صراع السياسة على أرض الثقافة
قضية الاستفتاء نموذجاً
بقلم: الدكتور نائل اليعقوبابي
.. عندما ادانت احدى المحاكم الفرنسية ضابطاً فرنسياً يدعى دريفوس في عام 1894 بتهمة تسريب معلومات عسكرية إلى ألمانيا عدوة فرنسا التقليدية، ظهرت القضية وكأنها مرتبطة بقصة تجسس وخيانة وطنية يستحق مقترفها الإهانة والادانة العظمى، غير ان تعقد الوضع الاجتماعي السياسي في فرنسا في ذلك الوقت حول قضية دريفوس إلى قضية شأن عام، بحيث تحولت إلى قضية سياسية كبرى عصفت بالحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا وقسمت الشعب الفرنسي ونخبته إلى مناصر لدريفوس ومعاد له.
اضافة إلى ذلك فقد اعطى مشاركة الأدباء والمفكرين الفرنسيين في الصراع حول هذه القضية الحياة الثقافية الفرنسية صورة جديدة برزت في ظهور أول بيان في تاريخ الفكر الغربي توقعه جماعة من رجال الأدب والفكر، تسمي نفسها جماعة المثقفين وأطلقت على بيانها أسم ( بيان المثقفين) وقد نشر في جريدة الفجر عام 1898 محتجين على الحكم الصادر في حق دريفوس، ومطالبين العدالة بأن تعيد النظر في القضية، وقد حمل البيان وقتها توقيع اسماء كبرى مثل إميل زولا واناتول فرانس ومارسيل بروست وليون بلوم.
في هذا التاريخ بالضبط تم اعلان ميلاد المثقف وشهدت الحياة السياسية الفرنسية صراعاً حاداً حول المفهوم ذكر شيئاً منه لالاند في موسوعته الفلسفية الشهيرة، لقد اعتبر بعض المثقفين الفرنسيين ان هذه القضية تمس شرف الجيش الفرنسي وتهزأ بالدولة الكيانية أو الجمهورية الثالثة، وقد مثل هذا التيار موريس باريس واعضاء الأكاديمية الفرنسية في حين رأى آخرون ان هذه القضية انما تمثل تهديداً للديمقراطية وتكريساً للعنصرية ومدا للسيطرة العسكرية، وقد مثل هذا التيار اليسار الفرنسي كجان جوريس وليون بلوم اضافة إلى بعض الرمزيين كأندريه جيد ومارسيل بروست، ثم دخل إلى حلبة الصراع اميل زولا بكل ثقله الثقافي في هذه القضية من خلال سلسلة مقالات، كان أشهرها تلك المعنونة ب (اني اتهم) والموجهة إلى رئيس الجمهورية ويدين فيها الاجحافات والتدليسات والجرائم القضائية للقيادة العليا للجيش.
لقد قسمت قضية دريفوس المشهد الثقافي الفرنسي حينذاك إلى صراع بين جيلين، جيل الأكاديميا الفرنسية العريقة وجيل اليسار الفرنسي المتجدد آنذاك، لقد ظهر في ذلك الوقت ناقد اكاديمي فرنسي وقف ضد جيل المثقفين، بل ضد مفهوم المثقف نفسه ووصف بيان المثقفين بأنه حماقة وتعجرف وفظاظة، واعتبر ان المثقف ليس اهلاً للنزول إلى الساحة العمومية وليس أهلاً لأن يلج عالم السياسة أو اطار النظام المجتمعي العام من باب الثقافة، ورفع هذا التيار شعار مصلحة الدولة العليا والجيش واعتبر ان المثقف عليه إلاّ يتدخل في هذه القضية.
لقد اخذ السجال السياسي إذاً في تلك الفترة طابعاً ثقافياً وتحول الصراع حول مفهوم (المثقف) إلى صراع يخفي بداخله تيارين، تيار يرى ان مصلحة الدولة هي الأهم ويجب العمل على ترسيخها وتدعيمها، وتيار آخر يعتبر ان المجتمع والمثقف الذي اخذ وظيفة التعبير عن المجتمع عليه ان يحاسب هذه الدولة وان يراقب ويتابع انشطتها ووظائفها.
ووفقاً لقضية دريفوس نفسها اخذ المثقف شهادة ميلاه وتحدد مفهومه على انه سياسي بالسلب، وأنه لا يقبل الاندغام بالدولة أو الاندماج فيها لأنه يحافظ دوماً على مسافة دائمة تتيح له دائماً ممارسة النقد والقيام بوظيفته الذي اشترط وجوده بوجودها.
فإذا اردنا الآن ان نقرأ تلك الحادثة الفرنسية بعيون ( الخصوصية) السودانية في ظل الواقع التاريخي الراهن، لوجدنا ان قضية الاستفتاء التي يدور حولها السجال، الكثير في المشهد السياسي والثقافي السوداني انما تخفي بداخلها صراعاً بين من يؤيد دوراً متزايداً ومهيمناً للدولة في المجال السياسي والثقافي العام، وبين من يرى ضرورة ان يجترح المجتمع الجنوبي سياقاته التعبيرية الخاصة من حقه في تقرير مصيره في ظل تعنت النظام الحاكم، أنها رغبة باختصار رغبة المجتمع الجنوبي في ان يمتلك حرية نفسه لأنه بدونها لن يكون له وجود، وسيبقى وليداً تجب له الرعاية والحماية.
فحق تقرير المصير مفهومياً قد يكون مختلفاً عن كل السياقات السياسية والاجتماعية التي تنشأ من ضمنها في المجتمع السوداني. التعريف الاكاديمي غالباً ما يكون حبيس نصه ويكون الرهان العملي على المفهوم على أرض المجتمع الذي يكفل له حيويته وتعريفه الخاص به، فالقضية ابداً لم تكن مدى ارتباط دعوة المثقفين الجنوبيين، أو بعض موتوري نظام المؤتمر الحاكم المنادين بضرورة انفصال الجنوب مع تعريفه النصي الاصلي المسطور في اتفاقية نيفاشا، وأنما مدى قدرة هذا المفهوم على تكثيف الدعوة الاجتماعية الطموحة إلى الوحدة الطوعية الجذابة والراغبة في ان يسترد هذا المجتمع الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي الذي ابعد عنه طويلاً.
وهذا مالا يرغب المثقف السوداني في قراءاته لانه راغب دوماً في لعب دور الاكاديمي أو التنويري الذي يدافع عن الدولة ومشروعاتها، دون ان يعيد النظر في مقولات الدولة التاريخية نفسها وتحوير مسار النقاش من الرغبة في التقدم في مشروع التغيير والنهوض إلى مشروع اشبه بالشخصي يقوم على دعم مشروع الدولة وعلى التنوير المزعوم.
أنه يعيد دور الرجل الاكاديمي في قضية دريفوس اذ انه بدءا ادان بيان المثقفين ال (99) واعتبره بياناً يفتقد على الصياغة المفهومية التاريخية الواعية للشروط المجتمعية، وبنفس الوقت رفض دعوة حق المجتمع الجنوبي في حق تقرير مصيره لأنها لا تدخل في ضوء الواقع التاريخي المشخص الذي يشترط وفقه تحقق الدولة الوطنية أولاً.
ان المستقبل التاريخي في المجتمع السوداني يفتح باتجاه إنفصال الجنوب وهذ ما لمسناه واضحاً، لذلك فاللحظة التاريخية انما تقتضي الالتحام الوطني، في مشروع الوحدة الوطنية، وليس الدخول في نقاش مشاريع ثقافوية شخصية تتضمن في داخلها الكثير من النرجسية والرغبة في لعب دور المركز، اذ ان قوى التغيير ترتبط بدءاً بمدى اللحمة الاجتماعية والشعبية ولا ترتبط بالصياغة المفهومممية والالق النصي ان قضية الاستفتاء إذا هي قضية رغب من خلالها المثقفون الجنوبيين ان يسمعوا صوتهم لضرورة اشراك المجتمع في عملية التغيير القادم، وان يكون له دور في الشأن العام السياسي والاجتماعي والثقافي وهذا لن يتحقق الا من خلال السماح بإجراء استفتاء حر ونزيه، وان يسمح بوجود العديد من الجمعيات الاهلية والمدنية والحزبية والنشاطات التي تشرك العديد من الشرائح والفئات الاجتماعية في برنامجها، اذ بدون ذلك سيبقى النقاش ثقافوياً محضاً لا يجدي ولا يولد ثمراً.
قرأت لك:
أسوأ الشعوب: شعوب تمسك بها النيران من كل جانب ولا تحاول أن تصرخ.، وتحيط بها النكبات من كل مكان ولا تحاول أن ترفض.، ويحكمها الشر وترضى.، ويسود فيها الصغار وترضخ.،، ويذبح فيها الشرفاء كل يوم.. وتضحك.
[email protected]
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة