالمين.
    إن عقيدة الإيمان بالقدر مصدر من مصادر الثقة بأن العاقبة للمتقين، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيئ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه " (صحيح الجامع، صحيح).

    ليست المسألة مسألة تخلف وعد الله حاشاه سبحانه ولكنها مسألة التوقيت المقدور، والأجل المحدود، الذي لا يتقدم لاستعجال متعجل، ولا يتأخر لهوى كسول، ولذلك كان عمر بن عبدالعزيز كثيرا ما يدعوا: [ اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيئ أخرته، ولا تأخير شيئ عجلته]. وبهذه النفسية تزول ظاهرة الاستعجال، ويطمئن القلب بأن العاقبة للمتقين.

    ولئن مرت الأمة بفترات ضعف فلا ننس أنها تقادير الله ، الذي يقدر على إعادة عز ضاع، واسترجاع سيادة مضت، وشأن البشر الصعود والنزول، كما في الحديث: " مثل المؤمن مثل السنبلة، تميل أحيانا وتقوم أحيانا" (صحيح الجامع، صحيح). المهم أنها تقوم يوما ما، وتلك سنة كونية وهذا اليوم آت لا محالة إذا توفرت الأسباب.

    وهكذا مضت سنة الله في الأمم، كما في الحديث " عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد... ". ومع ذلك استمرت الدعوة، وستبقى مهما لقيت من الضعف في بعض الأزمان، ولن يعيب النبيَّ الذي ليس معه أحد أنه لم يهتد على يديه أحد، رغم بذله جهده في دعوته، كما لا يعيب المجاهد ألا يصل إلى النصر، رغم طول جهاده، إنما يعيبنا التقصير في أخذ الأسباب، والبخل بالجهد المستطاع وإن قل والباقي تعهد به الله حين يشاء.

    ولما يخشاه الشهداء على من بعدهم من الأحياء من ضعف الثقة المفضي إلى الزهد بالجهاد، أو اليأس من ثماره، يقولون لربهم سبحانه وتعالى: " من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم ... " (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    فلابد لليل أن ينجلي، ولابد للغثاء أن يذهب جفاء، ولابد لما ينفع الناس أن يمكث في الأرض، ويمضي قدر رب العالمين في أن تكون العاقبة للمتقين.
    محمود الخزندار رحمه الله
                  

09-06-2015, 01:29 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    المداراة نصف العقل
    لم يخلق الله سبحانه البشر متشابهين في كل شيء، لابد من اختلاف بينهم ولو كانت المقارنة بين التوأمين، وإن أشد ما تجد من اختلاف ما يكون بين الطباع والآراء والقناعات والعقول.

    إذا كان الأمر كذلك وكان الاختلاف سنة كونية ماضية فلابد من التعامل بنوع من العقل والحكمة لا سيما عند الاختلاف.

    ولا بأس أن تبذل شيئا من دنياك من أجل صلاح دنياك أو آخرتك أو صلاحهما معا، وهذا ما يسميه العلماء بالمداراة، كما ذكروا أيضا أن المداراة هي الملاينة والملاطفة، وفي تعريف آخر هي خفض الجناح للناس، ولين الكلام لهم، وترك الإغلاظ لهم في القول، والمداراة الدفع برفق.

    والفرق المهم جدا بين المداراة المندوبة والمداهنة الممنوعة هو أن المداراة تكون ببذل الدنيا لصلاح الدنيا والدين أما المداهنة فهي بذل الدين لإصلاح الدنيا.

    قال الحسن البصري: (كانوا يقولون: المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه).

    وعن وُهيب بن الورد قال: ( قلت لوهب بن مُنبِّه: إني أريد أن أعتزل الناس. فقال لي: لا بدَّ لك من الناس وللناس منك؛ لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتًا نطوقًا).

    ويقول محمد بن الحنفية، قال: (ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف، من لا يجد من معاشرته بدًّا، حتى يجعل الله له فرجًا، أو قال: مخرجًا).

    وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإنَّ قلوبنا لتلعنهم).
    وعنه أيضًا رضي الله عنه قال لزوجته: (إذا غضبت فَـرَضيِّني، وإذا غضبت رضيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق).

    وقال معاوية رضي الله عنه: (لو أنَّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدُّوها خلَّيتها، وإن خلَّوْا مددتها).

    أغمض عيني عن صديقي كأنني . . . لديه بما يأتي من القبح جاهل
    وما بي جهل غير أن خليقتي . . . تطيق احتمال الكره فيما أحاول
    متى ما يربني مفصل فقطعته . . . بقيت ومالي في نهوضي مفاصل
    ولكن أداريه ، وإن صح شدني . . . فإن هو أعيا كان فيه تحامل

    عن عروة بن الزبير، أنَّ عائشة أخبرته أنَّه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال صلى الله عليه وسلم: "ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول. فقال: أي عائشة، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من تركه- أو ودعه- الناس اتقاء فحشه" (رواه البخاري ومسلم).

    قال المناوي رحمه الله : (أي لأجل قبح فعله وقوله، أو لأجل اتقاء فحشه، أي: مجاوزة الحدِّ الشرعي قولًا أو فعلًا، وهذا أصل في ندب المدَاراة إذا ترتب عليها دفع ضرٍّ، أو جلب نفع، بخلاف المداهنة فحرامٌ مطلقًا، إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا، والمدَاراة بذل الدنيا لصلاح دين أو دنيا، بنحو رفقٍ بجاهلٍ في تعليم، وبفاسقٍ في نهيٍ عن منكر، وترك إغلاظ وتألُّف، ونحوها مطلوبةٌ محبوبةٌ إن ترتب عليها نفع، فإن لم يترتب عليها نفع، بأن لم يتقِ شرَّه بها كما هو معروف في بعض الأنام فلا تشرع).

    وقال صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهنَّ خلقن من ضِلع، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا".(رواه البخاري ومسلم).

    قال ابن حجر رحمه الله: (وفي الحديث الندب إلى المدَاراة لاستمالة النفوس، وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهنَّ، والصبر على عوجهنَّ، وأنَّ من رام تقويمهنَّ فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فكأنَّه قال: الاستمتاع بها لا يتمُّ إلا بالصبر عليها).

    وقال صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس اتقوا الله، وإنْ أُمِّر عليكم عبد حبشي مجدَّع، فاسمعوا له وأطيعوا، ما أقام لكم كتاب الله".(الترمذي وقال حسن صحيح).

    قال المباركفوري: (فيه حثٌّ على المدَاراة، والموافقة مع الولاة، وعلى التحرز عما يثير الفتنة، ويؤدي إلى اختلاف الكلمة).

    مداراة الأعداء للحذر من شرهم :

    قال الماوردي - رحمه الله تعالى - : (إذا كان للإنسان عدو وقد استحكمت شحناؤه ، واستوعرت سراؤه ، واستخشنت ضراؤه ، فهو يتربص بدوائر السوء انتهاز فرصة ويتجرع بمهانة العجز مرارة غصة ، فإذا ظفر بنائبة ساعدها ، وإذا شاهد نعمة عاندها ، فالبعد عن هذا حذرا أسلم ، والكف عنه متاركة أغنم ، لأنه لا يسلم من عواقب شره ، ولا يفلت من غوائل مكره إلا بالبعد عنه أو مداراته . وقد قال لقمان لابنه : يا بني ، كذب من قال إن الشر بالشر يطفأ ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ، ولينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى ، وإنما يطفىء الخير الشر كما يطفىء الماء النار .

    وأما إذا كان هذا العدو لئيم الطبع خبيث الأصل فمثل هذا لا يستقبح الشر ، ولا يكف عن المكروه فهذا حاله أطم وضرره أعم ولا سلامة من مثله إلا بالبعد عنه والانقباض ، ولا خلاص منه إلا بالصفح والإعراض لأنه كالسبع الضاري في سوارح الغنم وكالنار بطبع لا يزول ، وجوهر لا يتغير).

    قال الله سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 43-47].
    قال ابن كثير: (هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين).

    هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اسلام ويب
                  

09-06-2015, 01:31 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    يعمل الملاحدة والماديون وأذنابهم في خطط خبيثة ماكرة على هدم صرح الأخلاق، من خلال دعوى أنَّ الأخلاق أمور اعتبارية نسبية لا ثبات لها، تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، ومن أمة إلى أمة.
    فالذي يعتبر منافيًا للأخلاق عند شعب من الشعوب، لا يعتبر منافيًا للأخلاق عند شعب آخر، وبعض ما كان مستنكرًا فيما مضى قد يعتبر مستحسنًا في عصر آخر، فالأخلاق عند هؤلاء مفاهيم اعتبارية تتواضع عليها الأمم والشعوب، وليس لها ثبات في حقيقتها.

    وإنَّ أسباب الغلط أو المغالطة عند أصحاب فكرة نسبية الأخلاق، ترجع إلى ثلاثة:

    الأول: تعميمهم اسم الأخلاق على أنواع كثيرة من السلوك الإنساني، فلم يميزوا الظواهر الخلقية، عن الظواهر الجمالية والأدبية، وعن العادات والتقاليد الاجتماعية، وعن التعاليم والأحكام المدنية أو الدينية البحتة، فحشروا مفردات كل هذه الأمور تحت عنوان الأخلاق، فأفضى ذلك بهم إلى الخطأ الأكبر، وهو حكمهم على الأخلاق بأنها أمور اعتبارية نسبية.

    الثاني: أنهم جعلوا مفاهيم الناس عن الأخلاق مصدرًا يرجع إليه في الحكم الأخلاقي، مع أنَّ في كثير من هذه المفاهيم أخطاء فادحة، وفسادًا كبيرًا، يرجع إلى تحكم الأهواء والشهوات والعادات والتقاليد فيها، ويرجع أيضًا إلى أمور أخرى غير ذلك، والتحري العلمي يطلب من الباحثين أن يتتبعوا جوهر الحقيقة، حيث توجد الحقيقة، لا أن يحكموا عليها من خلال وجهة نظر الناس إليها، فكل الحقائق عرضة لأن يثبتها مثبتون، وينكرها منكرون، ويتشكك بها متشككون، ويتلاعب فيها متلاعبون، ومع ذلك تبقى على ثباتها، لا تؤثر عليها آراء الناس فيها.

    الثالث: اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق.

    أما مفاهيم الإسلام فإنها... قد ميزت الأخلاق عما سواها، وميزت السلوك الأخلاقي عن سائر أنواع السلوك الإنساني، فلم تعمم تعميمًا فاسدًا، ولم تدخل في مفردات الأخلاق ما ليس منها، وهي أيضًا لم تعتمد على مفاهيم الناس المختلفة، ولم تتخذها مصدرًا يرجع إليه في الحكم الأخلاقي، وأما العقل والضمير فإنها لم تهملهما وإنما قرنتهما بعاصم يردهما إلى الصواب كلما أخطأ سبيل الحق والهداية والرشاد، وهذا العاصم هو الوحي الذي نزل بدين الله لعباده، وشرائعه لخلقه، وتعاليمه التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ لأنهَّا تنزيل من عزيز حكيم، وقد بلغها رسله.

    أما صورتها المثلى المحفوظة من التغيير فهي ما ثبت في نصوص الشريعة الإسلامية، المنزلة على رسول الله محمد صلوات الله وسلاماته عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

    فمن تبصَّر بالأصول العامة للأخلاق في المفاهيم الإسلامية، وتبصر بأنَّ الأخلاق الإسلامية مقترنة بالوصايا والأوامر والنواهي الربانية، وتبصر بأنَّ هذه الوصايا والأوامر والنواهي محفوفة بقانون الجزاء الإلهي بالثواب العقاب، فإنَّه لابد أن يظهر له بجلاء أنَّ الأخلاق الإسلامية هي حقائق في ذاتها، وهي ثابتة مادام نظام الكون ونظام الحياة ونظام الخير والشر أمورًا مستمرة ثابتة، وهي ضمن المفاهيم الإسلامية الصحيحة غير قابلة للتغير ولا للتبدل من شعب إلى شعب، ولا من زمان إلى زمان.

    أما الأمة الإسلامية فهي أمة واحدة، وهي لا تتواضع فيما بينها على مفاهيم تخالف المفاهيم التي بينها الإسلام، والتي أوضحها في شرائعه ووصاياه.

    وإذا رجعنا إلى مفردات الأخلاق الإسلامية وجدنا أنَّ كلَّ واحدة منها - ضمن شروطها وقيودها وضوابطها - ذات حقيقة ثابتة، وهي غير قابلة في المنطق السليم للتحول من حسن إلى قبيح، أو من قبيح إلى حسن.

    إنَّ حسنها حسن في كلِّ زمان، وقبيحها قبيح في كلِّ زمان، ولا يؤثر على حقيقتها أن تتواضع بعض الأمم على تقبيح الحسن منها، أو تحسين القبيح، تأثرًا بالأهواء، أو بالشهوات، أو بالتقاليد العمياء.

    إنَّ الإسلام يقرر أنَّ حبَّ الحقِّ وكراهية الباطل فضيلة خلقية، ويقرر أنَّ كراهية الحقِّ وحبَّ الباطل رذيلة خلقية، فهل يشكُّ أحد سويٌّ عاقل في أنَّ هذه الحقيقة حقيقة ثابتة غير قابلة للتحول ولا للتغير، وإن تواضع على خلافها جماعة ذات أهواء؟! وهكذا سائر الأمثلة الأخلاقية الإسلامية .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    ( الأخلاق الإسلامية للميداني بتصرف يسير).
                  

09-06-2015, 01:32 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    (أدرك أعداء المسلمين الحقائق عن مكارم الأخلاق، فعملوا على إفساد أخلاق المسلمين بكلِّ ما أوتوا من مكر ودهاء، وبكلِّ ما أوتوا من وسائل مادية وشياطين إغواء، ليبعثروا قواهم المتماسكة بالأخلاق الإسلامية العظيمة، وليفتتوا وحدتهم التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة، ومثل الجنة الوارفة المثمرة خضرة وبهاء وثمرًا وماء.
    إن أعداء المسلمين قد عرفوا أن الأخلاق الإسلامية في أفراد المسلمين تمثل معاقد القوة، فجندوا لغزو هذه المعاقد وكسرها جيوش الفساد والفتنة.

    ولقد كان غزوهم للأخلاق الإسلامية من عدة جبهات:

    1- لقد عرفوا أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان المسلم بالأخلاق الإسلامية العظيمة، إنما هو الإيمان بالله واليوم الآخر، فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم، ويسدوا عيونه، ويقطعوا شرايينه.

    2- وعرفوا أن تفهم مصادر الشريعة الإسلامية تفهمًا سليمًا هو الذي يمدُّ نبع الإيمان بما يتطلبه من معارف، فمكروا بالعلوم الإسلامية، وبالدراسات المتعلقة بها مكرًا بالغًا، وذلك ما بين حجب لها تارة، وتلاعب بمفاهيمها أخرى، وتشويه لها أو جحود ومضايقة لروادها ومبلغيها، كلُّ ذلك في حرب مستمرة لا تعرف كللًا ولا مللًا.

    3- وعرفوا قيمة الإفساد العملي التطبيقي، فوجهوا جنودهم لغمس أبناء المسلمين في بيئات مشحونة بالانحلال الخلقي، بغية إصابتهم بالرذائل الخلقية عن طريق العدوى، وسراية الفساد بقوة تأثير البيئة، واستمراء الشهوات المرتبطة برذائل الأخلاق.

    4- وعرفوا قيمة إفساد المفاهيم والأفكار، فجندوا جيوش المضللين الفكريين، الذين يحملون إلى أبناء المسلمين الأفكار والمفاهيم والفلسفات الباطلة، ضمن واردات المعارف المادية الصحيحة، ذات المنجزات الحضارية المدهشة، وعن طريق هذا الغزو الفكري الخطير يدخلون السم في الدسم.

    من أقوال أعداء الإسلام والمسلمين:

    1- جاء في خطاب... (صموئيل زويمر) رئيس إرسالية التبشير في البحرين منذ أوائل القرن العشرين الميلادي، الذي خطب به في مؤتمر القدس التبشيري، الذي انعقد برئاسته سنة (1953م) ما يلي:

    ... ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريمًا، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعًا كل التهنئة...!!.

    2- وجاء في نشرة المشرق الأعظم الماسوني الفرنسي لسنة (1923م) ما يلي:

    ... وبغية التفريق بين الفرد وأسرته عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها، لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة، لأنها تفضل الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة...

    3- وجاء في البروتوكول الثاني من المقررات اليهودية السرية ما يلي:

    ... إن الطبقات المتعلمة ستختال زهوًا أمام أنفسها بعلمها، وستأخذ جزافًا في مزاولة المعرفة التي حصلتها من العلم الذي قدمه إليها وكلاؤنا، رغبة في تربية عقولهم حسب الاتجاه الذي توخيناه.
    ولا تتصوروا أن كلماتنا جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح (دارون) و(ماركس) و(نيتشه) والأثر غير الأخلاقي لاتجاه هذه العلوم في الفكر الأممي -أي عند غير اليهود- سيكون واضحًا لنا على التأكيد!!.

    4- وجاء في البيان الشيوعي الذي أصدره معلم الشيوعية الأول اليهودي (كارل ماركس) ورفيقه (انجلز) ما يلي:
    إن القوانين والقواعد الأخلاقية والأديان أوهام بورجوازية تتستر خلفها مصالح برجوازية!!).

    أما طريقة دهاة التضليل لهدم الأبنية الأخلاقية فهي تتلخص بما يلي:

    1- أن يقنعوا الأجيال بأن الأخلاق نسبية اعتبارية لا ثبات لها، وليس لها حقائق ثابتة في ذاتها، فهي خاضعة للتبدل والتغير.
    2- أن يستغلوا بخبث بعض النظريات الفلسفية التي من شأنها تقليل قيمة الأخلاق في نفوس الناس، إذ تقيمها على أسس واهنة ضعيفة، أو على شفا جرف هار!! ومتى قامت في نفوس الناس على مثل ذلك تداعت الأبنية الأخلاقية التقليدية، ثم انهارت، وحلت محلها أنانيات فوضوية، تعتمد على القوة والحيلة، والإباحية المطلقة لكلِّ شيء مستطاع، فلا خير إلا ما تدعمه القوة، ولا شر إلا ما تضعف القوة عن تحقيقه.

    3- أن يلفقوا من عند أنفسهم نظريات فلسفية يخدعون بها الناس، لاسيما الناشئون منهم، ويستغلون فيهم رغبات المراهقة بالتمرد على الحقِّ والواجب، تطلعًا لمجد موهوم، وقد تطول فترة المراهقة عند بعض الناشئين، حتى تكتسح عمر الشباب منهم، وجزءًا من عمر الكهولة، وسبب ذلك الاستسلام التام لعواطف طور المراهقة، ووجود المغذيات الشيطانية الخبيثة، وضعف التربية الإسلامية أو انعدامها. ومتى وجدت هذه الظروف المواتية لنمو الشر، فليس من البعيد أن يصير الإنسان شيخًا في سنه وجسمه ويبقى مراهقًا في عقله ونفسه.

    4- اتخاذ الوسائل العملية التطبيقية لإفساد أخلاق الأمم، وأهمها الغمس في بيئات موبوءة بالأخلاق الفاسدة، حتى تكون الانحرافات عادات مستطابات .
    الأخلاق الإسلامية / عبد الرحمن الميداني
                  

09-06-2015, 01:35 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الاستقامة سبيل السلامة
    "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة" كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فالاستقامة منهج جليل ومعنى نبيل، وطريق واضح قويم، وهي أقصر السبل للحق المبين.

    والاستقامة من المعاني الجليلة الجامعة كالبر والمروءة والإحسان والمعروف .. لذلك نجد تعريفاتها تتنوع فقال عمر -رضي الله عنه-: "أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب". وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: "الإعراض عما سوى الله". ولكي لا يأخذ البعض هذه المفاهيم ويجنحوا للتكلف والتشدد نجد شيخ الإسلام الهروي رحمه الله يعرفها بقوله: "الاجتهاد في اقتصاد".

    عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: إن معاذ بن جبل أراد سفراً فقال: يا رسول الله، أوصني؟ قال: "اعبد الله لا تشرك به شيئاً". قال: يا رسول الله، زدني. قال: "إذا أسأت فأحسن". قال: يا رسول الله، زد. قال: "استقم ولتحسن خلقك". [صحيح: رواه الحاكم ووافقه الذهبي].

    قال السِّرِّي السَّقطي - رحمه الله تعالى -: "خمس من كن فيه فهو شجاع بطل: استقامة على أمر الله ليس فيها روغان. واجتهاد ليس معه سهو. وتيقظ ليس معه غفلة. ومراقبة الله في السر والجهر ليس معه رياء. ومراقبة الموت بالتأهب" [الحلية:10/117].

    مراتب الاستقامة

    باب الاستقامة الدعاء والتضرع، والسعيد من وفقه الله تعالى، ولذلك أمرنا الوهاب المنان بقراءة الفاتحة في كل ركعة، لما فيها من سؤال الصراط المستقيم المخالف لأصحاب الجحيم. وقال تعالى في شأن موسى وأخيه عليهما السلام: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس:89].

    أما سبيل الاستقامة فهو لزوم معالم وشعائر الدين الباطنة والظاهرة، العقدية والعملية، فعن سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: "قل آمنتُ بالله ثم استقم". [مسلم] ..
    قال ابن عاشور: {ثم} للتراخي الرتبي: وهو الارتقاء والتدرج، فإن مراعاة الاستقامة أشق من حصول الإيمان لاحتياجها إلى تكرر مراقبة النفس، فأما الإيمان فالنظر يقتضيه واعتقاده يحصل دفعة لا يحتاج إلى تجديد ملاحظة.

    قال ابن القيم في «الوابل الصيب»: "الأمر الذي يستقيم به القلب تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13]".
    أما آفات وكبوات الطريق من التقصير والتفريط فليس لها إلا الاستغفار، قال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] فالإنسان عرضة للنقص لكن يجبر ذلك بالاستغفار لله الواحد القهار.

    الاستقامة الدين كله

    الاستقامة ركن عظيم يشمل الدين كله، لذلك قصرت همم الخلق أن يمسكوا بكافة أطرافه، فعَنْ عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَوْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا، وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْأُوْتَارِ، ثُمَّ كَانَ الِاثْنَانِ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الْوَاحِدِ، لَمْ تَبْلُغُوا الاسْتِقَامَةَ "أي الاستقامة الكاملة، وكأنه أخذ هذا المعنى من قول النبي صلى الله عليه وسلم:

    "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" [رواه أحمد].
    قال المناوي: استقيموا على الطريق الحسنى وسددوا وقاربوا فإنكم لن تطيقوا الإحاطة في الأعمال، ولابد للمخلوق من تقصير وملال، وكأن القصد به تنبيه المكلف على رؤية التقصير وتحريضه على الجد لئلا يتكل على عمله، ولهذا قال القاضي: "أخبرهم بعد الأمر بذلك أنهم لا يقدرون على إيفاء حقه والبلوغ إلى غايته لئلا يغفلوا عنه، فكأنه يقول لا تتكلفوا على ما تأتون به ولا تيأسوا من رحمة الله ربكم فيما تذرون عجزاً وقصوراً لا تقصيراً".

    "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة" أي فإن لم تطيقوا ما أمرتم به من الاستقامة فحق عليكم أن تلزموا بعضها وهو «الصلاة» الجامعة لكل عبادة من قراءة وتسبيح وتكبير وتهليل، وإمساك عن كلام البشر والمفطرات، وهي معراج المؤمن ومقربته إلى جناب حضرة الأقدس، فالزموها وأقيموا حدودها لاسيما مقدمتها التي هي شطر الإيمان فحافظوا عليها فإنه لا يحافظ عليه إلا مؤمن راسخ القدم في التقوى. ‌

    وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" [مسلم] وهذا في المستحبات لا الوجبات التي قد تسقط مع العجز.
    ولذلك قيل: "الاستقامة لا يطيقها إلاَّ الأكابر لأنَّها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرُّسوم والعادات، وهي الخصلة الَّتي بها كملت المحاسن".
    عن خارجة بن مصعب، قال: "صحبت عبد الله بن عون أربعاً وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة!" [سير أعلام النبلاء 6/366]
    وقال الإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "ما تكلمت كلمة، ولا فعلت فعلاً، إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله - عز وجل –". [طبقات الشافعية 9/212].

    ثمرات وخيرات

    قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله} [القصص:50] فإن لم يكن في الاستقامة إلا طمأنينة النفس وصلاح الأحوال لكفى، بل يبشر الله عباده المستقيمين على دينه بأعظم بشارة تتمناها النفس، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت:30-32] أي تتنزل عليهم الملائكة عند الموت وعند الخروج من القبر.

    وذكر (التنزل) هنا للتنويه بشأن المؤمنين أن الملائكة ينزلون من علوياتهم لأجلهم، فأما أعداء الله فيجدون الملائكة حاضرين في المحشر يزعونهم ولا يتنزلون لأجلهم {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19] فثبت للمؤمنين بهذا كرامة ككرامة الأنبياء والمرسلين.

    {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قَدَّمه، ثم لما وقع الأمن لهم، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما فعلوا من الخير.

    قال محمد بن علي الترمذي: تتنزل عليهم ملائكة الرحمة، عند مفارقة الأرواح الأبدان، ألا تخافوا سلب الإيمان، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان، وأبشروا بدخول الجنان، التي تُوعدون في سالف الأزمان {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44]

    وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13-14] فنفى عنهم الخوف من المستقبل، والحزن على ما سلف ومضى، ووعدهم صدقا الجنة. وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} تدل على الاختصاص بالجنة ولم يقل (أولئك في الجنة، أو أولئك لهم الجنة).

    نصيحة غالية

    قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] فذكر سبحانه شيئين بعد الاستقامة: لزوم التوبة ومجافاة الطغيان، لأن الذي يعرض للعبد ويحرفه عن الاستقامة إما الذنب وإما البدعة أو الغلو.

    فالحمد لله الذي هدانا لشرعه القويم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [الأنعام:161] .. (قِيَمًا) أي: أي معتدلاً مستقيماً لا عوج فيه، ولا غلو فيه ولا جفاء، ولا جحود فيه ولا جمود، ولا إفراط ولا تفريط، ولا اعوجاج، إنما هو أمر مستقيم شرع معتدل، وسط في كل شيء.

    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-06-2015, 01:37 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    لا تلعن شيئا
    من أخطر آفات السلوك التسرع والاندفاع في الحكم على الآخرين، وأن ننصب من أنفسنا قضاة نحكم باستحقاق هذا أو ذاك رحمة الله أو لعنته، والمتأمل يجد أن مجافاة الإسلام لهذه الآفة تنبع من منافاتها لطبيعة الإيمان الصادق الذي من أخص خصائصه الرفق بالخلق، فالمؤمن قلبه معلق بالله يرتشف من رحيق رحمته ما يرحم به الآخرين، ومن عذب رأفته وعطفه ما يبر به من حوله وبهذا ينسجم الإيمان مع كل معاني الرفق والعطف وينفر من كل غلظة وفظاظة وجحود.

    واللعنة بمعناها الشامل المتضمن الطرد من رحمة الله تعالى تمثل أحد مظاهر هذا الاندفاع المذموم الذي تصدى له النبي صلى الله عليه وسلم في منهجه التربوي بالعديد من المناهي والتوجيهات، فيقول عليه أفضل الصلاة والسلام:

    " إني لم أبعث لعانا و إنما بعثت رحمة " [مسلم]
    " ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء " [الترمذي]
    " لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا " [مسلم]
    " لا يكون المؤمن لعانا " [الترمذي]
    " لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار" [الترمذي]

    أي لا تدعوا على الناس بما يبعدهم الله من رحمته إما صريحا كما تقولون «لعنة الله عليه» أو كناية كما تقولون «غضب الله عليه» أو «أدخله الله النار»

    وعن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد [جمع نجد وهو متاع البيت الذي يزينه من فرش ونمارق وستور] من عنده فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه فكأنه أبطأ عليه فلعنه فلما أصبح قالت له أم الدرداء: سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته، سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " [مسلم].

    ( شفعاء ) أي لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار ( ولا شهداء ) أي لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات، وقيل لا يرزقون الشهادة في سبيل الله.

    وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المؤمن كقتله .. ) [البخاري]
    أي في التحريم أو العقاب أو الإبعاد، إذ اللعنة إبعاد من الرحمة، والقتل يبعد من الحياة الحسية.

    ولعل في هذه الكثرة من الأحاديث النبوية ما يؤكد على خطورة أمر اللعنة، وضرر المجازفة الحمقاء في طرد الآخرين من رحمة الله في غرس معاني الكره والنفرة في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه المجتمع الإيماني متماسكا برباط المودة والحب، أفراده كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.

    بل تتجلى جدية الرسول صلى الله عليه وسلم في نزع جذور هذه الآفة من النفوس في أكثر من موقف مع أصحابه الكرام فتارة مرشدا وتارة مستنكرا وتارة معاقبا.

    فعن جرموزا الهجيمي قال: قلت يا رسول الله أوصني قال: " أوصيك أن لا تكون لعانا " [أحمد] ‌أي أن لا تلعن معصوماً ، فيحرم لعن المعصوم المعين فإن اللعنة تعود على اللاعن ، وصيغة المبالغة هنا غير مرادة.

    وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان لذلك أهلا وإلا رجعت إلى قائلها " [أبو داود].

    قال المناوي: ( إن العبد إذا لعن شيئاً ) آدميا أو غيره بأن دعا عليه بالطرد والبعد عن رحمة اللّه تعالى ( صعدت اللعنة إلى السماء ) لتدخلها ( فتغلق أبواب السماء دونها ) لأنها لا تفتح إلا لعمل صالح { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر:10]( ثم تهبط ) أي تنزل ( إلى الأرض ) لتصل إلى سِجِّين ( فتغلق أبوابها دونها ) أي تمنع من النزول ( ثم تأخذ يميناً وشمالاً ) أي تتحير فلا تدري أين تذهب ( فإذا لم تجد مساغاً ) أي مسلكاً وسبيلاً تنتهي إليه لمحل تستقر فيه ( رجعت إلى الذي لُعن إن كان لذلك ) أي اللعنة ( أهلاً ) رجعت إليه فصار مطروداً مبعوداً فإن لم يكن أهلاً لها ( رجعت ) بإذن ربها ( إلى قائلها ) لأن اللعن طرد عن رحمة اللّه، فمن طرد ما هو أهل لرحمته عن رحمته فهو بالطرد والإبعاد عنها أحق وأجدر، ومحصول الحديث التحذير من لعن من لا يستوجب اللعنة والوعيد عليه بأن يرجع اللعن إليه{ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} [النور: 44] [فيض القدير].

    وعن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لا تلعن الريح فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه " [الترمذي].

    وعن زيد بن خالد الجهني قال: لعن رجل ديكا صاح عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تلعنه فإنه يدعو إلى الصلاة " [أحمد] أي إلى قيام الليل بصياحه فيه ومن أعان على طاعة يستحق المدح لا الذم.

    وقال الحليمي: فيه دليل على أن كل من استفيد منه خير لا ينبغي أن يسب ولا يستهان به، بل حقه الإكرام والشكر ويتلقى بالإحسان، وليس في معنى دعاء الديك إلى الصلاة أنه يقول بصراحة صلوا أو حانت الصلاة بل معناه أن العادة جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر وعند الزوال فطرة فطره اللّه عليها فيذكر الناس بصراخه الصلاة ولا تجوز الصلاة بصراخه من غير دلالة سواه إلا ممن جرب منه ما لا يخلف فيصير ذلك له إشارة [فيض القدير].

    وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة " ، قال عمران فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. [مسلم]
    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-06-2015, 01:39 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    مواقف ليست من الغيبة
    الغيبة من أشد آفات النفس الخبيثة، فهي تسبب العداوة والبغضاء والتقاطع والتدابر بين الناس، وتشغل المرء بعيوب الخلق وتُنسيه الانشغال بعيوبه، كما أنها اعتراض ضمني على قدر الله تعالى في خلقه.

    وقد فشت آفة الغيبة في الناس فلا يكاد يخلو منها بر ولا فاجر ولا عالم ولا جاهل إلا من رحم الله تعالى، بل قد تمكن الشيطان في التدخل في هذه الجهة وأجلب بخليه ورجله من هذه الوجوه.

    ولا يخفى على كل عاقل ما في كثرة مخالطة الناس من تفشي الغيبة، خاصة وأن وقعها على النفس سار، لاسيما إذا كان المغتاب مكروها أو عدواً، فإن سلم المخالط من القول بالغيبة لم يسلم من المشاركة فيها، وإن سلم من المشاركة فيها، لم يسلم من السكوت عليها وضرورة إنكارها لمن كان في مجلس غيبة، وإلا فيفارق ذلك المجلس إن لم يستطع الإنكار، وإن لم يقدر على مفارقة المجلس اشتغل بذكر أو غيره.

    لقد تساهل الناس في الغيبة لأنها بطبيعتها سهلة لينة لا تكلف مشقة سوى تحريك اللسان في الفم لاسيما إذا كان المستغاب عدواً لمن في المجلس أو لبعضهم لأنهم يتشفون بذكر معايبه ويتلذذون بما يسمعون عنه من سوء ويذكر به من نقص، كما يتلذذ الظمآن بالماء البارد ليطفي به حرارة جوفه ويبل به صداه.
    لكنها في الحقيقة انتقام عاجز وسلاح في يد جبان لأن المغتاب دائماً ينهزم عندما يعلم بحضور المستغاب أو أحد محبيه وربما أبدل هجاءه بمدح وذمه بثناء.

    وحد الغيبة بينه ـ صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
    لكن ليس هذا على إطلاقه، بل ذكر العلماء من الأمور التي ليست بغيبة ست حالات، جمعها محمد بن عُوجان في أبيات شهيرة:
    القدح ليس بغيبة في ستة ... متظلمٍ ومعرف ومحذر
    ومجاهر فسقا ومستفت ومن ... طلب الإعانة في إزالة منكر

    - (الأول): التظلُّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلَّم إلى السلطان والقاضي، وغيرهما ممَّن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول: "ظلمني فلان بكذا".
    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ له: «اذْهَبْ فَاصْبِرْ» فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ» فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ [أبو داود].

    -(الثاني): التعريف، فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب، كالأعمش (سليمان بن مهران أبو محمد) والأعرج (عبد الرحمن بن هرمز، وهو من أشهر الرواة عن أبي هريرة)، والأصم، والأعمى، والأعور (مسلم بن كيسان) والأحول (عاصم بن سليمان) .. وغيرهم، جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.

    بل وجد في المحدثين من نسب إلى أمه وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي المشهور بـ (إسماعيل بن عُليه)، وكان يقول من نسبني إلى أمي فقد اغتابني، ولكن علماء الحديث ذكروه بأمه لشرفه، لأن إسماعيل بن إبراهيم في الرواة كثير.

    وكان ابن معين رحمه الله أحد الحراس الأشداء الأقوياء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولَكَمْ أضرَّ بالكذابين والمغفلين وتوجعوا منه كثيراً! ومع ذلك كان لا يفتأ أن يقذف بالسهام إليهم، ولا يعبأ بنكيرهم ولا بكلامهم. .. قيل له يوماً: ألا تخشى أن يكون هؤلاء الذين تكلمت فيهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ فقال لهم: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحبَّ إلي من أن يكون الرسول –صلى الله عليه وسلم- خصمي، يقول لي: «لِمَ لَمْ تَذُبَّ الكذِبَ عن سنتي؟»
    وهذا بعكس حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قُلْتُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كذَا وكَذَا. [قَالَ بعضُ الرواةِ: تَعْنِي قَصيرَةً]، فقالَ: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ !" لأن الكلام هنا في معرض التنقيص.

    -(الثالث): تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة، ولذلك صح عن شعبة بن الحجاج أنه كان يأتي عمران بن حُدَيرٍ ويقول له: «تعال نغتاب في الله ساعة» أي نذكر مساوئ أصحاب الحديث، كقول علماء الجرح والتعديل عن الرواة: هذا مدلس، وهذا مختلط، وهذا وضاع أو كذاب.

    ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته ويجب على المشاوَر ألاَّ يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة، ومنها إذا رأى متفقهاً يتردّد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا ممّا يُغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويُلبس الشيطان عليه ذلك، ويُخيل إليه أنه نصيحة فليفطن لذلك، ومنها أن يكون له ولاية، لا يقوم بها على وجهها: إما بأن لا يكون صالحاً لها، وإما بأن يكون فاسقاً، ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك، لمن له عليه ولاية عامة ليزيلها، ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعى إلى أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.

    - (الرابع): أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، وجباية الأموال ظلماً، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يُجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.

    - (الخامس): الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، ودفع الظُّلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز، كما في حديث هند أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ فَقَالَ:"خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ".

    لكن هناك فرق بين القضاء والاستفتاء، فالقضاء ملزم عكس الفتوى فهي غير ملزمة، والقاضي لابد أن يسمع من الطرفين، عكس المستفتي فإنه يفتي بناء على حكاية الواحد وظاهر الكلام.

    فعن زينب بنت أبي سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار".

    - (السادس): الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لِمَن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراما.
    هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
    اسلام ويب
                  

09-06-2015, 01:43 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    المغبونون

    الحمد لله على نعمائه والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه.
    أما بعد:

    أخي الكريم: إنه لا يخلو أحدٌ من البشر إلا وهو مغبون، فذاك مغبون في بيعه، وذاك في وقته، وآخر في ذكره وعبادته لله، وآخر...،وآخر.. ولكن الموفق من استيقظ من رقاده, وانتبه لما هو واقع فيه من الغبن، وإن أعظم شيءٍ يغبن فيه الإنسان هو الصحة والفراغ.

    فقد جاء في صحيح البخاري، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".

    قال ابن بطال "معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكْفّيِاً صحيح البدن, فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه, ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه, فمن فرط في ذلك فهو المغبون". (فتح الباري:11/230).

    عبد الله: تأمل في قوله- صلى الله عليه وسلم - حين قال:"كثير من الناس" فإنه يشير إلى أن الذي يوفق للعمل الصالح, و استغلال أوقات الصحة والفراغ إنما هم قليل، أما أكثر الناس فهم في غبن أي في خسارة وفي ضياع.

    قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى ـ : "قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش, وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً, فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون, وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة, فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط, ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون, فالفراغ يعقبه الشغل, والصحة يعقبها السقم, ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:


    يسر الفتى طول السلامة والبقا *** فكيف ترى طول السلامة يَفعَلُ

    يُـرَدُّ الفتى بعـد اعـتدال وصحة *** ينــوء إذا رام الـقـيـــام ويحـمـل

    أخي الكريم:قال المفسرون: "المغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة, ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان, وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام".

    وقال الحسن وقتادة: "بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علم علماً فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به, وعمل به من تعلمه منه فنجا به, ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه, وفرط في طاعة ربه بسببه, ولم يعمل فيه خيراً وتركه لوارثه , فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه, ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد, وعمل السيد بمعصية ربه فشقي". (تفسير القرطبي :18/137).

    قال معاذ الرازي: "المغبون من عطل أيامه بالبطالات وسلط جوارحه على الهلكات ومات قبل إفاقته من الجنايات" (كتاب الزهد الكبير (2/295) البيهقي).

    أخي الكريم: "إنه من استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء ، الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن". (فتح الباري (11/231).

    عبد الله : إنه "لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس, حيث لا يكسبون فيهما من الأعمال إلا كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم, فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها ولا ينفعهم الندم, قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}" (9سورة التغابن). (تحفة الأحوذي: 6/485).

    أخي الكريم: إنه من صاحب الصالحين, وجالسهم, واكتسب ودهم, فإنه الرابح، وإن الذي خسر ود أصحابه الصالحين وفاته حبهم له فذلك هو المغبون حق اليقين، ولله در من قال في معنى هذا الأدب:

    "ما ذاقت النفس على شهوة ألذ من حب صديق أمين، ومن فاته ود أخ صالح فذلك المغبون حق اليقين" (فيض القدير:2/291).

    عبد الله: إنه لا ينبغي لعاقل أن يضيع ساعات لليله ونهاره في ما لا ينفع عند الله – عز وجل- وإنه من ضيع هذه الساعات التي هي عمره فهو والله المغبون.

    فعن عمارة بن عمر بن العلاء قال: سمعت عمر بن ذر يقول: "اعملوا لأنفسكم- رحمكم الله- في هذا الليل وسواده, فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار, والمحروم من حرم خيرهما, وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم, ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم, فأحيوا لله أنفسكم بذكره, فإنما تحيا القلوب بذكر الله, كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حفرته, وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله-عز وجل-للعابدين غداً, فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله. (حلية الأولياء: 5/109).

    وعن ثابت بن الضحاك قال عند قوله تعالى:{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(9 سورة المنافقون). يقول ومن يلهه ماله وأولاده عن ذكر الله فأولئك هم الخاسرون يقول: "هم المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته". (تفسير الطبري:18/117).

    واعلم عبد الله أنه لن يضيع وقته إلا مغبون بل إنه محروم، وإن إضاعة الوقت هي أشد من الموت فقد قال ابن القيم -رحمه الله- عند كلامه على إضاعة الوقت وأنه أشد من الموت قال: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".

    أخي المسلم: كم من العمر يمضي في غير طاعة الله؟! وكم من الساعات تنقضي في اللهو والعبث؟! فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".

    عبد الله: كم من الأيام قد مضت في اللعب واللهو؟! ونحن نفرح بأنها تمضي ولم نتذكر أنها تقربنا إلى آجالنا، ولله در القائل:

    إنـا لـنـفـــرح بالأيـام نـقـطـعـهـــا *** وكـل يوم مضى يدني من الأجل

    فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا ً *** فإنما الربح والخسران في العمل

    وانظر إلى هذا الشاعر اللبيب الفطن الذكي حينما دعاه الملك ليصف قصره, فعلم أنه في لهو ولعب، وأن عمره قد مضى في ضياع, ولم يستغل عمره كما أراد الله-جل جلاله-.فقال:

    عـش مـا بـدا لك سـالـماً *** في ظل شاهقة الـقـصـور

    يسـعى عليك بما اشتهيــ*** يت لدى الرواح مع البكـور

    فإذا النـفــوس تـقـعـقعـت *** في ضيق حشرجة الصدور

    فـهنــاك تـعــلـم مـوقــنـاً *** مـا كـنــت إلاّ فـي غـــرورِ

    أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لطاعته والعمل في مرضاته, وأن يوفقنا لاستغلال أوقاتنا, وأعمارنا, وصحتنا, وفراغنا, إنه جواد كريم.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، والحمد لله رب العالمين.

    موقع إمام المسجد
                  

09-06-2015, 01:45 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    مجاهدة النفس
    الحمد لله رب العالمين، أمر بالجهاد وجعله فريضة على جميع العباد، بحسب الاستطاعة والاستعداد، يقول تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }(الحج:78). وهذا أمر لعموم المسلمين بالجهاد، كل عليه واجب منه حسب استطاعته، فقد أمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته..

    والجهاد أربع مراتب:

    أولها: جهاد النفس. ثانيها: جهاد الشيطان. وثالثها: جهاد الكفار. ورابعها: جهاد المنافقين.

    والأصل والأساس هو جهاد النفس. فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً فيبدأ بها ويلزمها بفعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه لم يمكنه جهاد عدوه الخارجي مع ترك العدو الداخلي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ".

    وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: " ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ".
    وقال للحصين بن عبيد: " أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها "، فأسلم، فقال: " قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي ".

    فمن لم يَسلم من شر نفسه لم يصل إلى الله تعالى؛ لأنها تحول بينه وبين الوصول إليه، والناس قسمان:

    قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار مطيعاً لها.

    وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله القِسمين في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }(النازعات:37-41).

    فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يأمر عبده بخوفه ونهي النفس عن الهوى، والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي الرب فينجو، والنفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى الإنفاق في سبيله فيقول سبحانه: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(التغابن:16).

    فالنفس قد تسمح بالملايين في سبيل البذخ والإسراف، ولا تسمح بالقرش للفقير والمحتاج، تكون تارة أمّارة بالسوء، وتارة لوّامة تلوم صاحبها بعد الوقوع في السوء، وتارة مطمئنة وهي التي تسكن إلى طاعة الله ومحبته وذكره، فكونها مطمئنة وصف مدح، وكونها أمّارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم.

    وجهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها. وفي الحديث: " الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني " ومعنى: دان نفسه: حاسبها..

    وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ }(الحاقة:18).

    وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه ).
    ولهذا قيل: ( النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك ).
    وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة ).

    وقال الحسن: ( وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، ويعين الإنسان على محاسبة نفسه معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً، وأنه إذا حاسبها اليوم ربح سكنى الفردوس غداً، وإذا أهملها اليوم فخسارته بدخول النار غداً ).

    فحق العاقل الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه في حركاتها، وسكناتها، وخطواتها، وخطراتها..
    ويظهر التغابن بين من حاسب نفسه اليوم ومن أهملها يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا }(آل عمران:30).

    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ( جهاد النفس أربع مراتب:

    أحدها: أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.

    الثانية: أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

    الثالثة: أن تجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه. وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

    الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله ) انتهى كلامه رحمه الله.

    فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذلك يدعي عظيماً في ملكوت السموات. وفي وصية لقمان لابنه قال: ( يا بني، إن الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حزون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حزنت، فإذا اجتمعا استقامت ).

    إن النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت، فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بد له منها، وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره.

    لا شك أن النفس تكره مشقة الطاعة، وإن كانت تعقب لذة دائمة. وتحب لذة الراحة، وإن كانت تعقب حسرة وندامة. فهي تكره قيام الليل وصيام النهار، وتكره التبكير في الذهاب إلى المسجد، فكم من شخص يجلس الساعات في المقاهي والأسواق ويبخل بالدقائق القليلة يجلسها في المسجد، تكره إنفاق المال في طاعة الله، تكره الجهاد في سبيل الله. كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }(البقرة:216).

    تكره الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، تكره القيام بالإصلاح بين الناس، وهكذا ما من طاعة إلا وللنفس منها موقف الممانع المعارض، فإن أنت أطعتها أهلكتك وخسرتها، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }(الزمر:15).

    إن أنت أطعتها فقد ظلمتها، حيث عرضتها لسخط الله وعقابه، وأهنتها وأنت تظن أنك قد أكرمتها حيث أعطيتها ما تشتهي وأرحتها من عناء العمل ومشقته فحرمتها من الثواب.

    نسأل الله تعالى أن يقينا شر أنفسنا، وأن يصلحنا ويصلح بنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اسلام ويب
                  

09-06-2015, 01:47 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    إن القرآن كلام الله الذي أنزله ليعمل به ويكون منهاج حياة للناس، ولا شك أن قراءة القرآن قربة وطاعة من أحب الطاعات إلى الله، لكن مما لا شك فيه أيضا أن القراءة بغير فهم ولا تدبر ليست هي المقصودة، بل المقصود الأكبر أن يقوم القارئ بتحديق ناظر قلبه إلى معاني القرآن وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وإجالة الخاطر في أسراره وحِكَمه.

    القرآن يدعونا إلى التدبر:

    إن الله دعانا لتدبر كتابه وتأمل معانيه وأسراره: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) [ص:29].

    وقد نعى القرآن على أولئك الذين لا يتدبرون القرآن ولا يستنبطون معانيه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:82، 83].

    الناس عند سماع القرآن أنواع:

    قال تعالى في آياته المشهودة: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:36، 37].

    قال ابن القيم – رحمه الله -: "الناسُ ثلاثةٌ: رجلٌ قلبُه ميتٌ، فذلك الذي لا قلبَ له، فهذا ليست الآية ذكرى في حقه.

    الثاني: رجلٌ له قلب حيٌّ مستعدٌّ، لكنه غير مستمعٍ للآيات المتلُوةِ، التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم وُرُودها، أو لوصولها إليه وقلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضرًا، فهذا أيضًا لا تحصُلُ له الذكرى، مع استعداده ووجود قلبه.

    والثالث: رجلٌ حيُّ القلب مستعدٌّ، تُليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضر قلبه، ولم يشغلْه بغير فهم ما يسمعُهُ، فهو شاهدُ القلب، مُلقي السَّمع، فهذا القِسمُ هو الذي ينتفع بالآيات المتلوَّة والمشهودة.

    فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يُبصر.

    والثاني: بمنزلة البصير الطَّامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.

    والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدَّق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسُّطٍ من البُعد والقربِ، فهذا هو الذي يراه.

    فسبحان من جعل كلامه شفاءً لما في الصدور.

    فاعلم أن الرجل قد يكونُ له قلبٌ وقَّادٌ، مليءٌ باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يُوقعه على التذكُّر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نُورًا على نور، وهؤلاء أكملُ خلق الله، وأعظمهم إيمانًا وبصيرةً، حتى كأنَّ الذي أخبرهم به الرسول مشاهدٌ لهم، لكن لم يشعُرُوا بتفاصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حالِ الصِّدِّيق مع النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل رجلين دخلا دارًا، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئيَّاته، والآخر وقعت يدُهُ على ما في الدار ولم ير تفاصيلَهُ ولا جُزئياته، لكن علم أن فيها أمورًا عظيمة، لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا فسأله عمَّا رأى في الدار، فجعل كُلما أخبره بشيء صدَّقهن لما عنده من شواهد، وهذه أعلى الدرجات الصديقية، ولا تستبعد أن يَمُنَّ الله المنان على عبدٍ بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصرٍ ولا حُسبان.

    فصاحبُ هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نورٌ من البصيرة، ازداد بها نورًا إلى نوره. فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبُهُ ولم يغب حصل له التذكُّرُ أيضًا: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) [البقرة:265]، والوابلُ والطَّلُّ في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها. وأهل الجنة سابقون مقرَّبون وأصحابُ يمين وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما.

    الرسول صلى الله عليه وسلم يتدبر القرآن:

    عن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة. ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة؛ فمضى. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ". [مسلم].

    وبكى صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه ابن مسعود من سورة النساء قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41] فهل تتوقع أن يكون ذلك من غير تدبر؟

    وكان يدعو الأمة إلى التدبر وفهم معاني القرآن، فحين نزل قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190، 191]. قال صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها".

    السلف الصالح يتدبرون القرآن:

    كان ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول: "ركعتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".

    وكان الفضيل – رحمه الله – يقول: "إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً. قيل: كيف العمل به؟ قال: ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه".

    وعمليًا كان منهم من يقوم بآية واحدة يرددها طيلة الليل يتفكر في معانيها ويتدبرها. ولم يكن همهم مجرد ختم القرآن؛ بل القراءة بتدبر وتفهم.. عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: "لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ(إذا زلزلت) و(القارعة) لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما، وأتفكر أحبُّ إليَّ من أن أَهُذَّ القرآن (أي أقرأه بسرعة)".

    من ثمار التدبر:

    اعلم رعاك الله أن العبد إذا وفق لتدبر آيات الله تعالى فاز بالخير العميم، يقول ابن القيم – رحمه الله -:

    "فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن، وإطالة التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما. وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلُّ في يده(تضع) مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة. وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم. وتبصره مواقع العبر. وتشهده عدل الله وفضله. وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها. وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم. ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه. وافتراقهم فيما يفترقون فيه.

    وبالجملة تعرِّفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.

    وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

    فهذه ..أمور ضروري للعبد معرفتها. ومشاهدتها ومطالعتها. فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها. وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم. فتريه الحق حقا، والباطل باطلا. وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال. والغي والرشاد. وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا. فيصبر في شأن والناس في شأن آخر.

    فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، وعلى الإيمان بالرسل، وذكر براهين صدقهم، وأدلة صحة نبوتهم. والتعريف بحقوقهم، وحقوق مرسلهم. وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي، وما يختص بالنوع الإنساني منهم، من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه. وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق، التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد وتنغيص. وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل، التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح. وتفاصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه. وعلى تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات، في خلقه وأمره.

    فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل. وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل. وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل. وتبصره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل. وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل. وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل. وتناديه كلما فترت عزماته، وونى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل. فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل. وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل. وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو، أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعتصم بالله، واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.

    وفي تأمل القرآن وتدبره، وتفهمه، أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد.
    ماهر السيد-اسلام ويب
                  

09-06-2015, 01:49 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الجاذبية الأخلاقية
    استوقفني حَدَثَان مِنْ أحداث السيرة العطرة وجدت فيهما فوائد كثيرة وعِبراً جليلة، ولطالما سألت الله لي ولإخواني أَنْ يوفقنا للعمل بما اشتملا عليه.. ولأَنَّ الحَدَثَين وردا في كتب السنة الصحيحة فَلَنْ أسردهما بطولهما، وإِنَّمَا سأقف على محل الشاهد مِنْهُما.
    الحَدَث الأول: حين جاء جبريل عَليه السَّلَامُ إلى النَّبِيِّ الأمين صلى الله عليه وسلم في غار حراء وضمَّه إلى صدره وأمره بالقراءة، عاد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بعدها إلى بيته مرتعداً يرجف فؤاده، وهو يقول لخديجة رضي الله عنها - بعد أَنْ قَصَّ عليها الخبر -: «لقد خَشِيتُ على نفسي». فقالت له تلك الكلمات الخالدات: «كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتصدُق الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ (أي: تنفق على الضعيف، واليتيم وذي العيال.)، وتكسب المعدوم (أي تعاون الفقير وتتبرع بالمال لمن عدمه.)، وَتُقْرِي الضَّيْفَ (أي تكرمه.) ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الحق (ما ينزل بالإِنسان من حوادث ومصائب.)».

    الحَدَث الثاني: حين خرج أبو بكر مُهَاجِراً نحو أرض الحبشة ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين، لقيه رجل من المشركين يقال له ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ (أَيْ مُجِيرٌ أمنع من يؤذيك)، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ. فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ... إلخ.

    إِذا تأملنا هَذَيْنِ الوصفين وجدنا العديد مِن الفوائد التربوية والنفسية والاجتماعية والخُلُقية التي ترتقي بالْإِنْسان إلى أقصى درجات الكمال البشري الممكن والمعبَّر به في وصف أبي بكر بقوله: «لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ»، كما تمنعه تلك الفوائد من السقوط الاجتماعي والنفسي المعبَّر عنه في كلام خديجة - رضي الله عنها - بالخزي، والْخِزْي كما عرفه العلماء هو شُعور مؤلم يسبِّبه الإحساس بالذنب أو الإحراج أو عدم الأهميَّة أو العار.. وسأكتفي بالإشارة إلى بعض الفوائد الخُلُقية، مُرْجِئاً الحديث عن الفوائد التربوية والنفسية لمناسبة أخرى، فأقول مُسْتَعِيناً بِاللَّهِ:

    - الجاذبية الأرضيّة هي القوَّة التي ينجذب بها جسم ما نحو مركز الأرض دون اتِّصال بينهما، وعكسها انعدام الوزن، فهو الحالة التي يخفّ بها الإحساسُ بالوزن نظراً لانعدام الجاذبيّة. ولا تقتصر الجاذبية وانعدام الوزن على الأشياء المحسوسة والملموسة فقط، فهناك الجاذبية الأخلاقية والتي تعني القوَّة التي ينجذب بها شخص ما أو جماعة نحو سلوك حسن بِإِرَادَةٍ حرة دون تأثير مادي مِنْ صاحب السلوك، كما أَنَّ انعدام الوزن في عالم الأخلاق يعني انعدام تأثير الشخص في الوسط المحيط نظراً لانعدام جاذبيّته.

    وبالتأمل في الحدثين المذكورين نجد أَنَّهما يؤسسان لقانون الجاذبية الأخلاقية، ويؤكدان أَنَّ لهذه الجاذبية مَعَالِمَ ومنارات ظاهرة واضحة كمَعَالِم الْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ، وعلى كل مَنْ أراد أَنْ يكون جذاباً أَنْ يقصد هذه المعالم ويسعى إليها، أذكر منها الثلاثة التالية:
    المَعْلَمُ الأول: السيرة الحسنة :
    من الواضح أَنَّ الأوصاف التي وَصَفَ بها الرجلُ أبا بكر هي عين الأوصاف التي وصفت بها السيدة خديجة رسول الله، وأَنَّ هناك تطابقاً تاماً بين الوصفين، فعلى أي شيء يدل هذا التوافق؟
    إِنَّهُ مِنْ جِهَة يدل على ائتلاف الروحين - روح الصادق والصدّيق -، كما يدل على عظيم فضل أبي بكر واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال؛ ومِنْ جِهَة أخرى يدل على ضرورة توافر هذه الأوصاف كلها أو جلها في حياة الْقُدْوَات والدعاة ومَنْ أَرَادَ قيادة الناس، بل وفي حياة أفراد المجتمع كافة من جهة أخرى، كما أنَّك إِذا أمعنت النظر في هذه الأوصاف وَجَدْتَهَا تشمل أصول مكارم الأخلاق؛ لأنّ الإحسان إِمَّا إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإِمَّا بالبدن أو بالمال، وإِمَّا على مَنْ يستقل بأمره أو مَنْ لا يستقل، وذلك كله مجموع في الوصفين، مِمَّا جعل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه قبل البعثة عَلَمين في محيطهما الاجتماعي.
    وقد عاب الله على أهل قريش حين لم يستجيبوا لدعوة رسوله، وتساءل سبحانه - تَعَجّباً واسْتَنْكاراً -: لماذا لم يستجيبوا لمحمد؟! هَلْ لأنّهم لا يعرفونه؟! لذا فهم في حاجة إلى وقت حتى يسألوا عَنْ أصله وفصله وعَنْ خلقه وسلوكه؟! لا، ليس الأمر كذلك، فهذا احتمال مستبعد تماماً؛ لأنّهم يعرفونه معرفة تامة - صغيرهم وكبيرهم -، يعرفون شخصه ويعرفون نسبه، ويعرفون - أكثر مِنْ أي أحد - صفاته، يعرفون مِنْه كل خلق جميل، ويعرفون صدقه وأمانته حتى كانوا يسمونه قبل البعثة “الأمين”، فَلِمَ لَا يصدقونه حين جاءهم بالحق العظيم والصدق المبين؟.. لذلك استنكر الله عليهم هذا السلوك العجيب في قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون: 69].

    فالسيرة الطيبة والأفعال الحميدة والأخلاق الزاكية تجعل صاحبها قدوة طيبة وأسوة حسنة لغيره، ويكون بها كالكتاب المفتوح يقرأ فيه الناس المعاني الجميلة والنبيلة فيقبلون عليها وينجذبون إليها.. ومعلوم أنّ التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر مِنْ التأثر بالكلام فقط، ولم ينسَ الحكماء أنْ يُضَمِّنوا هذا المعنى في أقوالهم، فقالوا: «عَمَل رَجُلٍ في أَلْفِ رَجُلٍ خَيْرٌ مِن كلام أَلْفِ رَجُلٍ في رَجُلٍ».
    وفي التنزيل الحميد موقف يختصر لنا المسافة ويعطينا المعنى في ألطف إشارة، حين قال الْفَتَيَانِ ليوسف - عليه السلام -: «نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين»، وكان هذا الطلب مِنْهما بعد أنْ أُعْجِبَا بصلاحه وسلوكه مع أهل السجن وحُسن معاملته لهم. ومِنْ وجوه الإحسان التي كان يمارسها - على ما يذكر الإمام القرطبي -: «أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ الْمَرْضَى وَيُدَاوِيهِمْ، فكَانَ إِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ السِّجْنِ قَامَ بِهِ، وَإِذَا ضَاقَ وَسَّعَ لَهُ، وَإِذَا احْتَاجَ جَمَعَ لَهُ»، ويضيف ابن كثير «وَكَانَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدِ اشْتُهِرَ فِي السِّجْنِ بِالْجُودِ وَالْأَمَانَةِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَمَعْرِفَةِ التَّعْبِيرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أهل السجن وعيادة مَرْضَاهُمْ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ. وَلَمَّا دَخَلَ هَذَانِ الْفَتَيَانِ إِلَى السِّجْنِ، تَآلَفَا بِهِ وَأَحَبَّاهُ حُبّاً شَدِيداً، وَقَالَا لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَحْبَبْنَاكَ حُبّاً زَائِداً».

    المَعْلَمُ الثاني: الإيجابية والتحرك لمواجهة المشكلات اليومية الحياتية:
    مِنْ أهم الأمور التي تُعِينُ على جذب الآخرين نحو شَخْصٍ ما: أنْ يكون عملياً، يَقِلُّ الكلام لديه، في حين تكْثُرُ الأساليب العملية التي تعالج المشكلات المعاصرة المحيطة به على نحو فعال وحاسم، يظهر ذلك بوضوح مِنْ الوَصْفين المشار إليهما، فخديجة - رضي الله عنها - لَمْ تَقُلْ للنبي: وماذا تخشى وقد أَلْقَيْت فيهم خُطْبَةً بَلِيغَةً جَزِلَةً. والذي وصف أبا بكر لم يقل له: لماذا يخرجك قومك وأنت من أشعر (أنسب أو أعرف العرب بشعرها وأنسابها) العرب وأفصحها لساناً؟ إنَّما ذَكَرَا صِفَاتٍ عملية واقعية. ولا يخفى أنَّ ديننا هو دين العمل وأنَّ أكثر الأمور اقتراناً وتساوقاً في القرآن الكريم: الإيمان والعمل الصالح، وكان مِمَّا نهت عنه الشريعة وكرهته وحذرت مِنْه: “القيل والقال”، أي فضول القَوْل والاشتغال بما لا يعني مِنْ أقاويل الناس.

    ولا ريب في أَنَّنا سنرتكب خطأ فادحاً حين نظن أَنَّنا نستطيع جذب الآخرين إلى أخلاقنا بمجرد أَنْ نتحدث إليهم عَبْر مكبرات الصوت ونحن قابعون في أبراجنا العاجية، دون أَنْ نوجد حُلُولاً – أو نشارك في إيجاد حُلُول - لمشكلاتهم اليومية الحياتية المختلفة - مثل الفقر والجريمة والْأُمِّيَّة والمرض والبطالة -، وهذا يقتضي الحرص على المخالطة التي لا بُدَّ منها، بل إنَّ هذا الواجب أصبح أشد تَحَتُّماً في زماننا مِنْ أيِّ زمان مضى بعد أَنْ اتسع العمران وضاقت الصدور ونَمَتْ مساحة الشخصي والذاتي على حساب المجتمعي والعام، فخدمة الإسلام لا تكون مِنْ خلال مديحه ولا مِنْ خلال الخطب الرنانة حول إنجازاته، وإنَّما مِنْ خلال الارتقاء بالواقع وتحسين أوضاع أفراد المجتمع..

    وقد عاب القرآن الكريم في بداية الدعوة على أهل مكة أَنَّهم كانوا لا يهتمون بما يمكن أَنْ نُسميه بمصطلح العصر المشترك الإنساني، فهاجمهم في عقر دارهم في قوله تعالى: «كَلَّا. بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ»، فهم لا يكرمون اليتيم الصغير الذي فقد أباه واحتاج إلى مَنْ يُجْبِرُ خاطره ويُحْسِنُ إليه، كما أَنَّهم لا يتواصون على إطعام المحاويج مِن المساكين والفقراء؛ ما يوحي بضرورة توجيه الأنظار إلى الواجب الاجتماعي وإلى العمل العام.

    المَعْلَمُ الثالث: التصوّر الصحيح لعلاقة الإنسان بالإنسان:
    نحن لا نعلم على وجه التحديد مَنْ هم الذين كانوا ينالون هذه الألوان مِنْ البر والإحسان، حيث لم يُشِرْ أي من النصّين مِنْ قريب أو بعيد إليهم، ولم يتكلّف أحد من الشراح والمفسرين تعيينهم أو تحديد أسماء بعضهم، فليس في ذلك فائدة تُذْكَر، والشيء المؤكد أَنَّهم كانوا ممن يعيشون مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في نفس الحيز المكاني، وقد حرص النبي وصاحبه كل الحرص على إحسان المعاملة معهم ومشاركتهم شعورهم، وهذا يعني أَنَّ مستقبل البشرية سيظل مَرْهُوناً بأمرين أساسيين: حُسْنُ علاقتها بالله جل وعلا، وحُسْنُ العلاقة بين الإنسان والإنسان أيّاً كانت العقائد والتوجهات.
    فالله جلّ وعلا بقدرته وحكمته لم يخلق شخصين - منذ نشأة الحياة وإلى أَنْ تقوم الساعة - متشابهين في الشكل والمعنى أو المظهر والجوهر، بل حتى في أطراف الأصابع التي هي مِنْ عظيم قدرته، يشير إلى ذلك قوله تعالى: «بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ»، ومِنْ وجوه التفسير فيها: نحن قادرون على تسوية تلك الخطوط الدقيقة في الأصابع والتي تختلف بين إنسان وإنسان اختلاف الوجوه والأصوات واللهجات، مِمَّا يجعل الإنسان في نهاية المطاف شخصية مستقلة تتولّد عند اجتماعها واختلاطها بغيرها ألوانٌ مِن الاختلاف يستحيل القضاء عليها قَضَاءً تاماً، والمطلوب أَنْ يتجاوز بنو البشر - ولو في المحيط الجغرافي الواحد على الأقل - هذه الاختلافات حتى يتحقق المقصد من الحياة، وهو العمارة والعبادة. ومِنْ عجيب ما استنبطه العلماء من الوصفين المشار إليهما: أَنَّ مَنْ كانت فيه منفعة متعدية لا يُمَكَّن مِنْ الانتقال عن البلد الذي هو فيه إلى غيره بغير ضرورة راجحة. وقد صدقوا، فَهَؤُلَاءِ للناس كالجبال الرواسي للأرض.
    اللهم إنّا نسألك إيماناً في حُسْن خُلُق، وصَلَاحاً يَتْبَعُهُ فلاح.. آمين.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

    أحمد عبدالمجيد مكي
                  

09-06-2015, 01:52 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الدَّين هم وعلاج
    الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد:

    فقد جلس علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يوماً متأملاً أشد مخلوقات الله – سبحانه – فقال : " أشدّ خلق ربك عشرة : الجبال ، والحديد ينحت الجبال ، والنار تأكل الحديد ، والماء يطفئ النار ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء ، والريح تُقِلُّ السحاب ، والإنسان يتقي الريح بيده ويذهب فيها لحاجته ، والسُّكْر يغلب الإنسان ، والنوم يغلب السكر ، والهم يمنع النوم ، فأشد خلق ربك الهم ". (رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي : رجاله ثقات).

    فالهمُّ من أشد ما يفتك بصحة المرء ورشده ، ولذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ بالله منه دوماً ، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: " كنت أخدم النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وقهر الرجال ".

    والهموم تتنوع وتختلف ، ومن أشد الهموم وطأة على المرء همُّ الدين ، فمن الأمثلة السائرة عند العرب في ذلك قولهم :

    لا همَّ إلا همُّ الدَّين ، وقولهم : الدَّينَ ولو درهم ( أي : احذر ) ، وكان يقال : الَّدين ينقص من الدِّين والحسب ، ويقال : الدَّين همٌّ بالليل ومذلة بالنهار ، ويقال : إياكم والدَّين فإن أوله همّ وآخره حرب ، ويقال : الدَّين رق ، فليختر أحدكم أين يضع رقه ، وكان يقال : الأذلة أربعة : النمام والكذاب والفقير والمديان ، ويقال : حرية المسلم كرامته، وذله دَيْنه، وعذابه سوء خلقه، وقال عمر بن عبد العزيز: الدَّين وقر طالما حمله الكرام، وبث أحدهم معاناته مع الدَّيْن شعراً فقال :

    ألا ليت النهار يعود يومــــاً فإن الصبح يأتي بالهمـوم
    حـوائـج ما نطيق لها قضاءً ولا دفعاً وروعاتُ الغريم

    إن الإسلام قد شدد في مسألة الدين تشديداً يحمل المرء على عدم الاقتراب منه إلا عند الضرورة القصوى ؛ إذ الدين مانع من مغفرة الذنب وإن كانت الخاتمة شهادة في سبيل الله ، ففي صحيح مسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قام في أصحابه فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال ، فقام رجل فقال : يا رسول الله أرأيت إن قُتلت في سبيل الله أتُكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله : " نعم ، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " ، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " كيف قلت ؟ " ، قال : أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله : "نعم ، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك " ، بل ذلك من أعظم الذنوب بعد الكبائر ، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – : " إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاءً " (رواه أحمد وأبو داود وسكت عنه).

    والدَّين مما قد يعاقب عليه في القبر فعن جابر بن عبد الله قال : توفي رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ثم أتينا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليصلي عليه ، فقلنا : تصلي عليه ؟ فخطا خطوة ثم قال: " أعليه دين ؟ " قلنا : ديناران ، فانصرف ، فتحملهما أبو قتادة ، فأتيناه ، فقال : أبو قتادة : الديناران عليّ ، فقال رسول الله : " قد أوفى الله حقَّ الغريم وبرئ منهما الميت ؟ قال : نعم ، فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك بيومين : " ما فعل الديناران ؟ " قلت : إنما مات أمس ، قال : فعاد إليه من الغد فقال : قد قضيتها ، فقال رسول الله : الآن بردت جلدته ". (رواه أحمد وصححه الحاكم وحسنه المنذري).

    ونفس المؤمن محبوسة عن الكرامة حتى يقضى دينه ، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – : " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " (رواه الترمذي وحسنه البغوي) ، وقضاء الديون في الآخرة بالحسنات والسيئات، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : "ومن مات وعليه دين فليس بالدينار والدرهم، لكن بالحسنات والسيئات ".( رواه أحمد وصححه الألباني) .

    ودخول الجنة معلق بقضاء الدين ، فقد قال محمد بن عبد الله بن جحش – رضي الله عنه – : كان رسول – صلى الله عليه وسلم – قاعداً حيث توضع الجنائز فرفع رأسه قِبَل السماء ثم خفض بصره فوضع يده على جبهته فقال : "سبحان الله سبحان الله ما أنزل من التشديد " قال : فعرفنا وسكتنا حتى إذا كان الغد سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا : ما التشديد الذي نزل ؟ قال : " في الدَّين ، والذي نفسي بيده لو قتل رجل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى دينه ".(رواه النسائي وصححه الحاكم وحسنه الألباني) ، وقال أبو هريرة – رضي الله عنه – : " من كان عليه دين ، فأيسر به فلم يقضه فهو كآكل السحت " (رواه عبد الرزاق).

    وكل ذلك مما جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – على كمال شفقته ورحمته يدع الصلاة على الميت إن كان عليه دين قبل أن يكثر المال في الدولة الإسلامية ليكون السداد منها .
    فهذه النصوص المخيفة تحمل المرء على التحرز من الديون وإن يُسرت له وزينت في دعايات المصارف ودور التمويل والتقسيط .

    إن المتأمل للهدي الإسلامي الشامل لجوانب الحياة في تعامله مع همِّ الدين يجد الدواء الناجع لهذا الداء دفعاً له قبل وقوعه ، ورفعاً له بعد الوقوع ، وحسماً لأثره عند القضاء وبعده ، أما الإجراءات الوقائية المانعة من الدين ، فهي التحذير من الدين وبيان خطره كما تقدم ، ومنها :

    الاقتصاد وحسن التدبير

    إذ أكثر الديون تصرف في الكمالات ، كما قال الله – تعالى – : {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء : 29]، وذلك يستلزم ضبط المصروف وحسن تقسيمه ، وعدم الانصياع لبهرج الدعاية والإعلان ، والتخلص من العادات السيئة وإن جرى بها العمل في المجتمع وعدم مجاراتهم في عاداتهم المباحة إن لم تطق ، كذبح الخراف للضيوف وإن كلفته ديناً ، ومن حسن التدبير ترك التسجيل لدى المحلات لئلا يتساهل في الشراء ويقع في الدين ، ومن حسن التدبير إبقاء جزء من المال للظروف الطارئة كما كان هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ إذ يقول : " لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني ألا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيئاً أرصده لدين ". (رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري).

    ومنها:طلب تلمس البركة في الأرزاق.

    ومنها أن يعوّد المرء نفسه وأهله على عدم الاستجابة للرغبات النفسية في تحقيق كل ما تريد ، والقناعة بما رزقوا ، فقد مرّ جابر على عمر بن الخطاب بلحم قد اشتراه بدرهم فقال له عمر : ما هذا ؟ قال : اشتريت بدرهم ، قال : كلما اشتهيت شيئاً اشتريته .

    وما عولج الطمع بمثل اليأس :

    إذا غـلا شـيء عـلـيّ تركـتــه فيكون أرخص ما يكون إذا غلا


    فإن اضطر إلى الدَّين اضطرار فماذا عليه ؟ هذا ما نجيب عنه في مقالنا القادم إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسزله سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد:

    في المقال السابق عن الدين بينا كيف أن الشرع الحنيف حث المؤمنين على تجنب الدين قدر المستطاع ، كما بينا بعض الأضرار المترتبة على الدين ، لكن قد يضطر العبد إلى الاستدانة فإن اضطر اضطراراً إلى الدين فعليه بما يلي :

    1- الصدق في نية الوفاء والعزم عليه :

    فبهذه النية يسلم المرء من مغبة الدين وخطره ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم– : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها ، أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ". (رواه البخاري ومسلم) .

    وروى النسائي وابن حبان في صحيحه مرفوعاً : "ما من أحد يدان ديناً يعلم الله أنه يريد قضاءه إلا أدى الله عنه في الدنيا " . وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : " من داين بدين وفي نفسه قضاؤه فمات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء ، ومن داين بدين وليس في نفسه وفاؤه فمات اقتص لغريمه منه يوم القيامة ". (رواه الطبراني في الكبير وثبته المباركفوري).

    وبهذه النية يعان المرء في قضاء دينه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه مالم يكن فيما يكره الله ". (رواه الدارمي وحسنه المنذري وابن حجر).

    وهذه النية لا تكون صادقة إلا بفعل الأسباب الممكنة في السداد وإن كانت قليلة لا تقوم بتغطية الدين ، فمن ذلك : توثقة الدين وكتابته في الوصية ( والوصية حينئذٍ واجبة ) ورهن المبيع به ، وإعطاء المدين الدائن الفائض من المال عن حاجته وإن كان قليلاً ، ومنها : الاقتصاد في النفقة ؛ لينفضل ما يكون به السداد ، وقد كان هذا منهج الصحابة في قضاء الدين كما فعل جابر بن عبد الله وابن الزبير في ديون والديهما ، كما روى ذلك البخاري في صحيحه .

    2- حسن الظن بالله والاستعانة به

    فالله عند ظن عبده به ، وقد أوصى الزبير بن العوام ابنه عبد الله بقضاء دينه وقال له : " يا بني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه بمولاي " فقال له : " يا أبةِ من مولاك ؟ " فقال : " الله "، قال عبد الله : " فو الله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه " رواه البخاري .

    3- ذكر الله ودعاؤه

    فمن ذلك دعاء يونس عليه السلام ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : " دعوة ذي النون إذ دعاه وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فإنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له ". (رواه الترمذي وصححه الحاكم) ، ومنها دعاء الكرب الذي يدعو به النبي – صلى الله عليه وسلم – كما قال ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : " لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم ". (رواه البخاري ومسلم).
    ومنها لزوم الاستغفار ، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : "من لزم الاستغفار جعل الله من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب " . (رواه أبو داود وسكت عنه) . ومنها قول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، فقد قال مكحول : " من قال لا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ من الله إلا إليه كشف الله عنه سبعين باباً من الضر أدناهن الفقر ".( رواه الترمذي وصححه الألباني).

    وهناك أدعية خاصة بقضاء الدين ، ومنها :

    ما روى أبو داود وسكت عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة ، فقال : يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة ؟ فقال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله ، قال : أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك ؟ قال : قلت : بلى يا رسول الله ، قال :

    "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ". قال : ففعلت ذلك ، فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني .

    ومنها ما رواه أحمد والترمذي وصححه الحاكم وحسنه الألباني أن علي بن أبي طالب قال لرجل جاء يطلب أن يعينه في دينه ، فقال له : ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صبير (جبل في اليمن) ديناً لأداه الله عنك ، قل : "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك ".

    ومنها ما رواه الطبراني في الصغير وجوّده المنذري وحسنه الألباني أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لمعاذ : "ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداه الله عنك؟ ، قل : يا معاذ : اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطيهما من تشاء وتمنعهما من تشاء ارحمني رحمةً تغنيني بها عن رحمة من سواك " .

    4-الحرص على الأسباب الجالبة للرزق

    كبر الوالدين وصلة الأرحام ، والإحسان إلى الضعفاء وسؤال البركة ، فقد روى البخاري في صحيحه عن جابر أخبر أن أباه قتل يوم أحد شهيداً ، وقال : وعليه دين ، فاشتد الغرماء في حقوقهم فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا تمر حائطي ( بستاني ) ، ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم النبي حائطي وقال : سنغدو عليك ، فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة فجَدَدتُّها فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها " .

    5- توسيط الوجهاء للشفاعة في إسقاط الدين أو بعضه

    كما فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع جابر .
    فإذا حلَّ الدين فإن الإسلام قد حض على حسن الوفاء ، وذلك بأدائه في موعده المحدد ، والزيادة عليه كرماً من المدين دون طلب من الدائن أو شرط ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلاً أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – يتقاضاه بعيراً ، فقال النبي : "أعطوه" ، فقالوا : ما نجد إلا سناً أفضل من سنه ، فقال رسول الله : " أعطوه فإن من خيار الناس أحسنهم قضاءً " فقال الرجل : أوفيتني أوفاك الله ، رواه البخاري ومسلم بنحوه . بهذا التعامل الراقي يحسم هم الدين وينقلب محمدة للإنسان .

    ولئن كان النصح مزجى للمدين ، فللدائن حظ منه ، وهذه رسالة إليه :

    أخي الدائن ! إني موصيك بأربع فاحفظها وعها ، تغْنم وتسلم :

    الأولى : إياك أن يحملك حب المال على استغلال ظروف الناس وحاجتهم فتزيد في الأسعار زيادة لا تقبل فتنزع البركة من بيعتك .

    الثانية : الدَّين إرفاق فإياك أن تلوثه بالحرام كالربا والتحايل عليه .

    الثالثة : لا تفوّت فضيلة إنظار المدين ، وإسقاط الدين كله أو بعضه عنه ، فقد تجاوز الله عن مذنب كان يتجاوز عن المعسرين كما ثبت ذلك في صحيح البخاري .

    الرابعة : إياك والفجر في الخصومة ، بأن تعتدي في خصومتك لمدينك فتشتكيه وأنت تعلم عسرته أو تدعو على ولده أو زوجه أو قريب أو تتلفظ عليهم أمام الناس .

    وتذكر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا بالرحمة لمن كان سمحاً في قضائه كما ثبت ذلك في صحيح البخاري.


    نسأل الله أن يقضي الدين عن كل مدين ، وأن يغني المسلمين من فضله ؛ إنه جواد كريم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    محمد بن عبد الله السحيم
                  

09-06-2015, 01:53 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الإحسان عبادة الأبرار
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

    فإن الإحسان مشتق من «الحُسن» الذي هو الجمال والبهاء لكل ما يصدر من العبد من خطرات ونبرات وتصرفات، وهو أعلى مقامات الرفعة الإنسانية ، والمفتاح السحري لكل أزماتها وجسر سعادتها الأبدية، وكفى الإحسان شرفا أن البشرية جمعاء اتفقت على حبه ومدحه وأجمعت على كره ضده من كافة صنوف الإساءة، ولذلك أولى الإسلام الإحسان عناية بالغة وجعله أسمى هدف تصبو إليه نفوس العابدين، وهو طريق الوصول لمحبة الله تعالى ومعيته ورحمته، بل ورؤيته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، في جنة الخلد، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

    من أبلغ الأقوال في الإحسان قول من أوتي جوامع الكلم – صلى الله عليه وسلم-: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (البخاري ومسلم).

    ففي هذه الكلمات النبوية الجامعة من مقتضيات المراقبة والخشية والإنابة والإتقان والاتباع وصفاء السريرة .. ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين متفاوتتين :

    (أعلاهما) عبادة الله كأنك تراه، وهذا «مقام المشاهدة»، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه حيث يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان، وهذا هو حقيقة مقام الإحسان. ولذلك لما خطب عروة إِلَى ابن عمر ابنته وهما في الطواف لم يجبه بشيء، ثم رآه بعد ذلك فاعتذر إِلَيْهِ، وقال: «كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا».(الحلية، أبو نعيم).

    الثاني: «مقام المراقبة» وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله تعالى وإرادته بالعمل، قال الحارث المحاسبي: «أوائل المراقبة علم القلب بقرب الرب»، وقال بعض السَّلف: «من عمل لله عَلَى المشاهدة فهو عارف، ومن عمل عَلَى مشاهدة الله إياه فهو مخلص».

    ويتفاوت أهل هذين المقامين بحسب نفوذ البصائر ؛ لذلك قال النووي –رحمه الله-: (وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين).

    وقالوا أيضا في الإحسان: «فعل الخيرات على أكمل وجه». «تحسين الظاهر والباطن». «الإتيان بغاية ما يمكن من تحسين العمل المأمور به، ولا يترك شيئاً مما أمر به». «امتلاء القلب بحقيقة الألوهية كأنه يشاهد الله عياناً». «مراعاة الخشوع والخضوع».

    وبالجملة فالإحسان هو الذي خُلقنا من أجله، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بيّن الحكمة فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك:2).

    والإحسان ذروة الأعمال، وهو أن تقدم الفعل من غير عوض سابق، بل يساء إليك ولا يسعك إلا أن تقدم الإحسان، كما فعل يوسف الصديق عليه السلام {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (يوسف: 46-48)فعاملهم بالإحسان فلم يعبر لهم الرؤيا فقط بل أعطاهم الحَل معه {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ}.

    بل إن الذي يستلفت النظر في قصة يوسف عليه السلام كثرة تكرار صفة الإحسان، فكان محسنا مع ربه ومع الناس –وهما متلازمان- فقد سمى الله قصته {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ} (يوسف:3)أي من أحسنه.

    ورتب على الإحسان إيتاءه الحكم والعلم مع الشباب {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:22).

    ووصفه السجناء بذلك {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:36).

    وبه مكنه الله تعالى في الأرض {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:56).

    وقال له إخوته وهم لا يعرفونه {قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:78).

    وقال عن نفسه وأخيه {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:90).

    ثم أثنى على ربه بإحسانه إليه {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف:100).

    فلم يذهب إحسانه سدى، فكل إحسان يفعله العبد حتى فيمن لا يستحقون لابد أن يكافئه عليه الله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60)فاصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن صادف أهله فهو أهله، وإن لم يصادف أهله فأنت أهله.

    والإحسان خير مكانة يتبوأها العبد لأنه إن أساء وسعه بعده الإيمان ثم الإسلام، أما من يعيشون على الحد الأدنى للإسلام فهو مع النقص مهدد بكفر الاعتقاد أو كفر النعمة.

    قال ابن تيمية: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا ..)، ثم قال: (وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين).

    وخلق الإحسان يتسع ليشمل القول والعمل والعبادات والمعاملات .. فهو إكسير الحياة الذي يحيلها طيبة متآلفة، لذلك جعل الله تعالى رحمته ومحبته جائزة المحسنين {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134){إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56).

    كما أن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (الترمذي)
    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم*** فطالما استعبد الإنسان إحسان

    وأعظم ثمرات الإحسان قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس:26)الحُسْنَى: أي البالغة الحسن في كل شيء، من جهة الكمال والجمال، وهي الجنة، وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة، ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك الإحسان من المناسبة، فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، جزاهم على ذلك العمل النظر إليه عياناً في الآخرة {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(الرحمن:60)وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (المطففين:15) {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}(النجم:31).

    إن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة. فمن كان من أهل السعادة، عَمِل عَمَل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين. فهو طريقك وهدفك ومحل كدك ونصبك .. روى الطبراني عن أبي سلمة عن معاذ –رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: «اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وعند كل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر والعلانية بالعلانية» (حسن لغيره، الألباني).

    نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المحسنين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلىالله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    ـــــــــــــــــــــــــــــ

    د. خالد سعد النجار
                  

09-06-2015, 01:56 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الحجب بين العبد وبين الله
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم فهذه الحجب العشرة بين العبد وربه:

    1- الحجاب الأول: الجهل بالله:
    ألّا تعرفه.. فمن عرف الله أحبه.. وما عرفه من لم يحبه.. وما أحب قط من لم يعرفه.. لذلك كان أهل السنة فعلا طلبة العلم حقا هم أولياء الله الذين يحبهم ويحبونه.. لأنك كلما عرفت الله أكثر أحببته أكثر..
    قال شعيب خطيب الأنبياء لقومه: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود } (هود:90).
    وقال ربك جلّ جلاله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا }(مريم:96).
    إن أغلظ الحجب هو الجهل بالله وألا تعرفه.. فالمرء عدو ما يجهل..
    إن الذين لا يعرفون الله يعصونه.
    من لا يعرفون الله يكرهونه.
    من لا يعرفون الله يعبدون الشيطان من دونه.
    ولذلك كان نداء الله بالعلم أولاً: { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات }(محمد:19).
    فالدواء أن تعرف الله حق المعرفة.. فإذا عرفته معرفة حقيقية فعند ذلك تعيش حقيقة التوبة.

    2- الحجاب الثاني: البدعة:
    فمن ابتدع حجب عن الله ببدعته.. فتكون بدعته حجابا بينه وبين الله حتى يتخلص منها.. قال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "(متفق عليه).
    والعمل الصالح له شرطان:
    الإخلاص: أن يكون لوجه الله وحده لا شريك له.

    والمتابعة: أن يكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
    ودون هذين الشرطين لا يسمى صالحاً.. فلا يصعد إلى الله.. لأنه إنما يصعد إليه العمل الطيب الصالح.. فتكون البدعة حجاباً تمنع وصول العمل إلى الله.. وبالتالي تمنع وصول العبد.. فتكون حجاباً بين العبد وبين الرب.. لأن المبتدع إنما عبد على هواه.. لا على مراد مولاه.. فهو حجاب بينه وبين الله.. من خلال ما ابتدع مما لم يشرّع الله.. فالعامل للصالحات يمهد لنفسه.. أما المبتدع فإنه شرّ من العاصي.

    3- الحجاب الثالث: الكبائر الباطنة:
    وهي كثيرة كالخيلاء.. والفخر.. والكبر.. والغرور.. هذه الكبائر الباطنة أكبر من الكبائر الظاهرة.. أعظم من الزنا وشرب الخمر والسرقة.. هذه الكبائر الباطنة إذا وقعت في القلب.. كانت حجاباً بين قلب العبد وبين الرب.
    ذلك أن الطريق إلى الله إنما تقطع بالقلوب.. ولا تقطع بالأقدام.. والمعاصي القلبية قطاع الطريق.
    يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى: ( وقد تستولي النفس على العمل الصالح.. فتصيره جنداً لها.. فتصول به وتطغى.. فترى العبد: أطوع ما يكون.. أزهد ما يكون.. وهو عن الله أبعد ما يكون.. ) فتأمل..!!

    4- الحجاب الرابع: حجاب أهل الكبائر الظاهرة:
    كالسرقة.. وشرب الخمر.. وسائر الكبائر..
    إخوتاه.. يجب أن نفقه في هذا المقام.. أنه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.. والإصرار هو الثبات على المخالفة.. والعزم على المعاودة.. وقد تكون هناك معصية صغيرة فتكبر بعدة أشياء وهي ستة:

    (1) بالإصرار والمواظبة:

    مثاله: رجل ينظر إلى النساء.. والعين تزني وزناها النظر.. لكن زنا النظر أصغر من زنا الفرج.. ولكن مع الإصرار والمواظبة.. تصبح كبيرة.. إنه مصر على ألا يغض بصره.. وأن يواظب على إطلاق بصره في المحرمات.. فلا صغيرة مع الإصرار..

    (2) استصغار الذنب:

    مثاله: تقول لأحد المدخنين: اتق الله.. التدخين حرام.. ولقد كبر سنك.. يعني قد صارت فيك عدة آفات: أولها: أنه قد دب الشيب في رأسك. ثانياً: أنك ذو لحية. ثالثاً: أنك فقير.
    فهذه كلها يجب أن تردعك عن التدخين.. فقال: هذه معصية صغيرة.

    (3) السرور بالذنب:

    فتجد الواحد منهم يقع في المعصية.. ويسعد بذلك.. أو يتظاهر بالسعادة.. وهذا السرور بالذنب أكبر من الذنب.. فتراه فرحاً بسوء صنيعه.. كيف سب هذا؟؟.. وسفك دم هذا؟.. مع أن " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". ( البخاري).
    أو أن يفرح بغواية فتاة شريفة.. وكيف استطاع أن يشهر بها.. مع أن الله يقول: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم }(النور:19).
    انتبه.. سرورك بالذنب أعظم من الذنب.

    (4) أن يتهاون بستر الله عليه:

    قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ( يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عاقبته.. ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته.. قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال ـ وأنت على الذنب ـ أعظم من الذنب.. وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب.. وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب.. وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك ـ وأنت على الذنب ـ ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب ).

    (5) المجاهرة:

    أن يبيت الرجل يعصي.. والله يستره.. فيحدث بالذنب.. فيهتك ستر الله عليه.. يجيء في اليوم التالي ليحدث بما عصى وما عمل!!.. فالله ستره.. وهو يهتك ستر الله عليه.
    قال صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين.. وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عليه ". ( البخاري).

    (6) أن يكون رأساً يقتدى به:

    فهذا مدير مصنع.. أو مدير مدرسة أو كلية.. أو شخصية مشهورة.. ثم يبدأ في التدخين.. فيبدأ باقي المجموعة في التدخين مثله.. ثم بعدها يبدأ في تدخين المخدرات.. فيبدأ الآخرون يحذون حذوه.
    هكذا فتاة قد تبدأ لبس البنطلون الضيق يتحول بعدها الموضوع إلى اتجاه عام.
    وهكذا يكون الحال إذا كنت ممن يُقتدى بهم.. فينطبق عليك الحديث القائل: " من سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ". (مسلم).

    وللحديث بقية وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
    مستفاد من كلام الإمام ابن القيم
                  

09-06-2015, 02:00 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    من أسباب محبة الله للعبد
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - عن المحبة:

    ( المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب ).

    وليس الشأن أن تحب الله تعالى، فأنت في كل نَفَس وفي كل حركة وسكون في نومك ويقظتك مغمور بنعم الله تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } ( النحل: 53)، فالمؤمنون يحبون ربهم تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ( البقرة:165) ولكن الشأن أن يحبك الله تعالى كما قال تبارك وتعالى عن بعض عباده: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ( المائدة:54)، فكيف يمكن أن يترقى العبد من درجة المحب إلى المحبوب؟ وما هي الأسباب التي تعينه على الوصول إلى هذه الرتبة العالية؟

    لقد أجاب على ذلك الأئمة ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وذكر لذلك أسبابا منها:

    السبب الأول: قراءة القرآن بتدبر وتفهم لمعانيه، وما أريد به

    كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.

    و ينبغي حين تقرأ القرآن أن تستشعر أن الله تعالى يكلمك ويخاطبك وقد أثر عن بعض السلف قوله:من أحب أن يكلمه الله تعالى فليقرأ القرآن.

    وتلاوة القرآن هي في حقيقتها مناجاة بين العبد وربه، قال الإمام النووي رحمه الله: ( أول ما يجب على القارىء، أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى ).

    فيتدبر العبد كلام الله تعالى وإذا وفق لفهم معانيه حمد الله تعالى على هذه النعمة العظيمة، قال ابن الجوزي رحمه الله: ( ينبغي لتالي القرآن العظيم أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في إيصاله معاني كلامه إلى أفهامهم وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه، بتدبر كلامه ).

    إن السابقين من هذه الأمة أنزلزا القرآن منزلته اللائقة به كما قال الحسن بن على رضي الله عنهما: ( إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار ).

    ولهذا فإن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة وتدبرها ومحبتها، هي سورة الإخلاص التي فيها صفة الرحمن جل وعلا فظل يرددها في صلاتة، فلما سُئل عن ذلك قال: ( لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم"أخبروه أن الله يحبه " (البخاري).

    وليس المقصود من تلاوة القرآن مجرد القراءة بلا فهم ولا تدبر، إنما المقصود من القراءة هو التدبر، وإن لم يحصل التدبر إلا بترديد الآية فليرددها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
    فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بآية يرددها: {إن تُعَذّبهُم فَإِنّهُم عِبَادُكَ وَإن تَغفِر لَهُم فَإنّكَ أنتَ العَزِيز الحَكيمُ }(المائدة:118).

    وقامت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بآية ترددا وتبكي وهي قوله تعالى: { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (الطور:27)

    وقام تميم الداري رضي الله عنه بآية وهي قوله تعالى: {أَم حَسِبَ الّذِينَ اجتَرَحُوا السّيِئَاتِ أن نّجعَلَهُم كَالّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَوَآءً مّحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَآءَ مَا يَحكُمُون }(الجاثية:21).

    السبب الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض:

    فإنها من أعظم أسباب الفوز بمحبة الرب جل وعلا.
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة سبحانه وتعالى" من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشىء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه "(البخاري).

    وقد بين هذا الحديث صنفين من الناجين الفائزين.
    الصنف الأول: المحب لله وهو مؤد لفرائض الله، وقافٌ عند حدوده.
    الصنف الثاني: المحبوب من الله وهو الذي يتقرب إلى الله بعد الفرائض بالنوافل. وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذا السبب موصل إلى درجة المحبوبية بعد المحبة ، بمعنى أنه يصير بهذا محبوبا لله تعالى.

    وقد ذكر العلامة ابن رجب رحمه الله أن أولياء الله المقربين قسمان ، فقال عن القسم الثاني: (من تقرب إلى الله تعالى بعد أداء الفرائض بالنوافل، وهم أهل درجة السابقين المقربين، لأنهم تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والإنكاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله كما قال تعالى في الحديث القدسي:"لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه "فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والحظوة عنده ).
    والنوافل التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى هي الزيادة المشروعة من جنس أنواع الفرائض كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة.

    السبب الثالث: دوام ذكر الله تعالى على كل حال

    بالسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر.
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه "(صحيح ابن ماجه للألباني).
    وقال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }(البقرة:152).

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قد سبق المُفردون "قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال:" الذاكرون الله كثيراً والذاكرات "(مسلم).

    ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأنبئني منها بشيءٍ أتشبثُ به قال: "لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ".(صحيح سنن ابن ماجة للألبني) وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم تلك الوصية وفقهوا معناها الثمين حتى إن أبا الدرداء رض الله عنه قيل له: ( إن رجلاً أعتق مائة نسمة. قال: إن مائة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار وأن لا يزال لسان أحدكم رطباً من ذكر الله عز وجل ).
    وكان يقول: ( الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك).

    السبب الرابع: إيثار ما يحبه سبحانه على ما تحبه عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى
    يقول ابن القيم في شرح هذه العبارة: ( إيثار رضى الله على رضى غيره، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطول والبدن ).

    وقال رحمه الله: ( إيثار رضى الله عز وجل على غيره، وهو يريد أن يفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق، وهي درجة الإيثار وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولى العزم منهم، وأعلاها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم).

    وهذا كله لا يكون إلا لثلاثة:
    1 ـ قهر هوى النفس.
    2 ـ مخالفة هوى النفس.
    3 ـ مجاهدة الشيطان وأوليائه.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله وينهي النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها، كان نهيه عبادة لله، وعملاً صالحاً ).

    السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته

    ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله بأسمائه وأفعاله، أحبه لا محالة.

    قال ابن القيم رحمه الله: ( لا يوصف بالمعرفة إلا من كان عالماً بالله وبالطريق الموصل إلى الله، وبآفاتها وقواطعها، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة. فالعارف هو من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في قصده ونيته ).

    فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان، وأتلف شجرة الإحسان فضلاً عن أن يكون من أهل العرفان.

    ومن أوَّل الصفات فكأنما يتهم البيان النبوي للرسالة بالتقصير إذ لا يمكن أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم أهم أبواب الإيمان بحاجه إلى إيضاح وإفصاح من غيره لإظهار المراد المقصود الذى لم تبينه العبادات في النصوص.
    وثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:" إن للهِ تسعةً وتسعين اسمًا ، مائةً إلا واحدًا ، مَن أحصاها دخلَ الجنةَ "(البخاري).

    فالمحبة هي ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته واعتقاد جماله وكماله وجلاله، والاعتراف بإحسانه وإنعامه .
    ونكمل حديثنا عن بعض الأسباب الأخرى الجالبة لمحبة الرب جل وعلا في مقال قادم إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
    الحمد لله نشر في الكون آيات عظمته،وأفاض على عباده من خيراته ونعمته،أحمده سبحانه أكرم عباده المؤمنين الصالحين برحمته ومحبته ووعدهم رضوانه وجنته،وأشكره سبحانه شكراً عظيماً يليق بعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها نيل رحمته ومحبته،وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بلغ رسالته وأدى أمانته ونصح لأمته صلى الله عليه وعلى آله وصحابته.أما بعد:

    تكلمنا في مقال سابق عن بعض الأسباب التي ينال بها العبد محبة ربه ومولاه، وفي هذا المقال نكمل الحديث حول أسباب أخرى للفوز بهذه المحبة، ومنها:

    السبب السادس: مشاهدة بره سبحانه وإحسانه، وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته

    إن العبد أسير الإحسان؛ فالإنعام والبر واللطف، معاني تسترق مشاعره، وتستولي على أحاسيسه، وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة ويهدي إليه المعروف. والناس مجبولون على محبة من يحسن إليهم
    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الناس إحسان
    ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله، هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر: {وإِن تَعُدُوا نِعمَتَ اللّهِ لاَ تُحصُوهَآ إنّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ }(إبراهيم:34).

    فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة كلها سواه، وإنما يحب غيره تبعا لمحبته سبحانه، وصور إحسانه ومظاهرها أجل من أن يحيط بها العبد، يقول ابن القيم رحمه الله: (لا أحد أعظم إحسانًا من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نَفَس ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان، فضلاً عن أنواعه أو عن أفراده، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النَّفَس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه في كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس، وكل نفس نعمة منه سبحانه، فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة، فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور به بأكثرها أصلاً، والله سبحانه يكلؤه ( يحفظه) منها بالليل والنهار كما قال تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42]).

    وقال -رحمه الله- موضحًا عظيم إحسان الله إلى عباده في كل مراحل حياتهم:

    (الرزق والأجل قرينان مضمونان. فما دام الأجل باقيًا، كان الرزق آتيا، وإذا سد عليك بحكمته طريقًا من طرقه، فتح لك برحمته طريقًا أنفع لك منه. فتأمّل حال الجنين يأتيه غذاؤه... من طريق واحدة وهو السرّة (الحبل السرّي)، فلما خرج من بطن الأم، وانقطعت تلك الطريق، فتح له طريقين اثنين، وأجرى له فيهما رزقًا أطيب وألذ من الأول، لبنًا خالصًا سائغًا. فإذا تمت مدة الرضاع، وانقطعت الطريقان بالفطام، فتح طرقًا أربع أكمل منها: طعامان وشرابان، فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابان من المياه والألبان، وما يُضاف إليهما من المنافع والملاذ. فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة. لكنه سبحانه فتح له -إن كان سعيدًا- طرقًا ثمانية، وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء).

    وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى استشعار هذا المعنى فقال:
    "إنَّ يمينَ اللهِ مَلْأَى لا يغيضُها نفقةٌ ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ ، أرأيتم ما أنفق منذُ خلق السماواتِ والأرضِ ، فإنَّهُ لم ينقص ما في يمينِه..." ( البخاري). وكان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: "أبوء لك بنعمتك علي...".
    فإذا تفكر العبد في هذا المعنى امتلأ قلبه بحب ربه واندفعت جوارحه لطاعته والتقرب إليه بما يحب فأحبه ربه تبارك وتعالى.

    السبب السابع: وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته، بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن المعنى غير الأسماء والعبارات.

    والانكسار بمعنى الخشوع، وهو الذل والسكون.
    قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصوَاتُ لِلرّحمَنِ فَلاَ تَسمَعُ إِلا هَمساً }(طه:108).
    وقال ابن القيم: ( الحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار ).

    ويقول ابن رجب رحمه الله عن الخشوع: (أصله لين القلب ورقته، وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال صلى الله عليه وسلم: "... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ... "(رواه البخاري ومسلم). وكان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: "...خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي...". (رواه مسلم).

    وقد كان للسلف في الخشوع بين يدي الله أحوال عجيبة، تدل على ما كانت عليه قلوبهم من الصفاء والنقاء.
    كان عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما إذا قام في الصلاة كأنه عود، من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع نخلة أو شجرة.

    وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما إذا توضأ اصفّر لونه، فقيل له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال: ( أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ ).

    السبب الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
    قال تعالى: {تَتَجافى جُنُوبُهُم عَنِ المَضاجِعِ يَدعون ربهم خوفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقُونَ }(السجدة:16).
    إن أصحاب الليل هم بلا شك من أهل المحبة، بل هم من أشرف أهل المحبة، لأن قيامهم في الليل بين يدي اللّه تعالى يجمعُ لهم جلّ أسباب المحبة التي سبق ذكرها.

    ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقول له: " واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس " (السلسلة الصحيحة).

    يقول الحسن البصري رحمه اللّه: ( لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل فقيل له: ما بال المتجهدين من أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره ).
    قوم أقاموا للإله نفوسهم فكسا وجوههم الكريمة نورا

    السبب التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ "(صححه الألباني).

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في الله " (السلسلة الصحيحة).
    فمحبة المسلم لأخيه المسلم في الله، ثمرة لصدق الإيمان وحسن الخلق وهي سياج واق، ويحفظ الله به قلب العبد، ويشد فيه الإيمان حتى لا يتفلت أو يضعف.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى . فأرصد الله له ، على مدرجته ، ملكا . فلما أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخا لي في هذه القرية . قال : هل لك عليه من نعمة تربها ؟ قال : لا . غير أني أحببته في الله عز وجل . قال : فإني رسول الله إليك ، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" ( مسلم ).

    السبب العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل

    فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون دنياه ولن يجد نفعاً أو كسباً في أخراه. قال تعالى: {يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ ولاَ بَنُوُنَ إِلاّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ }(الشعراء:88).
    وقد عرفت أيها الكريم أن فساد القلب يؤدي إلى فساد البدن كما في الحديث" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح البدن كله، وإذا فسدت فسد البدن كله، ألا وهي القلب". (البخاري).

    قال ابن تيمية رحمه الله: (فأخبر أن صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد ، وفساده مستلزم لفساده ، فإذا رأى ظاهر الجسد فاسدا غير صالح علم أن القلب ليس بصالح بل فاسد ، ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازما لصلاح الباطن وفساده) .

    فالله الله في السرائر فإن لها أثرا على الظاهر، قال عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وقال ابن عقيل في الفنون : للإيمان روائح ولوائح لا تخفى على اطلاع مكلف بالتلمح للمتفرس ، وقل أن يضمر مضمر شيئا إلا وظهر مع الزمان على فلتات لسانه وصفحات وجهه.

    نسأل الله أن يصلح سرائرنا وعلانيتنا، وأن يرزقنا حبه،إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إسلام ويب
                  

09-06-2015, 02:03 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    لا تعسروا
    الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحنيفية السمحة وجعل الشريعة يسرا كلها فقال :{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }، غير أن بعض الناس قد ينحرفون عن هذا الهدي فيشددون على أنفسهم أو على غيرهم سواء في أمر الدنيا أو الدين، لذلك كان حديثنا في هذا المقال عن التعسير والتشديد.

    ومعنى التعسيرأن يشدِّد الإنسان على نفسه أو غيره في أمر الدِّين بالزِّيادة على المشروع، أو في أمر الدُّنيا بترك الأَيْسَر ما لم يكن إثما.

    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". ( رواه البخاري).

    قال ابن تيمية معلقًا على هذا الحديث: (والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أنَّ سنته : التي هي الاقتصاد في العبادة، وفي ترك الشهوات؛ خير من رهبانية النصارى، التي هي: ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلو في العبادات صومًا وصلاة) ( اقتضاء الصراط المستقيم).

    وقال ابن حجر: (قوله: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره فأعلمهم أنَّه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون وإنما كان كذلك لأنَّ المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره وخير العمل ما داوم عليه صاحبه) ( فتح الباري).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي -صلَّى الله عليه وآله وسلِّم- قال: "مَن نفَّس عن مؤمن كربةً مِن كرب الدُّنيا، نفَّس الله عنه كربةً مِن كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسرٍ، يسَّر الله عليه في الدُّنيا والآخرة. ومَن ستر مسلمًا، ستره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنَّة، وما اجتمع قومٌ في بيت مِن بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلَّا نزلت عليهم السَّكينة، وغشيتهم الرَّحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومَن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه" ( رواه مسلم).

    قال ابن رجب: (هذا -أيضًا- يدلُّ على أنَّ الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد وصف الله يوم القيامة بأنَّه يوم عسير، وأنَّه على الكافرين غير يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم، وقال: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} (الفرقان: 26).

    والتَّيسير على المعْسِر في الدُّنيا مِن جهة المال يكون بأحد أمرين:
    إمَّا بإنظاره إلى الميْسَرة، وذلك واجب، كما قال تعالى:{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ }[البقرة: 280]، وتارة بالوضع عنه إن كان غريمًا، وإلَّا فبإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما له فضل عظيم) ( جامع العلوم والحكم).
    عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا" ( البخاري ومسلم).

    قال النَّووي: (جمع في هذه الألفاظ بين الشَّيء وضدِّه؛ لأنَّه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على ((يسِّروا)) لصدق ذلك على مَن يسَّر مرَّةً أو مرَّات، وعَسَّر في معظم الحالات، فإذا قال: ((ولا تعسِّروا)) انتفى التَّعْسِير في جميع الأحوال مِن جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في: ((يسِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) لأنَّهما قد يتطاوعان في وقت، ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء، ويختلفان في شيء.

    وفي هذا الحديث الأمر بالتَّبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنَّهي عن التَّنْفِير بذكر التَّخويف، وأنواع الوعيد محضة مِن غير ضمِّها إلى التَّبشير. وفيه تأليف مَن قَرُب إسلامه، وترك التَّشديد عليهم، وكذلك مَن قارب البلوغ مِن الصِّبيان ومَن بلغ، ومَن تاب مِن المعاصي، كلُّهم يُتَلطَّف بهم، ويُدرَجون في أنواع الطَّاعة قليلًا قليلًا، وقد كانت أمور الإسلام في التَّكليف على التَّدريج، فمتى يسَّر على الدَّاخل في الطَّاعة -أو المريد للدُّخول فيها- سَهُلَت عليه، وكانت عاقبته -غالبًا- التَّزايد منها، ومتى عَسُرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دَخَل أوشك أن لا يدوم، أو لا يَسْتَحْلِيَها...) ( شرح النووي على مسلم).

    وعن أبي هريرة قال: "قام أعرابيٌّ فبال في المسجد، فتناوله النَّاس، فقال لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم: دعوه، وأريقوا على بوله سجلًا مِن ماء، أو ذَنُوبًا مِن ماء، فإنَّما بُعِثتُم ميسِّرين، ولم تُبْعَثوا معسِّرين" ( البخاري).
    قال العيني: (فيه مراعاة التَّيسير على الجاهل، والتَّألف للقلوب).
    وأولى الناس بالتيسير الداعية إلى الله؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك المفتي عليه أن يراعي التيسير ورفع الحرج عن الناس.

    يقول ابن العربي: (إذا جاء السَّائل عن مسألة، فوجدتم له مَخْلَصًا فيها، فلا تسألوه عن شيء، وإن لم تجدوا له مَخْلصًا فحينئذ اسألوه عن تصرُّف أحواله وأقواله ونيَّته، عسى أن يكون له مَخْلصًا).

    قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه -وقد دخل في القائلة-: (يا أبت، على ما تقيل وقد تداركت عليك المظالم، لعلَّ الموت يدركك في منامك، وأنت لم تقضِ دأب نفسك ممَّا ورد عليك! قال: فشدَّد عليه، قال: فلمَّا كان اليوم الثَّاني فعل به مثل ذلك، قال عمر: يا بنيَّ، إنَّ نفسي مطيَّتي، وإن لم أرفق بها لم تبلِّغني، يا بنيَّ، لو شاء الله عزَّ وجلَّ أن ينزِّل القرآن جملةً واحدةً لفعل، نزَّل الآية بعد الآية حتى إبطاء ذلك في قلوبهم، يا بنيَّ، إنِّي لم أجد الحقحقة (أي شدة السير) تردُّ إلى خيرٍ).

    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: لـمَّا ذكر شيئًا مِن مكائد الشَّيطان، قال بعض السَّلف: ما أمر الله تعالى بأمرٍ إلَّا وللشَّيطان فيه نزغتان، إمَّا إلى تفريط وتقصير، وإمَّا إلى مجاوزةٍ وغلوٍّ، ولا يبالي بأيِّها ظَفَر، وقد اقتطع أكثر النَّاس -إلَّا القليل- في هذين الواديين: وادي التَّقصير، ووادي المجاوزة والتَّعدِّي. والقليل منهم الثَّابت على الصِّراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه).
    وقال ابن حجر: (لا يتعمَّق أحدٌ في الأعمال الدِّينيَّة، ويترك الرِّفق إلَّا عجز وانقطع، فيُغْلَب).

    التفريق بين طلب الأكمل في العبادة والتنطع فيها:

    مما لا شك فيه أن العبد الذي يطلب الدرجات العلى والنعيم المقيم لابد أن يجتهد ويتعب ويترقى في مراتب الكمال الإيماني والتعبدي وغيره لكن هناك فرقا بين هذا التطلع للكمال وببين التشدد، فعن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الدِّين يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدِّين أحدٌ إلَّا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيء مِن الدلجة" ( البخاري ومسلم، والدلجة سير الليل).
    قال ابن المنِير: (في هذا الحديث عَلَمٌ مِن أعلام النُّبوَّة؛ فقد رأينا ورأى النَّاس قبلنا أنَّ كلَّ متنطِّعٍ في الدِّين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنَّه مِن الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملَال أو المبالغة في التَّطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلِّي اللَّيل كلَّه، ويُغَالِب النَّوم إلى أن غلبته عيناه في آخر اللَّيل، فنام عن صلاة الصُّبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشَّمس فخرج وقت الفريضة).
    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    للاستزادة موسوعة نضرة النعيم
                  

09-06-2015, 02:05 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    يطير فرحاً حينما يمسكها بيده.. ويزداد نشوة حينما يقبلها بفمه..! يستوحش لفقدها.. ويأنس لقربها.. أسعد لحظاته حينما يخلو بها.. وأشقى ساعاته حينما يفارقها.. تحدد أصدقاءه وأماكن جلوسه.. قد ينحرف بسببها.. قد يرتكب المحرمات لأجلها، بل قد يموت بتأثيرها..؟ إنها السيجارة!!! إذا فلنضعها في قفص الاتهام!!.

    عبــرة!!

    شاب في الخامسة والعشرين من عمره، ابتلي بشرب الدخان لعدة سنوات.. وذات يوم أدخل المستشفى بسبب ألم مفاجئ وهبوط في القلب.. ووضع عدة أيام بغرفة العناية المركزة تحت مراقبة الأجهزة الطبية المتطورة، حيث أن الطبيب المشرف على علاجه أصدر أوامره لهيئة التمريض بعدم إدخال الدخان للمذكور لأنه السبب الرئيسي لمرضه، وتفتيش الزوار خوفاً من تسلل الدخان له خفية..
    تحسنت صحته وبدأ يستعيد نشاطه.. إلا أنه لم يتقيد أخيراً بتعليمات الأطباء، حيث عاد إلى التدخين، وفي أحد الأيام فقد هذا الشاب.. بحثوا عنه فوجدوه في أحد الحمامات وقد فارق الحياة وبيده سيجارة!!.

    مكونـات السيجـارة

    تتكون السيجارة من عدة مركبات يصل عددها إلى أكثر من 200 مركب وأشدها ضرراً، وأعظمها خطراً النيكوتين، حيث يوجد منه من 1 – 2 مليجرام في كل سيجارة، وأضراره هي:
    1- أن النيكوتين يؤثر على أنسجة الجسم.
    2- أن جراماً واحداً منه يكفي لقتل عشرة كلاب من الحجم الكبير دفعة واحدة.
    3- أن حقنة منه تقدر بسنتيمتر مكعب كافية لقتل حصان قوي في لحظات قليلة.
    4- أن 50 مليجراما منه تقتل الإنسان إذا حقنت عن طريق الوريد.

    التدخيـن هـلاك للديـن

    حيث يبتعد المدخن عن أماكن الخير والصلاح فنجده يتوارى من الناس من سوء رائحته، بل قد يكون سبباً في ارتكاب بعض المحرمات، ناهيك عن كونه محرماً شرعاً، والله تعالى يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } (الأعراف: 157).

    هـلاك الصحـة

    حيث يؤدي إلى الإصابة بضعف النسل، وضعف في جهاز المناعة، والتهاب الجلد، والسرطان في الرئة، والحنجرة والشفة، والذبحة الصدرية، والسل الرئوي، والبلغم وضيق النفس، وهذا إهلاك للنفس والله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }(النساء:29).

    يا من يريد دمار صحته *** ويهوى الموت منتحراً بلا سكين
    لا تيأس فإن ذلك واجد *** كـل الـذي يـــرجــوه بـــالتدخيــن

    هـلاك للمـال

    حيث يؤدي إلى إنفاق المال في المحرم، بل فيما يضر، وهذا ما سيسأل عنه يوم القيامة حيث سيسأل " عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه".
    ولا عجب في ذلك فالذي يتناول 10 سجائر يومياً ينفق 1000 ريال سنوياً، في حين أنه لا ينفق عشره صدقة لوجه الله.

    ماذا قال العلماء عن التدخيـن؟؟

    قال الشيخ ابن باز رحمه الله: ( والدخان لا يجوز شربه، ولا بيعه، ولا التجارة فيه كالخمر، والواجب على من كان يشربه أو يتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، والندم على ما مضى والعزم على أن لا يعود في ذلك ).

    وقال ابن عثيمين رحمه الله: ( فنصيحتي لإخواني المسلمين الذين ابتلوا بشربه أن يستعينوا بالله عز وجل ويعقدوا العزم على تركه، وفي العزيمة الصادقة مع الاستعانة بالله ورجاء ثوابه، والهرب من عقابه، ففي ذلك كله معونة على الإقلاع عنه ).

    ماذا قال الأطباء عن التدخين؟

    يقول الدكتور/ كليفورد أندرسون: ( لقد دلت الإحصاءات التي قامت بها جمعية السرطان الأمريكية أن الانقطاع يفيد ويقلل خطر الإصابة بالسرطان بمعدل النصف.. ومن المحقق أن الذين لا يدخنون هم أقل الناس تعرضاً للإصابة بهذا المرض ).
    ويقول الدكتور/ كنعان الجابي: ( لقد مضى على معالجتي للسرطان 25 عاماً فلم يأتني مصاب بسرطان الحنجرة إلا مدخن ).
    وجاء في تقرير الكلية الملكية للأطباء بلندن: "إن تدخين السجائر في العصر الحديث يسبب من الوفيات ما كانت تسببه أشد الأوبئة خطراً في العصور السابقة.. وجاء فيه أن 95% من مرضى شرايين الساقين هم من المدخنين".
    ويكفيك أن تعلم أن الوفيات بسبب التدخين تفوق الوفيات بسبب الحروب.

    معلومـات تهمـك

    1- إن ضحايا التدخين في العالم لا يقلون عن مليونين ونصف المليون شخص.
    2- إن السجائر التي تورد إلى دول العالم الثالث أكثر ضرراً من غيرها بسبب احتوائها على كمية أكبر من القطران والنيكوتين.
    3- إن التدخين هو العتبة الأولى في طريق المخدرات.
    4- إن المدخن شخص عاجز بالمفهوم الرياضي.
    5- إن المدخن شخص غير مرغوب فيه اجتماعياً.

    تسـاؤلات صريحـة

    1- هل تصنف الدخان من الطيبات؟ أم من الخبائث؟
    2- هل تبدأ باسم الله حين تشرب الدخان؟ أو تحمده حين تنتهي؟
    3- هل هناك مأكول أو مشروب حينما تنتهي منه تطؤه بحذائك.؟
    4- هل تشرب الدخان في بيت من بيوت الله؟
    5- هل حققت من الدخان مكسبا ماديا أو صحيا أو اجتماعيا؟
    6- ما هو موقفك حينما ترى أحد أبنائك أو إخوانك يدخن؟

    متى ستقلع عن التدخين؟

    أخـي الحبيب: وبعد هذا كله ألم تفكر في الإقلاع عن التدخين؟! ستقول كعادتك بلى!
    وأقول متى ستقلع عنه إذاً؟
    ستقول غدا أو بعد غد، أو بعد ذلك سأحاول الإقلاع عنه.. إذا أنت لم تقتنع بما قرأته آنفاً بل ستستمر على التدخين، ولن تقلع عنه أبداً!!
    ستقول لا!! إنني مقتنع تماماً بما مضى، ولكن صعب عليَّ الخلاص منه وأخشى ألا أستمر على تركه..!!
    إذاً ما الحل أخـي الحبيب؟.. هل سنقف معك في طريق مسدود؟

    ستقول لا لم يصل الأمر إلى هذا الحد.. إذاً ما العمل؟

    ربما تقول: "لعلي أسلك طريقاً آخر أنجو من أضرار التدخين سأتحول إلى الغليون أو الشيشة ونحوها، فلعلها أقل ضرراً وأهون خطراً، وأقول لك: ما أنت إلا كالمستجير من الرمضاء بالنار، أما علمت أن ما مضى ذكره من أضرار التدخين ينطبق على الشيشة والغليون وغيرها، ربما ستقول إذاً سأنتقل إلى نوع خفيف من السجائر التي تحتوي على كمية قليلة من النيكوتين والقطران وهذه خدعة كبرى، قد ثبت ضررها وعدم جدواها، وذلك لأن هذا سبب لتدخين أكبر عدد من السجائر، وهذا يؤدي إلى امتصاص المزيد من النيكوتين والقطران، وهذا يحدث بطريقة لا إرادية، فهل نلجأ إلى هذا الحل إذاً؟"

    إذاً مـا الحـل؟

    ليس هناك حل أيها الأخ الحبيب إلا أن تترك الدخان فوراً وتهجره بلا رجعة فعشمي بك كبير، وهمتك أكبر من أن تعجز عن الفكاك من أسر سيجارة حقيرة، وليس تركه بذاك الأمر الكبير العسير إذا صاحَبَهُ عزيمة صادقة وهمة عالية وإرادة قوية.

    من الأمور المعينة على ترك التدخين
    1- الاعتماد على الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه.
    2- الرغبة الصادقة والعزيمة الأكيدة والإرادة القوية في الإقلاع عنه.
    3- خطط لطريقة تقلع فيها عن التدخين كأن يكون تدريجياً أو فورياً.
    4- أخبر أصدقاءك ومن حولك أنك ستقلع أو أقلعت عن التدخين.
    5- لا ترتاد الأماكن التي يكثر فيها التدخين.
    6- استعمل السواك أو اللبان (العلك) إذا وجدت حنيناً للتدخين.
    7- أكثر من شرب الماء والعصير لتخفيف تركيز النيكوتين بالدم.
    8- حاول زيارة طبيب مختص تستشيره.
    9- غاز ثاني أكسيد الكربون سينخفض من جسمك بعد يومين من الإقلاع عن التدخين.
    10- تذكر أنك الآن أقلعت عن التدخين وأضراره وانظر لنفسك أنك شخص غير مدخن.

    ولغير المدخنين همسة

    أخـي الحبيب: أحمد الله سبحانه وتعالى على أن عافاك من هذا البلاء وسلمت من أضراره، ولكن بقي أن تعلم أن أولئك المدخنين كانوا من قبل أناسا أصحاء لا يشربون الدخان، بل إن بعضهم يكرهه كرهاً شديداً، ومع ذلك وقعوا في ما هم عليه الآن، وما ذاك إلا أنهم تساهلوا في بعض الأمور التي تؤدي إلى الوقوع في التدخين ومنها:

    1- العبث بالدخان.
    2- شربه مجاملة أو حياء.
    3- شربه بدعوى التجربة.
    4- الجلوس في أماكن يشرب فيها الدخان.
    5- الاغترار بفعل المشاهير لهذه العادة السيئة.

    نسأل الله أن يتوب علينا وعليك وأن يوفقنا وإياك لترك المحرمات واجتنابها والإقبال على الله تعالى بطاعته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
    صيد الفوائد
                  

09-06-2015, 02:08 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    حتى يظل القلب حيا
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
    فإن القلب هو جوهر الحياة في الإنسان، فبحسب حياته وسلامته ونقائه، تكون حياة الإنسان وسلامته ونقاؤه، وهذه الحقيقة كما تدل عليها الشواهد الشرعية تقررها النظريات العلمية والفلسفية في سائر المِلل عبر التاريخ.
    ومن هنا فإن المسلم الحكيم هو من يفتش عن أسباب صلاح قلبه، وأسباب قوته وعافيته؛ لأنه يدرك أنه متى امتلك قلبًا سليمًا من الآفات؛ فقد امتلك الحياة وامتلك نقاءها وجمالها.

    وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيّن أنّ السلامة والصلاح في الإنسان مرتبطة بصلاح قلبه فيقول: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي: القلب".

    أخي الكريم: إن قلبك هو مفتاح السعادة والغنى، ووعاء السلامة والهدى، ومصدر القوة والرضى، ولَحرصك على صفائه ونقائه، أهم بكثير من حرصك على الهواء والطعام. فكيف تجعل قلبك سليمًا نابضًا بالإيمان والحياة؟.

    أولًا: كن صاحب عقيدة

    فتوحيد الله -جلّ وعلا- نور يملأ القلوب، ويبصِّرها، ويقويها، فهو مادة حياته، وأساس قوته وسلامته، ولا حياة للقلب إلا بالإيمان بالله -جلّ وعلا- ذلك الإيمان الذي يصنع الطمأنينة في القلوب، والسكينة في النفوس؛ لأنه يولِّد فيها من التوكل على الله ما يهوِّن أمامها الصِّعاب:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3)، ويولِّد فيها من الثقة بالله، واليقين به ما تزول به الهموم والغموم والأحزان، ويولِّد فيها من البصيرة والهدى ما يجعلها أكثر ثباتًا، وقدرة على مواجهة الصِّعاب، كما قال -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التغابن: 11).

    فالإيمان بالله -جلّ وعلا- نور يسري في قلب المؤمن، يضيء له الطريق، ويمكنه من الثبات عليه؛ فيرى به الأشياء على حقيقتها: القبيح قبيحًا، والحسن حسنًا.

    أخي الكريم: اعلم أن السعادة والحياة الطيبة في الحياة لا تقوم إلا على أساس واحد هو: الهدى. كما قال -تعالى-: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (124)} (طه).
    ثم اعلم أن محل الهدى هو القلب، وأنّ هذا المحل لا يمكنه حمل الهدى إلا إذا كان فيه من الإيمان واليقين ما يؤهله لذلك؛ ولهذا قال -تعالى-: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11).

    ومن هنا فإن تحقيق الهداية مشروط بتحقيق العقيدة الصحيحة، والإيمان النقي من شوائب الشرك بالله، وعلى قدر معرفة المؤمن بربّه، ويقينه به، تكون بصيرته وخشيته وهدايته كما قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: 28).

    وإذا تأملت أخي في تأثر القلوب بذكر الله، ووجلها من الله، وجدت ذلك التأثر لا يحصل إلا للقلوب المؤمنة، كما قال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد: 28)، فعطف -سبحانه- في هذه الآية اطمئنان القلوب بالذكر على الإيمان، وهو ما يدل على أن قلب المؤمن أعقل حين سماع ذكر الله؛ للمعاني التي يتضمنها الذكر، وهو ما يجعله متأثرًا به، وأبصر بالآيات والحقائق الغيبية؛ لذلك، إذا ذكر العبد الله، أبصر عيب نفسه وأبصر عظمة الله، وأبصر قدرته ورحمته وصفاته العليا، وأبصر تقصير نفسه، وضعفها؛ فأورثته بصيرة قلبه ذلك التأثر الحاصل حين سماع ذكر الله، بعكس ضعيف الإيمان الذي مات إحساس قلبه، فلا يسمع ولا يعقل كما قال -تعالى-: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}(الأعراف: 179)، وكما قال – تعالى ـ: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) ، وكما قال -تعالى-: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(الحج: 46).

    فقلب المؤمن قلب عاقل، لا تخدعه مظاهر الأشياء لأنه لا يرى بعينه فقط، وإنما بقلبه أيضًا، ... ولأن قلب المؤمن منور بتوحيد الله؛ فإنه أعقل بالآيات الكونية والشرعية، ولذلك قال – تعالى ـ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2).

    قال الشيخ عبد الرحمن السّعدي: (فوصف الله المؤمنين بهذه الصفات المتضمنة للقيام بأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، فإنه وصفهم بالإيمان به إيمانًا: ظهرت آثاره في عقائدهم، وأقوالهم، وأعمالهم الظاهرة والباطنة، وأنه مع ثبوت الإيمان في قلوب - يزداد إيمانهم كلما تليت عليهم آيات الله، ويزداد خوفهم ووجلهم كلما ذكر الله؛ وهم في قلوبهم وسرهم متوكلون على الله). (التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص15).

    ثانيًا: فرِغ قلبك من الشواغل والأخلاط

    أخي إن الإيمان بالله -جلّ وعلا-، والتوكل عليه، واليقين به كل ذلك يولِّد في القلب قوة، وبصيرة وعقلًا يزن بها الأمور، ويحقق بها الهدى ليعيش آمنًا من شرور الغي وطرق الردى. لكن سنة الله اقتضت أن يظل المؤمن في تنازع، ومكابدة ليظل قلبه ثابتًا على الإيمان والتقوى، لكن المؤمن مهما كانت قوة إيمانه؛ فلابد له من غفوة وضعف، فإنما سمي القلب لشدة تقلبه، وعدم ثباته على حاله، كما قال الشاعر:

    وما سمي الإنسان إلا لنسيه *** ولا القلب إلا أنه يتقلب

    وأحسن منه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما سمي القلب من تقلّبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة، تعلّقت في أصل شجرة، يقلّبها الريح ظهرًا لبطن". وهذا التقليب الذي هو أخص صفات القلب، هو منشأ كون الإنسان موصوفًا بالظلم والغدر والخطأ؛ فإنه متقلب في أحواله، متغير في صفاته، تغلبه الشهوة، كما تلتبس عليه الأمور بالشبهة، ويطغى عليه النسيان كما يتمادى به الهوى والطغيان، ويغره المتاع، كما تقهره الطباع، فهو لسبب أو لآخر متقلب في طبعه.

    1- تطهير القلوب بالتوبة:

    وهذا التقلب في الإنسان، ما خلقه الله -جل وعلا- إلا ليبتليه بخطئه كما يبتليه بصوابه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم".
    وليطلعه على رحمته إذا هو تبصَّر بذنبه وعاد إلى الله تائبًا طائعًا، ومن هنا أخي لابد أن تعلم أنك في كل وقت وحين في حاجة إلى تجديد التوبة والإكثار من الاستغفار؛ فإنهما يطهران القلب من شوائب المعاصي وآثارها وسوادها، ولهذا أوصى الله -جل وعلا- عباده المؤمنين بالتوبة، وجعلها أساس فلاحهم فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(النور: 31).

    وفي الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: "تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربدًّا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه".
    رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها

    وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها

    أخي الكريم: فإذا علمت أن الذنوب تمرض القلوب، وتطمس بصيرتها، وتعطل عقلها، فاحرص على تطهير قلبك من أمراض المعاصي باجتنابها، وملازمة التوبة والاستغفار لإبطال مضراتها، فإن قوة قلبك وسلامته مرهونة بصفائه ونقائه، وإنما ينقى قلبك بثلاثة أشياء:

    الأول: بالتوبة إلى الله، والاستغفار من الذنب.

    الثاني: بالإكثار من الحسنات، فإنهن يذهبن السيئات، كما قال – تعالى ـ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}(هود: 114).

    الثالث: الحرص على أسباب المغفرة، كالصلاة، والنوافل، والوضوء، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والعمرة والحج، ونحو ذلك من موجبات المغفرة المبسوطة في كتب الفضائل والسلوك.
    فقد أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذًا فقال له: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
    ونكمل في مقال آخر إن شاء الله ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
    نكمل في هذا المقال ما بدأناه من حديث عن ذلك، ومن هذه الأسباب:

    - تطهير القلب من الأمراض:

    فإن طهارة القلب من أمراضه، وخلوّه من أعراضها، هو أعظم أسباب قوته ولينه ورقته وخشوعه، وصاحبه هو خير الناس وأحبهم إلى الله، كما في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : حين سأله بعض أصحابه رضي الله عنهم فقالوا: يا نبي الله من خير الناس؟ قال: "ذو القلب المخموم، واللسان الصادق"، فقالوا: يا نبي الله! قد عرفنا اللسان الصادق، فما القلب المخموم؟ قال: "هو التقي النقي، الذي لا إثم فيه، ولا بغي ولا حسد"، قالوا: يا رسول الله! فمن على أثره؟ قال: "الذى يشنأ (يبغض)الدنيا، ويحب الآخرة". قالوا: ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله، فمن على أثره؟، قال: "مؤمن في خلق حسن".

    فها هنا بيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طريق نقاء القلوب وحقيقتها، وجمع بيانه ثلاث صفات هي: اجتناب الإثم، والبغي، والحسد.
    فهذه الصفات هي من أخطر أمراض القلوب، والتي ما أصابت قلبًا إلا ملأته سوءًا، وظلمة، وطمست نوره وأضعفت بصيرته.

    وإذا كانت الآثام تنكت نكتات سوداء في القلوب، فإن الحسد يأكل حسناتها الموجبة لنقائها كما تأكل النار الحطب.
    "والحسد هو: تمني زوال نعمة المحسود، أو هو البغض والكراهية لما يراه من حسن حال المحسود، وهو طبع لئيم يسكن القلوب الضعيفة الميتة مهما كان شأن أصحابها،فلربما وجدت المرء قد ملك من صفات الحسن، وأسباب الملك ما لم يملكه غيره؛ لكنه لغلبة طبعه الحاسد لا يحب رؤية النعمة على غيره".

    أخي الكريم: واعلم أن الحسد هو من الاعتراض على حكم الله -سبحانه-، كما قيل: "من رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد".

    وقد قيل: "مَا رَأَيْتُ ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنَ الْحَاسِدِ ، حُزْنٌ لازِمٌ ، وَنَفَسٌ دَائِمٌ ، وَعَقْلٌ هَائِمٌ ، وَحَسْرَةٌ لا تَنْقَضِي ".

    وإذا تأملت في قول الله -جلّ وعلا-: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}(الفلق: 5)، علمت أن الحسد طبع غالبًا ما يتسلل إلى القلوب، لكن القلوب الحية بالإيمان تبصر شعاعه، فتعكسه وتطرده وترده خائبًا، لكن القلوب الضعيفة تستجيب.
    قال ابن تيمية: (ما خلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه).

    قال النبي - صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".

    واعلم أخي أن الحسد كما يوجب قسوة القلب، ولؤم الطبع، وفساد الأخلاق، فهو يعطل القلب من اكتساب أعظم الثواب؛ إذ القلب الخالي من الحسد مملوء ولابد بالخير؛ فلا تجد صاحبه إلا يحدث نفسه بفعل الخيرات، وإن عجز عنها، قد سارت به نيته الصافية، وحبه لنفع العباد، ما لم تسر الصلوات والقربات بالعباد!.
    وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى".

    أخي: فإن رُمت القلب الطاهر، فوطن نفسك على الصبر، وجاهد نفسك في بذل النفع للعباد، تُحسن إلى من أساء إليك، وتصل من قطعك، وتعطي من منعك، وتسامح من آذاك، في الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم ـ : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".

    فكما أن تطهير قلبك من الحسد يوجب لك النقاء والسلامة، فهكذا صبرك على الحسود، واحتمالك لأذاه، وإحسانك إليه، يوجب لك الخيرية والراحة والنصر، كما يمتص حسد الحاسد ويرده، فإن الغالب في الناس أن الإحسان يمتلك قلوبهم، ويردهم إلى رشدهم.

    كما قال الشاعر:
    أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسان إحسان

    وأحسن منه قول الله -جل وعلا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت: 34).

    أغن قلبك بالقناعة:

    فإن الحرص يسبب الفقر للقلب، ويحدث فيه فاقة لا يسدّها شيء أبدًا، أما القناعة والرضى بما كتبه الله من الرزق؛ فيوجب للقلب الغنى، ويولِّد فيه الطمأنينة والسكينة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر: "يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟" قال: قلت: نعم يا رسول الله! قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟" قلت: نعم يا رسول الله! قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب".

    والقناعة متى سكنت القلوب، أصابها الخير كله، وسلِمت من آفات الشح والحرص والبخل، وهي من أخطر الأمراض الفتاكة قال -تعالى-: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التغابن: 16).

    وعن جابر - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: "واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم".
    والشح: هو شدة الحرص.

    ومن ينفق الأيام في جمع ماله *** مخافة فقر فالذي فعل الفقر

    أخي الكريم: واعلم أن العناية بمقويات القلب وأسباب عافيته أكثر من أن تحصر في هذه الكلمات ولكن عليك بكثرة ذكر الله بعد أداء فرائضه؛ فإنه أعظم عون لك على طهارة قلبك، فإنك إن داومت على ذكر الله تسبيحًا، واستغفارًا، وتهليلاً، وتكبيرًا، وجدت أثر ذلك واضحًا على قلبك، فإن زدت حرصًا على الصيام واجتنبت كثرة النوم والأكل والكلام والضحك؛ نلت عافية قلبك وسلامته.
    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    القسم العلمي - دار بن خزيمة
                  

09-06-2015, 02:11 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    أين هم الآخرة؟
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله المصطفى الأمين وعى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:

    يعيش المؤمن الداعية كثيرا من الهموم، وربما كان تكاثر الهموم سبباً لتشتيت القلب عن الهدف، ولصرف الهمة إلى مشاغل أهل الدنيا واهتماماتهم فتزول الميزة وينعدم التميز وتختلط الموازين.

    إن من هوان أمر الدنيا أن جعلها الله لا تدوم لأحد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه" (صحيح الجامع). وإنما هي أيام يداولها الله بين الناس، فيرفع أقواما ويضع آخرين، ويعز أقواما ويذل آخرين لتحقيق حكمة الله في ابتلاء العباد.

    إن الله يعطي الدينا المؤمن والكافر ولا يعطي الدين إلا لمن يحب. وقد تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبدالله بن عمرو حين رآه يصلح جدار بيته ويطينه فأراد أن يخلي قلبه من التعلق بالدنيا وأن يذكره بقرب الأجل للاستعداد له فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك ". (صحيح الجامع). ليجعل الآخرة همه والاستعداد لها شغله فإذا بالغ امرؤ في الانصراف عن إعمار الدنيا والسعي فيها فيحتاج إلى لفته من نوع آخر { ولا تنس نصيبك من الدنيا } بحيث يبقى على جادة القصد والتوازن.

    وإن العبد المحفوف بالنعيم قد يكون مستدرجاً لمزيد من المسؤولية والعذاب وهو لا يدري " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج ". (صحيح الجامع). فلا تحزن على ما فاتك منها، ولا تمدن عينيك إلى ما أوتي الناس من الدنيا فربما كانوا لا يحسدون عليها إذا لم يؤدوا حقها.

    والخطورة في أن تكون هذه النعم الأجر العاجل ليحرم صاحبها الأجر الآجل حيث يكون في أشد الحاجة لما يرجح كفة حسناته، لذلك طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطر أصحابه حين ذكروا نعيم الروم والفرس فقال: "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " (البخاري).

    وغالب حال الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: " أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا في الآخرة " (صحيح الجامع)، وذلك لقلة الشاكرين، وكما قال ربنا عزوجل : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا }.

    وكل نعمة مهما صغرت ، عليها حساب ومسؤولية. فالمسكين من لم يقم بحقها لا من حرم منها في الدنيا ، إن اول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : "ألم نصحّ لك جسمك ونرويك من الماء البارد؟". (صحيح الجامع).

    ولذلك كان من علامة طريق الجنة أنه محفوف بالبلاء، ولا يهون البلاء إلا على من جعل الآخرة همه " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " (مسلم).

    وإن مسؤولية المسلم الذي يقدر الله حق قدره أن يوحد همه فيفكر في المآل والمصير لا أن يصرف كل جهده وفكره ووقته في صغائر الأمور وتوافهها. وبقدر ما يكون لله في قلب العبد من توقير وإجلال ورهبة يكون للعبد عند الله من الأجر والمنزلة " من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده ". (صحيح الجامع).

    ومن كان دائم التفكير في رضي الله فإنه لا تشغله النعمة ولا يعميه البلاء، ومن كان مع الله في اليسر كان الله له في العسر " تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ". (صحيح الجامع).

    ومثل هذا الحال يقتضي من المؤمن أن يكون دائم الرقابة لله والحياء منه أكثر مما يحتاط ويستحي من البشر " ما كرهت أن يراه الناس منك فلا تفعله بنفسك إذا خلوت ". (صحيح الجامع). والإحسان " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".

    والمهتم بآخرته إذا ذكر بخطئه فإنه سريع الفيئة قريب الرجعة " إذا ذكرتم بالله فانتهوا ". (صحيح الجامع).
    والذي يخاف الله في الدنيا ويحذر معصيته ويحتاط لأمر آخرته فذلك هو الآمن يوم القيامة قال الله تعالى في الحديث القدسي : " وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين. إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي ". (صحيح الجامع).

    والمهتم بآخرته يفكر فيما يقربه إلى الجنة ويباعده من النار، وقد جعل الله مدار المسؤولية على انبعاث إرادة الإنسان إلى الطاعة أو المعصية لذلك قال صلى الله عليه وسلم: " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك ". (أخرجه البخاري)، واذا صدق المرء في مجاهدة نفسه يسر الله له السبيل { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى }.
    والمهتم بآخرته لا يرى الدنيا دار قرار لشعوره بقرب الرحيل إلى دار الخلود قال صلى الله عليه وسلم : " قال لي جبريل: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه" (صحيح الجامع).

    ولذلك كان مما تعجب منه صلى الله عليه وسلم انفتاح أبوب الخير وغفلة الإنسان عنها وملاحقة الفتن للمرء وعدم فراره منها: " ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها " (أخرجه الترمذي)، بينما يكون المهتم بآخرته شديد الحرص على اتقاء المنكرات، والمسارعة في الخيرات.

    وحال المهتم لأمر آخرته التخفف من العلائق والزهد بالصوارف " كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل" (أخرجه البخاري). والجدية في الحياة علامة مميزة للراغب الراهب " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ". (صحيح البخاري).

    والهمة في العمل علامة صدق الاستعداد للآخرة والخوف من الله، وذلك ما مثله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الجنة ". (صحيح الجامع). أما من كان سفره طويلا، وانطلاقه متأخرا، وحركته بطيئة، وهمته ضعيفة فلن يبلغ مراده، ولن يصل إلى مقصوده.

    ومن أهم ما يورثه الاهتمام بأمر الآخرة أن يزيح الله عن القلب باقي الهموم ليصفو القلب لله وإن كان في بحر من الابتلاءات. قال صلى الله عليه وسلم " من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من احوال الدنيا لم يبال الله في اي أوديتها هلك ". (صحيح الجامع).

    و " من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله, ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له". (صحيح الجامع).
    فتجارة الآخرة لا تبور، والتهافت على الدنيا لا يغير المقدور، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    الشيخ محمود الخزندار ـ رحمه الله ـ
                  

09-06-2015, 02:14 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    بركـة البكـور
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
    تتميز شخصية المسلم بأنها شخصية جامعة لكل خصال الخير، فهي مؤمنة عالمة، قوية، شجاعة، متجردة، صبورة، مجاهدة، رحيمة، حريصة على كل ما ينفعها، مستعينة بالله -تعالى-، غير عاجزة ولا كسولة.. وهلم جرا..
    وإنّ من محاسن هذه الشريعة المطهرة: مراعاة جانب بركة البكور في مواضع كثيرة من أحكامها:
    منها: البكور في المحافظة على الجانب العبادي كالصلوات وغيرها.
    ومنها: البكور في المحافظة على الجانب العلمي كطلب العلم وتحصيله وقراءة القرآن والأذكار.
    ومنها: البكور في المحافظة على جانب المعاملات الأخلاقية كالبيع والشراء وغيرهما.
    ومنها: التنصيص والدعاء لهذه الأمة في بكورها لنيل خيري الدنيا والآخرة.

    فهذه المواطن وغيرها في الشريعة المطهرة توحي بأهمية بركة البكور لما فيه من إقامة الدين والدنيا، ولأن أعمار هذه الأمة المحمدية الإسلامية تتراوح بين الستين إلى السبعين، فحرصت الشريعة على إشغال هذا الجانب المهم في شخصية المسلم؛ ليأخذ بجانب الأهم فالمهم حسبما يوفق له من أعمال الخير والصلاح في الدنيا والآخرة.

    أهمية بركة البكور:

    1- أنها سبب في سعادة العبد في الدنيا والآخرة..

    قال العلامة ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-:
    (لما سمع القوم قول الله -عز وجل-: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (48) سورة المائدة، وقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} (21) سورة الحديد، فهموا أن المراد من ذلك: أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية.. فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها، ثم جاء من بعدهم قوم فعكسوا الأمر، فصار تنافسهم في الدنيا الدنيئة وحظوظها الفانية) (لطائف المعارف).

    2- أنها سبب لاغتنام الأوقات وعدم تضييعها:

    قال -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال الصالحة: فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل".(رواه مسلم)وقال -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". (رواه البخاري).

    ثانياً: مواضع ومواطن البكور وفضائلها في الإسلام.. أهمها:

    1- الدعاء لهذه الأمة بالبركة في بكورها:

    كما في حديث صخر بن وداعة الغامدي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"(أبو داود وصححه الألباني). وكان إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجراً فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثر ماله).

    2- المحافظة على الصلوات في جماعة:

    قال -تعالى-: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (238) سورة البقرة.
    وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها".(البخاري ومسلم).
    وعن أبي هريرة -رضي الله- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:"أثقل الصلاة على المنافق العشاء والفجر". (البخاري).
    وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ودنا من الإمام فأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها، وذلك على الله يسير".(صحيح الترغيب).

    3- التبكير في قراءة القرآن العظيم وحفظه:

    قال -تعالى-: {..وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (78) سورة الإسراء. وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (17) سورة القمر.قال ابن سعدي -رحمه الله-: ( وقرآن الفجر) أي صلاة الفجر، وسميت قرآناً لمشروعية إطالة القرآن فيها أطول من غيرها، ولفضل القراءة فيها، حيث شهدها الله وملائكة الليل والنهار).

    وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمدٍ بيده لهو أشد تفلّتاً من الإبل في عقلها".(البخاري ومسلم).وأفضل مراجعة ومعاهدة للقرآن في الأوقات التي يسودها الهدوء والراحة التامة، وأجلُّ ذلك في الأسحار إلى أول النهار، وهو البكور الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم-. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب الله له كأنما قرأه من الليل".(مسلم).

    4-التبكير والحرص والمواظبة على أذكار اليوم والليلة:

    قال -تعالى-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (152) سورة البقرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له جمدان، فقال: "سيروا، هذا جمدان، سبق المفرِّدون". قيل: وما المفردون يا رسول الله ؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات".(مسلم). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله".(صحيح الجامع).
    ومما يدل على الاهتمام والحرص على المبادرة في اغتنام الأوقات في الخيرات من السنّة أيضاً جميع الأذكار والأقوال الواردة في الصباح وعند الاستيقاظ من النوم.

    5- التبكير في تلقي العلم وتحصيله:

    عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".(ابن ماجة وغيره، وصححه الأباني).وقال مسلم -رحمه الله- في صحيحه: قال يحي بن أبي كثير: (لا يُنال العلم براحة الجسد).
    قال الشاعر:
    لولا المشقة ساد الناس كلهم الجـود يفقر والإقـدام قتّال

    قال ابن القيم -رحمه الله-: (لا ينال العلم إلا بهجر اللذات، وتطليق الراحة، قال إبراهيم الحربي: أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة فاتته الراحة، فما لصاحب اللذات، وما لدرجة ورثة الأنبياء!!).(مفتاح دار السعادة).
    قال ابن المديني -رحمه الله-: قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟
    قال: بنفي الاعتماد (أي الاعتماد على الغير)، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب).

    من خلال هذا العرض الأخير لهذا البحث يثبت لنا: أن في البكور بركة وزيادة ونماء لخيري الدنيا والآخرة، وأنه ينبغي لكل مسلم أن يحشد همته ويقوي إرادته للمسابقة لفعل الأعمال الصالحة في كل الأوقات، وخاصة في بداية النهار، وهو أول الفجر لصلاتها وقراءة القرآن بعدها وقراءة الأذكار، ثم التوجه لبقية الأعمال الدنيوية والدينية النافعة له في معاشه ومعاده. ونختم هذا البحث بقول ابن القيم-رحمه الله-:

    (ونوم الصبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق، فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جداً بالبدن لإرخائه البدن، وإفساده للعضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسراً وعِيّاً وضعفاً...).
    والحمد لله رب العالمين.
    إمام المسجد
                  

09-07-2015, 01:10 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    لا تزكوا أنفسكم
    الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وبعد:
    فأولى الأشياء بالتعهد والمراقبة ومحاولة الإصلاح نفسك التي بين جنبيك، إذ تدور نجاة العبد على مدى صلاح نفسه وتقواها.

    والمؤمن في هذه الحياة لا يرى نفسه بمعنى أنه لا يرى لنفسه فضلا، بل يرى نفسه أهلا للمقت في ذات الله عز وجل؛ ولهذا فهو لا يزكي نفسه ولا يمدحها ولا يعجب بها.

    والقرآن يحذر من تزكية النفس، بمعنى مدحها والثناء عليها، كما قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } (النجم - 32) وذم القرآن اليهود والنصارى الذين زكوا أنفسهم، فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا }(النساء - 49)
    وذلك أنهم قالوا، كما حكى عنهم القرآن: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } ورد عليهم ربنا تبارك وتعالى بقوله : {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(المائدة - 18).

    ولا يجوز لمن يعمل الصالحات أن يذكرها بعد الفراغ منها، إلا تحديثا بنعمة ربه عليه: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } (الضحى- 11) ، أو ليرغب غيره فيقتدي به: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها"، أو دفاعا عن نفسه أمام اتهام ألصق به وهو منه برئ، أو لغير ذلك من الأسباب الباعثة، وهذا مشروع لمن قوى باطنه في المعرفة بالله، وعدم الالتفات إلى ما سواه، وأمن على نفسه من تسلل آفتي العجب والرياء، ولم يكن قصده اكتساب محمدة الناس والمنزلة عندهم، وقل من يسلم من ذلك.. والله المستعان.

    فليحذر المسلم من إعجابه بنفسه، وما يقدمه من حسنات وصالحات، واعتقاده أنه وحده المفلح، وغيره من الخاسرين، أو أنه وجماعته هم "الفرقة الناجية" وكل المسلمين من الهالكين، أو أنهم وحدهم "الطائفة المنصورة" وغيرهم من المخذولين!.

    إن هذه النظرة إلى النفس هي "العجب المهلك"، وتلك النظرة إلى المسلمين هي "الاحتقار المردي".
    وفي الحديث الصحيح: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم".
    روى الحديث بضم الكاف وبفتحها، ومعنى الضم: أنه هو "أهلكهم"، بمعنى أسرعهم وأشدهم هلاكا، لغروره بنفسه، وإعجابه بعمله، واحتقاره لغيره.

    ومعنى الرواية بالفتح "أهلكهم": أنه الذي تسبب ـ هو وأمثاله ـ في هلاكهم، بالاستعلاء عليهم، وتيئيسهم من روح الله.
    قال الإمام النووي: "وهذا النهي لمن قال ذلك، عجبا بنفسه، وتصاغرا للناس، وارتفاعا عليهم، فهذا هو الحرام. وأما من قاله لما يرى في الناس من نقص في أمر دينهم، وقاله تحزنا عليهم، وعلى الدين، فلا بأس به. فكذا فسره العلماء وفصلوه، وممن قاله من الأئمة الأعلام: مالك بن أنس، والخطابي، والحميدي، وآخرون.

    وفي الحديث الصحيح الآخر: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" فمن حق المسلم على المسلم: ألا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، وكيف يحقر الإنسان أخاه، وهما فرعان من أصل واحد؟.

    المخلص يتهم نفسه بالتفريط

    إن المخلص يتهم نفسه دائما بالتفريط في جنب الله، والتقصير في أداء الواجبات، ولا يسيطر على قلبه الغرور بالعمل والإعجاب بالنفس، بل هو دائما يخشى من سيئاته ألا تغفر، ويخاف على حسناته ألا تقبل، وقد بكى بعض الصالحين في مرضه بكاء شديدا، فقال بعض عواده: كيف تبكي؟ وأنت قد صمت وقمت، وجاهدت وتصدقت، وحججت واعتمرت، وعلمت وذكرت؟ فقال: وما يدريني أن شيئا منها في ميزاني؟ وأنها مقبولة عند ربي؟ والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة - 27).

    ومن تمام الإخلاص: ألا يفسد العمل بعد تمامه بالإعجاب به، والاطمئنان إليه، والزهو به، وهذا يعميه عما فيه من خلل قد شابه، أو دخل أصابه، والشأن في المؤمن أن يكون بعد أداء العمل خائفا أن يكون قد قصر فيه أو أخل به من حيث يشعر أو لا يشعر، ولهذا يخشى ألا يقبل منه، والله تعالى يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }.

    ومن الكلمات النيرة المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قوله: سيئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك!.
    وقد أخذ هذا المعنى ابن عطاء الله السكندري في "حكمه" فقال: ربما فتح الله لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قدر عليك المعصية، فكانت سببا في الوصول، معصية أورثت ذلا وافتقارا، خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا!.

    ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من العجب وجعله من "المهلكات"، فروى عنه ابن عمر: "ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات.. فأما المهلكات، فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
    وقد حكى لنا القرآن ما حدث للمسلمين في غزوة حنين، فقد نصرهم الله في بدر وهم أذلة، ونصرهم في الخندق بعد أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنون، وزلزلوا زلزالا شديدا، ونصرهم في خيبر وفي فتح مكة، ولكنهم في حنين أعجبتهم كثرتهم، فلم تغن عنهم شيئا، حتى رجعوا إلى الله، وعرفوا أن النصر من عنده، يقول تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا...} ( التوبة 25، 26).

    والمؤمن البصير هو الذي يكل أمره كله إلى الله، فيوقن أن التوفيق إلى الصالحات ليس إلا من فضله: { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ } ( هود – 88)، والهداية ليست إلا منه: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)} (الكهف).

    نسأل الله صلاح قلوبنا والنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    للمزيد كتاب: النية والإخلاص للشيخ القرضاوي حفظه الله
                  

09-07-2015, 01:12 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    علاة الهمم وبناء الأمم
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

    ففي قرن وبعض قرن، وثب المسلمون وثبةً ملأوا بها الأرض قوة وبأساً، وحكمةً وعلماً، ونوراً وهداية، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات أفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشريعتهم ولغتهم، وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتتقلب بها الألسنة، وتحقق فيهم النموذج الفريد، والمثل الأعلى للبشرية، وأنهم خير أمة أخرجت للناس بعد أن كانوا طرائق قدداً، لا نظام ولا قوام ولا علم ولا شريعة.

    فما سبب ذلك؟

    لا شك أن هناك جملة من الأسباب ولعل واحدا من أهم هذه الأسباب الهمة العالية التي تجعل العبد بقدميه على الأرض وروحه وقلبه معلقا بالله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض.

    إن الهمة العالية هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب الخير، وهي من وسائل خلاص المسلمين مما هم فيه اليوم. لا سيما الهمة في باب العلم والجهاد، اللذين هما سبب ارتفاع الدرجات، فمن تحلى بها لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ أن همم الرجال تزيل الجبال .

    همم الأحرار تحيي الرمما نفخة الأبرار تحيي الأمما

    إن أصحاب الهمة العالية فحسب هم الذين يقومون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الذين يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم. لا المولعين "بإحراز الترقيات الدنيوية، ويجاهدون في سبيليها ليل نهار، ولا يقبلون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتفعة، وما بلغوا من تعلقهم بالدعوة إلى الاستعداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم، بل ولا بمجرد إمكانيات منافعهم، فإذا كنتم ترجون معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل غايتهم الباطلة، فما ذلك إلا حماقة.

    إن أصحاب الهمم العالية هم القلة التي تنقذ المواقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة الانتشال السريع من وحل الوهن، ووهدة الإحباط.

    لا تنظرن إلى العباس من صغر في السن وانظر إلى المجد الذي شادا

    إن النجوم نجوم الأفق أصغرها في العين أذهبها في الجو إصعادا

    ولقد تواردت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وتنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك:

    فمنها:

    ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صورة:

    كما قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

    وذم الله تعالى المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالدون، فقال تعالى في شأنهم:{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ}. وبيَّن سبحانه أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد فقال:{وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}. وشنع عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر هممهم، وغاية علمهم، باعتبار هذا الإيثار من أسوأ مظاهر خسة الهمة وبين أن هذا الركون إلى الدنيا تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.

    ثناؤه على أصحاب الهمم العالية

    وأثنى الله تعالى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما ذكره الله عز وجل في قصص الأنبياء لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    ولقد ذكر الله تعالى أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة والقوة في دين الله فقال عز وجل : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}. وقال سبحانه :{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} ، وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

    ولقد أمر الله تعالى المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات فقال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } وقال تعالى:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. وقال: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}. وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}. وقال تعالى:{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.

    ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل، وقال لأصحابه: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها".

    وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أكمل حالات المؤمن ألا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة ، فقال صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".

    وعامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها، واستحثاثها للتنافس في الخيرات.
    قال صلى الله عليه وسلم : "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

    ونكمل حديثنا عن هذه الصفة الكريمة والخلق النبيل في مقال قادم بإن الله ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد والحمد لله رب العالمين.
    شيء من آثار علو الهمة فنقول:

    إن من سجايا الإسلام التحلي بعلو الهمة وذلك يجلب خيراً غير مجذوذ، ويجري في العروق دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل.
    إن التحلي بعلو الهمة يسلب سفاسف الآمال والأعمال، ويجتث شجرة الذل والهوان، والتملق والمداهنة ، قال الشنقدي:

    وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متحول
    أديم مطال الجوع حتى أميته وأصرف عنه الذكر صفحاً فأذهل
    وأستف ترب الأرض كي لا يرى له علي من الطول امرؤ متطول

    ولا يظنن ظان أننا عندما نتحدث عن علو همة أسلافنا العظام يعني الانطواء في الماضي وقطع الصلة بالحاضر والمستقبل، وإلا صرنا كالترجمان الذي يتوقف أمام الآثار ويشيد بالماضي فحسب، دون أن يقدم شيئاً للحاضر.
    ولا يظنن ظان أننا بهذا الحديث عن علو همة سلفنا الصالح، وعن مجدهم وعزهم أننا نرجع إلى الوراء في زمن تتسابق فيه الأمم نحو المستقبل، فإن اقتداءنا بخير أمةٍ أخرجت للناس هو ترق وصعود وارتفاع إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيراً، وإن إبراز هذه النماذج أقرب طريق إلى إيقاظ الهمم نحو إصلاح هذه الأمة التي لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ }. وباب المجد والمكرمات لم يزل مفتوحاً يرحب بكل راغب:

    إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منه ما يعجبك
    فليس لدى المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك

    فيا من يروم ولوج هذا الباب واجه الحقائق، وتبصر موقع قدمك، ولا تفزع إلى انتظار خراب العالم على أمل أن ينهض المسلمون على أنقاضه، ولا تهرب إلى افتراض حصول خوارق للسنن التي لا تحابي من لا يحترمها، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. وتذكر يوم بدر حين خرج ثلاثة من الأنصار فقالوا: والله لا نطعن في أحسابهم ولا أنسابهم، ولكن أخرج لنا أكفاءنا من قريش، فأخرج لهم علياً وحمزة وأبا سفيان بن الحارث فقتلوهم وكذلك الناس دوماً ، تحب المكافأة حتى إذ هم يُقتلون، والقرشية اليوم تتمثل في الصروح العلمية، والمجامع الأدبية، والمؤسسات الصحفية والمعاهد السياسية والدور الوثائقية، والشركات الصناعية، والقاعات المصرفية، وعلى دعاة الإسلام اليوم أن ينطلقوا منها للمبارزة.

    هذا زمان لا توسط عنده يبغى المغامر عالياً وجليلا
    كن سابقاً فيه أو ابق بمعزل ليس التوسط للنبوغ سبيلا

    وأنت أنت أيها المصلح المرتقب، والمجدد المنتظر، ستخرج إلى الحياة بإذن الله مهما حاول الفرعون أن يتقيك، ومهما وأد من الصبية كي يبدل وعد الله الذي لا يخلف، قد تكون الآن كامناً في ضمير الغيب، أو حقيقة في عالم الشهادة، قد تكون رضيعاً في المهد، أو لعلك نشئت تقرأ الآن هذه السطور:

    أنت نشء وكلامي شعل عل شدوي مضرم حريقا
    ليس في قلبي إلا أن أرى قطرة فيك غدت بحراً عميقا
    لا عرى الروح هدوء ولتكن بحياة الكد والكدح خليقا

    إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة عمرية توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة أيوبية تغرس بذرة الأمل في بيداء اليأس وعلى قدر المئونة تأتي من الله المعونة، فاستعن بالله ولا تعجز.

    قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود
    ورسمناها خطى للـ ـعز والنصر تعود
    فتقدم يا أخا الإسـ ـلام قد سار الجنود
    ومضوا للمسجد إن المجد بالعزم يعود

    قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله "وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً، يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة".

    وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوي لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي يبلغ ملكها ما زوي لي منها".
    وقال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعزل الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر".
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    بتصرف يسير من كتاب علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل المقدم
                  

09-07-2015, 01:14 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    نماذج من الترويح في العصر النبوي
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على هداه، وبعد:
    فقد تكلمنا في مقالين سابقين عن الترويح في الإسلام، وفي مقالنا هذا نبرز صورا من الترويح في العصر النبوي، مبينين أهداف هذا الترويح.

    أولاً: أهداف الترويح في العصر النبوي

    إن مما ينبغي ملاحظته في المناشط الترويحية التي كانت تزاول في المجتمع الإسلامي الأول، أنها كانت تستهدف في غايتها النهائية عددًا من المقاصد الأخروية والأهداف الدنيوية، ولم تكن هذه الممارسات الترويحية بهدف الترويح فحسب، بل يصاحب ذلك أهداف سامية أخرى، ومن ذلك:

    أ) تربية أفراد المجتمع المسلم على الجد، وتهيئتهم لخدمة الإسلام من خلال ممارسة المناشط الترويحية، مثل: التدرب على المنازلة في الحرب، والرمي، وركوب الخيل، وهذا واضح في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل التي قد أضمرت(أي قل علفها وصارت قادرة على الجري) من الحفياء(بداية السباق)، وكان أمدها (نهاية السباق) ثنية الوداع. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وكان ابن عمر فيمن سابق بها.

    وكذلك في الحديث الذي يرويه مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو على المنبر- يقول: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ". قال النووي رحمه الله: ( وفي الحديث فضيلة الرمي والمناضلة، والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى، والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه، ورياضة الأعضاء ).

    ب) التودد إلى أفراد المجتمع المسلم، وتحبيبهم في الإسلام، كما في مشاركته صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه رضي الله عنهم في الرمي بالنبال، ففي الحديث الذي يرويه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا، وأنا مع بني فلان -لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: ما لهم ؟ قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان ؟ قال: ارموا وأنا معكم كلكم ".

    جـ) العمل على تحقيق الترابط الأسري وتقويته، والتحبب إلى الزوجة، ومصداق ذلك ما ورد في مسابقته صلى الله عليه وسلم لزوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.. فعنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فقال لها: "تعالي حتى أسابقك" ، قالت: فسابقته فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر فنزلنا منزلاً، فقال: "تعالي حتى أسابقك"، قالت: فسبقني، فضرب بين كتفي، وقال: "هذه بتيك". وفي الحديث الذي أخرجه الدارمي أنه صلى الله عليه وسلم قال:" كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق ".

    د) إعداد الإنسان المؤمن القوي بدنيًا ونفسيًا واجتماعيًا، وذلك تحقيقًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير... ".

    هـ) إظهار الفسحة في الدين، وإبراز محاسن الإسلام وسماحته وتيسيره في مراعاة النفس واستعداداتها، ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند، أن عائشة رضي الله عنها، قالت: إنها كانت تلعب بالبنات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بصواحبي يلعبن معي، وقالت رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بعثت بحنيفية سمحة".

    و) إزالة ما قد يعتري المسلم من هم في هذه الحياة الدنيا، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما على أحدكم إذا ألح به همه أن يتقلد قوسه فينفي به همه " "رواه الطبراني في الصغير". والحديث يفيد اتخاذ ما يزيل الهم بوسيلة من وسائل الترويح المشروعة كتقلد القوس.

    ومما يــؤكد خيـريــة الهــدف من وراء مـزاولة الترويح في عــصر الصحابة رضي الله عنهم، أنه لم ينــقل وقــوع اختــلاف أو تشاحن بينهم أثناء الممــارسات الترويحيــة التي كانوا يقومون بها أو بعدها.

    ومن هنا ينبغي للمسلم استحضار هذه الأهداف عند العزم على ممارسة أي جانب من جوانب الترويح، أو حين ممارسته للترويح بشتى أنواعه المشروعة، ولا بد من استصحاب النية الصالحة التي من خلالها يطلب الاقتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام عليهم رضوان الله، لينال بذلك الأجر في الآخرة والمنفعة الدنيوية، ففي الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...".

    ثانيًا: نماذج من الترويح في العصر النبوي

    تقدم الحديث عن أن معظم الكتب التي تناولت الترويح في وقتنا المعاصر لم تعن بذكر الأنشطة الترويحية التي كان يمارسها أفراد المجتمع المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن مجتمع الصحابة خال من الممارسات الترويحية، في حين تشير العديد من المواقف والحوادث إلى وجود مثل هذه الممارسات الترويحية في المجتمع الإسلامي الأول.

    وليس هذا فحسب، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمارس بعض الأنشطة الترويحية مع زوجه، ومع الأطفال، ومع عامة الصحابة رضوان الله عليهم، كما كان يحث على ممارسة بعضها الآخر، وينظم بعض الأنشطة الترويحية بنفسه.. وسنعرض نماذج من الممارسات الترويحية التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم يزاولونها في حياتهم اليومية.

    وما ذكرت هنا إلا ليعلم وجودها من جانب، وليعلم أن هذا الإسلام شامل بتعاليمه كافة جوانب الإنسان المسلم، فلقد تعددت المناشط الترويحية التي كانت تمارس في المجتمع الأول، ومنها ما يلي:

    أ- المسابقة بالأقدام:

    وهي رياضة بدنية منشطة للجسم بشكل عام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسابق بعض أصحابه، كما سابق زوجه عائشة رضي الله عنها، وشجع على ممارسة هذا النشاط الترويحي بين الصحابة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فقال: "تعالي حتى أسابقك... "إلخ الحديث.

    ولقد كان صلى الله عليه وسلم ينظم مثل هذه المسابقة بالأقدام بين الأطفال، ففي الحديث أن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُفُّ عبد الله وعبيد الله وكثيرًا من بني العباس، ثم يقول: من سبق إليّ فله كذا وكذا، قال: فيتسابقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره، فيقبلهم ويلزمُهُم".

    وكانت المسابقـة بالأقــدام أمــرًا معتادًا بين الصحابة رضي الله عنهم، فعندما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غزوة تبوك، قالت الأنصار: السباق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئتم". فكأن الأنصار يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في المسابقة فيما بينهم، وأذن لهم كما جاء في حديث سلمة بن الأكوع في قصة رجوعهم أنه قال: ( ... وكــان رجــل من الأنصــار لا يُســبق شدًّا، قال: فجعل يقــول: ألا مسابق إلى المدينة ؟ هل من مسابق ؟ فجعل يعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قــلت: أما تُكْــرِم كــريمًا ولا تَهابُ شريفًا، قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ذرني فلأسابق الرجل، قال: "إن شئت" ، قال: قلت: اذْهَبْ إليك، وثنيتُ ِرجْلَيَّ فَطَفَرْتُ فعدوت... فسبقته إلى المدينة .

    وعند البيهقي رحمه الله أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قال: سابقني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسبقته، فقلت: سبقتك ورب الكعبة، ثم سبقني فقــال: وسبقــتك ورب الكعبة.

    ب- الفروسية والمسابقة بالإبل:

    ومن ذلك عقد السباق بين الخيل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينظم ذلك بنفسه، فلقـد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل ، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي السابق في مثل هذه المسابقات جائزة على فوزه، ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " سبّق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل وأعطى السابق ".

    كما سابق الرسول صلى الله عليه وسلم على الإبل، فعند البخاري أن أنسًا رضي الله عنه قال: ( كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العَضْباء لا تُسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق على المسلمين، فلما رأى ما في وجوههم، قالوا: يا رسول الله سُبقت العضباء، قال:" إن حقًا على الله أن لا يرتفع من الدنيا شيء إلا وضعه ". وفي ذلك التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم التواضع الجم، والأدب الرفيع، ولا غرو في ذلك فهو القدوة في الأخلاق والسلوك عليه الصلاة والسلام.

    وهذه المسابقات على الخيل والإبل مما شاع وكثرت ممارسته في عهده صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة رضـــوان الله عليــهم، فــقد روى ابن أبي شــيبة أنهم كــانوا يســابقون على الخيــل والـركــاب وعلى أقدامهم.

    جـ- المصارعة:

    وهي من أشهر أنواع الرياضة البدنية في الإسلام، ولقد كانت تمارس من قبل أفراد المجتمع في الجاهلية، وكانت حلبة المصارعة تحتل جانبًا من جوانب سوق عكاظ، الذي كانت قبائل العرب تقيمه كل عام، ويعد أكبر سوق يتجمعون فيه سنويًا. ولقد بلغ ولوع العرب بالمصارعة أن كانوا يتجمعون لمشاهدتها في أسواقهم السنوية، وكان من أشهر المصارعين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل إسلامه... فجاء الإسلام وأقر هذه الممارسة الترويحية بين أفراد المجتمع، بعد أن هذب أساليبها واستبعد منها ما لا يليق.

    فلم تكن المصارعة فيما سبق على الصورة الحالية وما تحمله من وحشية وتجاوز أخلاقي وسلوكي. ولقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرياضة، ففي سنن أبي داود " أن رُكانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ". وكان ذلك الموقف سببًا في إسلام ركانة رضي الله عنه.

    ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع أفرادًا آخرين غير ركانة منهم: أبوالأسود الجمحي، وكان شديدًا قويًا.. كما كان صغار الصحابة رضوان الله عليهم يتصارعون فيما بينهم، فقد صارع الحسنُ الحسينَ رضي الله عنهما بمرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    د- الرمي:

    ويكون بالسهام، وهذا الأمر يعد من أكثر الألعاب التي كان شباب الصحابة وشيوخهم يمارسونها، ويحثون على تعلمها، وكيف لا يكون ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم مارسها وحث على تعلمها، بل وحذر مَنْ تعلّمها ونَسِيَها بالإثم، ففي الحديث:" من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا".

    وكتب عمر الفــاروق رضي الله عنه إلى أبي عبيـــدة عـامر ابن الجراح رضي الله عنه: ( أن علموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي ) ، وروى الهيثمي ( أن أنسًا كان يجلس ويطرح له فراش ويجلس عليه، ويرمي ولدُه بين يديه، فخرج يومًا وهم يرمون، فقال: يا بني بئس ما ترمون، ثم أخذ القوس فرمى فما أخطأ القرطاس ). وقال مصعب بن سعــد رضــي الله عنه: كان سعد بن أبي وقاص يقول: ( عليكم بالرمي فإنه خير لهوكم ).

    هـ- السباحة:

    وهذا نوع آخر من الممارسات الترويحية، التي كانت موجودة في العصر الإسلامي الأول، ولقد بلغت العناية بها لدى عامة المسلمين مبلغًا كبيرًا، وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل شيء ليس من ذكر فهو لغو ولهو أو سهو، إلا من أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة ". وهذا الفاروق يوصي عماله بتعليم أولادهم السباحة، فكتب إلى أمير الشام ( ... وعلموا صبيانكم الكتابة والسباحة ).

    وكانت العرب في الجاهلية وأول الإسلام تطلق لقب ( الكامل ) على من يحسن الكتابة والعوم والرمي. وقد اجتمعت هذه الخصال في أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي الله عنهما.

    ولقد ألف السيوطي رحمه الله، وهو من علماء القرن التاسع الهجري، كتابًا في فضل السباحة جمع فيه الآثار التي وردت في فضل السباحة والحث عليها.

    و- حمل الأثقال:

    وهذه الرياضة لها دور كبير في تقوية عضلات الساقين واليدين والفخذين والبطن، ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من يمارس هذا المنشط الترويحي لما فيه من جوانب ترويحية وإجمام للنفس، إضافة إلى دورها في تقوية البدن لملاقاة الأعداء ومنازلتهم. ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابًا يرفعون حجرًا ليروا الأشد منهم، فلم ينكر عليهم. ومن المعلوم -أن عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم- عليهم فيه إقرار على ما كانوا يفعلونه، ولو كان في ذلك محذور شرعي لنهاهم عليه الصلاة والسلام.

    كما ورد في الخبر أن ابن عباس رضي الله عنهما مر بقوم يرفعون حجرًا ولم ينكر عليهم، فبعد أن مر بهم قال: ما شأنهم ؟ فقيل له: ينظرون أيهم أقوى، فقال ابن عباس: عمال الله أقوى من هؤلاء .

    ز- وسائل ترويحية أُخَر:

    وهي عديدة مثل: اللعب بالرماح والحراب، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنــظر إلى الحبـــشة يلعبـــون في المســـجد حتى أكون أنا الذي أســـأم، فاقدروا قدر الجــارية الحــديثــة السـن، الحريصة على اللهو ".

    ومن الوسائل الترويحية كذلك: الصيد بالرماح والسهام، والصيد بالطيور والكلاب المعلمة وهذه للكبار خاصة.

    حـ- ألعاب خاصة بالأطفال:

    مثل المراجيح، فعند الإمام أحمد في المسـند أن عـائشة رضي الله عنها كانت تلعب بالأرجوحة قالت: "... فلما قدمنا المدينة جاءتني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة ...".

    ومن ألعاب الأطفال كذلك اللعب بالبنات ( العرائس ) فعن عائشة أنها قالت: " كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل يَتَقَمَّعن منه، فيُسرِّبُهن إليّ فيلعبن معي ".

    وعند أبي داود أن عائشة قالت: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة ( لُعَب)، فقال: ما هذا يا عائشة ؟ قالت: بناتي.. ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقــال: ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عـليه ؟ قـالت: جناحان، قال: فرس له جناحان! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة، قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه ".

    وهناك ألعاب أخرى، ولا شك أن ما ذكر من مناشط ترويحية تعد أصولاً للترويح، ويمكن أن ينبثق من كل منشط العشرات من الألعاب والمسابقات بأشكال وأنواع مختلفة تتناسب والوسائل الحديثة في وقتـنا المعـاصر، طـالمــا كانت منضـبطة بالضـوابط الشرعية التي تقدمت الإشارة إليها. وهذا ما تم بالفعل، حيث واصل المسلمون تطوير الكثير من هذه الممارسات الترويحية وفق تطور كل عصر يعيشونه.
    د عبد الله ناصر السدحان
                  

09-07-2015, 01:18 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    نظرة الإسلام للترويح
    يعد الترويح في الإسلام أمرًا مشروعًا، بل ومطلوبًا، طالما أنه في إطاره الشرعي السليم المنضبط بحدود الشرع التي لا تخرجه -أي الترويح- عن حجمه الطبيعي في قائمة حاجات النفس البشرية.. فالإسلام دين الفطرة، ولا يُتصور أن يتصادم مع الفطرة، أو الغرائز البشرية في حالتها السوية.

    ومن هنا فقد أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفــرد المســلم على تحمــل مشــاق الحيـاة وصعــابــها، شــريــطــة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شيء من شرائع الإسلام، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة،

    والأصل في ذلك الحديث الذي يرويه حنظلة رضي الله عنه حيث يقول: لقيني أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول ؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى وكأنّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبوبكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلـقت أنا وأبـو بكر الصديق حتى دخلنا علـى رســول الله صلى الله عليه وسلم، قلــت: نافــق حنظــلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك ؟ " قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسيــنا كــثيـرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده أن لو تَدُومُون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طُرِقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات ".

    ولا شك أن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لتأثر نفس حنظلة رضي الله عنه المؤمنة وتقلبها بين مجالات الجد وأنماط العبادات من جهة، وبين متطلبات النفس من مرح وانبساط من جهة أخرى، هو اعتراف ودليل سماوي على اعتبار الترويح والترفيه، وأنه من كمالات النفس ولوازمها الأساسية لأداء حقوق الخالق والمخلوق.

    كما أكدت السنة مبدأ الترويح في الإسلام، ومن ذلك ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟" قال: بلى يا رسول الله، قال: "فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا".

    وكذلك مما يؤكد على مراعاة الإسلام لمبدأ الترويح في حياة المسلم، الأثر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: " روحوا القلوب ساعة وساعة" (ضعفه الألباني في ضعيف الجامع).

    ومن الآثار المؤكدة لمبدأ الترويح في الإسلام ما يروى عن علي رضي الله عنه: ( أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكــمة، فــإنها تمــل كمــا تمــل الأبــدان )، ومــا يــروى عــن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( أريحوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي ).

    وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتهم العادية، فيعطون أنفسهم حقوقها من الراحة والترفيه، ففي الأثر الذي يرويه البخاري: ( كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال ).

    وفي هذه الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم، دلالة على مراعاة الإسلام لحق النفس في الراحة، وإعطائها حقها من ذلك، طالما أنه ضمن الإطار الشرعي، وداخل الحدود المقبولة اجتماعيًا.

    والإســلام حـين يــقر الجانب الترويحي في حيـــاة المسلم، فهو ينطلق من مراعاته للفـطرة البشــرية، والغرائز التي أودعها الله في النفس البشرية، ويتعامل مع واقع الإنسان وظروفه، وليس معنى ذلك الرضا بواقع الإنسان أيًا كان، بل هو يراعي طبيعة الإنسان الضعيفة، وحقيقة واقعها اليومي والحياتي الذي تعيشه.

    والمنطلق الآخر الذي تنطلق منه مشروعية الترويح في الإسلام هو: شمولية هذا الدين بتشريعاته لجميع جوانب حياة الإنسان: الجسمية، والروحية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية، والغريزية، فالشمول أحد خصائص هذا الدين العظيم وميزاته.

    ومن هنا اعترف الإسلام، انطلاقًا من واقعيته وشموليته، بحق البدن في أخذ نصيبه من الراحة والاستجمام، كما اعترف بحق الروح في أن تنال حظها من الترويح والترفيه، ليقوي كل منهما الآخر على تحقيق العبودية لله بمعناها الشامل.

    ومما لا شك فيه أن الأصل في الترويح أن يتلازم مع وقت الفراغ ويمارس فيه، كما يجب أن يكونا متعادلين في الكمية، فلا يطغى أحدهما على الآخر.. فزيادة وقت الفراغ في حياة الإنسان وتركه دون استغلال يحوله إلى مشكلة، وزيادة الترويح على أوقات الفراغ يحوله إلى لهو ولعب.

    لذا نجد أن ( الإسلام يُقوِّم عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا بأنه أسمى وأغــلى من أن تضيع فقــراته بين لـهو عابث سخيف لا قيمة له، ولعب باطل لا يأتي من ورائه بمنفعة دنيوية عظيمة ولا أخروية نبيلة، فهو مسؤولية في عنق المسلم يحاسب عليه يوم القيامة ).

    وهذا ما جعل الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.. وكذا ما ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه في قوله: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق. وهذا يعني أن الترويح يمكن أن يكون له بعد تعبدي إذا احتسبه الإنسان قربة لله، أو ليتقوى به على الطاعة.

    وعلى ذلك تصبح جميع حياة المسلم تعبدية ما دامت مقترنة بالنية الصالحة، حتى في الجماع مع الزوجة، فلقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " ... وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ فقال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس كان يكون عليه وزر ؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ".
    عبد الله بن ناصر السدحان
                  

09-07-2015, 01:20 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الترويح في الإسلام: معناه وآثاره
    الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، وجاء التكليف الإلهي في حدود الوسع، وغاية التقوى ما يقع تحت الاستطاعة، قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم } (التغابن:16)، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فالضرورات تبيح المحظورات، لأن التكليف والعبادة لتهذيب الإنسان والارتقاء به، وليس لتعذيبه وقهره وحرمانه، كما جعل للحياة معنى تتمحور حوله، وللإنسان هدفًا متيقنًا، وأملاً يسعى إليه ويسعد به، ويشكل حماية له من السقوط ووقاية من مصائب الدنيا، فأصبحت المتعة تتحقق في الإنجاز، وغايته تحقيق العبودية والفوز برضى الله، الذي يعني النعيم المقيم والمتع الخالدة، التي تهون عندها سائر المتع واللذائذ الموقوتة والعارضة.

    والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، الذي كانت من أهداف رسالته للبشرية وضع إصرها والأغلال التي كانت عليها وتخليصها من العنت، قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } (الأعراف:157)، وقال تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } (الحجرات:7)، فكانت حلاوة الإيمان والانضباط بقيمه ومتعه فوق كل حلاوة ومتعة وراحة، وكانت عذوبته وقاية من السقوط في حمأة الغريزة، وقدرة على تحمل سائر المشاق وأنواع العذاب.
    أما بعد:

    فالترويح وسيلة تربوية، بل لعله من أكثر الوسائل التربوية فاعلية، لأنه يتم بعيدًا عن التوتر والقلق والتكيف على أوضاع معينة.. إنه التربية والتعليم الذاتي، من خلال اغتنام مجالات ومساحات الراحة الجسمية والرضى النفسي وأعلى درجات القابلية للاختيار.

    وبالإمكان القول: إن قياس مردود التعليم، واكتساب المهارات المعرفية والسلوكية والوجدانية من خلال ابتكار وسائل لإيصالها في أوقات الترويح والنشاط الذهني، دفع القائمين على شأن التعليم إلى تكسير حواجز المدارس وقوالبها ووسائلها التقليدية، وبدأوا يفكرون بأشكال جديدة من هياكل المدارس الممتعة، التي تمنح الطالب قدرًا من التحرر من القوالب والأشكال التي قد تسبب انسدادًا وإعاقة للمعرفة، إلى درجة أصبحت معها مجالات الترويح وميادينه، ووسائل الترفيه وألعابه، هي الموقع الأهم لاكتشاف ميول الطالب ومواهبه واهتماماته، التي تعين على ترسيم مستقبله أو قراءة مستقبله من خلال الأنشطة الترويحية.

    لذلك نقول: تبقى الإشكالية في فلسفة الترويح وكيفية بناء حس المتعة والسعادة، فليس دقيقًا ولا صحيحًا أن الترويح هو نوع من الساعات الضائعة، وكسر للحواجز، وانعتاق من القيم.

    فقد تكون المشكلة ابتداءً في قراءة الإنسان محل الترويح وهدفه، وفي عدم القدرة أثناء التفكير بموضوع الترفيه أو الترويح على إدراك حاجات الإنسان الأصلية وقابلياته، وخصائصه وأهدافه، ووظيفته أو رسالته في الحياة. ذلك أن القراءة المخطئة للإنسان تؤدي إلى اضطراب النسب التي تتشكل منها الكينونة البشرية، وبالتالي ينعكس ذلك على فلسفة الترويح وأدواته ووسائله وأهدافه.

    فهل الإنسان كتلة من الغرائز والشهوات فقط حتى يجيء الترويح أو الترفيه إزالة للعوائق والممنوعات، وفتحًا للباب على مصراعيه أمام المتع الرخيصة والرفه الآثم، باسم الشأن الشخصي والحرية الشخصية، ولو أدى ذلك إلى الشذوذ والانحراف، التي أصبحت تعج بصورها الحضارة المادية وأصبحت إشكاليتها الحقيقية وجاءت وسائل الترويح استهدافًا للإنسان ذاته، استهداف صحته وسعادته وأسرته وعقله، وتدمير طاقاته وعلاقاته الاجتماعية ؟.

    أم أن الإنسان عقل وعاطفة، ونفس وروح، وفطرة وغريزة، وذات ومجتمع، وأن وسائل الترويح لا بد أن تؤصل وتتأسس بحيث تكون مستجيبة لكل معطى بقدره أو مطلب يشكل حاجة أصلية للإنسان؟.

    معنى الترويح

    يدور معنى كلمة الترويح في أصلها اللغوي على السعة والانبساط، وإزالة التعب، ورجوع النشاط إلى الإنسان، وإدخال السرور على النفس بعد العناء، ويقال: رجل أريحي، أي واسع الخلق نشيط.. وأراح الرجل، أي: رجعت له نفسه بعد الإعياء. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها ".

    وتتعدد تعريفات المختصين للترويح وتتابين باختلاف نظرة من يقوم بتعريفه.. ومن هذه التعاريف أن الترويح هو:

    - إعادة إنعاش الروح وإحياء القوة بعد تعب.

    - إدخال السرور على النفس.

    - نشاط ذو فائدة ما، يمارس اختياريًا أثناء وقت الفراغ، بدافع ذاتي من الرضا الشخصي الذي ينتج عنه.

    - النشاط الذي يختاره الفرد ليمارسه في وقت فراغه.

    - مزاولة أي نشاط في وقت الفراغ، بهدف إدخال السرور على النفس، دون انتظار أي مكافأة.

    ويمكننا تحديد مفهوم أدق لمصطلح الترويح من المنظور الشرعي بأنه: ( نشاط هادف وممتع للإنسان، يمارسه اختياريًا وبرغبة ذاتية، وبوسائل وأشكال عديدة مباحة شرعًا، ويتم في أوقات الفراغ).

    من آثار الترويح

    يكتسب الترويح أهميته من الآثار المترتبة عليه، فمن الآثار التي ينتجــها الترويــح تكــون الدوافــع لدراسته والاهتمام به، ومما يلاحظ في معظم الدراسات أنها تربط دائمًا بين الانحراف والترويح، وكأن الترويح لا يولّد إلا انحرافًا، أو كأنما الانحراف نتيجة لازمة من نتائج الترويح، وخاصية أساس من خصائصه، وليس ذلك بصحيح، فبقدر ما يحمل الترويح من آثار سلبية، فهو في الوقت نفسه ينتج لنا آثارًا إيجابية، بل إن إيجابياته أكبر وأسهل تحصيلاً لمن يوفقه الله إلى ذلك، وبخاصة إذا تعاملنا معه وفق النظرة الشرعية بضوابطها وأهدافها التي سترد لاحقًا.

    أولاً: الآثار الإيجابية المترتبة على الترويح:

    هناك العديد من الآثار الإيجابية المصاحبة للعملية الترويحية بشتى صورها وأشكالها، إلا أننا نجد أن لكل شكل من الأشكال، ولكل منشط من المناشط الترويحية المختلفة التي يمارسها الإنسان فوائد محددة، ومن ذلك:

    1) إشباع الحاجات الجسمية للفرد: ويتم ذلك بممارسة الرياضة البدنية وليس بمشاهدتها فقط، كما يحدث بين نسبة كبيرة من أفراد المجتمع، حيث تؤدى ممارسة الرياضة البدنية بشتى أنواعها غالبًا إلى إزالة التوترات العضلية وتنشيط الدورة الدموية، وتحسين أداء الأجهزة الرئيسة بالجسم، كالجهاز التنفسي والهضمي، إضافة إلى اكتساب قوام معتدل.

    2) إشباع الحاجات الاجتماعية للفرد: فمن المعلوم أن معظم الأنشطة الترويحية تتم بشكل جماعي، وهذا يساعد الفرد حين ممارستها على اكتساب الروح الجماعية والتعاون والانسجام والقدرة على التكيف مع الآخرين، وهذا يؤدي إلى تكون علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين وإلى نمو اجتماعي متوازن.

    3) إشباع الحاجات العلمية والعقلية للفرد: وهذا يتأتى من خلال الأنشطة الترويحية الابتكارية التي يمارسها الفرد في حياته اليومية، فهذه الأنشطة تؤدي في الغالب إلى تنمية القدرات العقــلية والتفاعل الإيجابي مع المواقف المختلفة، كما تساعد هذه الأنشطة الترويحية الابتكارية على تطوير القدرة الإدراكية والاستيعابية للمواقف المختلفة.

    4) قد تكون الأنشطة الترويحية عاملاً مساعدًا في رسم مهنة المستقبل للفرد، من خلال تنمية مهاراته وقدراته التي غالبًا ما تبدأ بهواية يمارسها الفرد في حياته اليومية، ثم ينميها ويطورها، حتى تنتهي بمهنة يحترفها في المستقبل.

    5) تساعد الأنشطة الترويحية على اكتشاف العديد من السجايا والأخلاق والطباع التي يحملها الأفراد، إذ غالبًا ما يكون الفرد على سجيته ودون تصنع أو تكلف في أثناء ممارسته للترويح.

    6) الأنشطة الترويحية قد تكون منشطة للحركة الاقتصادية في المجتمع، من خلال جعل الأنشطة والبرامج الترويحية موارد استثمارية، وبخاصة إذا تم التعامل معها وفقًا للنظرة الشرعية للترويح، وإلا أصبحت ذات آثار سلبية.

    7) تساعد الأنشطة الترويحية على إحداث مزيد من الترابط الأسري بين أفراد الأسرة الواحدة حين ممارستها بشكل جماعي، وبشرط أن تكون تلك الأنشطة ذات صبغة إيجابية تفاعلية، أما إذا كانت البرامج الترويحية سلبية أو استقبالية محضة، مثل: مشاهدة التلفزيون فقط، فهذه الممارسات الترويحية قد تؤدي إلى عكس النتائج الإيجابية المتوقعة، فكلما ارتفعت نسبة المشاركة بين أفراد الأسرة في الأنشطة الترويحية أدى ذلك إلى مزيد من التماسك الأسري.

    8) تؤدي الأنشطة الترويحية -إذا أحسن الإنسان استثمارها وممارستـها بشكــل إيجــابي- إلى زيــادة الإنتاجيـة لديــه، إذ تعد هذه الأوقات فرصة لالتقاط الأنفاس، والترويح فيها، مما ينعكس بأثره الإيجابي على فعاليات الفرد ونشاطه وحيويته حال عودته للعمل.

    ثانيًا: الآثار السلبية المترتبة على الترويح:

    1) يرى كثير من الباحثين أن الترويح عامل رئيس في انحراف الأحداث، ويؤدي دورًا لا يستهان به في حياتهم، ويستندون في ذلك إلى العديد من الدراسات والأبحاث التي تربط بين الانحراف من جانب ومتغيرات الترويح، وهذه المتغيرات يقصد بها مكان الترويح، وزمانه، والمشاركين فيه.

    2) يؤدي الترويح إذا تم استغلاله بشكل سلبي إلى وجود حالة من الملل في حياة الفرد، إذ لا يُتصور حياة لا يمارس فيها عمل، لا للدنيا ولا للآخرة، وهذا الملل ينقل الفرد إلى حالة من القلق.

    3) ممــارسـة الأفــراد أو المجتمـعات للتــرويح بشكل كبـيـر قد يدفع بالمجتمع إلى وضع استهلاكي ضار، إذ تنصرف نسبة كبيرة من موارده إلى جوانب كمالية زائدة عن حاجته، إذ ممارسه الترويح في الغالب تنصبغ بالصفة الاستهلاكية غير المنضبطة ماديًا.

    4) بعض الأنشطة الترويحية تؤدي إلى تغيرات اجتماعية ذات صبغة سالبة، فمنها على سبيل المثال ما أحدثه التلفاز في أنماط الاجتماعات العائلية والأسرية، فلم تعد تجمعات الناس مع وجود التلفاز ذات طبيعة جماعية كما كانت ســابقًا، فهو يوحدهم شكليًا ولكنه من الناحية السيكولوجية يفرق ويقــطـع الصـلات بينـــهم، وهذا التجــمع المــادي الجســدي لا يكفي لتحقيق التقارب الاجتماعي.

    وتلـك الآثار المتــرتــبة على التــرويــح، سـواء الإيجابي منها أو السلبي، تتضافر عدة جهات في صنعها في حياة الأفراد، فلكل من الأسرة، والمدرسة، والمجتمع بشكل عام دور في هذه الآثار، فنجد أن من مهام الأسرة التربوية لأفرادها تعليم أبنائها كيفية الاستفادة من الترويح، والعمل على استثماره الاستثمار الصحيح، واستغلاله في ممارسة الأنشطة الإيجابية الابتكارية، بالإضافة إلى تهيئة الوسائل الترويحية المناسبة لهم من الناحية العمرية والشرعية والتربوية، ومشاركة الأبوين للأبناء في الترويح. وبذلك نستطيع أن نضمن وجود الآثار الإيجابية له وتجاوز آثاره السلبية، وبخاصة أن العديد من الدراسات تؤكد أنه كلما زادت ممارسات أفراد الأسرة الواحدة مع بعضهم البعض للأنشطة الترويحية كان ذلك محدثًا لمزيد من الترابط الأسري بين أفرادها.

    أما المدرسة فدورها لا يمكن إغفاله في تربية الطلاب على حسن التعامل الأمثل مع الترويح وتحقيق الآثار الإيجابية من خلال ممارسة الأنشطة الترويحية الإيجابية والابتكارية، وتهيئة الظروف المكانية والزمانية المناسبة لتحقيق ذلك للطلاب.

    أما المجتمع بشكل عام، فدوره في صنع تلك الآثار الإيجابية للترويح يتحقق من خلال إيجاد المناخ الترويحي السليم، بتهيئة وسائل الترويح الإيجابية المتمشية مع نظم المجتمع وقواعده، وإيجاد الأماكن الترويحية المأمونة التي تعمل على جذب أفراد المجتمع لها، وكل ذلك يتأتى بمراعاة الضوابط الشرعية عند تهيئة تلك الوسائل الترويحية والأماكن الخاصة بها، أو حين استجلاب أي نوع مستحدث من الممارسات الترويحية.

    العوامل المؤدية إلى التباين في ممارسة الترويح:

    تختلف الأنشطة الترويحية التي يمارسها الأفراد بتأثير من متغيرات عدة، كما أن دوافع ممارسة الترويح وأسبابه تختلف من فرد إلى آخر، وأبرز تلك العوامل المسببة لذلك التباين ما يلي:

    أ- الجنس: تختلف الأنشطة الترويحية باختلاف الجنس، فالذكر له أنشطة ترويحية تناسبه، كما أن للأنثى، أنشطة أخرى تناسبها، فالذكور يميلون إلى الأنشطة ذات الطابع البدني التنافسي، في حين تقبل الإناث على النشاطات الترويحية الهادئة التي تمارس غالبًا في المنزل أو مع الصديقات. ومنشأ هذا التباين في الأنشطة الترويحية طبيعة كل منهما، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي وواضح في المجتمعات المسلمة التي تراعي ذلك الأمر.

    ب- العمر: يؤثر العمر في تحديد نوع النشاط الترويحي، فالأطفال لهم أنشطتهم الخاصة، وفي الغالب أنها ذات طابع حركي مستمر ومتواصل، في حين تكثر الأنشطة الثقافية والقراءة والرحلات بين البالغين، بينما تمتاز أنشطة فئة الشباب بالتنوع، إلا أن الجانب الرياضي والرحلات البرية تطغى عليها.

    جـ- المستوى التعليمي: يتدخل المستوى التعليمي بشكل كبير في تحديد النشاط الترويحي الذي يمارسه الأفراد خلال أوقات فراغهم، فالقرءاة مثلاً سنجدها تكثر بين ذوي المستويات التعليمية المرتفعة.

    د- المستوى الاقتصادي للأفراد: يؤثر هذا العامل من خلال القدرة على تهيئة وتوفير الوسائل والأدوات التي من خلالها يمارس الفرد الأنشطة الترويحية، فالرحلات الخارجية والسفر والسياحة قد لا تتحقق لأصحاب الدخول المنخفضة.

    هـ- مقدار وقت الفراغ: وهذا العامل يؤثر بشكل كبير وأساس في تحديد نوعية النشاط الترويحي، إذ هناك من الناس من ينصرف عن ممارسة نشاط معين لأنه يحتاج إلى وقت فراغ كبير قد لا يتوفر له.

    و- مكان الترويح ونوعية المشاركين: إذ غالبًا ما يتأثر الفرد بمن حوله ويندمج معهم في ممارسة النشاط الترويحي لمجرد أنه يشاهد غيره يمارسه.

    ز- المستوى الاقتصادي والمادي للمجتمع: لكل مرحلة من مراحل نمو المجتمع الاقتصادية ما يناسبها من الأنشطة الترويحية، فإن كان المجتمع يمر بمرحلة تدهور اقتصادي فهذا الوضع الاقتصادي المتردي سيجعله يمارس أنشطة ترويحية تختلف عن الأنشطة الترويحية التي سيمارسها حين ظهور تحسن اقتصادي ورخاء مادي، فمقدار الدخل السنوي للأفراد، ومستوى المعيشة للمجتمع بشكل عام، له أثره في بروز أنشطة ترويحية والتركيز عليها دون غيرها.

    حـ- خصوصية المجتمع العقدية والثقافية: إن طبيعة المجتمع وخصائصه العقدية والثقافية التي تميزه عن المجتمعات الأخرى، لها دور كبير ومهم في تحديد نوعية الأنشطة الترويحية التي يمارسها أفراده، ولا يمكن إغفال دورها في ظهـور أنشطـة ترويحية تتـناسب وطبيـعة ذلك المجتــمع، كما تؤدي هذه الخصوصية للمجتمع إلى اختفاء أنشطة ترويحية أخرى، وسيرد الحديث مفصلاً عن هذا الجانب المهم في مبحث مستقل بإذن الله تعالـى.
    الشيخ/ عبد الله ناصر السدحان
                  

09-07-2015, 01:23 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    حتى يثقل ميزانك
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

    فإن من أعظم ما يرجو به العبد الفوز والنجاة يوم القيامة حسن الخلق؛ ذلك أن الخلق الحسن من أعظم الأعمال التي تثقل بها الموازين يوم القيامة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق"
    هكذا يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث فضل التحلي بالأخلاق الحسنة، فذكر أن حسن الخلق أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.

    الرسول أحسن الناس خُلُقا

    ولقد كان التحلي بحسن الخلق من أخلاق الأنبياء والرسل، وفي مقدمتهم نبينا محمد الذي وصفه ربه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} سورة القلم(4)..
    ولما سئلت أم المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خلقه القرآن" أي متخلقاً بأخلاق القرآن فعلاً لما يجب ويستحب فعله، وتاركاً لما يحرم ويكره فعله، فكان عاملاً بالأوامر مجتنباً للزواجر..

    وهذا أنس أحد الذين تشرفوا بخدمته صلى الله عليه وسلم- يقص علينا بعضاً من أخلاقه فيقول كما في صحيح مسلم: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين والله ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا"، زاد الترمذي: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خلقاً، وما مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عَرَق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

    من صفات المتقين

    كما أن التحلي بحسن الخلق من صفات عباد الله المتقين، كما أخبر الله بذلك، فقال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فكل هذه الأعمال المذكورة في الآية من الأخلاق الحسنة.

    من ثمرات حسن الخلق

    إن التحلي بالأخلاق الحسنة يترتب عليه الخير العميم في الدنيا والآخرة كما بينته الأدلة الشرعية
    فقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى الله، وحسن الخلق".

    قال ابن القيم-رحمه الله-: "جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين تقوى الله وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه, وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى الله توجب له محبة الله, وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته".

    وقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم لمن حسن خلقه سكنى أعالي الجنان؛ فقال: "..وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".

    كما أن التحلي بحسن الخلق هو سبيل إلى تحقيق التقوى، ولذلك فقد أوصى النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ كما في وصيته لمعاذ-رضي الله عنه-، : "اتق الله حيثما كنت، وأتبعِ السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن".

    قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذه من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به -أي مخالقة الناس بالخلق الحسن-، وإنما أفردها بالذكر للحاجة إلى بيانه؛ فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده، فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فإنه كان قد بعثه إلى اليمن معلماً لهم ومفهماً وقاضياً، ومن كان كذلك فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس به ولا يخالطهم، وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جداً لا يقوى عليه إلا الكُمَّلُ من الأنبياء والصديقين".

    وصاحب الخلق الحسن مع الإيمان هو من خير الناس فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قلنا : يا نبي الله من خير الناس ؟ قال : "ذو القلب المخموم ، واللسان الصادق" . قال : يا نبي الله : قد عرفنا اللسان الصادق فما القلب المخموم ؟ قال : "التقي النقي الذي لا إثم فيه ، ولا بغي ، ولا حسد" . قال : قلنا يا رسول الله ، فمن على أثره ؟ قال : "الذي يشنأ الدنيا ، ويحب الآخرة". قلنا ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن على أثره ؟ قال : "مؤمن في خلق حسن" . قلنا : أما هذه ففينا.

    كما أن التحلي بالخلق الحسن مما يقرب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؛ فعن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً".

    ولأن حسن الخلق يجمع خلال الخير فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من سؤال الله الهداية لأحسن الأخلاق، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن علي بن أبي طالب عن رسول الله أنه كان إذا قام من الليل، وفيه: "... واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت".

    ويكون حسن الخلق ببذل السلام، وكف الأذى، وطلاقة الوجه، وسعة الصدر، وكظم الغيظ، والعفو عمن ظلمك، ووصل من قطعك، وغير ذلك من الخصال الحميدة، فعن عبد الله بن المبارك ــ رحمه الله ــ قال: "هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى".

    وسئل سلام بن أبي مطيع عن حسن الخلق فأنشد:
    تـراه إذا ما جئتـه متهـللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
    ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجـاد بها فليتـق الله سائلـه
    هو البحر من أيِّ النواحي أتيته *** فلُجّته المعروف والجود ساحله.

    نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق وأن يزيننا بزينة الإيمان وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    إسلام ويب
                  

09-07-2015, 01:25 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الرجوع إلى الحق فضيلة
    الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير الورى وسيد البشر محمد بن عبد الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار ما تعاقب الليل والنهار، صلاة وسلاماً أبديين متعاقبين ما دامت السماوات والأرضين، أما بعد:

    فالإنسان بشر، يعتريه الخطأ والنسيان، والضعف والقوة، ويقع منه الخطأ والمعصية، وليس ذلك عيبا، ولكن العيب هو التمادي فيه، أما إذا عرف الحق ورجع إليه فهذه منقبة له، لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (رواه ابن ماجة والدارمي وحسنه الألباني).

    والمطالع لسير السلف الصالح رضي الله عنهم يجدهم ممن قلَّت أخطاؤهم، ومع ذلك فهم أحق الناس بأن يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]، هذه المبادرة إلى التوبة، وتلك المسارعة إلى الرجوع للحق، هي ولا شك خير من التمادي في الباطل استجابة لأهواء النفوس، ونزعات الشياطين، وتكبراً عن الاعتراف بالخطأ لاسيما عند الخصومات.

    اختلاف الطبائع عند كثير من الناس:

    كثيراً ما تكون الطبائع التي لم تُهذّب سبباً من أسباب زلة القدم، والوقوع في بعض الخصومات، والجدال، ومن المعلوم أن طبائع الناس وأخلاقهم تختلف اختلافاً كبيراً بيِّناً، فمنهم السهل ومنهم الحزن، ومنهم المتواضع ومنهم المتكبر، ومنهم سريع الغضب قريب الرجوع إلى الحق، فهذه بهذه، ومنهم من يكون بطيء الغضب بطيء الفيئة فهذه بهذه.
    لكن مما لا شك فيه أن خيرهم بطيء الغضب سريع الفيئة، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيئة، الذي لا يكاد يقر بخطأ، أو يعترف بذنب، فيبدي الأسف، أو يبادر بالاعتذار، فنفسه الأمارة بالسوء قد غلبته وقهرته فلم تدع له مجالاً لسرعة الرجوع إلى الحق.

    أخي في الله: اضبط عواطفك، وعد إلى الحق بسرعة، فحبل الخيرية بيدك أيها المؤمن، وما عليك إلا أن تضبط عواطفك فلا تغضب ولا تسيء، وإن لم تتمالك نفسك فلا يطل عليك الأمد، ويتراكم على قلبك الران، وإنما تفيء إلى دائرة الحق بسرعة، وترجع إلى جادة الصواب على عجل.

    ولم يخل مجتمع من المجتمعات من الخصومات والجدل، والنزاع مع خلق الله عز وجل، قد يكون مع أهله وزوجته وأبنائه، أو مع جيرانه، فعليه أن يلزم الحلم والصفح فإنهما صفتان عظيمتان، وقد امتدح الله عز وجل العافين عن الناس فقال: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، وقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى: 40]، وتعرض الأعمال يوميّ الاثنين والخميس فيغفر لكل مؤمن إلا المتخاصمين لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" (رواه مسلم).

    والمتوقع من المؤمن الصادق أنه يسرع في الرجوع والعفو والصفح، ويسابق إلى الصلح، أما من يلجُّ في الخصومة، ويغرق في التمادي فقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (البخاري ومسلم)، وفسره الإمام النووي رحمه الله فقال: "(الألد) شديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، (الخصم) الحاذق بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق، أو إثبات باطل".

    بل إن من صفات المنافق أنه: إذا خاصم فجر لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (البخاري ومسلم)، والفجور الميل عن الحق، والاحتيال في رده، وكم يكون عظيماً ذلك الذي يذل للمؤمنين، ويؤوب إلى الرشد، ويعجل إلى ربه، ويرجع ليرضى عنه.

    ولقد ضرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مثلاً رفيعاً في سرعة الفيئة حين علم أن مسطح بن أثاثة الذي يأكل من نفقة أبي بكر كان قد شارك في اتهام ابنته السيدة عائشة رضي الله عنه بحديث الإفك، فأقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، فعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ}[النور: 11] العشر الآيات كلها في براءتي، فقال أبو بكر الصديق - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه -: "والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة"، فأنزل الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى}[النور: 22] الآية، قال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبداً" (البخاري).

    الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل:

    وليس العيب الوقوع في الخطأ إذ "كل بني آدم خطّاء، وخير الخطاءين التوابون"، وإنما تكمن المصيبة في الإصرار على الخطأ، والتمادي في الباطل، مع أن أبواب الرحمة مُفتّحة تدعونا لسرعة التوبة فعن أبي موسى رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" (مسلم)، وتستطيع تجاوز العقبة بأن تكون صريحاً مع نفسك، وتعترف بخطئك، وهذه بداية طريق التوبة والرجوع إلى الله، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، وإذا كان ربنا يدعونا إلى سعة رحمته، ويقابل ضعفنا وإساءتنا بإحسانه، فما الذي يؤخرنا عن إصلاح أنفسنا، وما الذي يحول بيننا وبين الرجعة السريعة، والتوبة النصوح؟ وقد جاء في الحديث القدسي الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". (البخاري).

    أيها العبد المؤمن بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، وإياك ثم إياك والتسويف.

    إن الذي يحول دون التعجيل بالتوبة هو الوقوع في قيد الإصرار، ولقد بوب الإمام البخاري رحمه الله أحد أبواب كتاب الإيمان بقوله: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وما يُحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135]"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذا الباب: "وكأن المصنف لمّح بحديث عبد الله بن عمرو المخرج عند أحمد مرفوعاً قال: "ويل للمصرّين الذي يصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون" أي: يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره"، وصورة الإصرار هي العزم على معاودة الذنب، وعدم الإقلاع بالتوبة إلى الله منه، والله أعلم.
    فهل يختار المؤمن مصير الويل والهلاك أم يقاوم هواه ويستعلي على نزوات الشيطان لينطلق من قيدها ساعياً إلى رحمة الله؟ فإذا أسأت فأحسن، وإذا أذنبت فاستغفر؛ لعل عملك يشهد لك بالسرعة في طاعة الله، وإذا أخطأت في حق أحد فبادر بالاعتذار، قبل فوات الأوان، وقبل أن تصل الروح إلى الحلقوم، عند ذلك لا ينفع الندم قال الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ}[الواقعة: 83-85].

    أخي في الله: أما ذكرت أنك ميت، وأن الموت لا مفر منه.

    هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب *** متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

    نؤمـل آمـالاً و نبغي نتاجها *** وعلَّ الـردى عمَّا نرجيه أقرب

    إلى الله نشكـو قسوة في قلوبنا *** وفي كل يوم واعظ الموت يندب

    نسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    إمام المسجد
                  

09-07-2015, 01:29 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    غدًا تشرق الشمس
    ذكر «ونستون تشرشل» في كتابه «شماعة القدر» قصة عجيبة وقعت للقائد الشهير «مونتغمري» وهو يغادر إنجلترا متوجهًا إلى إفريقيا لتولي قيادة الجيش الثامن وبرُفقته في السيارة رئيس الأركان القائدُ «إسماي» وكان «مونتغمري» يحدثه أثناء الطريق وبنوع من الإعجاب عن جندي كانت له مغامرات جريئة وحيلٌ ، وكرَّس وقته وحياته لعمله, وقضى سنوات طويلة في الدراسة وتطوير ملكاته الجسدية والعقلية، ثم ابتسم له الحظ وتذوق طعم النجاح, وسنحت له الفرصة ليكون قائدًا عظيمًا بعد أن أحرز النصر لجيشه وأصبح مشهورًا وقائدًا عالميًا، ثم تغير الحظ فجأة وانقلبت حياته رأسًا على عقب، وهزم هزيمة قاضية حطمته ودونت اسمه في قائمة القادة العسكريين الفاشلين.

    استاء «إسماي» مما سمع فاعترض على «مونتغمري» قائلًا: لكن الوضع يختلف ولا يصلح أن نتعامل مع كل الأمور من منظور سيئ، إننا نشكل جيشًا رائعًا في الشرق الأوسط وما يحدث هناك لا يعني أنك مقدم على كارثة.
    عندها انتفض «مونتغمري» وجلس منتصبًا وصاح به ماذا ؟ ماذا تقصد ؟
    إني كنت أتحدث عن «روميل».

    لقد كان «مونتغمري» ذاهبًا لمواجهة واقع خطير, ويتضح ذلك إذا علمنا أن «روميل» لم يكن قد هُزم حتى تلك اللحظة في أية معركة من المعارك التي خاضها.

    أما الوضعُ في ساحة المعركة فكان كالتالي: كان الجيش البريطاني يواجه الكثيرَ من المشكلات، وهُزم أكثر من مرة على يد «رومل» مما اضطره للانسحاب والتقهقُرِ فأصاب الجيشَ الإحباطُ وانخفاضُ الروح المعنوية إلى أن وصل «مونتغمري» فحقق النصر التاريخي في معركة العلمين, وهزم القائد الألماني الكبير «رومل».
    لقد كان «مونتغمري» يمتلك توجهًا ذهنيًا إيجابيًا وتفاؤلًا كبيرًا كان أهم أسلحته في هذه المعركة الحاسمة في تاريخ البشرية.

    إن التفاؤل يعني الإصرارَ على التقدم دائمًا رغم المُعوقات ويعني الإصرارَ على التحرر من المُقلِقات المُتوَهَّمَة والتعالي على الشعور بعدم الأمان والإحباط, إنه الإصرار على الحفاظ على النظرة الإيجابية والتمسكُ بالأمل بغض النظر عن صعوبة الظروف الخارجية.

    إن امتلاك الإنسان للتفاؤل والتوجه الذهني الإيجابي يجعل تفكيره أشبه ما يكون بفرشة ألوان يُمكنها أن تلون كل شيء في حياته بألوان مُبهِجة مليئةٍ بالحيوية وتصنع من الواقع الكئيب تحفةً فنية. فالمتفائلُ يذوق طعم النصر قبل حدوثه والمتشائمُ يتجرع مرارة الهزيمة قبل وقوعها, بل ربما يتجرع مرارة هزيمة لن تقع أصلًا.

    إن الفارق بين العقبة والفرصة يكمن في الزاوية التي ننظر من خلالها للأمور، فالمتفائل يرى في كل مشكلة فرصة، بينما المتشائم يرى في كل فرصة مشكلة.

    والحياة بطبيعتها تصيب كُلاًّ من المتفائل والمتشائم بنفس المآسي والآلام, وتضع أمامهما نفسَ العقبات، ولكن المتفائل يواجهها بشكل أفضل وينهض بسرعة من أية هزيمة, ثم يبدأ الكرة من جديد، بينما المتشائم يستسلم من أول مواجهة ويسجن نفسه في بَوتقةِ اليأس والإِحباط والتعاسة وتحطيم الذات والمشاعر السلبية.

    إن أخطر ما يواجه أي إنسان أن يقوم بهزيمة نفسه بنفسه من خلال تشبُّعه بتفكير سلبي متشائم، فلكل منا في هذه الحياة معركته الخاصة والمشاكل والتحديات وحتى الأعداء الذين يجب عليه أن ينتصر عليهم، وأقوى وأكبر سلاح بعد الإيمان بالله هو امتلاك روح إيجابية متفائلة بالنجاح والنصر ومليئة بالأمل المشرق.

    إننا يمكن أن نعرف إن كنا نمشي في طريق النجاح أم لا من خلال المشكلات التي نواجهها, لأن طريق النجاح دائمًا يكون صعودًا إلى الأعلى, فإذا وجد الإنسان أنه يسير في طريق ليس فيه مشكلات فهذا دليل على أن طريقه لا يؤدي إلى شيء.

    لقد أثبت الكثير من الدراسات الحديثة حقيقة مُهمة, وهي أن امتلاك التفاؤل أكثرُ أهمية في حياة الشخص من تعليمه وخبراته الخاصة وأمواله وكل نجاحاته السابقة التي حققها، وهي بكل تأكيد أهم من مظهره الخاص، والأمر الأكثر أهمية الذي أثبتته هذه الدراسات أن التفاؤل صفة يمكن اكتسابُها.

    يقول الشاعر:
    وإني لأرجو الله حتى كأنني أرى بجميل الظنّ ما الله صانعُ

    ففي غزوة الأحزاب حين أحدقت بالمسلمين الأخطار من كل جانب، كما قال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}(الأحزاب:10)، في تلك الظروف اعترضت حفر الخندق صخرةٌ شديدة عجز عنها المسلمون, وهنا يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم دروسًا في التفاؤل بالغد المشرق، ضرب الصخرة فانفلقت فقال: "الله أكبر، قصور الروم، ورب الكعبة، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: الله أكبر، أعطيت قصور فارس، ورب الكعبة". وأما المنافقون فقالوا: يعدنا محمد بكنوز قصور فارس والروم وأحدنا لا يأمن على خلائه.
    وبعد أعوام قليلة صدق ما وعد الله ورسوله وكذب المنافقون وفتحت قصور فارس والروم.
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    جريدة المصريون
                  

09-07-2015, 01:33 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الحذر من النار
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
    في الحديث: " مَثَلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذا الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتفحَّمن فيها، قال: ذلكم مَثَلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني تُقحمون فيها " (رواه مسلم).

    هلم عن النار:

    نار الله الموقدة، نار أُوقد عليها ألف سنة حتى احمرَّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودَّت، فهي سوداء مظلمة.
    هلم عن النار:
    نار حامية، "نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: " فإنها فُضِّلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها " (رواه مسلم).

    هلم عن النار:

    ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النار فتعوّذ منها، وأشاح بوجهه، ثم ذكر النار فتعوّذ منها، وأشاح بوجهه، ثم قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة " (رواه البخاري).

    هلم عن النار:

    نار أهون أهلها عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً.

    نار يؤتى بها يوم القيامة " لها سبعون ألف زمام وسبعون ألف ملك يجرونها " (رواه الترمذي).

    هلم عن النار:

    قال الحسن: أذكرك الله، إلا ما رحمت نفسك، فإنك قد حذرت ناراً لا تطفأ، يهوي فيها من صار إليها، ويتردد بين أطباقها قرين شيطان، ولزيق حجر، يتلهب في جهنم شعلها {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } (فاطر:36).

    هلم عن النار:

    { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى } (الليل:15،14)، نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وشرابها الصديد، ومقامعها حديد. نار لو أن حجراً قُذف به فيها لهوى سبعين خريفاً قبل أن يبلغ قعرها.
    تفـر مـن الهجـير وتـتـقـيـه *** فهلا عـن جهنم قد فررتا

    ولست تطيق أهونها عذاباً *** ولو كنت الحديد بها لذبتا

    هلم عن النار:

    " من حافظ على الصلوات الخمس، على وضوئها، ومواقيتها، وركوعها، وسجودها، يراها حقاً لله عليه، حُرم على النار " (رواه أحمد).
    " من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار " (رواه الترمذي).
    "من استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجره من النار " (رواه الترمذي).

    هلم عن النار:

    " حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله " (رواه أحمد).
    " ما من عبد مؤمن يخرج من عينيه دموع - وإن كان مثل رأس الذباب - من خشية الله، ثم تصيب شيئاً من حر وجهه، إلا حرمه الله على النار " (رواه ابن ماجة).
    " حرمت النار على عين غَضَّت عن محارم الله، أو عين فقئت في سبيل الله عز وجل" (رواه الدارمي).
    "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار " (رواه البخاري).
    قال عبد الواحد بن زيد: ( يا إخوتاه، ألا تبكون خوفاً من النار؟ ألا إنه من بكى خوفاً من النار أعاذه الله ).

    هلم عن النار:

    " ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى. ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فليقولن: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة " (رواه البخاري).

    هلم عن النار:

    نارٌ طعام أهلها الزقوم، وما أدراك ما الزقوم؟ {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } (الدخان:43-46)، {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ } (الصافات:64-68).

    هلم عن النار:

    عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة معها ابنتان تسأل، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال: " من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له ستراً من النار " (رواه البخاري).

    هلم عن النار:

    " حرم على النار كل هين، لين، سهل، قريب من الناس " (رواه أحمد).
    " ثلاث من كن فيه حرم على النار، وحرمت النار عليه: إيمان بالله، وحب الله، وأن يلقى في النار فيحرق أحب اليه من أن يرجع في الكفر " (رواه أحمد).

    هلم عن النار:

    عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: "أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، فما زال يقولها حتى لو كان في مقامي هذا لسمعه أهل السوق، حتى سقطت خميصة كانت عليه عند رجليه " (سنن الدارمي).
    قال ابن مهدي: ( كنت أرمق سفيان في الليلة بعد الليلة، ينهض مرعوباً ينادي: النار، النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ).

    هلم عن النار:

    قال وهب بن منبه: ( أما أهل النار الذين هم أهلها، فهم في النار لا يهدؤون، ولا ينامون، ولا يموتون، ويمشون على النار، ويجلسون على النار، ويشربون من صديد أهل النار، ويأكلون من زقوم النار، فُرشهم نار، وقُمصهم نار وقطران، وتغشى وجوههم النار، وجميع أهل النار في سلاسل بأيدي الخزنة أطرافها، يجذبونهم مقبلين ومدبرين، فيسيل صديدهم إلى حفر في النار فذلك شرابهم ).

    هلم عن النار:

    لن تنجو من النار يا عبد الله إلا بتوحيد الله عز في علاه {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } (المائدة:72). {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }(الإسراء:39).
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار " (رواه مسلم).
    {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }(الفرقان:66،65).
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    عبدالقيوم السحيباني
                  

09-07-2015, 01:36 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الخمر أم الخبائث
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه،، وبعد:

    فقد قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبَّد فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب كأسا من هذه الخمرة، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقني كأسا فسقته كأسا، قال: زيديني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر؛ فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يُخرج أحدهما صاحبه.

    فشرب الخمر في ديننا كبيرة من كبائر الذنوب وإثم من أعظم الآثام و بالإضافة إلى أنه كبيرة من كبائر الذنوب فإنه ينحط بصاحبه إلى أسفل دركات مساوئ الأخلاق.
    يقول الجاحظ :
    أكثر ما يجب على المتطلع إلى السمو تجنب السكر، لأن السكر من الشراب يثير النفس الشهوانية ويقويها ويحملها على التهتك، وارتكاب الفواحش والمجاهرة بها، وذلك أن الإنسان إنما يرتدع عن القبائح بالعقل والتمييز، فإذا سكر عدم ذلك الذي كان يردعه عن الفعل القبيح، فلا يبالي أن يرتكب كل ما كان يتجنب في صحوه، فأولى الأشياء لمن طلب العفة هجر الشراب بالجملة، ويتجنب مجالس المجاهرين بالشراب والسكر والخلاعة، ولا يظنن أنه إذا حضر تلك المجالس واقتصر على اليسير من الشراب لم يستضر به، فإن هذا غلط وذلك أن من يحضر مجالس الشراب ليس تنقاد له نفسه إلى القناعة بيسير الشراب، بل إن حضر مجالس الشرب وكان في غاية العفة تاركاً للشرب متمتعاً بالورع حملته شهوته على التشبه بأهل المجلس وتاقت نفسه إلى التهتك. ا. هـ.

    وانظر إلى هذا الصحابي الجليل العاقل الحازم حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه حين شرب الخمر حتى سكر – قبل أن تحرم الخمر – فقد قام إلى ناقتين لعلي بن أبي طالب فقطع أسنمتها وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما، وهذا في ذاته عدوان لا يحل له، وما كان له أن يفعل لولا أنه شرب حتى سكر، ثم إنه ارتكب أعظم من هذا حين جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم يلومه فنظر حمزة إليه وإلى عليّ وقال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سكران. وما كان لحمزة أن يتكلم بمثل هذا لو لم يسكر.
    وقد حرم الله سبحانه وتعالى الخمر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}.(المائدة).

    وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يؤمئذ الفضيخ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي:"ألا وإن الخمر قد حرمت"، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم قد قتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}.(المائدة).

    الترهيب من شرب الخمر في السنة:

    ورد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث التي ينهى فيها عن الخمر بل وصل الأمر إلى لعن من شربها. فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه". (رواه البخاري).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". (متفق عليه).


    وقال صلى الله عليه وسلم: "من زنى وشرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع القميص من رأسه". (أخرجه الحاكم على شرط مسلم).

    وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: "لا تشرب الخمر، فإنها مفتاح كل شر". (رواه ابن ماجه).

    العقلاء يجتنبون الخمر

    قالت عائشة رضي الله عنها: حرم أبوبكر رضي الله عنه الخمر على نفسه فلم يشربها في الجاهلية ولا في الإسلام، وذلك أنه مر برجل سكران يضع يده في العذرة – البراز – ويدنيها من فيه فإذا وجد ريحها صرف عنها فقال: إن هذا لا يدري ما يصنع فحرمها.

    وقال الأبشيهي رحمه الله:

    ممن ترك الخمر في الجاهلية عبدالله بن جدعان، وكان جوادا من سادات قريش وذلك أنه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي فضربه على عينه فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب فقال له عبدالله: ما بال عينك؟ فألح عليه فقال: أولست ضاربها بالأمس؟ فقال عبدالله: أو بلغ مني الشراب ما أبلغ معه هذا؟ لا أشربها بعد اليوم ثم دفع له عشرة آلاف درهم. وقال: الخمر عليّ حرام، لا أذوقها بعد اليوم أبداً.

    وممن حرمها في الجاهلية أيضا قيس بن عاصم وحدث له مرة أنه سكر فجعل يتناول القمر ويقول: والله لا أبرح حتى أنزله ثم يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع على وجهه فلما أصبح وأفاق قال: مالي هكذا؟ فأخبروه بالقصة، فقال: ولا أشربها أبداً، ومن هؤلاء أيضا العباس بن مرداس وقد قيل له: لم تركت الخمر وهي تزيد في سماحتك؟ فقال: أكره أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم.

    وقال الأبشيهي أيضاً:
    استلقى سكران على الطريق فجاء كلب فلحس شفتيه فقال: خدمك بنوك ولا عدموك، فبال على وجهه فقال: وماء حار أيضا بارك الله فيك.

    وهكذا أيها الحبيب فإن الخمر تذهب العقل وتجعل مدمنها في صفوف الفاسقين والسفهاء وتزري بهم وتحط من شأنهم، ولو رأى هذا السكران نفسه وأفعاله حين يسكر لدفعه احترامه لنفسه إلى نبذها والإقلاع عنها، فكيف وشربها كبيرة من الكبائر.
    نسأل الله تعالى أن يهدينا والمسلمين سواء السبيل، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    إسلام ويب
                  

09-07-2015, 01:39 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    لماذا تذهب إلى الصلوات متأخرا؟

    الحمد للّه وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
    فقد اعتاد كثير من المصلين التأخر عند حضورهم إلى المساجد، فإذا نظرت إلى أعداد الحاضرين عند الإقامة لم تجد في كثير من المساجد سوى عدد قليل، ثم يتوافد المصلون أثناء الصلاة، وعند الانصراف منها تراهم عدة صفوف مسبوقين رغم انتظار المؤذن بين الأذان و الإقامة وقتا كافيا لتجمع الناس.

    ومما لا شك فيه أن هذا التأخر يفوِّت عليهم خيراً كثيراً ،وسنبين في هذ المقال بعض الخيرات التي تفوت على هؤلاء المتأخرين، ومنها:

    أولاً: ترك السكينة و الوقار

    فقد روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال: " إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا" (متفق عليه). فالجري الذي يفعله المتأخرون يفوت السكينة والوقار، ويدخلون الصلاة على حالة من التعب وشدة تردد النفس بحيث يؤثر ذلك في خشوعهم.

    ثانياً: فوات استغفار الملائكة

    فوات استغفار الملائكة وجريان أجر الصلاة على من ينتظر الصلاة في المسجد قبل الإقامة، وكونه في حكم المصلي، فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته ، وصلاته في سوقه ، خمسا وعشرين درجة ، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن ، وأتى المسجد ، لا يريد إلا الصلاة ، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة ، وحط عنه خطيئة ، حتى يدخل المسجد ، وإذا دخل المسجد ، كان في صلاة ما كانت تحبسه ، وتصلي عليه الملائكة ، ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، ما لم يحدث فيه " (رواه البخاري)، وفي رواية: " لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه ".

    ثالثاً: فوات فضل وأجر الصف الأول غالباً

    فقد قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: " لو يعلم الناس ما في النداء و الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير - أي التبكير - لاستبقوا إليه ". (متفق عليه).

    و قال صلى اللَّه عليه وسلم: " خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها" (رواه مسلم). يضاف إلى ذلك فوات إدراك ميمنة الصف، فعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "إن اللّه و ملائكته يصلون على ميامن الصفوف". (رواه أبو داود وابن ماجه).

    رابعاً: تضييع السنن الراتبة القبلية

    كسنة الفجر وسنة الظهر، وقد روى مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ". وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يصلي قبل الظهر ركعتين، وأحياناً أربعا ، كما رواه الترمذي عن علي وعائشة، وورد عن أم حبيبة رضي الله عنها مرفوعاً: "من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرمه الّله على النار ".( رواه الترمذي).

    خامساً: تضييع وقت من أوقات إجابة الدعاء

    وهو ما بين الأذان والإقامة، فقد روى أبو داود والترمذي وحسنه، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة ".

    أخيرا أخي الحبيب: إن التبكير إلى الصلاة والاهتمام بها دليل على أن صاحبها ممن تعلق قلبه بالمساجد وحينئذ يكون ممن يظلهم اللّه يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله كما ورد في الحديث المتفق عليه، أما التأخر فإنه يفوت الاشتغال بالذكر والدعاء وقراءة ما تيسر من القرآن، فيصلي هذا المتأخر وقلبه منشغل بهمومه وأحزانه، فلا يقبل على صلاته ولا يحضر فيها قلبه.

    وقد يزداد التأخر بحيث تضيع على العبد صلاة الجماعة، وقد يتلاعب به الشيطان فيهمل حتى يخرج وقت الصلاة فيكون ممن قال الله فيهم" { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) } (الماعون) أو ممن قال فيهم النبي صلى اللّه عليه و سلم: " لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم اللّه ". (رواه مسلم).

    نسأل الله تعال أن يوفقنا والمسلمين لكل خير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

    إسلام ويب
                  

09-07-2015, 01:41 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    ركائز لتعزيز أخلاقنا
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
    أحبتنا الكرام: إن حياة الأمة الإسلامية مشابهة لحياة كل الأمم من حيث أنها تكمن في ديمومة تمسكها بمثلها العليا، وأخلاقها المثلى التي ترسم لها غاياتها في الحياة، فتحفزها للثبات على المبادئ التي عاشت وضحَّت من أجلها الأجيال المتلاحقة، وعلى البحث عما يعززها ويقويها، أو الثورة على كل ما يخالف الدين والفطر السوية السليمة، وصدق القائل:
    وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

    وكل من يحاول أن يخالف ذلك فينكس أخلاقها، ويأتي بزبالة الأمم والمجتمعات قاصداً غرسها بين أبناء الأمة؛ فأولئك هم الأعداء، وهذا شأنهم وسبيلهم؛ ولذا كان لزاماً على الأمة أفراداً، ومؤسسات، وحكومات أن تقف سداً منيعاً ضد كل من يريد خدش أخلاقها وقيمها، أو مسها بسوء كائنا ًمن كان.

    وحيث أن الحرب ضد ديننا وإيماننا وأخلاقنا حرب شعواء، سخّر فيها الأعداء كل إمكاناتهم وقدراتهم حتى نخرج من عز الشرف إلى ذل الشهوات، ومن دائرة الفضيلة إلى مستنقع الرذيلة؛ كان لا بد من التنبه لذلك الأمر، والتمسك الشديد بالأخلاق الإسلامية السامية.

    وإذا كان هناك من وضع أسسا نظرية للأخلاق، نابعة من عقله البشري المحدود، فقد وضع الله لنا القيم الثابتة، والأخلاق الراسخة من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وحثنا الإسلام على الكثير والكثير من مكارم الأخلاق التي منها على سبيل المثال لا الحصر: الصدق، والأمانة، والحلم، والأناة، والشجاعة، والمروءة، والمودة، والصبر، والإحسان، والتروي، والاعتدال، والكرم، والإيثار، والرفق، والعدل، والحياء، والشكر، وحفظ اللسان، والعفة، والوفاء، والشورى، والتواضع، والعزة، والستر، والعفو، والتعاون، والرحمة، والبر، والقناعة، والرضا؛ فكان لابد لهذه الأخلاق من ناصر ينصرها، وقوة تدعمها، وعزيمة تفعلها، وركائز تعززها؛ حتى تصبح ممارسة طبيعية تحيا بها الأمة والمجتمع، وإن أهم تلك الركائز المطلوبة:

    الركيزة الأولى : الإيمان بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم:
    بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي؛ فإنه ما من خير ينتفع به الناس، ويرغبون به، إلا وقد دلهم شرع الله عليه، وأمرهم به، وما من شر يكرهه الناس ويسخطونه؛ إلا وقد حذرهم الله منه، رأفة منه سبحانه وتعالى ورحمة وقد جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم. " ( رواه مسلم).

    والأخلاق الفاضلة من صميم أوامر الله ورسوله، حث الله ورسوله على التزامها، ومثال ذلك ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق".(رواه أحمد). والنصوص الواردة في الترغيب بها، وترك ما يضادها ويخالفها، كثيرة لا تحصى، ومن ذلك نهيه سبحانه عن الوقوع في الكبائر كشرب الخمر، والزنا، وأكل المال الحرام، وقتل النفس المحرمة وغيره.

    وقد رغَّب النبي عليه الصلاة والسلام في التزام الأخلاق الفاضلة، وذكر أنها سبب لدخول الجنة، والقرب منه صلى الله عليه وسلم فيها، ولذلك ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال:"تقوى الله، وحسن الخلق".(البخاري في الأدب المفرد).

    وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:"إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين، والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون".( الترمذي وصححه الألباني).

    الركيزة الثانية : تقوية الوازع الديني، والتخويف من سوء الأخلاق:
    الوازع الديني يُلزِم الشخص بمعرفة حدود الحلال والحرام، وأن يكون لديه من الخوف والجزع من الله سبحانه وتعالى ما يردعه من الوقوع في المخالفة والمحظور، ويبعده عن الانزلاق في مهاوي الفتن والشهوات، ويجعل لديه دافعاً كي يتعلم مسؤولياته، ونستطيع أن نقول حقيقة: إن الوازع الديني له دور كبير جداً في هذا الجانب، فإن الصلاة وهي أجل العبادات تؤدي المحافظة عليها إلى ابتعاد العبد عن الفواحش والنفرة من المعاصي:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)(العنكبوت).

    الركيزة الثالثة: الخطاب الديني، وأثره في تعزيز الأخلاق:
    ولعل من أبرز أنواع الخطاب الديني: خطبة الجمعة، والدروس المنهجية سواء في المدارس، أو في المساجد، والمحاضرات العامة على تنوع موضوعاتها، والمواعظ ، والمناسبات العامة، والاحتفالات، والمؤتمرات، والبرامج الإذاعية والتلفازية وغيرها.
    ويقوم الوعظ والإرشاد الديني بدور محوري في محاربة كل أنواع الانحلال الخلقي في المجتمع الإسلامي، حيث يقع على عاتق الدعاة في كل حين عبء التغيير للمنكر مع الأمر بالمعروف كأصل من أصول الإسلام التي أمر بها يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(لقمان:23)، وفي هذا المعنى نذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه".(رواه مسلم).

    كما حذّر الإسلام من أن عدم تغيير المنكرات يعم بسببه العذاب كل المجتمع إن لم يحاولوا تغييره، ويمثل الانحلال الخلقي شقين كبيرين يتمثل أحدهما: في ترك المأمورات كالواجبات والمستحبات من الفضائل الأخلاقية، وأما الأخر فيكون في فعل المنهيات كالوقوع في المحرمات، وقبائح الأخلاق.

    الركيزة الرابعة: وسائل الإعلام ودورها في تعزيز الأخلاق:
    أينما وجد إعلام هادف، وجد مجتمع ذو فضيلة وأخلاق سامية، وعلى العكس تماماً فأي مجتمع له إعلام ساقط في محتواه ورسالته التي يقدمها تجد مجتمعاً يغلب عليه الانحلال الخلقي، والبعد الديني ، والتأثر بالحضارة الزائفة، ولما كان الإعلام بهذا الخطر الشديد، استغله أعداء الأمة الإسلامية في جعله سلاحاً يستخدمه القاصي والداني، بل جعلوه حاجة عصرية لا يستغني عنها الإنسان، والذي يشاهده الجميع من خلال هذه الوسائل لا يجد إلا إعلاماً بعيداً عن كل خلق وفضيلة، لا يربي إلا على إثارة الشهوات، وترك الفضائل، وتعليم الجريمة إلا ما رحم ربك والله المستعان.

    الركيزة الخامسة: تجفيف منابع الفساد وما يدعو إلى الانحلال والرذيلة:
    ولما كان الفساد والمنكر يظهر بصورة تشتهيها النفوس الضعيفة، وتستسيغها القلوب الفارغة؛ فتنخدع بها، وذلك مصداقاً لما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".(رواه مسلم).

    وأنجع علاج وأنفعه هو ما كان للمنكر والباطل صاداً ورادعاً، ولأهله داعياً وناصحاً، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

    الركيزة السادسة: التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق:
    النصيحة هي من أهم ركائز هذا الدين، فقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله، بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة". لما لها من أثر في تقويم السلوك، وتهذيب الأخلاق، وتسوية المعوجين الذين يحيدون عن الحق والصراط المستقيم، قال المناوي رحمه الله: "بالنصيحة يحصل التحابب والائتلاف، وبضدها يكون التباغض والاختلاف" فيض القدير (6/268). وقال رحمه الله: "وأقصى موجبات التحابب أن يرى الإنسان لأخيه ما يراه لنفسه" ثم نقل قول العلماء: "ما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة".

    ولعل الجامع الرئيس لهذه الركائز كلها هو عملية التربية، فمن خلالها نستطيع غرس كل الركائز السابقة وغيرها.
    هذا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    إمام المسجد
                  

09-07-2015, 06:10 PM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    تذكر ساعة الاحتضار
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
    فإن من أعظم أسباب شفاء القلوب وصلاحها الإكثار من ذكر الموت واستحضار ساعة الاحتضار وخروج الروح، ولهذا كان التوجيه النبوي الكريم: " أكثروا ذكر هاذم اللذات ، يعني الموت".
    فيا أيها الحبيب هل أكثرت من ذكر هذه الساعة وتفكرت في حالك عندها؟.
    وهل أعددت للموت عدته؟
    ثم هل تفكرت فيما بعد الموت من وحشة القبور وظلمتها وضيقها وسؤال الملكين فيها؟ وهل تأملت في أهوال الحشر والنشور؟
    أعد على فكرك أسلاف الأمم *** وقف على ما في القبور من رمم
    ونادهم أين القوي منكم *** والقاهر أم أين الضعيف المهتضم
    تفاضلت أوصافهم فوق الثرى *** ثم تساوت تحته كل قدم

    لكن التفاوت هناك على حسب الأعمال، نسأل الله تعالى الستر والعافية.

    لحظات المحتضرين:
    إن لحظات الاحتضار في حقيقتها هي اختصار لحياة الإنسان كلها؛ فمن الثابت المشاهد أن العبد يموت على ما عاش عليه، لهذا اختلفت جدا أحوال المحتضرين ، فلو نظرت إلى أحوال الصحابة عند موتهم لوجدت ثباتا من عند الله تعالى وفرحا بقدوم الموت لأنه يقربهم من لقاء الله تعالى.

    هذا بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة وبكت زوجته وقالت: واحزاناه، قال لها: بل واطرباه، غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه.

    وهذا إمام العلماء ومقامهم معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول وهو يعالج السكرات: مرحبا بالموت حبيب جاء على فاقة.

    وهذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، عند موته يقول: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدّ النظر. فقالوا له: إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين. قال: إني أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض رحمه الله وسمعوا تالياً يتلو: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }(القصص:83).

    وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يحتضر وهو يقرأ قول الله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }(القمر:55،54).

    وعلى الجانب الآخر تجد من يقال له: قل لا إله إلا الله، فيغني، أو يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب، أو يقول: هو كافر بلا إله إلا الله، أو يموت وهو سكران أو يسب دين الله تعالى، ولقد رأينا بأعيننا من يموت على خشبة المسرح وهو يعزف ويغني، نسأل الله أن يختم لنا بخير.

    كيف نستعد للموت؟
    أخي الحبيب إذا عرفت أن لحظة الاحتضار هي اختصار لحياتك كلها، وأنها لحظة امتحان، وأن الموت حتم لازم، ليس منه بد ولا منه مفر، فينبغي أن تكون مستعدا لتلك اللحظات متزودا بالتقوى ليوم المعاد، فكيف نستعد للموت؟!
    أولا: اجتناب المنهيات
    فاجتنب أخي الكريم ما نهاك الله عنه، وجاهد نفسك بالابتعاد عن الشهوات والشبهات واعلم أن الله جل وعلا يغار على محارمه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه ".
    وقد توعد الله جل وعلا من تعدى حدوده وانتهك حرماته بالفتنة والعذاب. فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(النور:63).

    ثانيا: أداء الفرائض والواجبات
    ولا تتجلى حقيقة إيمان العبد إلا بأداء ما افترضه الله عليه، ومن ذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج لمن استطاع إليه سبيلاً، فهذه هي ثوابت الإسلام وأركانه. فعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".
    فمن حافظ على هذه الفرائض وأداها على الوجه الذي يليق كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جمع خصال الخير والفضل، وكان له ذلك أكبر عون على سكرات الموت ووحشة القبر وأثابه الله على ذلك أجراً عظيماً.
    فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته، دخلت الجنة، قال: " تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان "، قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا فلمّا ولّى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ".

    ثالثا: محاسبة النفس، والاعتبار بمن مات
    أخي الكريم: ومما يعلي الهمة، ويدفع النفس إلى الاستعداد للموت، محاسبة النفس والاعتبار بمن قد مضى ومات.
    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ).
    ولذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه كل وقت وحين على أداء الفرائض، واجتناب النواهي وأين قضى يومه، ومن أين اكتسب ماله، وفيم أنفقه، وماذا بطش بيده وأين سارت رجله، وماذا رأت عيناه وماذا سمعت أذنه؟
    فمتى كان العبد شديد المحاسبة لنفسه، مداوماً على التوبة والاستغفار مما يجده من التقصير والتفريط في جنب الله، كان أقرب إلى الثبات عند الموت، وأبعد عن الفتنة وشدة البلاء.

    وفي نفس الوقت يتعظ بمن قد مات ووضع في قبره ويزور القبور فيتذكر بها الآخرة، قال سفيان: ( من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار ).
    وقال حاتم الأصم: ( من مرّ بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدع لهم فقد خان نفسه وخانهم ). ولذلك فقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور لما لها من أثر بليغ على النفوس. فعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ".

    وروي عن داود الطائي أنه مرّ على امرأة تبكي على قبر وهي تقول:
    عدمت الحياة ولا نلتها *** إذا كنت في القبر قد لحدوكا
    فكيف أذوق طعم الكرى *** وأنت بيمناك قد وسدوكا
    ثم قالت: يا ابناه ليت شعري بأي خديك بدأ الدود؟ فصعق داود مكانه وخرّ مغشياً عليه.
    فأكثر أخي الكريم، من ذكر هادم اللذات، واعلم أنه آت لا محالة، واستعد للحساب وامتحان القبر.

    رابعا: المداومة على النوافل
    ومن ذلك الحرص على النوافل والأذكار، وأعمال الخير وبذل المعروف، والتخلق بالخلق الحسن مع الناس، فإنه ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من الخلق الحسن.
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل معروف صدقة ".
    وقال صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا الله ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة ".

    وعن عبدالرحمن بن عبدالله بن سابط قال: لما حضر أبا بكر الصديق الموت دعا عمر فقال له: ( اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضته، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً ).

    نسأل الله أن يقيل العثرات ويغفر الزلات ويتجاوز عن الخطيئات ويحسن الخواتيم وأن يجعل آخر كلامنا في الدنيا لا إله إلا الله.
    اسلام ويب
                  

09-08-2015, 00:46 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    وعظ القلوب بكلام علام الغيوب
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
    لا بد أن تكون الموعظة مصاحبة للقلب الذي يتقلب بين حين وآخر، ولا بد للمؤمن أن يوطن نفسه على حضور مجالس الوعظ ففي ذلك ثبات له بإذن الله وإغاظة للشيطان الذي هو قريب من الواحد بعيد عن الجماعة، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

    "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمن على نفسه فكيف بنا نحن خاصة مع تلاطم أمواج الفتن في هذا الزمان، وإن القرآن الكريم من أكبر المواعظ الذي توعظ بها القلوب كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (57) (يونس).

    ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه ليعظهم ويذكّرهم ويرغّبهم ويرهّبهم بهذا القرآن العظيم، قال أبو هريرة رضي الله عنه: قلنا يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك رقّت قلوبنا وزهدنا في الدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك وآنسنا أهلنا وأولادنا أنكرنا أنفسنا ولهونا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلكم لزارتكم الملائكة في بيوتكم ".

    والقرآن يرقق القلوب بل يرقق الحجر، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ }(البقرة:74). وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ }(الحشر:21).
    يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن وفضله وجلاله، وأنه لو خوطب به صم الجبال لتصدّعت من خشية الله. فهذه حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال الله ربّها وعظمته وخشيته.
    فيا عجباً من مضغة لحم كانت أقسى من هذه الجبال تخاف من سطوة الجبار وبطشه، فلا ترعوي ولا ترتدع، وتسمع آيات الله تتلى عليها فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب، فليس بمستنكر على الله عز وجل، ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها إذا لم تلن بكلامه وزواجره ومواعظه، فمن لم يلن قلبه لله في هذه الدار، ولم ينب إليه ولم يذبه بحبه والبكاء من خشيته، فليتمتع قليلاً، فإن أمامه الملين الأعظم، وسيردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم.

    فيا أيها الغافل عن تدبّر القرآن! إلى متى هذه الغفلة؟ قل لي وتكلم، حنانيك بادر بصالح الأعمال قبل أن تندم.
    نشـكـو إلى الله القلـوب التي قـسـت *** وران عليها كسب تلك المآثم

    من خشية المولى هوى الجبل الذي *** بالطور ولانت قسوة الأحجار
    أولـم يـئـن وقــت الخــشـــوع فــلا *** تغـرن الحــياة ســوى مغرار

    ورقة القلب تنشأ عن الذكر والقرآن لأن ذلك يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقته ويذهب بالغفلة عنه قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }(الأنفال:2)، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }(الحج:35،34)، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }(الحديد:16)، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }(الزمر:23).

    بذكر الله ترتاح القلوب *** ودنيانا بذكراه تطيب

    ولكن لم يتعظ بهذه الموعظة إلا القليل من الناس الذين رقت قلوبهم للقرآن واستجابوا لنداء الرحمن كما أخبر تعالى بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }(ق:37).

    قال خبّاب بن الأرت رحمه الله لرجل: تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه.
    وقال عثمان بن عفان: من أحب القرآن أحب الله ورسوله، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره، ولا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم، كما قال بعض السلف: ( إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله فانظر إلى قدر القرآن عندك ).
    وكان بعضهم يكثر من تلاوة القرآن ثم اشتغل عنه بغيره فرأى في المنام قائلاً يقول له:
    إن كنت تزعم حبي *** فلم جفوت كتابي؟
    أما تأملت ما فيه من عبر *** وما فيه من لذيذ خطابي

    ولم يكونوا يقرؤونه ليقال إنهم يقرؤونه ولا يهذّونه هذّ الشعر كما الناس يفعلون، وإنما كانوا يتدبرون معانيه ويتأثرون بألفاظه فيحركون به قلوبهم ويرسلون به مدامعهم يتأملون عبره ويعيشون أنداءه ويسرحون طرف أفئدتهم في خمائله ويطلقون أكف الحب في كنوزه.

    وليس الذي يجري في العين ماؤها *** ولكنها روح تسيل فتقطُرُ

    ويستحب البكاء عند تلاوة القرآن، وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين، قال الله تعالى في وصف الخاشعين من عباده عند تلاوة كتابه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }(الزمر:23).

    سمعـتك يا قــرآن والليل غافـل *** سريت تهز القلب سبحان من أسرى
    فتحنا بك الدنيا فأشرق صبحها *** وطفنا ربــوع الكـــون نملؤها أجـرا

    وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلون كتاب الله ويتأثرون يآياته فتلين جلودهم، وتدمع عيونهم وتخشع قلوبهم، فيرفعون أكفهم إلى ربهم ضارعين يسألونه قبول الأعمال ويرجونه غفران الزلات، ويتشوقون الى ما عنده من النعيم المقيم.

    روي أن أبا بكر رضي الله عنه ابتنى مسجداً بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان رجلاً بكّاءً لا يملك دموعه إذا قرأ.. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالناس فبكى في قراءته حتى انقطعت قراءته وسمع نحيبه من وراء ثلاثة صفوف.
    وكان عمر أيضاً إذا اجتمع الصحابة قال: يا أبا موسى ذكّرنا ربنا، فيندفع أبو موسى يقرأ بصوته الجميل وهم يبكون.
    وإني ليبكيني سماع كلامه *** فكيف بعيني لو رأت شخصه بدا
    تلا ذكر مولاه فحنّ حنينه *** وشــوق قلــوب العـارفـين تجـددا

    وللأسف لما فسدت أمزجة كثير من المتأخرين عن سماع كلام رب العالمين، ظهرت التربية معوجة والفطرة منكوسة، والأفهام سقيمة.

    ولا صلاح للأفراد ولا للمجتمعات والدول إلا بالعودة إلى كتاب الله تعالى الذي فيه الهدى والصلاح والعز والشرف: { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10)} (الأنبياء).

    نسأل الله الكريم أن يجعلنا جميعا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    اسلام ويب - موقع كلمات
                  

09-08-2015, 00:49 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    الرفق خلق الإسلام
    الحمد لله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره، والصلاة والسلام على رسول الله البر الرفيق بأمته، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته، وبعد:

    عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
    "من أعطي حظه من الرفق، فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق، فقد حرم حظه من الخير".

    لا تكاد ساحة من ساحات الإسلام إلا وللرفق فيها النصيب الأكبر والحظ الأوفر، سواء على مستوى التشريع الفقهي أو في جانب العلاقات الاجتماعية أو في المعاملة حتى مع الخصوم والأعداء أو في غيرها من المواطن، هذا فضلا عن أنه تعالى عرف نفسه لعباده بأنه الرفيق الذي يحب الرفق، وكان رسوله -صلى الله عليه وسلم- نبراسا في هذا الشأن ما لم تنتهك حرمة من حرمات الله.

    كل هذا الارتباط الوثيق بين الإسلام والرفق جعل منه بحق دين الرحمة والسماحة مهما تعسف المغرضون في وصمه بالعنف والإرهاب.

    إن الرفق ضد العنف وهو لين الجانب واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها، قال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ، إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } (آل عمران: 159) فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء ...وهكذا كان قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كانت حياته مع الناس.

    وقال عز وجل: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (الشعراء:21) (فهو اللين والتواضع والرفق في صورة حسية مجسمة، صورة خفض الجناح كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط وكذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع المؤمنين طوال حياته).

    وقال أيضا: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً }(الفرقان:63) الهون: مصدر الهين وهو من السكينة والوقار، أي: يمشون حلماء متواضعين، وقيل لا يتكبرون على الناس.

    وقوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: " من أعطي حظه من الرفق " أي نصيبه منه، " فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير" إذ به تنال المطالب الأخروية والدنيوية وبفوته يفوتان،

    وقال في اللمعات:
    يعني أن نصيب الرجل من الخير على قدر نصيبه من الرفق، وحرمانه منه على قدر حرمانه منه، ولهذا قال نسطور لما بعث صاحبيه ليدعوا الملك إلى دين عيسى وأمرهما بالرفق فخالفا وأغلظا عليه فحبسهما وآذاهما فقال لهما نسطور: مثلكما كالمرأة التي لم تلد قط فولدت بعد ما كبرت فأحبت أن تعجل شبابه لتنتفع به فحملت على معدته ما لا يطيق فقتلته .

    والنصوص النبوية عديدة ومتنوعة في تأكيد هذا المعنى، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله ". ‌وفيه فضل الرفق وشرفه، ومن ثم قيل: الرفق في الأمور كالمسك في العطور.

    وقال -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله ". أي لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل والدفع بالأخف وقوله ( في الأمر كله ) في أمر الدين وأمر الدنيا، حتى في معاملة المرء نفسه، ويتأكد ذلك في معاشرة من لا بد للإنسان من معاشرته كزوجته وخادمه وولده، فالرفق محبوب مطلوب مرغوب، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف مثله من الشر.

    وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين على العنف ".
    وقال: " إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف ". فقوله: ( إن تعالى اللّه رفيق ) أي لطيف بعباده يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، فيكلفهم فوق طاقتهم، بل يسامحهم ويلطف بهم ( يحب الرفق ) لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، أي يحب أن يرفق بعضكم ببعض ( ويعطي عليه ) في الدنيا من الثناء الجميل ونيل المطالب وتسهيل المقاصد وفي العقبى من الثواب الجزيل ( مالا يعطي على العنف ) وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله . وقد نبه به على وطاءة الأخلاق وحسن المعاملة وكمال المجاملة ووصف اللّه سبحانه وتعالى بالرفق إرشاداً وحثاً لنا على تحري الرفق في كل أمر.

    وقال -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-: " عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ". لأن به تسهل الأمور، وبه يتصل بعضها ببعض، وبه يجتمع ما تشتت ويأتلف ما تنافر وتبدد ويرجع إلى المأوى ما شذ وهو مؤلف للجماعات جامع للطاعات، ومنه أخذ أنه ينبغي للعالم إذا رأى من يخل بواجب أو يفعل محرماً أن يترفق في إرشاده ويتلطف به .وقال -صلى الله عليه وسلم:"ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم ".
    وقال: " إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق ". وذلك بأن يرفق بعضهم ببعض،والرفق لين الجانب واللطف والأخذ بالأسهل وحسن الصنيع.

    قال الغزالي: الرفق محمود وضده العنف والحدة والعنف ينتجه الغضب والفظاظة، والرفق واللين ينتجهما حسن الخلق والسلامة، والرفق ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال ولذلك أثنى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على الرفق وبالغ فيه .
    وقال ابن عمر: العلم زين والتقوى كرم والصبر خير مركب، وزين الإيمان العلم وزين العلم الرفق وخير القول ما صدقه الفعل .
    وعن حبيب بن حجر القيسي قال: كان يقال ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم .

    وعن جابر -رضي الله عنه- قال: الرفق رأس الحكمة .

    وعن ابن عباس قال: لو كان الرفق رجلاَ كان اسمه ميموناَ، ولو كان الخرق رجلاَ كان اسمه مشؤوماَ .

    وقال جرير:الرفق في المعيشة خير من كثير التجارة .

    وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية، فقال له والله لأقتلنك فقال الرجل يا أمير المؤمنين تأن على فإن الرفق نصف العفو، قال: فكيف وقد حلفت لأقتلنك؟ قال: يا أمير المؤمنين لان تلقى الله حانثا، خير لك من أن تلقاه قاتلا، فخلى سبيله.

    وعن نصر بن علي قال: دخلت على المتوكل فإذا هو يمدح الرفق فأكثر، فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعي:

    ولم أرى مثل الرفق في لينه أخـرج العذراء من خدرهـا

    من يستعن بالرفق في أمـره يستخرج الحية من جحرها


    فقال يا غلام الدواة والقرطاس فكتبهما.

    وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
    اسلام ويب ( د. خالد سعد النجار )
                  

09-08-2015, 00:51 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    مفسدات القلب
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
    فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ". (رواه البخاري وسلم).
    وإذا كان ربنا تبارك وتعالى قد علق نجاة العبد يوم القيامة على سلامة القلب كما قال: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} (الشعراء).

    فحري بالعبد أن يجتنب كل ما من شأنه أن يفسد عليه قلبه، ولهذا ننقل لكم من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما يبين أعظم وأهم أسباب فساد القلب.

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما مفسدات القلب الخمسة فهي التي أشار إليها من كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام. فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب.

    المفسد الأول: كثرة المخالطة:

    فأما ما تؤثره كثرة الخلطة: فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما، وضعفا، وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم. فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟
    هذا، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية. وهل آفة الناس إلا الناس؟

    وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا، وقضاء وطر بعضهم من بعض، تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة، ويعض المخلط عليها يديه ندما، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي }(الفرقان:27-29).

    وقال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }(الزخرف:67)، وقال خليله إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ }(العنكبوت:25)، وهذا شأن كل مشتركين في غرض يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض، أعقب ندامة وحزناً وألماً وانقلبت تلك المودة بغضاً ولعنة، وذماً من بعضهم لبعض.
    والضابط النافع في أمر الخلطة: أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات.

    فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم: فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لابد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر. ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له، وتعظيم وثناء عليه منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين، وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له، ومقت، وذم منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين. فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة، وأحمد مآلا.

    وان دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه.

    المفسد الثاني من مفسدات القلب: ركوبه بحر التمني:

    وهو بحر لا ساحل له. وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، كما قيل: إن المنى رأس أموال المفاليس.
    فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة، تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية.


    وكل بحسب حاله: من متمن للقدرة والسلطان، وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان، أو للأموال والأثمان، أو للنسوان والمردان، فيمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه وقد فاز بوصولها والتذ بالظفر بها، فبينا هو على هذا الحال، إذ استيقظ فإذا يده والحصير!!.

    وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويدنيه من جواره. فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خداع وغرور.
    وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم متمني الخير، وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله.

    المفسد الثالث من مفسدات القلب: التعلق بغير الله تبارك وتعالى:

    وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق، فليس عليه أضر من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به. وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه. فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمَّله ممن تعلق به وصل. قال الله تعالى:

    {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً }(مريم:82،81) وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ }(يس:75،74).

    فأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله. فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات. ومثل المتعلق بغير الله: كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت، أوهن البيوت.
    وبالجملة: فأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها: التعلق بغير الله. ولصاحبه الذم والخذلان، كما قال تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }(الإسراء:22) مذموما لا حامد لك، مخذولا لا ناصر لك. إذ قد يكون بعض الناس مقهوراً محموداً كالذي قهر بباطل، وقد يكون مذموماً منصوراً كالذي قهر وتسلط بباطل، وقد يكون محموداً منصوراً كالذي تمكن وملك بحق. والمشرك المتعلق بغير الله قسمه أردأ الأقسام الأربعة، لا محمود ولا منصور.

    المفسد الرابع من مفسدات القلب: الطعام:

    والمفسد له من ذلك نوعان:
    أحدهما: ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات. وهي نوعان:

    محرمات لحق الله: كالميتة والدم، ولحم الخنزير، وذي الناب من السباع والمخلب من الطير.

    ومحرمات لحق العباد: كالمسروق والمغصوب والمنهوب، وما أخذ بغير رضا صاحبه، إما قهرا وإما حياء وتذمما.
    والثاني: ما يفسده بقدره وتعدي حده، كالإسراف في الحلال، والشبع المفرط، فإنه يثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها، والتأذي بثقلها، وقوى عليه مواد الشهوة، وطرق مجاري الشيطان ووسعها، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم. فالصوم يضيق مجاريه ويسد طرقه، والشبع يطرقها ويوسعها.

    ومن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر كثيرا. وفي الحديث المشهور: " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه. فإن كان لابد فاعلا فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه " (رواه الترمذي وأحمد والحاكم وصححه ا لألبا ني).

    المفسد الخامس: كثرة النوم:

    فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل. ومنه المكروه جدا، ومنه الضار غير النافع للبدن. وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه. ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه. وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، ولاسيما نوم العصر. والنوم أول النهار إلا لسهران.

    ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس؟ فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة. ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه علي حكم تلك الحصة. فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر.

    بالجملة فأعدل النوم وأنفعه: نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثماني ساعات. وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
    ومن النوم الذي لا ينفع أيضا: النوم أول الليل، عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهه. فهو مكروه شرعا وطبعا.

    نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا وأن يجنبنا أسباب الردى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    اسلام ويب
                  

09-08-2015, 00:54 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    يا أهلاه صلوا صلوا
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
    في الحديث:
    عن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: "يا أهلاه، صلوا صلوا " والخصاصة: الفقر والحاجة إلى الشيء.

    قال ابن مفلح: ( الظاهر أنه مرسل جيد الإسناد، ولهذا المعنى شاهد في الصحيحين في الكسوف)،(وقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ).
    ( ويدل على نفس المعنى أنه كان إذا أهمه أمر فزع إلى الصلاة، ولما قال رجلٌ من خُزاعةَ : لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فاستَرَحْتُ، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال : سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يقولُ : "أَقِمِ الصلاةَ يا بلالُ ! أَرِحْنا بها").

    قال الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين } (البقرة:45).
    وقال جلّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }(البقرة:153).
    أمر الله تعالى عباده أن يستعينوا بالصلاة على كل أمر من أمور دنياهم وآخرتهم، ولم يخص بالاستعانة بها شيئاً دون شيء.
    فقال: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ }وإنما بدأ بالصبر قبلها لأن الإيمان، وجميع الفرائض والنوافل لا تتم إلا بالصبر.
    ثم قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } وهم المنكسرة قلوبهم إجلالاً لله، ورهبةً منه، فشهد لمن خفت عليه، أن يقيمها له، أنه من الخاشعين.
    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى. أي إذا اشتد عليه أمر، أو نزل به هم، أو أصابه غم، أو وقع به كرب، قام إلى الصلاة لأن الصلاة مُعينة على دفع جميع النوائب، بإعانة الخالق جل وعلا، الذي قُصد بها الإقبال عليه، والتقرب إليه، فمن أقبل على مولاه حاطه وكفاه، لأنه أعرض عن كل ما سواه، وقصد الرب جل في علاه، والله تعالى لا يخيب عبداً رجاه.
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة، ثم قرأ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ }طه:132]. يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال الله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3،2].

    وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }[الذاريات:56-58].

    وفي الحديث القدسي يقول الله سبحانه: (يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ).

    والصلاة سبب في طرد الهلع عن صاحبها، فلا يكون هلوعاً، شحيحاً، بخيلاً، ضجوراً، جزوعاً، ضيق القلب، شديد الحرص، قليل الصبر {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ { (المعارج:19-23).

    وما زال مفزع المؤمنين، عند كل مهم من أمر الدنيا والآخرة، إلى مناجاة ربهم في الصلاة، آدم فمن دونه من الأنبياء.
    قال ثابت: ( وكانت الأنبياء صلوات الله عليهم إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ).
    كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عماد الدين، فكيف لا يفزع المؤمنون إلى الصلاة، وهي عماد الدين.
    قال المروزي: ( وأمر الله عباده أن يأتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم إذا رأوا الآيات التي يخافون فيها العذاب أن يفزعوا إلى الصلاة، فقال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا انكسفت فافزعوا إلى الصلاة ".
    وفزع هو إلى الصلاة، ولا نعلم طاعة يدفع الله بها العذاب مثل الصلاة، فصلّى عند الكسوف بزيادة في الركوع، وبكى في سجوده، وتضرع ).

    وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات الأول، غُشي على زوجها عبدالرحمن ابن عوف غشية حتى ظنوا أنه فاضت نفسه فيها، فخرجت أم كلثوم إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة.

    وذكروا أن ابن عباس نُعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }(البقرة:45).

    قال ابن القيّم: ( وأما الصلاة، فشأنها في تفريح القلب وتقويته، وشرحه وابتهاجه ولذته أكبر شأن، وفيها من اتصال القلب والروح بالله، وقربه والتنعم بذكره، والابتهاج بمناجاته، والوقوف بين يديه، واستعمال جميع البدن وقواه وآلاته في عبوديته، وإعطاء كل عضو حظه منها، واشتغاله عن التعلق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم، وانجذاب قوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وراحته من عدوه حالة الصلاة - ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرحات والأغذية التي لا تلائم إلا القلوب الصحيحة ).

    فالصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلوب، ومطردة للداء عن الجسد، ومنورة للقلب، ومبيضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، وناصرة للمظلوم، وقامعة لأخلاط الشهوات، ونافعة في كثير من أوجاع البطن.

    وبالجملة فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب، وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلي رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلا كان حظ المصلي منها أقل، وعاقبته أسلم.

    وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استجلبت مصالحهما، بمثل الصلاة.

    وسر ذلك أن الصلاة صلة العبد بربه عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بريه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات، كلها محضرة لديه، ومسارعة إليه.

    والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    عبد القيوم السحيباني
                  

11-04-2015, 01:59 PM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    من أشد الغبن وأجهل الجهل أن يهتم المرء بالفاني على حساب الباقي، وبالترحال عن الحل، وبالزوال عن الخلد .. والدنيا جبلت على الفناء، .. فما حلوها صاف، وما نعيمها خال، بل لابد من المنغصات، ولا مفر من العقبات والكبوات.
    هذا وليس المقصود من أحاديث ذم الدنيا أن نُعقّد على الناس أمورهم ومعايشهم، حتى ترى الرجل الذي منّ الله عليه بشيء من متاع الدنيا وبسطة الرزق يجلس في مثل هذه المحاضرات مكسوف البال، مطأطئ الرأس، وكأنه المقصود بالكلام، أو كأنه ارتكب جرما يستحي منه .. وهذا تقدير فاحش وفهم قاصر، فما ذكر أهل الفضل مناقص الدنيا إلا للاعتبار، وتذكرة لمن كان بها منهمكا، وفي هواها منغمسا، ولحبها شغوفا ولآخرته عبوسا، وكأن له مع الخلد في حطامها موعدا ولفراقها مجانبا.

    وما زال النجباء يزرعون ويتاجرون ويعمرون، وفي كل مضمار خير لهم سبق، وفي كل بر لهم يد، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، لكن معقد القضية وملخص الأمر أن أهل الصلاح جعلوا الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم وشتان بين الفريقين.
    وحول هذا المعنى يقول يونس بن ميسرة الجيلاني: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد اللّه تعالى أوثق منك بما في يديك، وأن يكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون ذامّك ومادحك في الحقّ سواء".

    هذه هي حقيقة الدنيا .. إقبال وإدبار، فرح وحزن, شدة ورخاء, سقم وعافية، إلا أن الله تعالى لطيف بعباده، رحيم بخلقه، فتح لهم باباً يتنفسون منه الرحمة، وتنزل منه على قلوبهم السكينة والطمأنينة، ألا وهو: الأنس به والتعلق بجنابه جل وعلا .. فلا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه.. {وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ} [العنكبوت/64] أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ: {لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ} [البلد/4].
    قال بعض السلف: "الدنيا دنيئة، وأدنى منها قلب من يحبّها".
    وروي عن عليّ رضي اللّه عنه: "الدنيا جيفة، فمن أرادها فليصبر على مزاحمة الكلاب".
    ويقول أبو العلاء المعري: "الدنيا إذا أقبلت بلت، وإذا أدبرت برت، وإذا حلت أوحلت، وإذا جلت أوجلت، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات".
    وإنما تهلك الدنيا صاحبها كمدا وغما لأنها إذا أقبلت عليه خلعوا عليه مِن صفات الكمال ما ليس فِيه أصلا، فإذا أدبرت عنه الدنيا لا يسأل عنه سائل.

    يقول الأديب إبراهيم عبد القادر المازني: "قد أعرف لماذا أقرأ، وما يستهويني من الكتب ويُغريني بالاطلاع، فإنَّ أقلَّ ما في ذلك أنه نقلة إلى عالم غير دنيانا الحافلة بالمنغِّصات المائجة بالمتعبات، ولكني والله لا أدري لماذا أكتب؟ ولست أراني أفدت شيئًا، ولا لي أملٌ في شيء، وأحسبَنِي بين الكتَّاب الوحيد الذي يعيش بلا أمل جاد أو طمع مستحث؛ بل لعلِّي الكاتب الوحيد الذي يعتقد أنَّ الدنيا لا تخسر شيئًا - وقد تكسب - إذا خلتْ رقعتها من الأدباء والشعراء، واعتقادي هذا فرع من أصل أعمَّ وأشْمل، هو أنَّ الدنيا لا تنقص إذا قضت الحياة نفسُها نَحبها، فلا إنسان، ولا حياة، ولا نبات، وقد تغير زمن كنت فيه مجنونًا كشيللي [تأتي بمعنى سخرية لعدم فهم الشيء أو عدم الاستطاعة على فعله]، فالآن صار جنوني بهوان الحياة وغرور الإنسان، وعبث العيش كله، وما لقيتُ نعماءَ أو أصابَنِي ضرَّاء إلا قلت كما قال سليمان بن داود: (باطل الأباطيل، الكل باطل)؛ حتَّى لقد هممت أن أسمِّي كتابًا لي: (باطل الأباطيل)، كما سميت آخر (قبض الريح)، وثالثًا (حصاد الهشيم)، فليس إيثاري لهذه الأسماء عن تواضع كما توهم البعض، بل عن نُزُوع إلى الاستخفاف حتى بالنفس، وعن شعور قوي بمرارة الهوان الذي أجده لهذه الحياة وكل مظاهرها".

    يقول الشيخ عائض القرني: "إذا كانت الحياة في البساط والسياط والسلطة والسطوة، فأين أصحابها بعد موتهم {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98]؟ .. عاصر الشافعي خمسة ملوك، عاشوا أغنياء وهو فقير، هم في حشمٍ وخدم وهو في غربة وعزلة، بقي وذهبوا، ذكر ونسوا، عاش وماتوا؛ لأنه أمات الدنيا في حياته، وأحيا الآخرة قبل وفاته، وهم أشربوا في قلوبهم عجل العاجلة، وأخروا في بطاقة أعمالهم الآخرة، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف".

    وفي مقدمة كتاب ذم الدنيا من (إحياء علوم) الدين كتب أبو حامد الغزالي يقول: "الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها، حتى نظروا في شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها، فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها، ولا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها، ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها، ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، إن أحسنت ساعة أساءت سنة، وإن أساءت مرة جعلتها سُنّة، فدوائر إقبالها على التقارب دائرة، وتجارة بنيها خاسرة بائرة، وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة، ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة، فكل مغرور بها إلى الذل مصيره، وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره، شأنها الهرب من طالبها، والطلب لهاربها، ومن خدمها فاتته، ومن أعرض عنها واتته، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات، ولا ينفك سرورها عن المنغصات، سلامتها تعقب السقم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم، فهي خداعة مكارة طيارة فرارة، لا تزال تتزين لطلابها حتى إذا صاروا من أحبابها كشرت لهم عن أنيابها، وشوشت عليهم مناظم أسبابها، وكشفت لهم عن مكنون عجائبها، فأذاقتهم قواتل سمامها، ورشقتهم بصوائب سهامها، بينما أصحابها منها في سرور وإنعام، إذ ولت عنهم كأنها أضغاث أحلام، ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طحن الحصيد، ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد، إن ملكت واحدا منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيدا كأن لم يغن بالأمس، تُمنى أصحابها سرورا، وتعدهم غرورا، حتى يأملون كثيرا ويبنون قصورا، فتصبح قصورهم قبورا، وجمعهم بورا، وسعيهم هباء منثورا، ودعاؤهم ثبورا، هذه صفتها، وكان أمر الله قدرا مقدورا".

    ويقول أيضا: "إن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة ولهم علامات: فمنها أن لا يطلب الدنيا بعلمه، فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها، وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها، ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى، وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر، وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ، فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلئ يفرغ الآخر".

    وقال بعض الحكماء: "انظر إلى الدنيا نظر الزاهد المفارق لها، ولا تتأملها تأمل العاشق الْوَامِقِ بها".
    وسئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن الدنيا فقال: "تَغُرُّ وَتَضُرُّ وَتَمُرُّ".
    وسأل بعض خلفاء بني العباس جليسا له عن الدنيا فقال: "إذا أقبلت أدبرت".
    وقال عمرو بن عبيد: "الدنيا أمد والآخرة أبد".
    وقال أَنُوشِرْوَانَ: "إن أحببت أن لا تغتم فلا تقتن ما به تهتم".

    ولما قتل بَزَرْجَمْهَرُ وجد في جيب قميصه رقعة فيها مكتوب: "إذا لم يكن جد ففيم الكد، وإن لم يكن للأمر دوام ففيم السرور، وإذا لم يرد الله دوام ملك ففيم الحيلة".
    وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها الظعن عنها، فكم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كفيء ظلال، قلص فذهب، بينا ابن آدم في الدنيا ينافس وهو قرير العين إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه .. إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلا وتحزن طويلا".
    د/ خالد سعد النجار
                  

09-08-2015, 00:56 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    حديث مع النفس
    • يا نفس، إذا كانت الهداية إلى الله مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة، والعاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة، فلا تُعجبي بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك، فإن ذلك وإن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله الدارِّ عليك وخيره، فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخرة بمتاع غيرها وربما سُلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم فأصبحت وزهرها يابس هشيم، إذ هبت عليها الريح العقيم، كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم فيصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم، ذلك فعل العزيز الحليم الخلاق العليم.

    • يا نفس، مالك من صبر على النار، نوم بالليل وباطل بالنهار وترجين أن تدخلي الجنة هيهات هيهات، متى العمل فاستيقظي يا نفس ويحك، واحذري حذرا يهيج عبرتي ونحيبي، وتجهزي بجهاز تبلغين به شاطئ الأمان، فلم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنان ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان، والقيام لله بحقه في المنشط والمكره.

    • يا نفس، ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى، كم من وجوه خاشعة وقعت على قصص أعمالها (عاملة ناصبة تصلى نارا حامية)، وكم من شارف مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرتقي لعب به موج فغرق الخلق كلهم تحت هذا الخطر، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ما العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا.

    • يا نفس، كيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا؟! فبعيد من قلبه بعيد من الله تعالى، غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته، لسانه يابس عن ذكره، وجوارحه معطلة عن طاعته مشتغلة بمعصيته فبعيد عن هذا أن يوفق للخاتمة بالحسنى.

    • يا نفس، أما الورعون فقد جدوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا، العلم لا يحصل إلا بالنصب، والمال لا يجمع إلا بالتعب، فإن حرصت على الخلاص فاعلمي أنه من عزم بادر ومن هم ثابر، ولا ينال العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
    • يا نفس، بادري بالأوقات قبل انصرامها واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور وقد تشققت وبالأمور وقد تحققت وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرؤوس العصاة وقد أطرقت قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} (السجدة:12).

    • يا نفس، أما لك في الصالحين أسوة:
    - كان عامر بن عبد الله بن قيس التابعي قد جعل عليه كل يوم ألف ركعة فلا ينصرف منها إلا وقد انتفخت قدماه وساقاه ثم يقول لنفسه: "يا نفس، بهذا أمرت ولهذا خلقت يوشك أن يذهب العناء، يا نفس إنما أريد إكرامك غدا، والله لأعملن بك عملا حتى لا يأخذ بالحق منك نصيب، قومي يا مأوى كل سوء فوعزة ربك لأزحفن بك زحف البعير، ولئن استطعت أن لا يمس الأرض من زهمك لأفعلن، ثم يتلوى كما تتلوى الحية على المقلى، ثم يقوم فينادى: اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي".

    - وكان زياد بن زياد مولى ابن عياش يخاصم نفسه في المسجد فيقول: "اجلسي، تريدين الخروج؟ أين تذهبين؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد، انظري إلى ما فيه. تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان ودار فلان، ما لك من الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت، وما لك من الثياب إلا هذين الثوبين، وما لك من النساء إلا هذه العجوز".

    - وقال الجنيد: أرقت ليلة وفقدت حلاوة وردي ثم اضطجعت لأنام فتمايلت حيطان البيت وكاد السقف أن يسقط فخرجت فإذا برجل ملتف بعباءة مطروح في الطريق، فقال إلي الساعة، قلت موعد قال: بلى، سألت محرك القلوب أن يحرك قلبك، قلت: قد فعل، قال: متى يصير داء النفس دواءها؟، قلت: إذا خالف هواها، قال: يا نفس اسمعي أجبتك به مرات فأبيت إلا أن تسمعيه من الجنيد ثم انصرف.

    - وقال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسمومها، آكل من المثخن وأشرب من زمهريرها: فقلت: يا نفس إيش تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا فأعمل عملا أنجو به من هذا العقاب، ومثلت نفسي في الجنة مع حورها، ألبس من سندسها وإستبرقها وحريرها، قلت: يا نفس إيش تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا فاعمل عملا ازداد فيه من هذا الثواب، قلت: فأنت في الدنيا وفي الأمنية فاعملي.
    - وكان معروف الكرخي يضرب نفسه ويقول: يا نفس، كم تبكين، أخلصي وتخلصي.

    - وقال عبد الرحمن بن مهدي: أدركت امرأة لا أقدم عليها رجلا ولا امرأة ممن أدركت، كانت إذا أصبحت قالت: يا نفس هذا اليوم ساعديني يومي هذا فلعلك لا ترين بياض يوم أبدا، وإذا أمست قالت: يا نفس هذه الليلة ساعديني ليلتي هذه فلعلك لا ترين ظلمة ليلة أبدا، فما زالت تخدع وتدفع يومها بليلتها وليلتها بنهارها حتى ماتت على ذلك.

    - وعن مسمع بن عاصم المسمعي قال: كانت بالبحرين امرأة عابدة يقال لها: «منيفة» فكانت إذا هجم الليل عليها، قالت: بخ بخ يا نفس، قد جاء سرور المؤمن، فتتحزم وتلبس وتقوم إلى محرابها فكأنها الجذع القائم حتى تصبح، فإذا أصبحت وأمكنت الصلاة فإنما هي في صلاة حتى ينادى بالعصر فإذا صلت العصر هجعت إلى غروب الشمس، فكان هذا دأبها، فقيل لها: لو جعلت هذه النومة في الليل كان أهدأ لبدنك. فقالت: لا والله لا أنام في ظلمة الليل ما دمت في الدنيا، فمكثت كذلك أربعين سنة.
    وكيف تحب أن تدعى حكيما وأنت لكل ما تهوى ركوب

    وتضحـك دائـما ظهرا لـبطن وتذكـر ما عـملـت فلا تتوب

    ـــــــــــــــــــــــــــــ

    د. خالد سعد النجار
                  

09-08-2015, 01:00 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    القواعد الذهبية في أدب الخلاف
    الحمد لله الذي لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، والصلاة والسلام على النبي الكريم الذي كان يستفتح صلاته بقوله: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". وعلى آله وأصحابه ومن سار على هداهم من أهل الحق والدين إلى يوم البعث والنشور. أما بعد:

    فهذه قواعد جمعتها في الأدب الواجب على أهل الإسلام عند الاختلاف عملا بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى: 10)، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59). وقوله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ" (آل عمران: 103). أسأل الله أن ينفع بها عباده المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد جعلناها مختصرة موجزة ليسهل جمعها، ولا يعسر على طالب العلم التوسع فيها، وفهمها.

    القواعد الذهبية لماذا؟

    قد يسأل سائل لماذا سميت هذه القواعد بالقواعد الذهبية؟

    والجواب: أن القاعدة الواحدة منها أفضل لطالب العلم ومبتغي الحق من اكتساب الألوف من دنانير الذهب، ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله- في ترجمته لحبر هذه الأمة وأعلمها بكتاب الله، وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنه هذا الخبر:
    وقال بعضهم أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم، وقال: (لا تكَلَّمن فيما لا يعنيك حتى تجد له موضعًا، ولا تُمار سفيهًا ولا حليمًا فإن الحليم يغلبك، والسفيه يزدريك، ولا تَذْكُرَنَّ أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه، واعمل عمل من يعلم أنه مجزي بالإحسان مأخوذ بالإجرام). فقال ابن عباس: (كلمة منه خير من عشرة آلاف). البداية والنهاية (308/8).
    وهذه الكلمات من ابن عباس رضي الله عنهما قواعد في الأخلاق، وآداب الجدال لا تقدر بمال.

    أولاً: قواعد عامة في الخلاف

    1 - ما لا يتطرق إليه الخلل ثلاثة:

    كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة، وما سوى ذلك ليس بمعصوم: الأصول التي يتطرق إليها الخلل والتي يجب الرجوع إليها عند كل خلاف هي كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة، ثم ما علم يقينًا أن أمة الإسلام جميعها اجتمعت عليه، وما سوى هذه الأصول الثلاثة فليس بمعصوم من الخطأ.

    ويترتب على القاعدة السابقة ما يلي:

    أ - لا يجوز لأحد أن يخرج عن المقطوع دلالته من كتاب الله، وسنة رسوله، وما علم يقينًا أن الأمة قد أجمعت عليه.
    ب - ظني الدلالة من الكتاب والسنة يرد إلى المقطوع، والمتشابه يرد إلى المحكم؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (آل عمران: 7).

    جـ - ما تنازع فيه المسلمون يجب أن يردوا الخلاف فيه إلى كلام الله، وكلام رسوله، عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59).

    2 - رد المعلوم من الدين ضرورة كفر:

    لا يجوز الخلاف في حكم من الأحكام المقطوع بها في الإسلام، والمقطوع به هو المجمع عليه إجماعًا لا شبهة فيه، والمعلوم من الدين بالضرورة كالإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وأن القرآن الذي كتبه الصحابة ويقرؤه المسلمون جميعًا إلى يومنا هذا هو كتاب الله لم ينقص منه شيء، والصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، ووجوب الزكاة والحج، وحرمة الربا والزنا، والخمر، والفواحش، ونحو ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة أنه من الإسلام، وكل ذلك لا يجوز فيه خلاف بين الأمة ورد هذا ومثله كفر.

    3 - الخلاف جائز في الأمور الاجتهادية:

    الأحكام الاجتهادية الخلافية التي وقع التنازع فيه بين الأمة في عصور الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا يجوز فيها الاختلاف، ولا يجوز الحكم على من اتبع قولاً منها بكفر ولا فسق ولا بدعة. ولمن بلغ درجة النظر والاجتهاد أن يختار منها ما يراه الحق، ولمن عرف الأدلة وأصول الفقه أن يرجح بين الأقوال، ولا بأس بالتصويب والتخطيء، وبالقول إن هذا راجح، وهذا مرجوح، وذلك كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، وقراءة الفاتحة وراء الإمام في الجهرية، والجهر والإسرار بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، وإتمام الصلاة في السفر.

    4 - وقوع الاختلاف وكونه رحمة وسعة أحيانًا:

    الخلاف في الأمور الاجتهادية الظنية واقع من الصحابة والتابعين والأئمة وجميع علماء وفضلاء هذه الأمة، وذلك أنه من لوازم غير المعصوم، ولا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من بعده فلا عصمة لأحد منهم، والخطأ واقع منهم لا محالة.
    وهذا الخلاف الجائز، أو السائغ، قد نص كثير من سلف الأمة أن فيه أنواعا من الرحمة لهذه الأمة:

    أ - الرحمة في عدم المؤاخذة: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286)، وقد ثبت في صحيح البخاري رحمه الله أن الله قال بعد أن أنزل هذه الآية، وتلاها الصحابة: "قد فعلت"، والمجتهد المخطئ معذور، بل مأجور أجرًا واحدًا كما جاء في الصحيحين: "إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" متفق عليه.

    ب - الرحمة والسعة في جواز أخذ القول الاجتهادي كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة المجتهدين: قال ابن قدامة رحمه الله في مقدمة كتابه المغني: (أما بعد... فإن الله برحمته وطوله جعل سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام وأوضح بهم مشكلات الأحكام: اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة).
    وقال الإمام الحجة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: "لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمل عمله". (جامع بيان العلم وفضله 80/4)، وذكر ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله أن "عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد اجتمعا فجعلا يتذكران الحديث فجعل عمر يجيء بالشيء مخالفًا فيه القاسم، وجعل ذلك يشقّ على القاسم حتى تبين فيه فقال له عمر: لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم". (جامع بيان العلم وفضله 80/2). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن "رجلاً صنف كتابًا في الاختلاف فقال أحمد: لا تُسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة". (الفتاوى 79/30).

    5 - يجب اتباع ما ترجح لدينا أنه الحق:

    ما تنازع فيه الصحابة وأئمة الإسلام بعدهم، وعلم بعد ذلك أن النص بخلافه فإنه يجب علينا فيه اتباع ما تبين أنه موافق للدليل، وعدم اتهام السابقين بكفر أو فسق أو بدعة وذلك: كترك الجنب الذي لا يجد ماء للصلاة حتى يجد الماء، وصرف الدينار بالدينارين، ونكاح المتعة، ومنع التمتع في الحج، وجواز القدر غير المسكر من خمر العنب، ومثل هذه المسائل كثير.

    6 - أسباب الخلاف التي يعذر فيها:

    أسباب الخلاف التي يعذر فيها المخالفون كثيرة: كمعرفة بعضهم بالدليل، وجهل بعضهم له والاختلاف حول صحة الدليل، وضعفه، وكونه نصًّا على المسألة أو ظاهرًا أو مؤولاً، وتفاوت فهمهم للنص وتقديم بعضهم دلالة من دلالات النص على أخرى، كمن يقدم الفحوى على الظاهر، وكمن يقدم الظاهر على الفحوى، كما اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة؛ فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم". متفق عليه.
    ومثل هذه الأسباب يعذر أصحابها إذا اجتهد كل منهم لمعرفة الحق.

    7- أسباب الخلاف التي لا يعذر فيها المخالف:

    وأما الأسباب الأخرى التي لا يعذر فيها المخالف فهي الحسد والبغي، والمراءاة والانتصار للنفس ومن كانت هذه دوافعه للخلاف، حرم التوفيق والإنصاف، ولم يهتد إلا للشقاق والخلاف، كما قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. (البقرة: 213) فالذين هداهم الله هم الذين لا يبغون.

    8 - وجوب طاعة الإمام في الأمور العامة وإن أساء ما لم يخرج من الإسلام:

    منهج أهل السنة والجماعة الصلاة خلف أئمة الجور والجهاد معهم، وإن كانوا فجارًا، والصوم بصومهم والحج بحجهم، وإعطاء الزكاة لهم.
    ففي الصلاة صلى المسلمون خلف الذين حاصروا الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصلى السلف خلف الحجاج والوليد، والمختار بن أبي عبيد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الولاة وإن كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وفي الزكاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم". متفق عليه.

    9 - لا يجوز للإمام أن يحجر نشر علم يخالفه: ليس لإمام المسلمين أن يحجر الناس من نشر علم يخالف رأيه، أو مذهبه، بل عليه أن يترك كل مسلم وما تولى، كما ترك عمر رضي الله عنه عمارا وغيره يذكر ما يأثره عن الرسول رضي الله عنه في التيمم.

    وأفتى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بخلاف رأي عمر رضي الله عنه في متعة الحج، وأفتى حذيفة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بخلاف رأي عثمان رضي الله عنه في إتمام الصلاة بعرفة ومنى.

    ولكن يجب على الإمام أن يمنع نشر الكفر والبدع والزندقة، وأن يقيم الحدود الشرعية في ذلك، فسب الله وسب رسوله وسب دينه يوجب القتل لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري، والساعي في المتشابهات، والتشكيك في الدين يجب تعزيره كما فعل عمر رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل.
    والمسلم المتأول المخطئ يناقش في خطئه، وتأوله كما فعل عمر رضي الله عنه أيضا مع الذين شربوا الخمر تأولاً. ولا يجوز الحكم على متأول إلا بعد قيام الحجة عليه.

    10 - لكل مسلم الحق بل عليه الواجب في إنكار المنكر والأمر بالمعروف: لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا من الله على كل مسلم وجب على ولي الأمر إطلاق يد المسلم في ذلك إلا ما كان من حقوقه هو كإقامة الحدود، والتعازير، وأما ما كان تحت ولاية المسلم فهذا له كتأديب الزوجة، والولد في حدود ما شرعه الله في ذلك، وكذلك إنكار المنكر باللسان، لو كان هو منكر الإمام نفسه عملاً بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159-160].

    فلا يجوز للمسلم أن يكتم علما، ولا أن يقر على باطل إذا علم أن إقراره رضا ومتابعة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حيث يقول: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا.. ما صلوا". (رواه مسلم). ونص الحديث أن المسلم لا يبرأ إلا بالإنكار، وقد يسلم بالسكوت وعدم الرضا إذا لم يستطع الإنكار باللسان.
    الآداب الواجب اتباعها للخروج من الخلاف وما ينبغي أن يكون بعد الخلاف

    أولا: الآداب التي يجب اتباعها للخروج من الخلاف

    هذه جملة من الآداب التي إذا اتبعها المسلمون ـ فيما ينشأ بينهم من خلاف ـ اهتدوا بحول الله ومشيئته ورحمته إلى الحق.

    1 - التثبت من قول المخالف: أول ما يجب على المسلم أن يتثبت في النقل، وأن يعلم حقيقة قول المخالف، وذلك بالطرق الممكنة كالسماع من صاحب الرأي نفسه، أو قراءة ما ينقل عنه من كتبه لا مما يتناقله الناس شفاها، أو سماع كلامه من شريط مسجل أيضا مع ملاحظة أن الأشرطة الصوتية يمكن أن يدخل عليها القطع والوصل، وحذف الكلام عن سياقه، ولذلك يجب سماع الكلام بكامله ولو أن أهل العلم يتثبتون فيما ينقل إليهم من أخبار لزال معظم الخلاف الذي يجري بين المسلمين اليوم، وقد أمرنا الله بالتثبت كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

    وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
    وقد وقفت بنفسي -أنا كاتب هذه السطور- على حالات كثيرة من الخلاف التي كان أساسها التسرع في النقل، وعدم التثبت فيه، وعندما وقع التثبت تبين أن الأمر بخلافه.

    2 - تحديد محل التنازع والخلاف: كثيرا ما يقع الخلاف بين المخالفين، ويستمر النقاش والردود وهم لا يعرفون على التحديد ما نقاط الخلاف بينهم، ولذلك يجب أولا قبل الدخول في نقاش أو جدال تحديد مواطن الخلاف تحديدا واضحا حتى يتبين أساس الخلاف، ولا يتجادلان في شيء قد يكونان هما متفقين عليه، وكثيرا ما يكون الخلاف بين المختلفين ليس في المعاني، وإنما في الألفاظ فقط فلو استبدل أحد المختلفين لفظة بلفظة أخرى لزال الإشكال بينهما. ولذا لزم تحديد محل الخلاف تحديدا واضحا.

    3 - لا تتهم النيات: مهما كان مخالفك مخالفا للحق في نظرك فإياك أن تتهم نيته، افترض في المسلم الذي يؤمن بالقرآن والسنة ولا يخرج عن إجماع الأمة، افترض فيه الإخلاص، ومحبة الله ورسوله، والرغبة في الوصول إلى الحق، وناظره على هذا الأساس، وكن سليم الصدر نحوه. لا شك أنك بهذه الطريقة ستجتهد في أن توصله إلى الحق إن كان الحق في جانبك وأما إذا افترضت فيه من البداية سوء النية، وقبح المقصد فإن نقاشك معه سيأخذ منحى آخر وهو إرادة كشفه وإحراجه، وإخراج ما تظن أنه خبيئة عنده، وقد يبادلك مثل هذا الشعور، فينقلب النقاش عداوة، والرغبة في الوصول إلى الحق رغبة في تحطيم المخالف وبيان ضلاله وانحرافه.

    4 - أخلص النية لله: اجعل نيتك في المناظرة هو الوصول إلى الحق وإرضاء الله سبحانه وتعالى، وكشف غموض عن مسألة يختلف فيها المسلمون، ورأب الصدع بينهم، وجمع الكلمة وإصلاح ذات البين.
    وإذا كانت هذه نيتك فإنك تثاب على ما تبذله من جهد في هذا الصدد؛ قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" متفق عليه.

    5 - ادخل إلى المناظرة وفي نيتك أن تتبع الحق وإن كان مع خصمك ومناظرك: يجب على المسلم الذي يخالف أخاه في مسألة ويناظره فيها ألا يدخل نقاشا معه إلا إذا نوى أن يتبع الحق أنى وجده، وأنه إن تبين له أن الحق مع مخالفه اتبعه، وشكر لأخيه الذي كان ظهور الحق على يده؛ لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس.

    6 - اتهم رأيك: يجب على المسلم المناظر، وإن كان متأكدا من رأيه أنه صواب أن يتهم رأيه، ويضع في الاحتمال أن الحق يمكن أن يكون مع مخالفه، وبهذا الشعور يسهل عليه تقبل الحق عندما يظهر، ويلوح له.

    7 - قبول الحق من المخالف حق وفضيلة: إن قبول الحق من مخالفك حق وفضيلة، فالمؤمن يجب أن يذعن للحق عندما يتبينه، ولا يجوز له رد الحق؛ لأن رد الحق قد يؤدي إلى الكفر كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تماروا في القرآن فإن مراء في القرآن كفر..". (رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع).

    والمماراة هنا معناها المجادلة، ودفع دلالته بالباطل لأن هذا يكون تكذيبا لله وردًّا لحكمه، وليس تكذيبا للمخالف. ورد الحق كبرا من العظائم، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر فقال صلى الله عليه وسلم: "الكبر بطر الحق وغمط الناس". (رواه مسلم) وبطر الحق رده.

    8 - اسمع قبل أن تُجيب: من آداب البحث والمناظرة أن تسمع من مخالفك قبل أن ترد، وأن تحدد محل الخلاف قبل أن تخوض في الموضوع.

    9- اجعل لمخالفك فرصة مكافئة لفرصتك: يجب على كل مختلفين أن يعطي كل منهما للآخر عند النقاش فرصة مكافئة لفرصته فإن هذا أولى درجات الإنصاف.

    10 - لا تقاطع: انتظر فرصتك في النقاش، ولا تقاطع مخالفك وانتظر أن ينتهي من كلامه.

    11 - اطلب الإمهال، إذا ظهر ما يحتاج أن تراجع فيه نفسك: إذا ظهر لك أن أمرا ما يجب أن تراجع فيه النفس، وتتفكر فيه لتتخذ قرارا بالعدول عن رأيك أو إعادة النظر فيه، فاطلب الإمهال حتى تقلِّب وجهات النظر، وأما إذا تحققت من الحق فبادر بإعلانه، والإذعان له فإن هذا هو الواجب عليك فالذي يخاصمك بالآية والحديث يطلب منك في الحقيقة الإذعان إلى حكم الله وحكم رسوله. وكل من ظهر له حكم الله وحكم رسوله وجب عليه قبوله فورا كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].

    12 - لا تجادل ولا تمارِ: لا يكن دخولك في نقاش مع أخيك المسلم هدفه الجدال والمماراة، بل يجب أن يكون مقصدك معرفة الحق، أو توضيحه لمخالفك؛ لأن الجدال مذموم والمماراة مذمومة، والجدال والمماراة أن يكون الانتصار لرأيك، وقطع خصمك وإثبات جهله، أو عجزه، وإثبات أنك الأعلم أو الأفهم. أو الأقدر على إثبات الحجة.

    13 - حدد مصطلحاتك واعرف جيدا مصطلحات مخالفك: كثيرا ما يتجادل اثنان ويختلف قوم ولا يكون سبب خلافهم إلا أنهم يستعملون كلمات ومصطلحات كل منهم يفهمها بمعنى يختلف عما يفهمها الآخر.

    من أجل ذلك يجب عليك أن تحدد معاني كلماتك التي قد يفهمها مخالفك على صورة أخرى، وكذلك المصطلحات التي تستعملها، وأسأل مخالفك عن معاني كلماته، ومصطلحاته حتى تعرف مراده من كلامه.

    ومن المصطلحات التي يختلف في معناها الناس في الوقت الحاضر: المنهج، طريق السلف، وسائل الدعوة، أساليب الدعوة، البدعة المكفرة، الهجر، التطرف، الإرهاب، الخروج... إلخ، وكذلك يجب أن تعلم أن مخالفك يفهم هذه المصطلحات كما تفهمها أنت، أو كما هو معناها الحقيقي في اصطلاح العقيدة، الأصول، البدعة.

    14 - إذا تيقنت أن الحق مع مخالفك فاقبله وإذا قبل منك الحق فاشكره ولا تمن عليه: يجب على المسلم إذا علم الحق من كلام مخالفه أن يبادر إلى قبوله فورا؛ لأن مخالفك في الدين يدعوك إلى حكم الله حكم رسوله، وليس إلى حكم نفسه.
    وأما إذا كان رأيا مجردا، ورأيت أن الحق معه، وأن المصلحة الراجحة في اتباعه فاقبله أيضا لأن المسلم رجاع إلى الحق.
    وأما إذا وافقك مخالفك، ورجع عن قوله إلى قولك فاشكر له إنصافه، وقبوله للحق، واحمد الله أن وفقك إلى إقالة عثرة لأخيك، وبيان حق كان غائبا عنه.

    15 - لا تيأس من قبول مخالفك للحق: لا تكن عجولا متبرما غضوبا إلى اتهام مخالفك الذي لم يقبل ما تدلي به من حجة، وإن كنت على يقين مما عندك، ولا تيأس أن يعود مخالفك إلى الحق يوما، ولربما خالفك مخالف الآن ثم يعود بعد مدة إلى الحق فلا تعجل.

    16 - أرجئ النقاش إلى وقت آخر إذا علمت أن الاستمرار فيه يؤدي إلى الشقاق والنفور: إذا تيقنت أن النقاش والحوار سيؤدي الاستمرار فيه إلى الشقاق، والنفور فاطلب رفع الجلسة، وإرجاء النقاش إلى وقت آخر، وتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني في السلسلة 273).

    17 - الإبقاء على الأخوة مع الخلاف في الرأي في المسائل الخلافية أولى من دفع المخالف إلى الشقاق والعداوة: إذا علمت من مخالفك أنه لا يبقى أخا إلا ببقائه على ما هو عليه من أمر مرجوح ورأي مخالف للحق في نظرك فتركه على ما هو عليه أولى من دفعه إلى الشقاق والخلاف؛ لأن بقاء المسلمين أخوة في الدين مع اختلافهم في المسائل الاجتهادية خير من تفرقهم وتمزقهم وبقائهم على خلافاتهم.

    ثانيا: ما بعد الخلاف

    إذا وقع الخلاف بين مسلم وآخر في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، وهي الأمور الاجتهادية، أو الأمور التي اختلف الصحابة والأئمة فيها قديما فإن الواجب الشرعي هو اتباع الخطوات السابقة في أدب الخلاف والمناظرة.
    ولا شك أنه لو اتبعت الخطوات السابقة قضي على الخلاف بإذن الله، ووصل المختلفان إلى الاتفاق، ووفقا بحول الله إلى الحق.
    وأما إذا ظهر لكل منهما صحة نظره وسلامة قوله، وأنه لا يستطيع أن يدين لله إلا بما يراه، فإن واجب المختلفين ما يأتي:

    1 - إعذار المخالف وترك أمره لله سبحانه وتعالى: الأدب الشرعي الأول هو إعذار من يخالفك الرأي من المسلمين في الأمور الاجتهادية، وإيكال أمره لله، وتنزيهه من فساد النية، وإرادة غير الحق ما دام ظاهره هو الدين والعدل.

    2 - إبقاء الأخوة: لا يجوز لمسلم أن يقاطع أخاه المسلم لرأي ارتآه، أو اجتهاد اجتهد فيه ما دام يعلم أنه تحرى الحق، واتبع ما يظن أنه الصواب، ولا يجوز في مثل هذه الحالة هجران أو تعزير، ولا شك أنه لو أن كل مختلفين تهاجرا لم يبق مسلم مع مسلم.

    3 - لا تشنيع ولا تفسيق ولا تبديع للمخالف في الأمور الاجتهادية: لا يجوز اتهام المخالف ولا التشنيع عليه، ولا ذكره من أجل مخالفته، ولا تبديعه، ولا تفسيقه ومن صنع شيئا من ذلك فهو المبتدع المخالف لإجماع الصحابة.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح والمواريث والعطاء، والسياسة، وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي، وهم الأئمة الذين ثَبَتَ بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم". (مجموع الفتاوى).

    وقال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له قمنا عليه وبدعناه، وهجرناه، لما سلم معنا ابن نصير، ولا ابن منده ، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة". [سير أعلام النبلاء 40/14].

    4 - لا يجوز التشنيع ولا التبديع ولا التفسيق لأحد من سلف الأمة ومجتهديها إذا خالف بعض الأمور القطعية اجتهادا: ولا يجوز لنا التشنيع ولا التبديع ولا التفسيق لأحد من سلف الأمة المشهود لهم بالخير، إذا علم أنه خالف في بعض الأمور القطعية اجتهادا منه.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد لوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن الإنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل حرام، والمتعة حرام". [الآداب الشرعية 186/1].

    5 - يجوز بيان الحق وترجيح الصواب وإن خالف اجتهاد الآخرين: لكل من المختلفين أن يذكر ما يراه حقًّا، وينشر ما يراه صوابا، ويرجح ما يراه الراجح، وله أن يبين أن قول معارضه مرجوح لأن كتمان العلم لا يجوز، وعلى كل مجتهد أن يذكر ما يعتقد أنه الحق، وإن خالف من خالف من الأئمة والعلماء والأقران.

    وقد خالف ابن عمر وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهما عمر بن الخطاب، وأبا بكر الصديق في متعة الحج، وأفتيا بخلافهما، هذا مع كمال الموالاة للصديق والفاروق وكان كل إمام وعالم يفتي بما يراه الصواب وإن خالف غيره، وقد قال الإمام مالك: "ما منا إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

    6 - لا يجوز حمل الناس على الرأي الاجتهادي: لا يجوز لعالم مجتهد، ولا لإمام عام أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده، وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك.

    وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم، وصنف رجل كتابا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة.
    ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل يقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.

    ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي رحمه الله وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه، ونظائر هذه المسائل كثيرة: مثل القراءة بالبسملة سرًّا أو جهرا، وترك ذلك، والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين، أو المرفقين والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، أو المنع من قبول شهادتهم

    الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
                  

09-08-2015, 01:02 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    من مظاهر أزمة الأخلاق
    إن الأخلاق الحسنة هي أعظم ما تعتز به الأمم وتمتاز عن غيرها ، والأخلاق تعكس ثقافة الأمة وحضارتها ، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها وتلفت الأنظار لها ويتحير أعداؤها فيها ، وبقدر ما تنحط أخلاقها وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم ، وكم سادت أمة ولو كانت كافرة وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق كالعدل وحفظ الحقوق وغيره ، وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق.

    يقول شوقي رحمه الله:

    إنما الأمم الأخلاق ما بقيت **** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

    وبقدر بُعد مجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم عن محاسن الأخلاق ، واتصاف أبنائها بالأخلاق السيئة الرديئة يكون الضنك والشقاء، بما يعني أن هذا المجتمع يعاني أزمة أخلاقية ربما تؤدي إلى انهياره.
    وفي هذا المقال نبين بعض مظاهر أزمة الأخلاق راجين من وراء التنبيه عليها إلى تجنبها والعمل على علاجها.

    ومن أهم هذه المظاهر:

    النفاق الاجتماعي
    فبعض الناس يحسن اللعب على كل الحبال فتراه يأتي كل قوم أو مجموعة بما يحبون ولو كان ذلك مخالفا لما اتى به الآخرين بل لو كان مخالفا لمبادئه هو وقناعاته، فهو مع الجميع وإن كانوا متضادين لكن يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه آخر ، نعم.. لقد وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذي الوجهين، وأخبر أنه من شرار الخلق؛ لعظم جرمه وفساد طويته وخبث محاولاته وبشاعة مواقفه وفساد صنيعه، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تجدون من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه".

    إن ذا الوجهين يجمع بمحاولاته بين مجموعة من المحرمات يرتكبها عمداً ومع سبق الإصرار تدفعه إلى ذلك نفسيته المريضة فتحمله على الكذب"وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار". وتحمله تلك النفس الخبيثة على النميمة، واليمين الفاجرة واللعن والغيبة وكل ذلك جالب سخط الله عليه ووسائل هلكةٍ تعرضه للوعيد الشديد, قال سبحانه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ*هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ*مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}(10-12) سورة القلم.

    المتكبرون المتفيهقون

    ومن مظاهر أزمة الأخلاق عند بعض الناس حالة الكبر التي تسيطر عليهم، فيتعالون على خلق الله ويظنون أنهم أعلى من الناس وأفضل منهم، إنهم المتفيهقون الذين وصفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعض صفاتهم حين سئل عنهم بأنهم المتكبرون؛ إذ من أبرز صفات المتكبر التعاظم في كلامه، والارتفاع على الناس في الحديث، وإذا كان مثقفاً فإنه يحاول التحدث بالغريب من الكلام إظهاراً لفضله، كما يحلو له! وازدراءً لغيره، تلك علة خلقية تشعر بضعف نفسية المتفيهق، ولذلك يكون بعيداً في الدنيا عن قلوب الناس، معزولاً عن خيارهم، مقروناً في الآخرة بمن أبغضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا, وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون" قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون".

    إنهم يعيشون أزمة حقيقة سببها ضعف نفوسهم ومرض قلوبهم، إذ لو كانوا يعلمون ويفقهون لتواضعوا ولرفعهم الله بذلك التواضع عنده وعند خلقه:

    تواضع تكن كالنجم لاح لناظر **** على صفحات الماء وهو رفيع
    ولا تك كالدخـان يعـلـو بنفسـه **** على طبقات الجو وهـو وضيع

    القنوات الفضائية والرويبضة

    وإن مما أصاب الأمة في صميم أخلاقها انتشار القنوات الفضائية، وغزوها بيوت المسلمين، واستخدام هذه القنوات من قبل بعض الناس استخداماً مُخلاً بالإيمان، مخلاً بالشرف والمروءة والأخلاق وليته اقتصر في ذلك على نفسه بل جعل أولاده - ذكرهم وأنثاهم - في غياهب الظلمة، وأفسد عليهم أخلاقهم ودينهم بترك الحبل على الغارب تعاوناً منه مع أعداء الإسلام في إفساد الأمة من حيث يشعر أو لا يشعر، فصارت الأسرة بهذا الشكل تشاهد ما هب ودب في هذه القنوات إذ لم تشعر أن عليها رقيب فأثيرت الشهوات، وفسدت المروءات، وانتشر التبرج والسفور، والتشبه بالكفار والكافرات وبدأنا نرى صوراً غريبة في بعض بقاع العالم الإسلامي لمن هن من المسلمات، متبرجات كاسيات عاريات، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عن مثل هؤلاء: "العنوهن فإنهن ملعونات".

    ولقد رأينا شباباً من المسلمين يتسكعون في الطرقات، قد أثارتهم مثل هذه الصور الخليعات، فآذوا عباد الله في بناتهم وأخواتهم المؤمنات، كل ذلك هو من نتائج مشاهدة الأفلام والمسلسلات الخليعة التي انتشرت في بلاد المسلمين فتميعت أخلاق كثير من الشباب ، بل وصل الأمر إلى مواقعة الفواحش من زنا ولواط وغيره نسأل الله لنا ولهم الهداية والعافية..

    ولا شك أن الإسلام يحرم الزنا، ويجعله من الفواحش والكبائر، ومن أجل خطورة هذا الموقف فقد حرم الإسلام المقدمات التي تؤدي إلى ذلك ومنها إطلاق البصر إلى الحرام قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ }(30) سورة النــور, وقال بعد هذا: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}(30) سورة النــور, وهنا دليل على أن عدم غض البصر يؤدي إلى الوقوع في الفاحشة، وقد قال -تعالى- محذراً من البصر الخائن: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(19) سورة غافر. وليس البصر وحده مقدمة للحرام، فهناك أيضاً السمع والقلب، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء.

    وكثير من هذه القنوات جعلت من نفسها أبواقا للفتنة وإشاعة الفوضى والاضطراب في المجتمعات من خلال نشر الأكاذيب واستضافة التافهين ليتكلموا في الأمور الكبار التي تهم الأمة وتؤثر في حاضرها ومستقبلها،
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة"، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة". رواه أحمد.

    إن ديدنهم رواية الأخبار، ونقل الغث والصحيح، والصدق والكذب، ينتقل أحدهم من قناة إلى أخرى ممتطياً مطية الكذب، -قالوا كذا وزعموا كذا- دون تثبت في النقل أو وزن لما يحدث به، وذلك من أوضح البراهين على اعتلال خلقه وضعف نفسيته, يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بئس مطية الرجل زعموا".

    مع أن الشرع الحنيف قد أمر العباد بالتثبت قبل نقل الكلام أو اتخاذ قرار بناء على مجرد قيل وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات.

    انتشار الكذب وخصوصا في البيع والشراء

    بعض التجار هداهم الله لا يشكر الله فيما أنعم عليه من المال فتراه يكذب في وصف سلعته ويروجها بالأيمان الكاذبة ويغش المشتري ويسوم ويبيع على أخيه التاجر حسدا منه ولا يلتزم بشروط البيع من الضمان وغيره ويغلب عليه الجشع والبخل في تعامله مع الآخرين ، وقل من التجار من يراعي حدود الله في تجارته ويتحرى الإحسان إلى الخلق من إنظار المعسر وإقالة المشتري والنصح للناس والصدق في التعامل ، وقد كثر الغش في زماننا وقلت الأمانة.
    ولأن التاجر الصدوق عملة نادرة فإنه يوم القيامة في منزلة عالية كما روي في الحديث: " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".

    ولا شك أن هناك مظاهر أخرى كعقوق الوالدين والظلم والقسوة والسرقة وغيرها من مظاهر الأزمة الأخلاقية لكننا نكتفي بهذا القدر رغبة في الاختصار، وفي نهاية المقال لابد من توضيح أمر مهم وهو أن هذه الأمة كالغيث لا ينقطع خيرها ، ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الأمة جمعاء بفقدها الخلق الحسن أو الفساد أو نحو ذلك من الأحكام الجائرة التي تشعر باليأس والإحباط والقنوط , وليس هذا سبيل المؤمن المتبصر في دينه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم". رواه مسلم.
    وإنما المؤمن ينبه على الأخطاء ويعالجها ويحسن الظن بربه ولا يقطع الرجاء به , و يتفاءل في نظراته، إنما كان قصدنا هنا هو لفت النظر إلى هذه المظاهر السيئة لنتجنبها ونعالجها،ونسأل الله أن يتولانا والمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد واله وصحبه أجمعين.
    إسلام ويب
                  

09-08-2015, 01:06 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات متنوعة عن الأسرة و المجتمع (Re: سيف اليزل برعي البدوي)

    غـفرانك ربنا ما أعظمك
    غريبةٌ تلك الحياة !! تدخلها صغيراً طاهراً نقياً من الذنوب , وتخرج منها وقد أثقلت كاهلك الذنوب ، الرب فيها بنعمته رباك ، ومن فيض جوده أطعمك وسقاك , مِن عُريٍ سَتركَ وكساك , وبِعينيهِ الرحِيمتَين رَعاك .
    من زادِه أكلتَ وشَرِبت , وعلى أرضه نَشَأت ، وتحت سمائِه درجت .

    نِعمُهُ عليك كثيرة ...ظاهرةً وباطنه.... {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }.
    في كل لحظةٍ له عليك امتِنان , وعن كل نَسمةٍ يستحق الشُكران , وأنت عن هذا كله قد غفلت .

    تتظاهر بالغِنى عنهُ وهو الغني عنك ، وتُجاهِرهُ بالعصيان فيسترك , وتتطاول على محارمه فيمهلك .

    تزداد عنه بعداً وهو دوماً منك قريب ، فسبحانه حين قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }.
    فسبحانك ربنا ، ما أحلمك!.
    استغفر الله من ذنـب يُؤَرقُنـِــي ......... ويطرُدُ النوم عن عيني ويحزِنُني

    استغفر الله كيف الرب أعصِيه ......... ونِعمةٌ منه في الإكرام تغــــمرني

    كلنا يذنب ..... ولكن!!!

    هناك فرق بين من يذنب فتراه بعد الذنب خائفاً وجِلاً , وبين ذلك الذي يذنب الذنب ولا يبالي , وربما ذُكر بأن هذا الذنب عصيان لله عز وجل , فإذا به يجعل الله أهون الناظرين إليه والعياذ بالله .

    أخي في الله : قبل أن تفكر في الذنب فكر من هذا العظيم الكبير الجليل الذي تتجرأ عليه وتَتَقَحَمُ حماه ، وتبارزه بالذنوب والخطايا، فكأنك أخي لم تسمع قول الجبار سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

    تأمل في حجم السماوات والأرض الآن , وكيف سيكون حجمها وهي بيد الرحمن ,... فأين حجمك أنت حينها .

    إياك ...إياك أخي في الله : أن تحقر شيئا من الذنوب وإن بدت لك أنها صغيرة، فإنها في حق الله جل وعلا كبيرة, فبقدر ما يصغر الذنب عندك... يعظم عند الله , وبقدر ما يعظم عندك , فإنه يصغر عند الله . فإياكم ومحقرات الذنوب فإن الصغير منها يدعو للكبير.

    يقول ابن مسعود : إن المؤمن يرى ذنبه كجبل يخاف أن يقع عليه , وإن المنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا .. أي أبعده بيده .
    فمن أي الفريقين ترى نفسك عند ارتكابك للذنوب ؟!!.

    أخي في الله :

    إن كنت في دنياك قد أسرفت , وعن ربك قد ابتعدت , فتدارك نفسك مادام في العمر بقية ،
    وابشر برب رحيم كريم حليم .
    يقول الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

    انظر إلى كرم الله ولطفه بك حتى وأنت مسرف على نفسك , لقد وعدك بغفران الذنوب كلها ولم يقل بعضها .

    فماذا عساك تنتظر بعد ذلك , وما الذي عن طلب مغفرته يؤخرك . أقبل على الله ولا تتردد.
    وأعقب كل معصية توبة , وكل خطيئة استغفارا ، وأبشر بكل خير.
    فلا أحلم ولا أرحم من الله .

    فهو الذي يأمر ملك السيئات حين تعصيه أن يمهلك ساعات قبل أن يكتبها عليك , رغبة منه أن تتوب منها.
    إن أصبت حسنة حط عنك بها من السيئات ،وضاعفها لك عشرات المرات .
    حتى وإن تماديت في ذنبك ، يظل الرب الرحيم يناديك ، وفي الكثير من آياته يدعوك .

    يقول لك الله جل وعلا في الحديث القدسي : (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة).

    عبد الله : لا تستكبر على الكبير وأنت الصغير ، ولا تستغن عن الغني وأنت الفقير.
    وأعلم انك لو مكثت سنوات طوالا في عصيانه , ثم أتيته يوما صادقا ترجو القبول , فسيفتح لك الأبواب , ويقول لك سبحانه : ( عبدي أطعتنا فقربناك , وعصيتنا فأمهلناك , وإن عدت إلينا قبلناك )
    فسبحانك يا ربي ما أعظمك ............. سبحانك يا ربي ما أحلمك.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا ، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ..... ثُمَّ عَادَ ، فَأَذْنَبَ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا ، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ،... ثُمَّ عَادَ ، فَأَذْنَبَ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا ، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ , قد غفرت لعبدي فليفعل ماشاء ).
    وقوله فليفعل ما شاء أي مادام أنه على هذه الحال يستغفر عن كل ذنب يقع منه.
    اللهم إنك تعلم أنا نحبك وإن كنا نعصيك , فاغفر لنا يا الله

    عادل محماس الرقاص-اسلام ويب
                  


[رد على الموضوع] صفحة 8 „‰ 12:   <<  1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de