إستفتاء تقرير المصير بجنوب السودان ...هل التأجيل ممكن ؟
أسماء الحسينى
[email protected]
مع بدء العد التنازلى بإتجاه موعد إستفتاء تقرير المصير المقرر بجنوب السودان فى 9 يناير المقبل يتحول الترقب العالمى للمشهد السودانى إلى قلق ،وتكاد المخاوف والظنون بشأن إمكانية تجدد النزاع والحرب تتحول إلى حقائق ماثلة وشاخصةللعيان ...والتحذيرات الإقليمية والدولية التى بدأت على إستحياء أو بشكل غير مباشر فى الدعوة للتأجيل أو التحذير من مخاطر الإستفتاء بدون حل المشكلات العالقة بين الشمال والجنوب ... هاهى الآن تعلو رويدا رويدا مع إقتراب موعد الإستفتاء الذى تراه القيادات الجنوبية موعدا مقدسا لاينبغى العدول عنه بأى حال من الأحوال ،وتشدد الرئيس الأمريكى أوباما وأركان إدارته فى التأكيد على وجوب الإلتزام به ،وكذلك العواصم الغربية .
التحذيرات تنطلق من المنطقة العربية واضحة على لسان وزير الخارجية أحمد أبو الغيط وكذلك على لسان وزير الخارجية السعودى الأمير سعود الفيصل ،بل ويذهب أبو الغيط إلى أبعد من التلميح بوجوب تأجيل الإستفتاء بموافقة شريكى الحكم فى السودان ،ويعلن عن طرح مصر خيار الكونفدرالية بين الشمال والجنوب تحسبا لوضع كارثى تستشعره مصر الأكثر قربا من الملف السودانى ،ولم يخف أبو الغيط مخاوف مصر من عواقب هذا الوضع الكارثى ،بل وأعلن صراحة أنها تتحسب لنتائجه وفى مقدمتها تدفق أعداد كبيرة من السودانيين فى حال نشوب قتال بين الطرفين ،وعندما تعلن الدبلوماسية المصرية المتحفظة ذلك وهى التى تحرص على الإلتزام بمسافة واحدة من كل الأطراف السودانية وتحتفظ معها جميعا بعلاقات جيدة ،بل وتشاركها السعودية هذا الرأى وتعلن موقفها صراحة ،فربما يسترعى هذان الموقفان إنتباه وإعتبار الأطراف الدولية التى اكتفت فى السابق بقرع ناقوس الإستفتاء دون النظر إلى الإستعدادات بشأنه .
ويدعم هذه المخاوف التصريحات التى أطلقتها فاليرى أموس الأمين العام المساعد للأمم المتحدة خلال زيارتها لجوبا مؤخرا ،والتى حذرت فيها من أن إجراء الإستفتاء ينطوى على مخاطر غير مسبوقة ،قد تؤدى إلى أزمة إنسانية فى حال إندلاع العنف .
وعن التطور فى الموقف الأمريكى من هذه القضية قالت صحيفة "واشنطن بوست ":مع ضيق الوقت زاد القلق داخل إدارة الرئيس أوباما من إمكانية عودة الحرب الأهلية فى السودان ولهذا تفكر فى تقديم إغراءات جديدة للحكومة السودانية للتعاون فى الإستفتاء ليكون سلميا ،وأضافت الصحيفة :إن القلق يزيد فى واشنطن لأن إجراءات الإستفتاء تسير ببطء غير عادى .
وصار القلق الأمريكى الآن واضحا من ألا يتم الإستفتاء أو يتم دون حرية ونزاهة ومن أحتمال نشوب حرب سواء صوت الجنوبيون لصالح الوحدة أو الإنفصال ،ففى الحالة الأولى لن تقبل الحركة والجيش الشعبى وقيادات حكومة الجنوب بالنتائج ،وفى الحالة الثانية لن يقبل بها الشمال ،وقد حذر الباحث الأمريكى جون براندر قاست مؤسس مركز "كفاية "وأحد المتشددين تجاه الرئيس السودانى عمر البشير من أن سفك الدماء القادم فى السودان سيكون أسوأ من أى سفك دماء فى الماضى،واتهم حكومة البشير بأنها تعرف كيف تظل فى الحكم بأى طريقة ممكنة ،وكيف تستخدم ميليشيات قبلية استخداما فعالا وغريبا،وانتقد قاست سياسات أوباما تجاه السودان ووصفها بأنها ضعيفة وغير فعالة،وكرر قاست الذى كان يعمل مستشارا لشئون الجنوب فى عهد بوش إنتقاداته لسكوت جرايشين المبعوث الأمريكى للسودان الذى وصفه بأنه ينتهج سياسات تصالحية تجاه البشير ، ويشاركه الرأى فى ذلك منظمات مسيحية ويهودية وجماعات الأمريكيين السود.
والأرجح أن يقابل أى توجه نحو تأجيل الإستفتاء بترحاب من حزب المؤتمر الوطنى الحاكم الذى يتزعمه الرئيس السودانى عمر البشير وأطراف أخرى فى شمال السودان كانت تترقب الموقف بخوف وحذر شديدين ،رغم إضطرارها للإعلان بأنها ملتزمة بإجراء الإستفتاء فى موعده ،والخوف والحذر مرجعهما ذات المخاطر التى يبرزها الآن المجتمع الدولى والإقليمى وأكثر منها ،فغالبية القوى السودانية تعلم أن الإنفصال فى حال وقوعه فى ظل الأجواء الحالية التى يراها الشمال غير حرة أو نزيهة وبدون حل المشكلات العالقة فلن ينتج عنه إلا خلافا حول نتائجه، مما قد يقود إلى أعمال عنف قبل الإستفتاء أو أثنائه أو بعده ،وفى حال وقوع الإنفصال يتوقعون أن يفضى إلى دولتين عدوتين متحاربتين ،كما أنه لن يكون نهاية المطاف فى السودان وسيؤدى إلى خلخلة أوضاع عدد من المناطق الشمالية ،وربما إلى أوضاع غير مستقرة فى الشمال والجنوب على حد سواء أو تفكيك السودان كله .
وفى الجنوب يبدو الوضع مغايرا ،حيث تم حشد الجماهير الجنوبية وتأجيج مشاعرها من قبل قيادات الحركة الشعبية وحكومة الجنوب من أجل يوم الإستفتاء بإعتباره موعدا للخلاص من حكم الإستعمار الشمالى وللتحرر من المظالم والقهر والحرب التى يتهمون الشمال بممارستها ضدهم منذ رحيل المستعمر الإنجليزى عام 1956،ومن أجل ذلك تصاعد الخطاب الإنفصالى فى الجنوب ،حتى على ألسنة قيادات الحركة الشعبية الذين كانوا ينادون مع زعيمهم الراحل الدكتور جون قرنق بوحدة السودان على أسس جديدة من المساواة والعدالة،وقام الجنوبيون بإستعدادات كبيرة من أجل إستقبال ذلك اليوم الموعود ،فقد ألفوا نشيد الدولة الجديدة ،واستدعوا أعدادا كبيرة من مواطنيهم بالخرطوم ومدن الشمال السودانى ،بل ومن عواصم العالم التى هاجروا إليها من أجل بناء دولتهم المرتقبة .
.....لكن يبدو أن هذا الخلاص الجنوبى من الشمال الذى يتم الحشد والتعبئة له فى الجنوب بشكل مكثف ليس ممكنا بالسهولة التى يتوقعون أو تلك التى يتوقعها المجتمع الدولى أو بعض الأطراف فى الشمال ،ورغم كل المحاولات لتمرير الصفقات من أجل ذلك ،وربما يعود ذلك إلى طبيعة شمال السودان وجنوبه اللذين يبدوان مثل توأمين ملتصقين يتشاركان القلب والرئة والأحشاء ،وفصلهما يحتاج إلى عمليات جراحية معقدة قد تقضى على التوأمين معا ،وهذا هو حال السودان الذى لن يكون مفيدا لأى من شطريه التقسيم دون أعراض جانبية خطيرة ،والتقسيم هنا ليس تقسيما فقط لقطعتى أرض فى الشمال والجنوب ،بل سيكون تقسيما لبشر ومصالح وتاريخ ومستقبل ،وهو مايستدعى بلاشك إتفاقات عادلة تحافظ على كل هذه الروابط والوشائج ،وأيضا المصالح وفى مقدمتها البترول الذى ينتج جنوبا ويصدر شمالا ،والديون المشتركة ،والأهم من كل ذلك البشر ،ليس فقط الجنوبيين فى الشمال والشماليين فى الجنوب ،وإنما أيضا هذا الحزام الكبير الذى يقطنه الملايين من السودانيين على إمتداد خط الحدود بين الشمال والجنوب والذى يبلغ طوله قرابة ألفى كيلومتر ،وهذا الشريط الحدودى إما أن يصبح مكانا للتعايش السلمى وتبادل المصالح بين الطرفين ،وإما أن يصبح خط من نار ودمار للشمال والجنوب على حد سواء.
وحول التأجيل يؤكد عبد الله مسار مستشار الرئيس السودانى أنه لايمكن إجراء الإستفتاء فى موعده ،وأنه قد يتأجل بضعة أشهر لأسباب عديدة ،من بينها عدم حسم قضايا ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب وكذلك الترتيبات الأمنية وعدم حل قضية أبيى الحدودية أو تسوية قضايا مابعد الإستفتاء وهى البترول والمواطنة والديون والإتفاق على المشورة الشعبية فى منطقتى جنوب كردفان والنيل الأزرق وغيرها من القضايا التى تحتم وجود رؤى واضحة بين الجانبين فى حال الإنفصال أو الوحدة ،فضلا عن الجانب الفنى ،وحذر من أن قيام الإستفتاء بدون إستيفاء شروطه سيجعل من نتيجته مثار صراع بين الأطراف داخل الشمال والجنوب ،بل داخل الجنوب نفسه ،الذى قال إنه تتوافر فيه عوامل الصراع على أساس قبلى .
بينما يؤكد باجان أموم الأمين العام للحركة الشعبية ووزير السلام بحكومة الجنوب رفض حكومته للمقترح المصري بإنشاء وحدة كونفيدرالية بين شمال السودان وجنوبه " .وأشار إلى أن الوزيرين أبو الغيط وعمر سليمان أكدا موقف مصر القاضى بدعم قيام الإستفتاء فى مواعيده وإحترام خيار شعب جنوب السودان لدى زيارتهما الأخيرة إلى جوبا ، ونصح أموم كل من لديه مقترحات تتعلق بمستقبل العلاقة بين الشمال والجنوب بأن " عليه أن يعمل على قيام الإستفتاء فى مواعيده أولاً وإحترام مخرجاته وتأكيد تنفيذها " مؤكداً على أهمية التركيز على نوع العلاقة بين الشمال والجنوب بعد الإستفتاء بما يخدم مصالح الشعب السودانى فى حالتى الوحدة أو الإنفصال وعلى أن تكون علاقة مبنية على أساس سلمى تعاونى بهدف بناء السلام وتحقيق الرفاهية للشعب السودانى .
ربما يكون من الصعوبة البالغة بالنسبة للجنوب القبول بأى تأجيل للإستفتاء ،وقد يؤدى تراجع القيادة الجنوبية عن تمسكها بالموعد المضروب إلى مشكلات ضخمة لها فى الجنوب ،وهم من كانوا يسارعون الزمن للإنفصال ،ويجاهدون من أجل التغلب على أى خلافات داخلية قد تنال من وحدة الصف الجنوبى تجاه موعد الإستفتاء ،وكانت قيادات الجنوب قد صعدت من حدة مواقفها تجاه الشمال فى الفترة الماضية ،متهمة إياه بالسعى للمماطلة واللعب بالوقت لتأجيل موعد الإستفتاء من أجل إيجاد أرضية صالحة لماتصفه بألاعيبه فى الجنوب وسعيه لشق الصف الجنوبى .
واستبعدت مصادر سودانية أن توافق الحركة الشعبية وحكومة الجنوب على أى تأجيل ،وقالت :إنها إن فعلت ذلك فستكون مثل من يحفر قبره بيديه لسببين،أولهما أن أى تأجيل سيكسب حزب البشير "المؤتمر الوطنى "وقتا لإعادة ترتيب أوضاعه فى الجنوب لغير صالح الحركة الشعبية وحكومة الجنوب،وثانيهما أن طرح التأجيل قد يقسم الجنوبيين فى الحركة الشعبية وحكومة الجنوب الموحدين حاليا خلف الإستفتاء ،إذا قبل به فريق ورفضه آخر ،واستبعدت هذه المصادر كذلك أن يجد التوجه المصرى السعودى للتأجيل صدى فى الولايات المتحدة التى تركز كل ضغوطها الآن على الخرطوم للوفاء بتعهداتها .
فى حين قالت مصادر سودانية جنوبية : إن المؤتمر الوطنى يسعى الآن لشن حرب نفسية ضد الحركة الشعبية وقياداتها للنيل من مواقفها وعزيمتها ،فمرة يروج لخرافات دجال ومشعوذ إسمه بلة الغائب يقول إنه يتنبأ بأن يصوت الجنوبيين للوحدة فى إستفتاء تقرير المصير وأن يفر سلفاكير يوم التصويت إلى دولة مجاورة،ومرة يزرعون بذور الشك بين القيادات الجنوبية ،تارة عبر الترويج لتصريحات مختلقة من سلفاكير تسىء لنائبه رياك مشار ،ومرة أخرى عبر الترويج لأساطير فى الجنوب تتنبأ أن يحكم مشار الجنوب ،فضلا عن محاولات الوقيعة بين الجنوب والدول العربية بالترويج لتصريحات منسوبة لسلفاكير عن إعتزامه إقامة علاقات مع إسرائيل بعد الإنفصال وإفتتاح قنصلية لها فى جوبا أو بالزعم بأن إسرائيليين يدربون الجيش الجنوبى أو يزودونه بالسلاح .
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة