أدبيات الإنفصال ... أوراق مبعثرة
حلقة (19)
نهج المعارضة ما بين أنسَخ وألصِقْ وكُـلّ سنة حلاوة
مصعب المشـرّف:
الندوة التي دعا إليها المؤتمر الشعبي كافة أحزاب المعارضة بهدف إستغلال إنفصال الجنوب للإطاحة بالحكم القائم . تذكرنا هذه بتلك الندوة التي عقدت عام 1964م في جامعة الخرطوم لمناقشة مشكلة الجنوب. والتي كانت الشرارة الأولى التي أوقدت ثورة أكتوبر الشعبية وأطاحت بالحكم العسكري الذي كان برئاسة الفريق إبراهيم عبود رحمه الله ...... ويبدو أن المعارضة ترغب في أن يكرر التاريخ نفسه وببلاهة على طريقة copy and paste ..... و "كلّ سنة حلاوة".
وقبل أن يتمادى حزب المؤتمر الشعبي في أوهامه وأكاذيبه المكشوفة نذكر قواعده وقياداته والناطقين والمنافقين بإسمه ؛ أن المعطيات والظروف عام 2011م تختلف عن تلك التي كانت عليها عام 1964م .... وأن الجيل الفاعل عام 1964م الذي كان لا يقبل فكرة إنفصال الجنوب جملة وتفصيلا ؛ لم يعد هذا الجيل عام 2011م كما كان على تلك الحماسة التي كان عليها حين كان تلميذا في مقاعد الدراسة الثانوية وطالبا في الجامعة أو عاملا في ورش السكة حديد والنقل الميكانيكي ........
ولقد تغير الكثير من المفاهيم طوال تلكم السنوات التي تفصلنا الآن عن عام 1964م ...... 47 عاما تحول فيها ذلك الشاب الثانوي والجامعي الذي كان يهدر صوته في شارع الجامعة إلى شيخ في أواخر الستين أو أوائل السبعين الآن ...... وخلال كل تلك السنوات التي مضت تبخر الكثير من القيم والمفاهيم وردود الأفعال ، وقد أنهكت الرطوبة وأوجاع المفاصل واليأس الجسد ....... ولا يمكن أن نتوقع منه أو نطلب منه إبتداء ترك مقعده من أمام التلفزيون ، أو تفويت مواعيد تناوله حبة الضغط وحقنة الأنسولين كي يشارك في تظاهرات عارمة ، ويبيت حتى صباح اليوم التالي في ميادين "أبو جنزير" و "عبد المنعم" و "ساحة الشهداء" ، ويركض خلف عناصر مكافحة الشغـب ليقذفهم بالحجارة .. أو أن يدبر هاريا من هراواتهم وعصيهم وكرابيجهم وخيول سواريهم ومسيل دموعهم كما كان عليه الحال أبان ثورة أكتوبر 1964م ........
قناعات جيل اليوم الفاعل الذي يمكن أن ينزل إلى الشارع ويصبح وقودا لثورة شعبية حقيقية ، يبدو واضحا أنها باتت غائبة عن وعي "أولاد الترابي" ..... ولم لا ؟ فالزهايمر هـو داء العـصر.
ربما نسي القائمون على التخطيط والإعداد لإثارة الشارع في التنظيم السياسي لحزب المؤتمر الشعبي ... ربما نسي هؤلاء أن الجيل القديم المشار إليه أعلاه والذي بات الآن على أعتاب السبعين . ثم الجيل الفاعل الطازج الساخن الذي لم يتخطى سنوات االثلاثين الآن .... هؤلاء جميعا إنكووا بسعير نيران أفكار زعيم وقيادات حزب المؤتمر الشعبي ، حين كان هو وهؤلاء على رأس السلطة منذ عام 1989م وحتى نهاية عام 1999م ، وفيما يتعلق بقناعات حرب الجنوب على نحو خاص.
ربما فات على التنظيم في المؤتمر الشعبي أن الكافة من الشعب في الشمال لم ينسى بعـد ، كل أو بعض ما كان يردده زعيمهم الترابي "المُنتظـَر" عن حرب الجنوب وروح "الإستشهاد" و "الحور العين" التي تنتظر في شوق ولهفة كل من يبذل النفس رخيصة في أدغال المتمرد جون قرنق والتي أسموها إعتباطا "ساحات الفداء" ..... ثم وفجأة ينقلب السحر على الساحر وينخلع الترابي رغم أنفه عن القيادة والسلطة ويخرج معه من خرج ؛ فيفاجأ الشعب بإنسلاخ الترابي عن جلده ودينه القديم على طريقة "يا فيها يا أطفيها" ثم إنقلابه على عقبيه ليهزأ بقيم البطولة والإستشهاد. ويعلن على الملأ أن كل من "أستشهد" أو سيستشهد" لاحقا إنما هو محض فطيس .... فلا فردوس أعلى ينتظره ، ولن يكون من عصافير الجنة الخضراء ، ولا أمل له في حِجْر وأحضان الحور العين كما كان يقال ، وفق بطاقات "التفويض الإلهي" التي كان يدعي الترابي ملكيتها والوكالة الحصرية لتوزيعها في السودان والدول المجاورة.
كانت حرب الجنوب فيما مضى ، وقبل قفز الترابي المنتظر إلى السلطة عنوة .... كانت هذه الحرب مقتصرة على قوات الجيش الحكومي النظامي في مواجهة خوارج ومتمردين على السلطة لأسباب مطلبية ..... ولكن الترابي وأولاده الميامين أعلنوا الجهاد بلا معنى ، وجندوا طلاب الجامعات وتلاميذ المدارس إجباريا ، وحولوها بقدرة قادر إلى حرب دينية ، وأدخلوا بذلك نيرانها إلى كل بيت من بيوت الشمال حين إنتزع شرارها زهور الشباب من صدور أمهاتهم ، لترمي بهم دون سابق خبرة أو تدريب إحترافي في أتون الجنوب ، ويعود هؤلاء إما في توابيت أو مجانين أو مشوهين أو قد بترت الألغام نصفهم الأسفل وباتوا كالضغاليم يصارعون حياة خير منها الممات ......... كل ذلك يجري "لأولاد الناس" في الشمال . لكنه لا يسري الأمر على أبناء الأتباع والذوات وأثرياء الجبهة ، ولا يسري بالطبع على فلذات أكباد القابعين فوق كراسي الحكم والعاضين بالضروس على مقاليد السلطة بلا تاريخ محدد لإنتهاء الصلاحية ... فأبناء هؤلاء هم أبناء المصارين البيض ولا يجوز مطالبتهم بما يطالبون به العامة من أولاد الناس ...... وحين يمتد السؤال لزعيمهم أو لأحد منهم لماذا لا تدفع بإبنك لحرب الجنوب؟ يجيب عليك بكل برود وجهالة وإستهتار : "إبني عاق" ...... حسناً ؛ إذا كان إبنك عاق فمن جق كل أب سوداني أن يمتنع عن الدفع بإبنه إلى الجنوب بذريعة أن إبنه عاق.
كان جراء ذلك وفيما يتعلق بجزئية المزاج الشعبي العام تجاه حرب الجنوب وتفسيره المبسط لمسبباتها ومبرراتها وكيفية إيقافها .... كان جراء ذلك أن فقد الشعب كل الثقة في إخوان الترابي المسلمين ومزاعمهم ومقولاتهم وأدبياتهم وإدعاءاتهم . وكرهوا الجنوب وأرض الجنوب وشعب الجنوب ورياح الجنوب وحتى الماء الذي ينحدر إليهم من الجنوب. وبات حلم الشمالي الأكبر هو فصل الجنوبي وإستقلاله بأرضه ليفعل فيها وبها وبنفسه ما يشاء ويحلو له وكيف شاء .... ومع 1000 سلام.
إن على عواجيز المؤتمر الشعبي والمعارضة السياسية وحاضنتها الطائفية أن يدركوا أن الكثير من المفاهيم والقناعات قد تغيرت منذ سنوات. وأن الجيل الذي إنكوى بنار الجنوب وأثخنته جراحها ، أو شردته أشتاتا كشذاذ الآفاق في بلاد الغربة والمهجر ...... هذا الجيل لم يعد يسمع أو يرى أو يتحدث عن ما يسمى بالوحدة مع الجنوب ، أو إمكانية الحياة معهم بلا جدوى ومعنى وطائل تحت سقف وطن واحد ...... وبدلا من تظاهرات الغضب بعد الإنفصال التي يتوقعها عواجيز المؤتمر الشعبي والأحزاب والطائفية . فإن الطبيعي المتوقع هو تظاهرات إحتفالية ومشاعر الفرح والزغاريد والتصفيق الحار بنجاح هذه العملية الجراحية الناجحة لإستئصال هذا الورم السرطاني الجنوبي المزمن الذي كان يحد من كل إمكانية بتحقيق الوحدة الوطنية ، ويعصف بآمال التطور والنماء والرخاء في الشمال ....
هذا الإنفصال الذي يجيء متأخرا جدا يوم 9/1/2011م كان يجب أن يكون منذ مؤتمر جوبا عام 1947م ....... قضي الأمر الذي فيه نستفتي ، ولينسى الشمال الجنوب ومأساته إذن ويمضي دون الإلتفات إلى الوراء ...... وأما أرواح الشمالي التي أهدرت عبثا بلا جدوى في أرض الجنوب فلها رب يكافئها .... وأما من كان السبب والمحرض والمُضِلّ العابث بهذه الأرواح فإن الله يمهل ولا يهمل.
من جهة أخرى فإن العقل الشمالي الواقعي الواعي بعيدا عن أجندة سياسية تحكمه يؤكد ضرورة العمل على الحفاظ على إستقرار الشمال خلال هذه المرحلة التي تواكب إنفصال الجنوب أو تأتي لاحقة له ..... وتحذر من أن أي محاولة لبث الفرقة وخلخلة الأمن في الشمال ستكون لمصلحة الحركة الشعبية وطابورها الجنوبي الخامس في عمقنا ومجالنا الحيوي إضافة إلى عملائها المذعورين من الحركيين الشماليين بقيادة ياسر عرمان .....
وغني عن القول أن من مصلحة الحركة الشعبية والإنفصالي الجنوبي بوجه عام تفشي حالة عدم الإستقرار في الشمال ، حتى تكرس إحتلالها لمنطقة أبيي ، وتمارس أبشع عمليات التطهير العرقي ضد أبناء قبيلة المسيرية هناك.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة