محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-29-2024, 10:36 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   

    مكتبة الاستاذ محمود محمد طه
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-11-2002, 07:31 AM

بكرى ابوبكر
<aبكرى ابوبكر
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 18724

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة

    محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة
    عادل عبد العاطي
    (لا يبلغ أحد درج الحقيقة، حتي يشهد فيه ألف صديق، بأنه زنديق).
    الجنيد: توفي 297 هجرية.
    (علماء الظاهر هم زينة الأرض والملك، وعلماء الباطن هم زينة السماء والملكوت.. وعلماء الظاهر هم أهل الخبر واللسان، وعلماء الباطن من أرباب القلوب والعيان)
    أبو طالب المكي ت 368 هجرية.
    تعرض الأستاذ محمود محمد طه (1909 ــ 1985) لظلم تأريخي كبير في تقييمه، شخصا
    وفكرا ومواقف، من قبل بعض مؤيديه وجل معارضيه علي السواء.. ومما يؤسف له أن
    محاولة جادة لتقييم نشاطه وجهده علي ساحة الفكر والفلسفة والسياسة السودانية،
    لم تتم حتي الآن، رغم مرور اكثر من 15 عاما علي رحيله من دنيانا.(1)
    وان كان الظلم من قبل أعدائه، والذي تبدي في ابشع صوره، في مهزلة إعدامه البشعة في كانون الثاني (يناير) 1985، قد لقي جزاءا من التصحيح علي مستوي القانون، بحكم
    المحكمة العليا ببطلان حكم الإدانة والإعدام (1987)، إلا أن التصحيح علي مستوي
    الفكر لم يتم حتي الآن، ولا يزال كثير من المواطنين السودانيين، وغير السودانيين، والذين وان رفضوا مهزلة إعدامه لاسباب عرفوا أنها كانت، ولا زالت، سياسية، الا انهم لا يزالون ينظرون حتي الآن، إلي كثير من أفكاره ومواقفه من خلال منظار التشويه الذي لعبت فيه دعاية القوي الظلامية القسط الأكبر، ولعب دورا غير قليل منه عدد من اتباعه انفسهم، وان بنيات طيبة.
    وإذا كان اتباعه قد ظلموه في حياته، فقد فعلوا ذلك عندما حملوه اكثر مما يحتمل من آيات التقدير والتقديس، فلم ينظروا إلي فكره بمنظار النقد العلمي التاريخي.. وحين ربطوا مجمل حركتهم بشخصه، وحين رأوا فيه الكمال.. وظلموه اكثر، حينما روجوا قبل أيام من موته أوهاما لا يسندها منطق، حول عدم قدرة الحكام علي اغتياله.. فتركوه بذلك في يد الموت وحيدا، في وقت كان اكثر ما يحتاج فيه إلي التضامن، وغلوا بذلك أيادي قوي شعبية كثيرة، كانت سحائب غضبها تتجمع ضد النظام. وحين زعم بعضهم استحالة إعدامه، وضعوا الناس قسرا في حالة ترقب في انتظار المعجزة، وأخلوا بذلك الساحة بينه وبين السفاحين.
    وظلمه بعض اتباعه بعد موته، حين تراجعوا بغير انتظام، ودعموا تراجعهم بفكرة انه مات فداءا لكل الشعب، مدخلين مزيدا من الغيبية علي معني موته البطولي النبيل، وجاعلينه ستارا للإحباط والسلبية، من دون أن يفرقوا بين معاني الفداء الإيجابي المحرك لدواعي النضال، والتضحية السلبية التي ترتبط بالانكسار والاستسلام.. وحين تركوا للمتطرفين منهم وهم انه لم يقتل، أو علي الأقل سيعود من جديد، لم يفعلوا غير أن تأخروا عن قامته خطوات وخطوات.
    إلا أن الظلم الحقيقي يتبدي في فشل معظم اتباعه ومؤيديه عن أن ينظروا بعين النقد والتحليل لنتاج فكره ونشاطه ومنهجه، وتركوا بذلك الجهد الذي بناه عبر عشرات السنين، يضيع بين طيات التجاهل و النسيان أو سوء الفهم، وفي تركهم الحركة التي بناها تتحطم وتقف عند الحدود التي رسمها لها، والتي ما كان لها إلا أن تنهار وتندثر بموته، إذا أرادت أن تلتزم بمنهج فكره القديم. أن مقتل هذه الحركة الذي تكرس بمقتله وتحللها من بعده، ليجد جذوره في مجمل النهج الفكري والاجتماعي لمحمود، الأمر الذي سنناقشه لاحقا، إلا إن تلاميذه لم يخطوا خطوة واحدة للأمام، لإنقاذ هذا التراث العظيم، بفهم هذا المنهج نفسه وتطويره، بدلا من التكلس في صورته المثالية، التي تكرست في أذهانهم عنه، والتي تعرضت للاهتزاز بشدة، في درامية موته ورحيله.

    في أفق المعرفة
    نظرة في فكر محمود الفلسفي:
    بالرغم من تعدد اوجه نشاط محمود الفكري، وكتابته في العديد من المواضيع السياسية والفكرية والاجتماعية، إلا إن تصنيفي الأول والأخير له يقوم باعتباره صوفيا، صوفيا في عالمه الفكري، صوفيا في ممارسته، صوفيا في صورة استشهاده ورحيله.
    وقد لا يدرك الكثير، بمن فيهم بعض اتباع محمود، أن جل أفكاره تتماهي مع لب أفكار الصوفية، سواء في مدارسها الكونية، أو في صورتها العربية الإسلامية، أو في تجليها في الواقع السوداني.. إن التناقض ــ أو التمايز ــ بين الظاهر والباطن، بين الحقيقة والشريعة، والذي هو ركن أساسي في نظرية المعرفة عند الصوفية، قد تحول عند محمود محمد طه إلي تناقض وتمايز الأصول والفروع في القرآن، أو كما سماها بالقرآن في مرحلته المكية والمدنية، كما إن الطريق للوصول إلي الحقيقة، والقائم علي السعي ومجاهدة النفس عند الصوفية، هو نفسه طريق التقليد والأصالة عند محمود، والذي يتبلور حول فكرة أن الرسول محمد كان
    هو الأصيل الأول، والذي وصل إلي أصالته ــ الأخذ مباشرة عن الرب في ليلة الإسراء والمعراج ــ بعد جهد من تقليد عبادة إبراهيم، واتباع جبريل.. كذلك طريق الأصالة لأي فرد يقوم علي تقليد الرسول، و إجادة التقليد، حتي كشف الحجب وإدراك الأصالة.. بل أن فكرة الإنسان الكامل عند محمود، إنما هي فكرة قديمة ومفهوم أساسي عند قدامي الصوفية، ويقوم عليها مجمل اعتقادهم في وحدة الوجود المادي والإلهي والإنساني، يكتب ابن عربي إن مرتبة الإنسان الكامل إنما هي جميع المراتب الإلهية والكونية التي تضم العقول والنفوس الكلية والجزئية، ومراتب الطبيعة إلي آخر تنزلات الوجود، فهي (مرتبة الإنسان الكامل) مساوية للمرتبة الإلهية، ولا فرق بينهما إلا في الألوهية، لذلك صار الإنسان الكامل خليفة الله في الأرض).
    أن فكرة الإنسان الكامل، تجد انعكاسها في العديد من الأديان والفلسفات، وعلي رأسها المسيحية، وقد انعكست في الفلسفة الصينية التاوية، وكان لها وجودها في الفلسفة العربية الإسلامية، إن مفاهيم مقاربة ايضا لهذا المفهوم، مثل وحدة الوجود، والمعية (وهو معكم أينما كنتم)، والسريان، الذي وسعه صلاح الدين الشيرازي، ليجعل وجود الله حضورا فعليا في الموجودات، والمشابه لمفهوم التاو TAO، كقوة مادية في الموجودات، عند الفيلسوف الصيني تسونغ تسه، تحتاج إلي قراءة دقيقة لمعرفة مدي تقاربها أو توازيها مع الفكر الجمهوري(2).
    ان محمود في فكره، يتماهي مع الحلاج والسهروردي وابن عربي، وان كان في صورة سودانية معصرنة، أي بالشكل الذي فرضه واقع الزمان والمكان الجديدين، لكن المأساة الكبري في حياة وفكر محمود، انه حاول دمج طريق الصوفية، والذي هو طريق للخلاص والمعرفة، قائم علي البعد عن العالم والزهد فيه، والبعد عن الجماعة والانصراف عنها، والبحث عن الحقيقة في ذات الإنسان الصوفي، والوصول إلي الله والي منابع الحق متفردا، حاول جمع كل ذلك مع طريق جماعي ونشاط اجتماعي، و هو طريق مخالف تماما لنهج الصوفية الفردية (في عالمها الفكري والسلوكي وليس في كاريكاتوراتها الطرائقية)(3).
    إن محمود بتنظيمه للحزب الجمهوري، ومن بعد للإخوان الجمهوريين، قد خالف طريق الصوفية الفردي، فإذا كانت العلاقة بين الصوفي والمريد، بين الشيخ والحوار، بين القطب والسالك، هي علاقة فردية قائمة علي الاتصال الشخصي والتأثير المباشر، فان محمود حاول بناءها عن طريق تنظيم، رابطة، جماعة، تغير اسمها من الحزب إلي الإخوان، إلا إنها احتفظت دائما بصورتها كتنظيم له أفكاره الفلسفية والاجتماعية وله نشاطه السياسي.(4)
    ومن الطبيعي أن نمو الأحزاب السياسية والنقابات ومعركة الاستقلال، وهي الأحداث التي عاصرها محمود، ووجود ونشاط التنظيمات الدينية القديمة والجديدة، في شكل طرائق دينية أو طرق صوفية أو حركات سلفية، قد فرضت علي أي مفكر جاد الانخراط في درجة من درجات العمل التنظيمي والفعل الاجتماعي والسياسي، الا أن طريق أهل الحق، طريق الصوفية، لا يمكن الوصول إليه بوسائل أهل الدنيا، أهل الظاهر. إن محمود في سعيه لنشر فكره، قد كان مواجه بمشكلة الأداة، وقد اختارها بان يطرح كل أفكاره أو جلها في كتبه وإصداراته، حتي يتصل بها مع تلاميذه ومؤيديه، لكنه بهذا طرحها أمام الجميع، فعرضها بذلك لسوء الفهم ــ أو سوء النية ــ المعشعشة في البيئة السلفية، التي حاصرت بها المؤسسات الدينية الرسمية المسلم العادي في وسط وشمال السودان لعشرات السنين.
    إن تناقض محمود وحركته أراه في تناقض الطريق الفردي الصوفي للمعرفة والسلوك، مع الشكل الجماعي الواسع والمكشوف للنشاط، الذي اتخذته حركته، وهو تناقض كان لا بد أن يؤدي إلي الانفجار، وتحطيم أحد طرفي التناقض.

    في أفق الشهادة
    او الابتسام في مواجهة الموت:
    موت محمود محمد طه، يشكل في تاريخنا الفكري ــ السياسي الحديث، علامة بارزة علي
    حجم الأزمة والمأساة التي عاناها مجتمعنا، في أواخر سنوات حكم الطاغية نميري. ويطل كحصيلة مرة للتردي الشامل الاقتصادي والسياسي والفكري الذي ساد تلك الحقبة. انه وصمة عار في جبين عصرنا، ويوم كالح في تاريخ شعبنا.
    لكن الميدالية لها وجهان.. فأمام العنف الوحشي للسلطة، والهوس اللاعقلاني والتشنج المرضي الذي ركب السلفيين، ورغبتهم العارمة في رؤية انهار الدم وهي تسيل، كان الوجه الآخر يتمثل في الصمود البطولي لمحمود، وانشراحه في مواجهة الموت، الذي شبه بصمود فرسان العصور الوسطي وبصمود ود حبوبة وأبطال المهدية (حسب محمد إبراهيم نقد).. وتكرر مرة أخري، وان بشكل المهزلة هذه المرة، مقتل الحلاج والسهروردي وبنفس السيناريو: تحالف الحكام الفاسدين المفسدين (علماء السوء الذين وضعوا أنفسهم مطية لكل ظالم) أسوأ حثالات المجتمع التي وقفت تطالب بدمهم و تستمتع بمشهد موتهم!
    الصمود والبطولة والجمال في استشهاد محمود، قدم للوجدان الشعبي مادة غنية للعديد من الحكايات التي دخلت حيز التداول والانتشار.. وبغض النظر عن مدي الدقة والحقيقة التاريخية الكامنة في هذه القصص، إلا إنها تشكل معيارا لحساسية الشعب وتعامله مع مجمل القضية، ولاتجاه خط تعاطفه.. فقد تردد أن محمود قبل صياغة بيانه الشهير: هذا أو الطوفان.. قد طلب إحضار تسجيل أغنية احمد المصطفي أنا أم درمان، وكان يسمعها ويردد معها المقطع القائل:
    (فيا سودان إذا ما النفس هانت اقدم للفداء روحي بنفسي)
    وتردد ايضا أن محمود كان يقول إن محنة مايو لن تنقشع إلا إذا كانت هناك تضحية كبري، كان يموت رجل عظيم، أتراه كان يقصد نفسه، ومن اعظم منه كان بارزا علي الساحة وقتها؟
    المحكمة ذاتها التي حكمت زورا وبهتانا علي محمود، كانت مربضا للقتلة، لا منبرا للقضاء.. ويصح في وصفها ووصف موقف محمود منها قول الشاعر المصري كمال عبد الحليم في رثاء الطالب اليساري السوداني صلاح بشري، والذي استشهد في السجون المصرية بداء الصدر، عام 1948:
    صاح فيهم لن أدافع لن أقول كلمة
    يا شياطين المدافع كيف صرتم محكمة؟
    فقد رفض محمود مطلق التعامل معها، وهذا وان كان بتقدير سياسي يحسب في دائرة الخطأ، حيث كان يمكن تحويل المحاكمة بعمل سياسي وقانوني منظم، إلي مظاهرة كبري ضد النظام، كما تم في محاكمات فاطمة احمد إبراهيم والبعثيين في ذلك الوقت، وان يتم بذلك غل يد القتلة والنظام قانونيا وتحريك العمل الشعبي سياسيا وتعبويا، إلا إن الصوفي عند محمود له مرجعية أخري، إنها مرجعية التسليم (سلمت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).. إن شهادة محمود في المحكمة، تشكل علي قصرها قمة أدب السهل الممتنع، والاختصار المحكم، وشهادة وإفادة للتاريخ والأجيال.. كما إنها تعبر عن درجة عالية من النضج السياسي والفكري، وبها وحدها أدان محمود قوانين سبتمبر إلي ابد الدهر، أدان السلطة وقضاتها المأجورين ووضع علي جبينهم وصمة العار الأبدية.. لقد اصبح محمود اذن هو القاضي الحقيقي، وشاهد العصر وضمير الشعب، وتحولوا هم إلي مدانين.. فلنتأمل في هذا النص المعجز:
    (.. أنا أعلنت رأيي مرارا في قوانين ايلول (سبتمبر) 83 من أنها مخالفة للشريعة والإسلام، اكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام.. ونفرت عنه. يضاف إلي ذلك انها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب، وسوقه إلي الاستكانة عن طريق إذلاله.. ثم أنها هددت وحدة البلاد، هذا من ناحية التنظير.. أما من ناحية التطبيق، فان القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها، غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقيا، عن ألا يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق، وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين..
    ومن اجل ذلك فأنا غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت ان تكون من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر والتنكيل بالمعارضين السياسيين)(5).
    بهذا النص أنهي محمود محمد طه سيرة حياة عامرة بالنشاط الفكري والمواقف الاجتماعية ببطولة نادرة، كما انه تجاوز به كل نواقص فكره السياسي، وكل تأييد سابق له لمايو. رافضا بصورة قاطعة الديكتاتورية والإرهاب ومسخ الدين. بل انه انتقل إلي أفق آخر اكثر واقعية، في التعامل مع مسألة الشريعة، حيث انتقل من المفاهيم المجردة والمثالية المطروحة في نظرية (الرسالة الثانية من الإسلام).
    والتقسيم ــ غير المفهوم شعبيا وغير المتجانس منطقيا ــ بين آيات الأصول والفروع، وبين الشريعة والسنة، إلي منهج يتعاطي مع الإطار السياسي والاجتماعي لوظيفة القانون، وكون القانون ــ أي قانون ــ يأخذ محتواه في مجري تطبيقه، وبمقدار تعبيره عن السلطة التي تكرس به سيادتها.. وان القيمة الحقيقية للقانون تأتي عندما يستجيب لنوازع الحرية، ويعبر عن احتياجات المجتمع والشعب الملحة في لحظة معينة من لحظات تطوره (وفي تلك الأيام تمثلت هذه الاحتياجات في القيم التي دافع عنها محمود، كالديمقراطية الوحدة الوطنية حرية الفكر والاعتقاد الخ الخ). هذه القيم التي صيغت وطبقت قوانين سبتمبر لقمعها وإهدارها..
    إن محمود بهذا النص القصير، قد سجل تقدما في الفهم السياسي لطبيعة النظام القائم، مقابل تقليص لجانب الاجتهاد الفكري المختلف عليه، حيث لم يبن رفضه لقوانين سبتمبر علي أسس أيديولوجية (عدم صلاحية الشريعة للقرن العشرين و عودة الإسلام بالسنة لا بالشريعة) وإنما علي أسباب قانونية وسياسية (التشويه في هذه القوانين لمبادئ الشريعة المدرسية، والغرض السياسي القهري من تطبيقها).
    إنها واقعية اكثر، و أصالة اقل إذن، تجاوز بها محمود نفسه وتنظيمه بوعي سياسي عال وحس وطني وتأريخي مرهف وعميق.. رجوعا مرة أخري إلي روايات الوجدان الشعبي، انه في تلك الأيام الحرجة بين حكم المحكمة والتنفيذ، قامت مجموعة من بيروقراطيي الاتحاد الاشتراكي (في صراعها داخل ذلك التنظيم ضد الهيمنة المتزايدة للإخوان المسلمين)، قامت بالتدخل لدي نميري لاسترحامه حول قضية محمود، علي أساس أن محمود قد دعم النظام دائما وفي ظل أوقات حرجة وعصيبة، فلا يمكن أن تكون هذه نهايته. فرد السفاح بما فيه من عنجهية وطغيان وبطر، بأنه مستعد للعفو عن محمود، شرط أن يعتذر له علنا. ووصلت المساعي والإخبار إلي محمود، فكان رده بعد التأكد من أن رده سيصل السفاح: قولوا لنميري أنا ما بنكسر ليك، وأنا بموت وبقابل ربي نضيفا، لكن أنت حتموت بي سوء الخاتمة!! .
    هل كان محمود يبحث عن الموت؟؟ هذا ما قد يتراءي من الوهلة الأولي، في تعامل محمود مع المحكمة ومع مجمل مؤسسات النظام، في الشهور الأخيرة من حياته، وفتحه للمعركة واضحة ضد النظام وسياساته، وهو الذي يعلم مبلغ الحقد الذي تكنه ضده القوي السلفية، وخصوصا جماعة الأخوان المسلمين، كما لابد يعلم الطابع الدموي والطغيان المنفلت للسفاح نميري..ومما يعزز هذه الرؤية كذلك فكرة الفداء التي لا بد من وجود سند واقعي لها في تفكير محمود، طالما قد كررها الجمهوريون مرارا بعد استشهاد محمود، بأن الأستاذ قد فدي الشعب السوداني (6).
    إلا إن تعامل محمود مع تلاميذه ورفاقه المتهمين معه في نفس القضية، قد سجل جانبا آخر.فمما لا ريب فيه، أن محمود قد أوصي تلاميذه بتجنب الموت ومسايرة السلطة، حتي ولو كان ذلك بالتبرؤ منه (7).. وفق مبدأ التقية الذي سارت عليه العديد من الحركات الإسلامية المعارضة، وحتي بعض أقطاب الصوفية، إلا أن محمود قد رفض هذا الخيار لنفسه، فيما حاول حماية حياة رفاقه وتلاميذه..
    هنا مرة أخري يظهر سلوك الصوفي، السائر وحده في درب الحقيقة، والموت هو أقصي تجلي للحقيقة، سواء في صورته البيولوجية أو في صورته المعرفية.. في صورته البيولوجية باعتباره الحقيقة الوحيدة الثابتة حتي الآن، والخاضع لها كل بشر .. وفي صورته المعرفية، باعتباره الكسر الآخير للحاجز بين الإنسان ومصدر الحقيقة، باعتباره افناء للجسد واندماجا بالروح مع مركز الأنوار وسر الأسرار .. وبالنسبة لصوفي يؤمن بوحدة الوجود فما كانت فكرة الموت لتشكل له رعبا أو فزعا (إذا استطعت بذل الروح فتعال، وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية).. لهذا فقد كانت ابتسامة محمود الغامضة حين النطق بالحكم (أكانت يا تري ابتسامة رضي أم ابتسامة سخرية؟)، ولهذا كان انشراحه وتماسكه وهو يصعد درج المشنقة.
    توصية محمود لتلاميذه بالتنكر له، ان صحت، تظهر مبدأ الفردية عند الصوفي، وتحمله للمسؤولية وحده، وهذا يذكرنا بالحلاج الذي دافع عن تلاميذه وأصدقائه وحماهم من الموت ولم يدافع عن نفسه، بل كان يري انه يستحق الموت، لأنه (أفشي الأسرار).. وفي الحقيقة فهناك تشابهات مذهلة ما بين شخصية محمود ومصيره وشخصية الحلاج ومنتهاه ــ يذكر هادي العلوي أن الحلاج قد قتل لتأسيسه تنظيما سريا لمعارضة السلطة، وليس لشطحاته الصوفية ــ ومحمود رغم انه لم يذهب إلي مرحلة الحلاج، من معارضة السلطة منذ البدء أو تصريحات الانجذاب،الا انه قد قتل حتما لاسباب سياسية.كما انه بهذه الوصية وذاك السلوك قد انخرط تماما في درب مشابه، درب الوحدانية الصوفية، وتخلي عن فكرة الصوفية الجماعية في شكل تنظيم أو جماعة .
    جريدة (الزمان) العدد 1231 التاريخ 2002 - 6 - 6
                  

العنوان الكاتب Date
محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة بكرى ابوبكر06-11-02, 07:31 AM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة خالد عويس06-17-02, 02:10 PM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة بكرى ابوبكر02-06-03, 07:07 AM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-07-03, 04:52 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Elmosley02-06-03, 12:29 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة atbarawi02-06-03, 02:00 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Kabar02-06-03, 04:39 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة baballa02-06-03, 06:20 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yasir Elsharif02-07-03, 09:35 AM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة SAMIR IBRAHIM02-07-03, 12:32 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Kudouda02-07-03, 03:06 PM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-07-03, 06:06 PM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة السوباوي02-07-03, 07:06 PM
        Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yasir Elsharif02-07-03, 08:13 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة WadalBalad02-07-03, 07:31 PM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة السوباوي02-07-03, 08:26 PM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yaho_Zato02-08-03, 07:43 AM
        Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-08-03, 09:42 AM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yasir Elsharif02-08-03, 08:25 AM
        Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة السوباوي02-08-03, 12:00 PM
          Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yaho_Zato02-08-03, 07:30 PM
            Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Haydar Badawi Sadig02-10-03, 07:28 AM
              Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-10-03, 09:10 PM
              Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-10-03, 09:21 PM
                Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yaho_Zato02-11-03, 06:25 AM
                  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-11-03, 09:41 PM
                    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yaho_Zato02-12-03, 01:13 AM
                      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 01:29 AM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yasir Elsharif02-12-03, 10:09 AM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 01:53 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yasir Elsharif02-12-03, 11:39 AM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yasir Elsharif02-12-03, 12:10 PM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yasir Elsharif02-12-03, 12:22 PM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 02:18 PM
        Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 02:23 PM
          Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 02:30 PM
            Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 02:36 PM
              Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 02:44 PM
                Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 03:02 PM
                  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 03:09 PM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati02-12-03, 02:18 PM
        Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yaho_Zato02-14-03, 09:44 PM
          Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Agab Alfaya02-19-03, 04:41 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Yasir Elsharif02-19-03, 05:57 PM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Haydar Badawi Sadig02-20-03, 02:26 AM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Agab Alfaya02-20-03, 07:29 PM
        Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati01-17-04, 03:35 AM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Agab Alfaya01-17-04, 04:20 AM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة خالد الحاج01-17-04, 10:07 AM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة HOPEFUL01-17-04, 04:39 PM
        Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati01-17-04, 05:44 PM
          Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Raja01-17-04, 06:21 PM
          Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة HOPEFUL01-18-04, 03:56 AM
            Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati01-18-04, 02:55 PM
              Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة HOPEFUL01-19-04, 09:58 PM
                Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati01-19-04, 10:39 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة الجندرية01-18-04, 10:49 AM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة doma01-18-04, 01:03 PM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة محمد عبدالقادر سبيل01-18-04, 01:46 PM
        Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati01-18-04, 05:10 PM
          Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة رقية وراق01-19-04, 11:16 AM
            Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati01-19-04, 11:43 PM
            Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abdel Aati01-19-04, 11:49 PM
  Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة مراويد01-19-04, 11:45 PM
    Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة Abureesh01-20-04, 00:21 AM
      Re: محمود محمد طه قال كلمته ورحل - تأملات متأخرة في مغامرة معرفية مبكرة محمد عبدالقادر سبيل01-20-04, 11:21 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de