ناس الزقازيق ... أجدع ناس ..

Quote: قراءة في سِفر الخروج مساحة الحزن أكبر من عبارات الوصف .. الخطب فادح .. المصاب جلل والفقد عظيم .. ولكن لا نملك غير أن نقول ما يرضي الله ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) فيها العزاء والامتثال بقضاء الله وقدره .. سماء بلادي حجبتها غيوم كئيبة .. في ذلك اليوم "الأغسطسي" وكعادتي خلال العطلة الصيفية توجهت للإذاعة المحلية حيث أعمل بها متعاوناً .. وما أن شرعت في (مذاكرة) البرنامج حتى دلف عليّ حزناً في هيئة رجل .. كان يحمل ورقة وكأن حملها قد ثقُل عليه .. حينما قدمها لي .. شعرت وكأنه يطلب مني تكذيب ما بها .. أخذتها منه بدافع فضولي .. وما أن وصلت سطرها الثاني .. وجدت نفسي أجهش بالبكاء .. دونما وعي مني .. إن النفس لتجزع .. و (كل من عليها فان) .. استغفر المولى .. تنحدر الدموع متسابقة .. لم أفلح رغم محاولاتي في كبح جماح حزني الذي استحال صمتاً أشبه بالجنون .. أحدق في كل شيء إلا الورقة التي لا أعلم أين هي .. والناعيّ الذي وقف مشدوهاً أمامي .. أمضي إلى حيث زمان جمعني به .. ما بين البداية واللحظة تستوقفني محطات كثيرة .. يوم أن رأيته حسبت أن ملاكاً ضلّ طريقه إلى عالمنا .. وكأن في داخلي هاتفاً يحدّثه .. ما هذا مكانك يا صاح .. ما هذا زمانك يا أبا عمار .. أشهد حقيقة .. حقيقة الرب .. إنني عهدته أخلاقاً طيّبة وقيماً سمحة وخصالاً ندر وجودها إلا في زمان الصاحب والصحابة .. يزداد تعلقي به و إحترامي له .. لأن السديد كان قوله والصائب دوماً رأيه .. وكم كان فخراً لي حينما ابتسم لي حظي وجمعني معه في مساحة أكاديمية بالزقازيق .. توثقت عرى علائقاً سابقة وتوطدت .. رغم أن سنة واحدة كان عمر زمالتنا .. إلا أنني أخالها دهراً كاملاً .. أنسى تباريح الغُربة كلما جالسته .. لأنني أتنسم في كلامه عبق الوطن .. وأجد في صدره سعة الدار الرحب .. يجول في خاطري قول القائل الذي أثار حفيظتي إذ لم يقل ( إن نفس لم تعرف "ياسر" هي نفس لم تعرف ما معناها .. أهدأ حينما أجد نفسي موقناً أن كل ما هو جميل هو ياسر .. أرى إعجاب الآخرين فيضاً يستوعب غيض إعجابي يزداد حبي له .. يأسر ياسر الفؤاد وهو يتقدم الصفوف .. يمتطي صهوة الأمل الأخضر ليعجل الوصول إلى شعبي الواقف على رصيف التغيير والإنتظار .. حيث رائحة الأرض أطيب من لافندر باريس .. وحكمة الوطن أبلغ أثراً من تشدّق الأكلة .. وروعة الانتماء .. ليس كمثلها روعة .. أراه يوم أن شرعنا في إسداء جزء من الدين من خلال العمل الصيفي في نجوع و بوادي كردفاننا الحبيبة .. أراه بعلم الخبير يوجهنا ( لن يغيِّر الله ما بنا .. حتى نتواضع فيرفعنا ) كنا يومها في أم عشيرة .. ومع دقّات معاولنا اختلس نظرة إليه وهو يمسح التراب من جبينه الطاهر ـ ليلقي علينا ( طرفه ) كثيراً ما تخفف عنّا ضجر "الأفندية" كان طريفاً بغير انتقاص... ويستمر العمل حتى يزف موعد العودة .. يلقاني يوم الرحيل يحملني الأشواق .. "لكل الزقازيق" أحملها وفي القلب حسرة ولسان حالي يلهج .. حتماً سنلتقي ( يا ود الزين ) لكن أرجو ألاّ تقطع عني أخبار الأهل والبلد .. يبتسم !! تبكي سماء مدينتي وكأنها لم تبكِ من قبل .. على صوت الساعي أفيق .. من شرودي لأجد نفسي ممسكاً بالورقة التي كنت أبحث عنها .. انتفض واقفاً .. أرفع يديّ أمام الناعي الذي ردّد معي .. "اللهم أرحم ياسراً" أحتضن الناعي وكأنني أتشبث بياسر أو بكل ما يقرّبني منه. يقطع صمتنا الساعي .. ( الكهرباء جات .. الأستديو جاهز .. ) أعتذر عن كل ارتباطاتي .. أسابق خطى أرجلي التى تهاوت من حمل أحزاني كحزني الطاغي .. أدلف إلى داخل داره في حي أمير قبالة سجن المدينة .. أردد بذهول : ياسر لم يمت لأن "ما كل من فات مات" .. النوائح اللائي اختلطت دموعهن بدموع السماء .. لن يقدرون على حصر مآثره مهما تفنّن في النحيب و البكاء السجعي .. ياسر الزين عبد القادر .. زميلنا الراحل إثر حادث حركة أليم في طريق القضارف / مدتي أكبر من أن تستوعبه كل التعابير الجميلة التي تحدث عنه .. والكلمات الحزينة التي ودّعته .. ياسر ذهب إلى حيث الصديقين والشهداء .. مكانه الطبيعي بإذن من الله .. رحم الله ياسراً .. أتمتم بها مع كل قادم . ينهض أحد الإخوة متثاقلاً من مكانه .. يهمس في اذني ( قل للنساء .. كفى بكاءً لأن ياسر حيّاً لم يمت .. باقِ فينا وفي دواخلنا ..قل لكل مكلوم .. ياسر حي لم يمت )... عصام الدين دهب علي الأبيـض 4 / حقوق