صوت من لا صوت له وطن من لا وطن له
الصفحة الرئيسية  English
المنبر العام
اخر الاخبار
اخبار الجاليات
اخبار رياضية و فنية
تقارير
حـــوار
أعلن معنا
بيانات صحفية
مقالات و تحليلات
بريـد القــراء
ترجمات
قصة و شعر
البوم صور
دليل الخريجين
  أغانى سودانية
صور مختارة
  منتدى الانترنت
  دليل الأصدقاء
  اجتماعيات
  نادى القلم السودانى
  الارشيف و المكتبات
  الجرائد العربية
  مواقع سودانية
  مواضيع توثيقية
  ارشيف الاخبار 2006
  ارشيف بيانات 2006
  ارشيف مقالات 2006
  ارشيف اخبار 2005
  ارشيف بيانات 2005
  ارشيف مقالات 2005
  ارشيف الاخبار 2004
  Sudanese News
  Sudanese Music
  اتصل بنا
ابحث

مقالات و تحليلات : بريـد القــراء English Page Last Updated: Jul 11th, 2011 - 15:37:55


أوراق أكتوبرية (3)...عبد المنعم خليفة خوجلي - مسقط
Dec 1, 2007, 11:09

سودانيزاونلاين.كوم Sudaneseonline.com

ارسل الموضوع لصديق
 نسخة سهلة الطبع

أوراق أكتوبرية (3)

 

عبد المنعم خليفة خوجلي - مسقط

 

 

مواصلة لهذه " الأوراق الأكتوبرية " أود أن أشير إلى بعض الأحداث التي شكلت معالم هامة في سجل المعارضة للحكم العسكري الأول ، ومن ثم في التهيئة لثورة أكتوبر. وهي أحداث جديرة بالتوثيق الكامل بأكثر من هذا السرد الذي أكتبه من الذاكرة عن فترة مضى عليها ما يقارب نصف القرن ؛ والذي آمل - رغم ذلك - أن يكون مفيداً في نقل الأجواء التي سادت في تلك الفترة ، وأن يمكن من تعلم بعض الدروس من تجارب الشعب السوداني في الدفاع عن حقوقه وحريته .

 

 إن الاقتناع بنهج الديمقراطية وسيادة الحريات ، والاستعداد للذود عنها ، هو أبرز ما جمع بين الفئات الاجتماعية المختلفة التي نجحت أخيراً في تفجير ثورة أكتوبر. فلقد ارتبط الاستقلال في أذهان الكثيرين بالنظام الديمقراطي والحريات، ولم يكن مقبولاً أن تنتهي كل الآمال المعقودة على الاستقلال في تلك الفترة المبكرة بانقلاب عسكري بعد سنتين فقط من نيل الاستقلال .

 

للكاتبة روث فيرست كتاب " فوهة بندقية " Barrel of a Gun  (صدر في عام 1970م) ، تناولت فيه ظاهرة الانقلابات العسكرية في إفريقيا (ومن بينها انقلابات السودان حتى ذلك الوقت) ، ودور الجيش في  الدول النامية ، هل هو أداة للتحديث أم رصيد للمحافظة (conservatism) . ومن ضمن ما ورد في الكتاب لفت الكاتبة الانتباه إلى قصر فترة الديمقراطية في البلدان المستقلة حديثاً، والتذكير بأن الحكم أثناء فترة الاستعمار هو أساساً حكم عسكري . وهذا يعزز ما رميت إليه من أن الاستقلال يعني لجماهير الشعب الحرية والديمقراطية ؛ إذ أن الجماهير لا ترغب في الانتقال من حكم عسكري ظل سائداً في فترة الاستعمار إلى حكم عسكري في عهد الاستقلال كذلك.

 

غير أن قانون الفترة الانتقالية ، والمعروف بقانون الحكم الذاتي لسنة  1953م ، (The Self Government Statute) كان مثالياً من حيث كفالته للحريات (حرية التعبير - حرية التنظيم - حرية الصحافة)، وحقوق المواطنين، واستقلال القضاء ، وسيادة حكم القانون ؛ وقد تم تبنيه دستوراً للسودان بعد الاستقلال ، مع إدخال التعديلات الضرورية المتعلقة بالسيادة ؛ وعرف بدستور السودان المؤقت لسنة 1956م . كان الدستور بتلك السمات الإيجابية مظلة ملائمة لكي تزدهر تحتها تجربة السودان المستقل وديمقراطيته الوليدة ، وتنضج بوهج مبادئه تجارب قواه الحديثة الحية ( والتي وجدت نفسها بعد سنوات قليلة مقهورة تعاني من الإبعاد والعزل الكامل من دائرة المشاركة ، بل أصبحت رهن السجن والاعتقال التحفظي ).

 

 هناك من يزعم أن الطلاب ، والأكتوبريين عموماً ، يتغافلون عن الإصلاحات التي قام بها النظام العسكري ولا يثمنونها، وأنهم يعارضون من أجل المعارضة حتى ولو جاءت (ثورة) نوفمبر مبرأة من كل عيب! وقد بلغ ضيق السلطات باستقلال الجامعة وبالمعارضة الطلابية درجة أن طالبت صحف الحكومة بإخضاع الطلاب لعملية Regimentation وإعادة صياغة من خلال نظام معسكرات تقام لتلك الأغراض ! .

 

صحيح أن نظام نوفمبر قد خطا بعض خطوات على طريق تأسيس البنيات التحتية ، بإقامة خزان الروصيرص ، وخزان خشم القربة ،  والخطوط البحرية ؛ كما أنه وبهدف التوزيع الجغرافي للتنمية - كما يبدو - ( شمال وجنوب وشرق وغرب) أقام مصنعا للفواكه بكريمة وآخر بواو ، ومصنعاً للألبان ببابنوسة ، ومصنعاً للبصل بكسلا  ؛ غير أن تلك المصانع لم تتم في إطار التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة الشاملة التي تتطلع لها الأقاليم ، كما لم تتم بمشاركة المواطنين . فمع النوايا الحسنة من وراء مثل تلك المشروعات ، إلا أن فشلها اللاحق ، والصعوبات العديدة التي صاحبتها ( بل أن بعضها لم يقم أصلاً ، وبقيت أفيالاً بيضاء White elephants) قد أدى إلى تذمر المناطق التي استهدفتها تلك المشروعات ، بدلاً من رضائها. كان المواطنون يتطلعون إلى سيادة فهم للتنمية المتوازنة أكثر عمقا واستيعاباً لمشكلات الريف السوداني ، وللجذور الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية لعدم التوازن .

 

كيف لمن يطالبوننا بالتثمين الإيجابي للإصلاحات والـ (إنجازات) ، وبمساندة تجربة (المستبد العادل! Benevolent Despot) ، ويدافعون عن الضبط والربط الضروري لزيادة القدرة والفعالية والإنجاز! ومن يركزون على الأبوية التي يتمتع بها الرئيس! كيف لهم أن يغفلوا حق الوطن في الديمقراطية المستدامة ، ويشككوا في مقدرة القوى الوطنية على تصحيح الانحراف الناتج عن عدم نضوج تجربة الأحزاب، وعلى معالجة الخلافات التي قد تنشب في الساحة السياسية (المبرر الكلاسيكي للانقلابات) .

كيف يريدون لوطن وهو لا يزال يخطو خطواته الأولى في رسم مستقبله بأفق جديد، ويسعى لإرضاء تطلعات أبنائه وقواه الوطنية الحديثة الحية ، أن يثق في أن (مستبديه العادلين) سوف يضطلعون بما يلزم نحو تحقيق تلك الغايات ، التي لم يكونوا يملكون لها الرؤية المستقبلية الثاقبة ولا الأفق التنموي والفكري والاجتماعي لضروري.   

ثم كيف لنا أن نثق حتى في استدامة ذلك (الاستبداد العادل) بما يجعلنا نعهد (لمستبدينا العادلين) بالتصرف في شئون الوطن دون مشاركة من أحد، خاصة مع السجل الحافل بالحركات العسكرية والانقلابية المتعددة منذ وصول نظام نوفمبر للحكم ، والتي فاقت حدتها مستوى الصراع ، إذ بلغت درجة الاشتباك بالسلاح بين رفاق السلاح في الجيش الواحد ، الشيء  أثر على قومية القوات المسلحة.

 

نضيف إلى ذلك أن النهج المتبع في علاج قضية الجنوب - كبرى قضايانا الوطنية - قد فشل تماماً ، بل أصبح ذلك النهج يعمق من الإحن والجراح الغائرة في النفوس ، ويهدد كيان الوطن الواحد ... وفي ظل مصادرة الحريات لم يكن متاحاً لفئات المجتمع الفاعلة المشاركة في بحث مثل تلك الموضوعات القومية ذات الأهمية العظمى ، والخروج  بحلول بديلة بشأنها ، بل كان ذلك من المحرمات ( Taboos) .

 

كما كان الانتهاك لحقوق الإنسان وكرامة المواطنين ، من أكبر خطايا (المستبد   العادل) الذي يريدون أن نأتمنه على كامل الوطن .

 

 

أرجو أن أنتقل إلى التناول الموجز لبعض الأحداث البارزة التي أججت من روح الثورة لدي المواطنين ، خاصة تلك التي شارك فيها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ، أو أتيح لشخصي الضعيف معاصرتها .

 

من بين أهم الأحداث التي حركت غضباً جماهيرياً واسعا ، الحكم بالإعدام على قادة حركة التاسع من نوفمبر 1959م . أذكر أنه في صباح اليوم السابق للتاريخ المحدد للتنفيذ شرع اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في إجراء اتصالات واسعة ونشطة مع كل القادة والزعماء الدينيين والصحفيين والشخصيات الوطنية من ذوي الوزن ، والذين يحظون  بالاحترام، لكي يوظفوا كل ما لديهم من نفوذ أو تأثير للضغط على الرئيس والمجلس الأعلى للقوات المسلحة لإيقاف تنفيذ أحكام الإعدام . وظلت دار الاتحاد طوال اليوم تمور بالغضب؛ كما أذكر أن انتشرت في دار الاتحاد في تلك الليلة قصيدة بعنوان "رسالة شهيد في ليلة التنفيذ" ، وهي قصيدة طويلة ومؤثرة مطلعها :

 

أبتـاه مـاذا قد يخط بنـــــاني  

 

و الحبل و الجـلاد ينتظــران

هذا الكتاب إليك من زنزانــة

 

مقرورة صخريــــة الجدران

الليــل من حولي هـدوء قاتل

 

والذكريات تمور فى وجداني

والنفس بين جوانحي شفافة  

 

دب الخشوع بها فهز كيـاني

دمع السجين هناك في أغلاله

 

ودم الشهيد هنا سيلتقيــــان

 

تم توزيع مكثف لتلك القصيدة في تلك الأمسية التي ساد فيها الغضب والقلق والتوتر؛ وزعم موزعوها أن كاتبها هو النقيب الصادق محمد الحسن ( لم يكن ذلك صحيحاً فهي لشاعر مصري شاب اسمه هاشم الرفاعي ) ؛ غير أن أجواء ليلة التنفيذ وتوافقها مع عنوان القصيدة ، أعطت مصداقية لتلك الرواية التي خدمت هدف التعبئة وإضرام الغضب). وواصل الطلاب البقاء في دار الاتحاد حتى الفجر على أمل أن يسمعوا عن نجاح المساعي الحميدة التي شرع  فيها الاتحاد من أجل تخفيف حكم الإعدام . غير أنه للأسف تم تنفيذ الإعدام شنقاً في فجر اليوم التالي 20 ديسمبر 1959م على كل من المقدم علي حامد،  المقدم يعقوب كبيدة، الرائد عبد البديع علي كرار، النقيب طيار الصادق محمد الحسن، والنقيب عبد الحميد عبد الماجد .. وفتح بذلك طريق الدماء ..

 

ومن الأحداث التي تفاقمت وأضافت إلى الاحتقان السياسي في تلك السنوات، وضاعفت من تراكمات الغضب أيضاً ، حادثة إطلاق الرصاص على شباب الأنصار بميدان المولد بأمدرمان في يونيو 1961م . وأذكر أن رد فعل السيد الصديق المهدي إمام الأنصار في لقاء لجنة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم معه ، كان متسماً بضبط النفس ، إذ رأى عدم التجاوب مع ذلك الاستفزاز بالأسلوب الذي ربما يقود إلى فتنة كبرى ينتج عنها سفك مزيد من الدماء .

 

كذلك كان لقضية تعذيب المواطن مصطفى حسنين بالأبيض (والتي سبقت الإشارة إليها وإلى رواية مولانا أبيل ألير حولها) تفاعلاتها السياسية والاجتماعية الكبيرة ؛ إذ وجدت تلك القضية اهتماماً كبيراً من قبل جميع الأحزاب والاتحادات والتنظيمات الفئوية ، وأثارت سخطاً واستياء وحنقاً عظيماً . لم يتمكن نظام الحكم من تبرير بشاعة التعذيب الذي جرى ، ناهيك عن الدفاع عنه . وقد نشط اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في تنظيم وتنسيق خطوات الاحتجاج على مثل ذلك الانتهاك  للكرامة السودانية ، كما تمت تعبئة الرأي العام الطلابي العريض، وجرى تناول الموضوع بشكل مكثف من خلال الصحف الجدارية بالجامعة . وقد اهتمت جبهة الأحزاب اهتماماً كبيراً ورفعت مذكرة احتجاج شديدة اللهجة ، بل وطالبت النظام بالتنحي وتسليم السلطة ؛ وعلى إثر ذلك تم اعتقال قادة الأحزاب وإرسالهم إلى ناقشوط .

 

ومن أكثر ما أضاف إلى تراكمات الغضب الذي تفجر أخيراً في ثورة أكتوبر ، مقاومة النوبيين وتصديهم للحكومة العسكرية بأساليب مختلفة دفاعاً عن حقهم في اختيار الوطن البديل ، وفي التعويضات العادلة .. وتلك أحداث نتركها لحلقة قادمة من هذه الأوراق الأكتوبرية خاصة وأنه قد شاءت لي الظروف أن أكون في قلبها!.

 

 

 

 

عبد المنعم خليفة خوجلي - مسقط

 

 

مواصلة لهذه " الأوراق الأكتوبرية " أود أن أشير إلى بعض الأحداث التي شكلت معالم هامة في سجل المعارضة للحكم العسكري الأول ، ومن ثم في التهيئة لثورة أكتوبر. وهي أحداث جديرة بالتوثيق الكامل بأكثر من هذا السرد الذي أكتبه من الذاكرة عن فترة مضى عليها ما يقارب نصف القرن ؛ والذي آمل - رغم ذلك - أن يكون مفيداً في نقل الأجواء التي سادت في تلك الفترة ، وأن يمكن من تعلم بعض الدروس من تجارب الشعب السوداني في الدفاع عن حقوقه وحريته .

 

 إن الاقتناع بنهج الديمقراطية وسيادة الحريات ، والاستعداد للذود عنها ، هو أبرز ما جمع بين الفئات الاجتماعية المختلفة التي نجحت أخيراً في تفجير ثورة أكتوبر. فلقد ارتبط الاستقلال في أذهان الكثيرين بالنظام الديمقراطي والحريات، ولم يكن مقبولاً أن تنتهي كل الآمال المعقودة على الاستقلال في تلك الفترة المبكرة بانقلاب عسكري بعد سنتين فقط من نيل الاستقلال .

 

للكاتبة روث فيرست كتاب " فوهة بندقية " Barrel of a Gun  (صدر في عام 1970م) ، تناولت فيه ظاهرة الانقلابات العسكرية في إفريقيا (ومن بينها انقلابات السودان حتى ذلك الوقت) ، ودور الجيش في  الدول النامية ، هل هو أداة للتحديث أم رصيد للمحافظة (conservatism) . ومن ضمن ما ورد في الكتاب لفت الكاتبة الانتباه إلى قصر فترة الديمقراطية في البلدان المستقلة حديثاً، والتذكير بأن الحكم أثناء فترة الاستعمار هو أساساً حكم عسكري . وهذا يعزز ما رميت إليه من أن الاستقلال يعني لجماهير الشعب الحرية والديمقراطية ؛ إذ أن الجماهير لا ترغب في الانتقال من حكم عسكري ظل سائداً في فترة الاستعمار إلى حكم عسكري في عهد الاستقلال كذلك.

 

غير أن قانون الفترة الانتقالية ، والمعروف بقانون الحكم الذاتي لسنة  1953م ، (The Self Government Statute) كان مثالياً من حيث كفالته للحريات (حرية التعبير - حرية التنظيم - حرية الصحافة)، وحقوق المواطنين، واستقلال القضاء ، وسيادة حكم القانون ؛ وقد تم تبنيه دستوراً للسودان بعد الاستقلال ، مع إدخال التعديلات الضرورية المتعلقة بالسيادة ؛ وعرف بدستور السودان المؤقت لسنة 1956م . كان الدستور بتلك السمات الإيجابية مظلة ملائمة لكي تزدهر تحتها تجربة السودان المستقل وديمقراطيته الوليدة ، وتنضج بوهج مبادئه تجارب قواه الحديثة الحية ( والتي وجدت نفسها بعد سنوات قليلة مقهورة تعاني من الإبعاد والعزل الكامل من دائرة المشاركة ، بل أصبحت رهن السجن والاعتقال التحفظي ).

 

 هناك من يزعم أن الطلاب ، والأكتوبريين عموماً ، يتغافلون عن الإصلاحات التي قام بها النظام العسكري ولا يثمنونها، وأنهم يعارضون من أجل المعارضة حتى ولو جاءت (ثورة) نوفمبر مبرأة من كل عيب! وقد بلغ ضيق السلطات باستقلال الجامعة وبالمعارضة الطلابية درجة أن طالبت صحف الحكومة بإخضاع الطلاب لعملية Regimentation وإعادة صياغة من خلال نظام معسكرات تقام لتلك الأغراض ! .

 

صحيح أن نظام نوفمبر قد خطا بعض خطوات على طريق تأسيس البنيات التحتية ، بإقامة خزان الروصيرص ، وخزان خشم القربة ،  والخطوط البحرية ؛ كما أنه وبهدف التوزيع الجغرافي للتنمية - كما يبدو - ( شمال وجنوب وشرق وغرب) أقام مصنعا للفواكه بكريمة وآخر بواو ، ومصنعاً للألبان ببابنوسة ، ومصنعاً للبصل بكسلا  ؛ غير أن تلك المصانع لم تتم في إطار التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة الشاملة التي تتطلع لها الأقاليم ، كما لم تتم بمشاركة المواطنين . فمع النوايا الحسنة من وراء مثل تلك المشروعات ، إلا أن فشلها اللاحق ، والصعوبات العديدة التي صاحبتها ( بل أن بعضها لم يقم أصلاً ، وبقيت أفيالاً بيضاء White elephants) قد أدى إلى تذمر المناطق التي استهدفتها تلك المشروعات ، بدلاً من رضائها. كان المواطنون يتطلعون إلى سيادة فهم للتنمية المتوازنة أكثر عمقا واستيعاباً لمشكلات الريف السوداني ، وللجذور الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية لعدم التوازن .

 

كيف لمن يطالبوننا بالتثمين الإيجابي للإصلاحات والـ (إنجازات) ، وبمساندة تجربة (المستبد العادل! Benevolent Despot) ، ويدافعون عن الضبط والربط الضروري لزيادة القدرة والفعالية والإنجاز! ومن يركزون على الأبوية التي يتمتع بها الرئيس! كيف لهم أن يغفلوا حق الوطن في الديمقراطية المستدامة ، ويشككوا في مقدرة القوى الوطنية على تصحيح الانحراف الناتج عن عدم نضوج تجربة الأحزاب، وعلى معالجة الخلافات التي قد تنشب في الساحة السياسية (المبرر الكلاسيكي للانقلابات) .

كيف يريدون لوطن وهو لا يزال يخطو خطواته الأولى في رسم مستقبله بأفق جديد، ويسعى لإرضاء تطلعات أبنائه وقواه الوطنية الحديثة الحية ، أن يثق في أن (مستبديه العادلين) سوف يضطلعون بما يلزم نحو تحقيق تلك الغايات ، التي لم يكونوا يملكون لها الرؤية المستقبلية الثاقبة ولا الأفق التنموي والفكري والاجتماعي لضروري.   

ثم كيف لنا أن نثق حتى في استدامة ذلك (الاستبداد العادل) بما يجعلنا نعهد (لمستبدينا العادلين) بالتصرف في شئون الوطن دون مشاركة من أحد، خاصة مع السجل الحافل بالحركات العسكرية والانقلابية المتعددة منذ وصول نظام نوفمبر للحكم ، والتي فاقت حدتها مستوى الصراع ، إذ بلغت درجة الاشتباك بالسلاح بين رفاق السلاح في الجيش الواحد ، الشيء  أثر على قومية القوات المسلحة.

 

نضيف إلى ذلك أن النهج المتبع في علاج قضية الجنوب - كبرى قضايانا الوطنية - قد فشل تماماً ، بل أصبح ذلك النهج يعمق من الإحن والجراح الغائرة في النفوس ، ويهدد كيان الوطن الواحد ... وفي ظل مصادرة الحريات لم يكن متاحاً لفئات المجتمع الفاعلة المشاركة في بحث مثل تلك الموضوعات القومية ذات الأهمية العظمى ، والخروج  بحلول بديلة بشأنها ، بل كان ذلك من المحرمات ( Taboos) .

 

كما كان الانتهاك لحقوق الإنسان وكرامة المواطنين ، من أكبر خطايا (المستبد   العادل) الذي يريدون أن نأتمنه على كامل الوطن .

 

 

أرجو أن أنتقل إلى التناول الموجز لبعض الأحداث البارزة التي أججت من روح الثورة لدي المواطنين ، خاصة تلك التي شارك فيها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ، أو أتيح لشخصي الضعيف معاصرتها .

 

من بين أهم الأحداث التي حركت غضباً جماهيرياً واسعا ، الحكم بالإعدام على قادة حركة التاسع من نوفمبر 1959م . أذكر أنه في صباح اليوم السابق للتاريخ المحدد للتنفيذ شرع اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في إجراء اتصالات واسعة ونشطة مع كل القادة والزعماء الدينيين والصحفيين والشخصيات الوطنية من ذوي الوزن ، والذين يحظون  بالاحترام، لكي يوظفوا كل ما لديهم من نفوذ أو تأثير للضغط على الرئيس والمجلس الأعلى للقوات المسلحة لإيقاف تنفيذ أحكام الإعدام . وظلت دار الاتحاد طوال اليوم تمور بالغضب؛ كما أذكر أن انتشرت في دار الاتحاد في تلك الليلة قصيدة بعنوان "رسالة شهيد في ليلة التنفيذ" ، وهي قصيدة طويلة ومؤثرة مطلعها :

 

أبتـاه مـاذا قد يخط بنـــــاني  

 

و الحبل و الجـلاد ينتظــران

هذا الكتاب إليك من زنزانــة

 

مقرورة صخريــــة الجدران

الليــل من حولي هـدوء قاتل

 

والذكريات تمور فى وجداني

والنفس بين جوانحي شفافة  

 

دب الخشوع بها فهز كيـاني

دمع السجين هناك في أغلاله

 

ودم الشهيد هنا سيلتقيــــان

 

تم توزيع مكثف لتلك القصيدة في تلك الأمسية التي ساد فيها الغضب والقلق والتوتر؛ وزعم موزعوها أن كاتبها هو النقيب الصادق محمد الحسن ( لم يكن ذلك صحيحاً فهي لشاعر مصري شاب اسمه هاشم الرفاعي ) ؛ غير أن أجواء ليلة التنفيذ وتوافقها مع عنوان القصيدة ، أعطت مصداقية لتلك الرواية التي خدمت هدف التعبئة وإضرام الغضب). وواصل الطلاب البقاء في دار الاتحاد حتى الفجر على أمل أن يسمعوا عن نجاح المساعي الحميدة التي شرع  فيها الاتحاد من أجل تخفيف حكم الإعدام . غير أنه للأسف تم تنفيذ الإعدام شنقاً في فجر اليوم التالي 20 ديسمبر 1959م على كل من المقدم علي حامد،  المقدم يعقوب كبيدة، الرائد عبد البديع علي كرار، النقيب طيار الصادق محمد الحسن، والنقيب عبد الحميد عبد الماجد .. وفتح بذلك طريق الدماء ..

 

ومن الأحداث التي تفاقمت وأضافت إلى الاحتقان السياسي في تلك السنوات، وضاعفت من تراكمات الغضب أيضاً ، حادثة إطلاق الرصاص على شباب الأنصار بميدان المولد بأمدرمان في يونيو 1961م . وأذكر أن رد فعل السيد الصديق المهدي إمام الأنصار في لقاء لجنة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم معه ، كان متسماً بضبط النفس ، إذ رأى عدم التجاوب مع ذلك الاستفزاز بالأسلوب الذي ربما يقود إلى فتنة كبرى ينتج عنها سفك مزيد من الدماء .

 

كذلك كان لقضية تعذيب المواطن مصطفى حسنين بالأبيض (والتي سبقت الإشارة إليها وإلى رواية مولانا أبيل ألير حولها) تفاعلاتها السياسية والاجتماعية الكبيرة ؛ إذ وجدت تلك القضية اهتماماً كبيراً من قبل جميع الأحزاب والاتحادات والتنظيمات الفئوية ، وأثارت سخطاً واستياء وحنقاً عظيماً . لم يتمكن نظام الحكم من تبرير بشاعة التعذيب الذي جرى ، ناهيك عن الدفاع عنه . وقد نشط اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في تنظيم وتنسيق خطوات الاحتجاج على مثل ذلك الانتهاك  للكرامة السودانية ، كما تمت تعبئة الرأي العام الطلابي العريض، وجرى تناول الموضوع بشكل مكثف من خلال الصحف الجدارية بالجامعة . وقد اهتمت جبهة الأحزاب اهتماماً كبيراً ورفعت مذكرة احتجاج شديدة اللهجة ، بل وطالبت النظام بالتنحي وتسليم السلطة ؛ وعلى إثر ذلك تم اعتقال قادة الأحزاب وإرسالهم إلى ناقشوط .

 

ومن أكثر ما أضاف إلى تراكمات الغضب الذي تفجر أخيراً في ثورة أكتوبر ، مقاومة النوبيين وتصديهم للحكومة العسكرية بأساليب مختلفة دفاعاً عن حقهم في اختيار الوطن البديل ، وفي التعويضات العادلة .. وتلك أحداث نتركها لحلقة قادمة من هذه الأوراق الأكتوبرية خاصة وأنه قد شاءت لي الظروف أن أكون في قلبها!.

 

 

 


© Copyright by SudaneseOnline.com


ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

أعلى الصفحة



الأخبار و الاراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

بريـد القــراء
  • إشرب الماء على معدة خالية DRINK WATER ON EMPTY STOMACH
  • أوراق أكتوبرية (3)...عبد المنعم خليفة خوجلي - مسقط