مُتْعَبٌ حتّى العياء...!
بقلم: الدكتور نائل اليعقوبابي
*( أيها الناس هذي سفينة حزني – وقد
غرق النصف منها قتالاً – بما غرقت عائمة)
- مظفر النواب –
إلى: هاديا سراج
- حالات -
- 1 –
- مذ كنتَ ولداً صغيراً تلعبُ في الحقول والبراري والحواري، وتتشعلق على مئات الأعشاش، وتغسل خصلات شعرك ووجهك المحزون بالماء السماوي، وتلفك الدروب على غير هدى.. حتى إذا ما انطفأ ضوء النهار، وحل المساء، وعمت العتمة، تكوّرت باكياً مرتجفاً بالقرب من أمّك الثكلى التي لم تعطها الأيام سوى البكاء والنحيب والنشيج والحزن الراحل في كل الأوقات والمقيم في كلّ الأمكنة..
مذ كنتَ ذلك الولد الصغير.. ومذ شبَّ فيكَ الزمن، وفاض بكَ الربيع والصيف والمطر، ودنتْ منكَ اللحظة الخريفية.. وأنتَ مغرم بالشعر من الملك الضليل وفارس الفرسان وآخر القدماء وأول المحدثين والمجنون وصريع الغواني وزين الشباب وربّ القوافي وعاشق ولادة بنت المستكفي..إلى صلاح احمد إبراهيم ومحمود درويش وجيلي عبد الرحمن ومحي الدين فارس، والراقد في فراش المرض محجوب شريف..
- إلى أين وصلت؟
- الشعر العالي والفرح لا يلتقيان .. الكلمة والدمعة في عناق أبدي .. الصراع والمعاناة والألم وإراقة الدماء من السمات الحاسمة لحياة البشر على أرضنا من قابيل وهابيل إلى آخر قاتل وضحية على وجه المعمورة.
- 2 –
- مالك كلما حاولتْ أن ترسم وطنك المشتهى انكسرت أقلامكَ، وغامت ألوانك، وارتجفت فرشاتك في يديك ارتجاف العراة من البرد، وكحلت السماء واكفهرت فوق رأسك ومادت الأرض ومالتْ تحت قدميك، وفاضت عيناك، وسال قلبك...؟!
لا أعرف.. أتعرف أنتِ
- لا.. لكن يُروى، فيما يروى، أن ( جحا السوداني) ذات صباح اكتشف أن داره قد سطا عليها اللصوص، ولما سمع أهل البلد بالخبر توافدوا عليه من كل حدب وصوب، وراحوا يسألونه عن هذا الذي جرى، وأين كان؟ كأنهم يظنونه كان مع اللصوص أثناء السرقة، وانهالوا عليه لوماً وتقريعاً وتعنيفاً، فراح أحدهم يقول له: كيف يحدث هذا وأنت نائم لا تستيقظ؟ هل كنت في نوم أو موت؟ وقال ثان ٍ: هب أنك لم تسمع، كيف بزوجتك، ألم تسمع هي الأخرى؟ وقال ثالث: إنك بلا شك مقصر لأنك لم تضع لباب الدار قفلاً متيناً، وراح رابع يقول: لو أنك كنت اقتنيت كلباً شهماً ما استطاع اللصوص أن يقتربوا من الباب.. وهكذا شرع كل واحد منهم يدخل من باب في لومه وتقريعه وتعنيفه، فقال جحا بغيظ مكتوم: حسبكم يا أهل بلدتنا، إنكم أهل إنصاف حقاً، لقد أشبعتموني لوماً وتقريعاً وتعنيفاً، وما رأيت واحداً منكم يذكر اللصوص بكلمة سوء.. فهل أنا الجاني الأثيم، وهم الأبرياء الشرفاء؟
- 3 –
- على امتداد ما يقرب من ألف عام ونيّف وأنا مُولع باللغة العربية وآدابها.. أفنيتُ شطراً من حياتي في إتقان قواعدها وصرفها، وفي معرفة خصائصها، وفلسفتها وأسرارها البلاغية.. والآن أفني الشطر الآخر لأنسى ما أتقنتُ وما عرفت وما فهمت وما حفظت.. مستجيراً بأحدث المنجزات الطبية الغربية منها والشرقية..!!
- لم يبق من لغتكَ الخضراء الجميلة ومجدها إلا النصب والخفض والسكون، الأمر والنهي والمدح والسني وسوف، المفعول به ومعه وفيه، الاستثناء وما يلحق به، التحذير والإغراء ونونا التوكيد والممنوع من الصرف والكناية والتورية، والأفعال الناقصة والمعتلة والمبنية للمجهول..!
- 4 –
(همنغواي) في (الشيخ والبحر) يريد أن يقول: (إنّ الإنسان قد يدُمَّر وقد يموت ولكنه لا يُهزم)، و ( عبد الرحمن منيف) في ( حين تركنا الجسر) يعلن: ( إن الإنسان المهزوم إنسان مدمّر حتى ولو بقي على قيد الحياة).و(وول سونيكا في رائعته ( القناع) يقول: الإنسان المهان إنسان ميت)، ويقول (سيكوف) هناك ألم عظيم، وشريف.. وسام، وهناك ألم موجع وقاس، وتافه..
- ماذا تقول؟
- أقول ما قال ( إيليّا أبو ماضي): أنا ( أعظم حيرة من فارس تحت القتام، لا يستطيع الانتصار، ولا يطيق الانكسار).
- وماذا تعلن؟
- وقتي الموغل في التاريخ والجغرافيا والطبيعيات مثقل باللون الأسود والأحمر والرمادي، وبالأنين والعويل والأشلاء والأعضاء و( أبي رغال) والسيّاف.. وبهذا التعذيب الجسدي والنفسي والروحي الذي يعيدني إلى أمُي الأولى ( هاجر)..
- وماذا بعد؟
- يتمزق عمري ما بين الاثنين شظايا..
- وفي الختام..
- أصرخُ كما صرخ ( مصطفى سعيد) في (موسم الهجرة إلى الشمال) وهو في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب ( النجدة .. النجدة).
- 5 –
قضيتُ طفولتي وشبابي.. وما زلتُ أقفز لاهثاً، ملهوفاً، مذعوراً، ملوعاً، قلقاً وخائفاً.. من مكان إلى آخر، ومن حلم إلى صنم، ومن كتاب إلى سجن، ومن صديق إلى قاع، ومن امرأة إلى انشطار روح، ومن عنب وتفاح إلى شجن، ومن هاجس قلم إلى احتراق صدر، ومن لفافة تبغ وقصيدة وموسيقا ووطن في طريقه للضياع والانقسام والاحتراب..
- أكملْ..
- ما عدتُ أقوى على الكلام وعلى الظلام
- أكملْ.. قلْ ما الذي وجدته في نهاية المطاف؟
- الفراغ والحطام والانكسار والوحدة الأزلية..
- تابعْ..
- أتريدني خارج الحياة؟ انصرف عني، دعني وشأني فأنا مُتعبٌ حتى العياء..
[email protected]
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة