تموليلت: سيرة وحَجَر

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-19-2024, 07:11 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الاديب محسن خالد(محسن خالد)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-30-2006, 12:00 PM

محسن خالد
<aمحسن خالد
تاريخ التسجيل: 01-06-2005
مجموع المشاركات: 4961

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات (Re: محسن خالد)

    ..

    من رواية (المرور أمام النشنكة)



    Quote:

    المرور أمام النشنكة




    عشق إدريس للضابطة اليونانية







    (1)






    (إدريس)






    "الليلة!؟".
    "نعم".
    "وهذه البروق! ماذا ستفعلون فيها؟".
    ناولني النقيب معتصم بندقية من طراز "جيم 3" الإيراني، قبل أن يُطْلق همهمة كالتي تساعد الناس في الصبر على جهل الآخرين، ثم أجابني وهو يختبر أجهزة التعمير في البندقية أمامي: لولا أنها ستمطر الليلة لما فَكّرنا في مهاجمتهم.
    سألته بصوت يجتهد في دفن ارتباكه وتغليفه جيداً: "أي معسكر؟".
    "نيام ليل". يسخر مني إذن، لأن معسكر "نيام ليل" من أكبر وحدات الجيش الشعبي لتحرير السودان المتواجدة في المنطقة، أكبر وأخطر وحدات جيش "الحركة" كما يختصرونه. أردف وهو يشد حزامه العسكري،..
    "ستعرف. أمامك ساعة لو كنت تود الذهاب". قال ذلك وهو يداري فمه بيده كعادته حين يضحك بشماتة وسخر. لن أنكسر له، قلت: "آه.. أود طبعاً. ولكن.. سأذهب لمكاتبنا أولاً".
    "خذ راحتك، ولو قَرّرت الذهاب أنا في وحدة مصنع البيرة".
    رغماً عن كوني سمعته جيداً فقد سألته: "البيرة" أم "قرنتي"؟
    أجابني بلطف حاسم: الأول، الذي كان في الماضي ثكنة للكيف، مُشْ للعسكر.
    حاولت إعادة البندقية له، ولكن..، بطريقة من يريدها أن تتقدَّمه وسيلحق بها. ودفعها هو في وجهي مرة أخرى، مالك؟ يضحك، دعها معك، لن تبيعها إن لم تذهب معنا، ها!؟
    قبل أن يبلغ سيارته ناديت ناحيته: مَنْ الكمندان؟
    و"الكمندان" هذه جرى العرف على أن يطلقها الجنود على القائد مهما كانت رتبته.
    أجابني النقيب عَاضَّاً على الأحرف: "أنا".
    "عملية صغيرة إذن لو كنت أنت، قلت لنفسي: وإلا لكان المُقَدّم ود العالِم أو المُقَدّم محمد عثمان الجعلي، أشهر وأشرس عسكريان ببحر الغزال حينها".
    دخلت لمكاتبنا الخاصة بالأمم المتحدة ولا أدري ما الذي أريده. نظرت لصورتنا معاً، تَمَّ التقاطها في مدينة "قوقريال"، حين ذهبنا إلى هناك أوان خريف بطائرة الإغاثة. أنجزنا فيها مفاوضات صغيرة وتافهة مع قادة غير ملحوظين من الجيش الشعبي لتحرير السودان، كي يسمحوا للمعونة ببلوغ بعض المناطق التي تقف على حافة الزوال. ضَمَّت الصورة هؤلاء القادة والنقيب معتصم أيضاً: المقدم المعروف ود العالِم ورقيب أول من طاقم حراسته يُسَمّى إدريس قريمان. قرأتُ معلومة الرقيب الأخيرة هذه من على الفوتوغراف. وحتى هذه اللحظة لم تكن تدل على شيء بالنسبة لي عدا دلالة البشر الزائدين في الصور التي تؤخذ جماعياً عادة. هو باختصار وبعد تذكّر شديد، كان ذلك الرجل الذي رافقنا، يتناول طعامه وحده، ولا تخرج لفافة تبغ "القامشا" من فمه أبداً.
    لم أعثر على ذلك الأمر الملحّ الذي يجب قضاءه قبل اللحاق بالنقيب معتصم. ساعة الحائط مضبوطة، لا دخل لها كي أشك فيها الآن، أنا رجل كانت معه مهلة وأنفقها، الذي يُعين الساعات عادة على الانضباط لأطول فترة ممكنة، ليس خلوِّها من المواد القابلة للأكسدة، وإنما خلوِّها من الانتظار والترقب. فالمتأكسدات جميعها، ناساً ودواباً وأشياءً يهلكها انتظارها الدائم لواقعة ما، أما الساعات هذه فتوجد لكي تضبط عليها كل الأشياء انتظارها فحسب. "اللاانتظار" مسألة من صميم العمر إذن.
    سمعت صوت حفيف ثياب عند الباب ثم جاءني صوت "نوف" رئيستي في العمل. صوتها في هذه المرة كان يتفادى سخريته الدائمة مني: أنت هنا!؟
    تناولتْ سخريتها وأردفت: "أنا أحتار فيك! يُفترض وظيفياً أنك ضابط التعيينات والمؤن لهذه المكاتب، لا أذكر أبداً أنك تعيَّنت هنا بوظيفة قس".
    كنت أذهب لكنيسة مدينة "واو" كثيراً، هذا سِرُّ أنها لم تُعيِّني قساً، أما أنا فلي سري حول ذلك.
    "هذه المرأة لسانها فظيع، تَشاتَم مع الوقحين في كل مكان من هذه الدنيا". قلت هذا بيني وبين نفسي. هي بحرينية وتزاول الكتابة على طريقتها. مجنونة بالحرب أينما قَدَّر لها البشر أن تطحنهم. طردوها من مكاتب الطوارئ بالشيشان للتجاوزات الأخلاقية التي تقوم بها. بمعنى أنها لا تلتزم الحياد. رأيها أنها لا تقتنع بعقيدة، كما أنها لا تستطيع أن تعيش بدون ذلك. لذلك فهي ستعيش منحازة فقط لعقائد آخرين. هذا ما تستطيعه، والحياد المنضبط الذي يتطلبه العمل باسم الأمم المتحدة لا شك أنه في مثل هذه الحالة سيجعلها تُلْحِد. سحبت "نوف" أوراقها من طوارئ الشيشان بطريقة لعينة أجهلها والتحقت اضطرارياً بالمكاتب الموجودة في القاهرة. هي لم تسترح لقاهرة كبيرة بلا حروب، ولمكاتب أمم متحدة بلا وحدة طوارئ، لذلك تسلَّت بتجميع المتصعلكين هناك ومنحهم حق اللجوء السياسي. لم تترك مجرد فقير عادي أو فاشل ممتاز إلا وجعلت منه مفكراً مضطَهداً أو سياسياً منبوذاً. حكت لي أن السودانيين كانوا من زبائنها الدائمين. فبدأ السخط عليها من جديد واتهامها باستعداء الأنظمة عليهم. وكي لا يسرِّحوها هذه المرة أيضاً من العمل -كما يظنون هم- وكي تختار "نوف" المكان الذي تريده كما تُخَطّط هي، طالبت بنقلها لمكاتب الطوارئ في السودان. جوبا، ملكال، واو، جبال النوبة... المهم أي مكان فيه جنون ورائحة بارود وبراح للتجاوزات والانحياز. وهاهي رئيسة لمكاتب "واو" ورئيسة لي أنا على وجه الخصوص. امرأة ودودة ولئيمة بشكل لا يمكن مزجه ولا تركيبه. في الحد الأدنى هي ودودة مثل أم، ولئيمة كأي عسكري يمر بالخارج الآن. لمَحَت البندقية في يدي،..
    "بندقية!؟ أصبحت تستحق اهتمام النساء عن جدارة، تملأ يديك إثارة يا رجل"، قالت وهي تحرك خاتمها الذي تُشخِّص الرجال من خلال قولها عنه: لا يعني رجلاً ولا يخيف رجلاً.
    خجلتُ من نفسي تحت بريق عينيها المعقودتين في رهبة جمال فذَّة ومميتة. أضافت مع القليل من انتحال الجدية: "لو جعلتني قدوتك فلن تكمل تعليمك، وستعود لتزاول مهنة دعارة النخيل من جديد". كنت قد ذكرتُ لها أنني قضيت زمناً طويلاً من طفولتي في مهنة تشذيب النخيل وأيضاً تأبيره وتلقيحه، وهي تُلمح لعواقب التجاوز الأخلاقي أثناء الخدمة للأمم المتحدة. قلت لها ضاحكاً: هاأنتِ رئيستنا!
    "أنتَ لستَ مثلي، أنا الإيدز المناسب الذي يستحقه أمثالهم. الخبرة جعلت لي جلد ثعبان من نوع الأصَلَة كما تقولون، أعرف كيف ومتى أخلعه حين يعجب أقدام أعدائي".
    "هذه اللحظة انتظرتها مَادَّاً عمري كله كطُعم قبل عصا الصنارة،.. لن أفلتها يا نوف".
    "الموت هو الموت. لن تجد ببطن الغابة موتاً أغلى أو أرخص من المتوفر حالياً في مستشفى "واو".
    بما أنها تعرف أنني أكتب مذكراتي فقد تابعتْ: هذا يكفي لكتابة المذكرات.
    "بل سأعثر على موت أهم من هذا المتوفر بكثير، سأصطاد من بطن الغابة واحداً مميزاً ومختوماً مثل الشمبانيا التي تشربينها في السر، وسأمنحك إياه كي تستخدميه في الكتابات التي تليق بابتكاريته".
    "كم يوماً ستغيب؟"، سألتني ضاحكة فقط، مادام أن الخمر تُشرب في السر فكيف يخجل منها الناس إذن؟ الخمر إما أن تشيع خجلها هي بعد الصحو بين الناس، وإلا فليست مسؤولة عن أي خجل يقع خارجها. هذه نظريات نفس هذه المرأة التي لن تخجل لصبيِّها المسكين، القس. قلت لها: لا أعرف، ربما هذه الليلة على الأكثر.
    "وأنا سأُرضي ضميري بخصمها من راتبك، لا يعقل أن يصبح الناس كلهم متجاوزين".
    ضحكنا نكاية في بطرس غالي، الميثاق، ومثل هذا الحياد. ثم اقتربتُ من "نوف" بذات الطمع الجبان في كل مرة. "أنا امرأة مقتدرة وبحر، آخذ الرجال ولا يأخذوني"، عبارتها التي تُوقف أنفي عند كل مرة تأتيه فيها رائحة مضارب الجذور وديار اليمامة وطَرَفة بن العبد، الأعشى، الفند الزماني، وأوس بن حجر؛ أيام كانت المرأة ريح المضارب وسمعة القبيلة. بيني وبينها أكثر من كوني أشتهيها، مسافة لا يقطعها الجواد ولا عضو الرجل، فسحة لحافر الحنين فحسب. "آخذ الرجال ولا يأخذوني"، هذه آخر عبارة أود سماعها الآن. لا أدري أين وضعت مفتاح المكتب، أنا مرتبك على ما أظن، أردت تسليمها له، ولكن أين هو!؟
    لحقت بالنقيب معتصم. الشمس رأسها خفَّ كما يقول العساكر عن دنوِّ المغيب. كنَّا نزيد على المائة بأحد عشر رجلاً من معاوني المدفعية كما يسمونهم. رفعنا التمام العسكري ولم ألحظْ ساعتها أي إدريس قريمان ما من أيتها كائنات. خطب فينا عميد لا أذكر اسمه الآن: لِتَعُد لنا هذه البنادق، نحن نحتاجها أكثر من أولئك القتَلَة. ضجرت على نحو ساخر بعض الشيء، هذا الرجل يبدو أن معه خطة لاستخدام البندقية كفأس زراعة أو طورية، ثم إنه لم يتحدث عن عودتنا نحن مطلقاً، وكي لا نعتبر المسألة شخصية تابع بينما هو يخترط مسدسه،..
    "أنا مثلاً لن أقبل الموت إن لم يكن بجواري صاحب يعود بهذه العُهدة إلى المخازن. الرجل والمحارب بحق هو مَنْ يقف سلاحه لجانب رفاقه حتى النهاية". خطب العميد طويلاً، وللأمانة كان فيه شيء ما من حكمة الشعر يجعله لا يناسب كونه عسكرياً. أعجبني اجتهاده في توفير منطق يربط عاطفة الداخل بحقيقة الخارج، هذه مسألة صَعُبت من قبل على جهابذة المدرسة الانطباعية. بدلته العسكرية أضيق منه بكثير، كأنما جسده تواجد داخلها بطريقة صَب الخرسانة المسَلّحة داخل الأعمدة، لو انحرف عليه سقف ذلك الجملون الضخم لحال بينه وبين السقوط على الأرض. ثم أمروا لنا بموسيقى الحماسة العسكرية. بدؤوا بعزف مقطوعة مَلِك "الشُلُك" المحارب، الشهيرة كملكها، الذي نحن ذاهبون لمقاتلة أحفاده. للأسف هذه المقطوعة عنوان لمشاعر السودانيين كلهم، المحاربون الشرفاء على زعم العميد، أوالقتَلَة على غرار المتهم كاربينو، هذه المقطوعة ليضمنوها ألبوم مفاخر السودان خارجياً وليس متحف مجازره الداخلي. ليس ثمة وسيلة لكتابتها في مذكراتي ب####اجتها الميدانية هذه. بدت مهيبة ورائحة آثام الغابة المنتظرة تغطي القلب.
    تحركنا ليلاً وابتعدنا عن مكانها كثيراً، وإن كان صداها الحزين ما يزال يتخبط في أعقابنا. كانت تقودنا، أيَدُلُّ "نيكانج الجَدّ" -البطل، الملك، المقدس والمحارب- أيَدُلُّ على أبنائه؟
    "أبداً لا يدل نيكانج على أبنائه". هذه إجابة "نيكانج الابن" للرجل الإنجليزي الذي اخترع قانون المناطق المقفولة، إذ طالبه الخواجة بتسليم بعض المعترضين على عزل الجنوب عن الشمال. ولم يكد نيكانج يقولها حتى سقفت السماء رماحُهُم المنطلقة من روح الشهب وقداستها، في وجه ذلك الرجل الدميم، الأبرص والنجس.
    المهمة التي تنتظرنا واضحة للغاية وبسيطة. "في هذه الليلة بالذات ستصل مجموعة من المرتزقة الإسرائيليين والكوبيين خبراء الأسلحة وخبراء الدسائس التي هي أخطر من البارود. سنهاجم تجمُّعَهم عند النقطة "ك" مكان تمركزهم النهائي". والنقطة "ك" هذه تشفير لاسم قرية بالقرب من مدينة "واو" غير المشفَّرة. وبعد إتمام مهمتنا -طبعاً لن نسألهم عن جوازاتهم- "ثم تعود قوتنا بعد ذلك لمدينة "واو" عبر طريق ملتفة شُفِّرت برمز نقطة "الشرك"، كي لا تتبعنا أي قوات عدوَّة. "الشرك" هذه هم قالوها بالرطانة وفسَّرها لي عسكري في حينها، لم أعد أذكر صوت الكلمة التي استخدموها بالفعل. "وفي حالة تعذُّر الدخول إلى "واو" عبر الكوبري الوحيد على نهر "الجور"، يتحرك سيادة النقيب بقوته إلى نقطة "جناح النسر". يعنون المرسى أو "المُشْرَع" الذي تُترك فيه قوارب الصيادين من الجهة الأخرى للنهر".
    صاح وقت صرف هذه التعليمات ذلك العميد الراقي: واضح؟ أجبناه كلنا: واضح سيادتك.
    لم نكن ندري صعوبة العثور على مجرد قرية وسط هذا الليل والغابة التي تبدو بلا نهاية. أوف، هاهي المطر بدأت تجلد كعصي الخيزران الطريَّة. أحياناً تعوي كالذئاب. غابة على الأرض نخوضها، وأخرى معَلَّقة في السماء التي فوقنا. وبدأت شتائم العساكر تلعن وتنال من الغابات دون استثناء.
    "كنَّا في البداية نتهيَّب الوصول لهذه النقطة "ك"، ثم أخذنا نريدها وتزداد رغبتنا فيها. لم يترك لنا البعوض والمطر خياراً آخر. العساكر يقولون إن الحرب لا تتم وَفْقَاً لرؤى الساسة والمنظرين لها، وإنما وَفْقَاً لضجر ظروفها الخاصة".
    لقد أصبحنا كالإبل كما يصف أحد العساكر. أي فرد منّا يحمل مُرتَّبه الحربي "ثلاث خزانات تحتوي على 60 رصاصة أو 90 حسب نوع السلاح"، بالإضافة لـ"السونك" الجنبي الخاص به، السكين التي نثبتها أحياناً في مقدمة البندقية لإزالة الحشائش عن الطريق، إزميل صغير في أحد جانبيه فأس وفي الآخر مغرفة، وهذا لحفر الخنادق لو احتجنا إليها، الناموسية ومشمّع المطر مع وجبة واحدة تلوكها كالتسالي في مثل هذا البرد، زمزمية ماء، كما عليك مساعدة حاملي صناديق الذخيرة الاحتياطية والرشاشات الثقيلة ومعاوني المدفعية في حمل المدافع وذخيرتها.
    معاونو المدفعية هؤلاء لا يحبهم أحد. لأنهم على حسب رأي الجنود الآخرين متعلمون ومتبجحون. هم في الحقيقة تلقوا معارف غامضة تشبه مبادئ الفيزياء فيما يخص حركة الأجسام. "عِلْم الحَجَر" كما يُبَخِّسهم رفاقُهُم في الأسلحة الأخرى. ولكن في هذه الغابة المظلمة والنائية، التي لا تعرف نسبية إينشتاين ولا يخصها، لن تستطيع التحدث مع أحد المعاونين هؤلاء إن لم تكن إسحاق نيوتن شخصياً. المشاة أو "الضأن" كما يسميهم المعاونون، يعاكسون هؤلاء المعاونين بنكاتهم الثقيلة وغير المتعلمة. نكات تعتمد أساساً على نوع رخيص من الحذلقة اللغوية والجناس. كأن يصيح أحدهم في زميله: اسمع يا بُلْدة "بلدينا"، معاون وألاّ معاهم؟ وحين يكتشف الآخرون أن "معاهم" هذه تضع المعاون أيضاً في طرف الأعداء يضحكون بلا هوادة.
    "بدت لي الأمور غبية منذ البداية".
    لدرجة أن صمت المعاونين في وجه هذا الظرف السمج والبايخ يجعل معهم بعض الحق والتعليم. كنتُ الغريب الوحيد بينهم. ولذلك اختلطت بهم وتجنبت السير بجانب صديقي معتصم "الكمندان". كي لا يصنفوني متمسحاً بالرئاسة. لست بطلاً لأفتدي المعاونين بتوجيه هذا العداء كله نحوي.
    أدهشني أنَّ الضباط وضباط الصف لا يتدخلون أبداً. فقد جرى عرف عسكري على اعتبار ظروف العمليات من الناحية الاجتماعية -اجتماعيات من مثل هذا الظرف- أجواء حرة لا رُتَب فيها ولا أوامر، بقصد رفع المعنويات. كان هنالك ملازم مدفعية واحد يرافق النقيب معتصم، وملازمان آخران يتابعان الجنود ويقهقهان بين حين وآخر، يبدو حين يستطيبان بعض النكات. ولا أعرف حينها كم من ضباط الصف كان معنا.
    كنا نتخبط في الوحل والحشائش حتى منتصف الليل والقرية "ك" لا أثر لها. يبدو أن تجارب الضباط هي التي تمنعهم من التدخل، يعرفون أن التعب والأحراش سيقودان الأمور نحو الجدية تلقائياً. لم تعد تسمع إلا:
    "هذا خور لا قعر له، انتبه يا فلان، لا تريد أن تموت، صحيح؟ خطيبتك أصبحت أسمن من أمها... تركب هي على حمار وأردافها على حمار".
    "لا أبداً من هنا. الممر الصخري مسدود من هناك".
    "احمل معه يا فلان".
    "لا تترك سيبيا الرشاش خلفك يا ديك".
    الحديث والنداءات كلها أصبحت إما تُعَبِّر عن مشكلة أو تحلها. والمشاكل كثرت، بحيث بدأت مرحلة الشتائم الجدية. ولكننا توقفنا لبعض الوقت كي نرتاح ولا تتطور هذه الحالة. فالكل يحمل في يده سلاحاً. كنَّا نرغي من التعب -صدَق العسكري- كالإبل.
    أفراد الإشارة أخذوا يختبرون جهاز اللاسلكي: يا وحدة "س"...آلو.. بلِّغ بلِّغ، آلو، يا وحدة "س".. يا وحدة "س"... جهازهم فيه مشكلة على ما يبدو.
    بدأ سخط الجميع يتجه ناحية الأدلاء أو أفراد الاستخبارات، الذين هم من الجنوبيين أولاد المنطقة بالطبع. ولكن ذلك الليل لا دين له -كما وصفه عسكري- لم يكن ليميِّز بين ابن للمنطقة وآخر غريب. تحالف ليل وغابة ومطر يُجهِّل الناس بلا استثناء. وحتى لو كنت طيرة بنت المنطقة، وتحمل محدد اتجاهات بيولوجي بداخلك فلن تجد عشك وسط هذه الظلمة والمتاهة. قال أحدهم للكمندان مغتاظاً من أفراد الاستخبارات،..
    "اسمع يا كمندان ساري الليل، هؤلاء اسألهم عن أماكن النساء الغُلُف والسَكَر فقط. النقطة "ك"!؟ ستجدها لو كانت شرموطة".
    بعضهم يهمهم مشجعاً، آخرون يضحكون بعُنْجهية واستمتاع. يلقبون النقيب معتصم بـ"ساري الليل" أي "الجراد"، ولا وجه شبه مشترك بين الاثنين إلا هجمات الليل كهذه.
    حاول النقيب معتصم أن يُسكت ذلك الرجل، مثل هذا الكلام يبدو الآن كرأي، ولكن بعد قليل سيصبح جبهة ومناصرين. رَدَّ على الرجل الذي قدّم ذلك النصح البذيء للنقيب أحدُ أفراد الاستخبارات بالعربي الركيك الذي يسمونه "عربي جوبا"،..
    "إنت تعرصة ليك شنو؟ في واهد غيرك إنت بنيك هريم كل يوم زي ود أبرق؟".
    فم العسكر يبول ويستمني كما تلاحظ. شُلَّة منهم وقفت بعيداً تضحك وتهلل وتدخن "القامشا" أو "الكُدْكُد" وإلى "البنقو" هذه الحشائش المخدرة التي تنمو هنا في كل مكان.
    كنت أحلل الموقف في ذهني "بالإضافة لكون النقيب معتصم رجل منصف، أيضاً هو لا يريد أن يحدث شقاق بين رجاله، طبيعي إذن أن يصيح في الرجل الذي بدأ مهاجمة أفراد الاستخبارات: "اعتذر للعريف "رياك" يا رقيب "قريمان". ليعتذر هذا الرجل كما تواقح ويخلِّصنا. تذوقت اسم الرجل قليلاً، أوف، ذاك الرجل الوقح "إدريس قريمان" إذن؟ رفيقنا الصامت في مدينة "قوقريال" كما في صورته الفائضة.
    لوى الرقيب "قريمان" فمه كضبع وصاح هكذا وبجنون: كروك.. كروك، كاواي كروك، كركندي، كوووك.
    السماء رعدها يجول من ناحية لناحية، قَشْطُ البروق والمطر يعصف بالأرض دون رحمة. يؤرجح الشجر الضخم ووجوه الرجال. لَمْعُ مواسير السلاح، حيناً يقع في فراغ الأعين، وحيناً فيما تخلفه الأرجل من فراغات على الصخور الدبقة والطين. تُمتْرسنا الأشجارُ الخرفة، هذه غابة عانس، بريِّة بالكامل ومُرضعة وحش، لم تطرقها فأس منذ الاستقلال.
    أخذتُ أتلبَّط كالبجعة الكسيحة في الوحل وعلى أكوام البَرَم ودقاقة الحشائش المتراكمة على الأرض، سقطت مرتين في هذا العجين النباتي الدبق بينما أنا أحاول التخَلُّص من آفة أو شيء اندس في بنطلوني وأخذ يلدغني. هاأنا تمكنت من هرسه وخَلَّف عجينةَ أحشاء هو الآخر، في منطقة حساسة. تدحرجت متخبطاً مرة أو مرتين وتمكنت أخيراً من بلوغ جذع مندفن في الطين. أردت أن أتسمَّع من مكان قريب. لم أكن أتبيَّن "قريمان" جيداً، فقط "بوريه" عسكري مائلاً على الرأس وشبح شخص يسند يديه وصدره على "سيبية" مدفع. فبدأ ضيقي منه في الظلام وتحت ذلك الجو الغامض والشؤم.
    انتهره ملازم المدفعية بصرامة لأجل ذلك الصراخ: بَطِّل السخف يا قريمان.
    "اعتذرت له بالرطانة"، ردَّ قريمان وهو يمرجح نفسه على "السيبيا".
    واضح طبعاً أنها أصوات جنون وقلَّة أدب اخترعها تواً. ما دفع العريف "رياك" لأن يرد غاضباً: دي لـ ـواطة بتاع مندكورو وألاّ شنو؟
    الموقف تأزَّم للغاية. على الأقل في نظر المبتدئين والمتطفلين أمثالي. وهاهي الكلمة التي تُلَخِّص كل الحرب بين الشمال والجنوب قد نُطقت، والكل في يده مدفع. "مندكورو". كلمة تعني في لغتهم الشخص الليِّن والمرفَّه، أو البرجوازي الطمَّاع كما تريد لها الأيدلوجيا. ولكن منذ بداية هذه الحرب اللعينة خُصِّصت لوصف الشمالي والعربي تحديداً. قَدَّرتُ من لهجة إدريس أنه من غرب السودان، بالطبع لم أكن أعرف أنه من غرب السودان فعلاً ومن قبيلة "الحَمَر" شديدة العروبة والبأس. العربي في مواجهة اللاعربي إذن، "المندكورو" في مواجهة الأنانيا. و"الأنانيا" في لغتهم تعني الشخص الخشن، أو المتمرد والخارج على القانون كما تريد لها الأيدلوجيا المضادة. ولذلك عُرِفَت حركات التمرد المبكرة باسم "أنانيا 1، أنانيا 2". فكما للُّغة قاموسها، للأيدلوجيا أيضاً تطويراتها وتربصها.
    "هاهي الأمور رأسها في رأس بعض بكل جلاء. ماذا سيحدث؟ الذي بأيدي هؤلاء الأدلاء الجنوبيين الآن مصيرنا كله وليس مجرد نجاح مهمة"، هكذا تمتمتُ أنا مع نفسي في غيظٍ حذِر وصامت. كنتُ فطيراً وطفلاً على باب الكراميلا، وما أدراني أنها حركات جيش وهم يعرفون كيف يداوونها بما يفيد. صفع ملازم المدفعية بأداة قياس يحملها في يده الجذع الذي أجلس عليه،..
    "ثلاثة أيام من مرتبك تذهب لـ"رياك" يا إدريس، وتُربة أمي"، قالها ملازم المدفعية بلهجة بدت صارمة وتحمل في طياتها: انتهي، لا جدال.
    هرَّج إدريس مع لعنات: وكيف لو تكلمت معه بالإنجليزية، هل كنتَ ستخصم شهراً كاملاً؟
    "إنت بعرف رطانة كويس، شان شنو يكلم إنجليزي؟ إنجليزي دا واهد بلاش، ما فوقه قروش لمساكين زينا". هكذا ردَّ "رياك" بعربي لجوبا بدا عصياً على الفهم لخروجه على لسان إفريقي ومن فم مهتَّم الأسنان، كما عادة الأفارقة في التطهر بتحطيم رباعية أسنانهم.
    حركات جيش هي إذن! لا غرس الله فيكم بركة. المثقف حساس لدرجة الوهم المتربص. وحساسيته هذه لا بد أنها جزء من المشكلة. سريعاً ما ركض ذهني ناحية فذلكة اللغة وفذلكة الأيدلوجيا. أمور يجهلها الشعب السوداني قاطبة، وخاصة المتشاجران إدريس ورياك.
    هذه حركات جيش، ولا تنسى أن هنالك حركات سوق وحركات سينما، حركات مثقفين وحركات عند طلب التزاوج والمرعى، وحركات لـ ـواطة عادية بتاعة مندكورو وأنانيا بوصفهم بشراً عاديين لا بد أن ينتجوا حركات ماداموا يعيشون فوق ذات الأرض. وإلى آخره من الحركات والمظالم التي لا تكفي لتأسيس وطن آخر. حركات تعددية وتنوُّع بالأساس كما يقول الرجال البدينون في التلفزيون.
    بدا لي أنَّ النقيب معتصم لم يسمع هذا الحوار من أساسه، ناقََشَ حول النقطة "ك" مباشرة: هيّا خلِّصنا يا "رياك". الوقت لا يكفي لاختبار دروب هذه الغابة كلها. رَكِّز معه يا "فاولينو".
    اقترح "فاولينو" أن نذهب لقرية أخرى قريبة من النقطة "ك"، لأنه يعرف أحداً هناك ما يزال يعيش في الغابة. بالتالي سيحل هذه المسألة دون أن يكون محتاجاً لتركيز. بعضهم وافق وبعضهم اعترض، كما هي عادة الناس في الأوقات التي لا يناسبها الاختلاف. ربما في مثل هذه الأوقات بالذات تتفتق عقول الناس عن مقترحات ومواهب كانوا يجهلونها من قبل.
    قال إدريس الذي لم يكن بوسعه أن يرى في الظلام كيف بدوتُ مغتاظاً منه،..
    "هكذا يا كمندان سنهدر ليلنا بلا طائل. احتج إدريس بلغة رصينة ودقيقة لا تشبه أن تكون خرجت من فم الذئب الذي عوى به قبل قليل".
    "اسكت أنت يا قريمان". انتهره ملازم المدفعية الذي قَدَّرت أنه رجل صارم ويميل للحزم.
    "علي كيفك، لكن راح ليكم الدرب في الموية"، قالها إدريس وانزوى دون أن يرد عليه أحد.
    تحرك النقيب معتصم هنا وهناك كعادته، ثم قال حاسماً للنقاش: هيَّا يا "فاولينو"، دعنا نتعرَّف على قريبك.
    وبدأنا السير من جديد ناحية قرية أخرى، فيها رجل موثوق يعرف قرية النقطة "ك". يجب أن لا يكون قد ذهب لزيارة أحد أقربائه أو لطبيب، ولا حتى استدعاه أحد كبراء المنطقة لشأن. يجب أن يكون الآن بالضبط لجانب زوجته أو فوقها، ننزله ونمضي، وإلا تَلِفت المهمة بكاملها.
    الليل كان مُحْكَماً، وإن بدأ المطر يخف. التوجس ورائحة الغابة المبتلة أيضاً محكمان. الجذوع يجب تحسسها بـ"السونك" قبل الخطو فوقها. فحركة التكور هذه اشتهرت بها هاهنا الثعابين الضخمة أكثر من جذوع الشجر. وللتمادي فقط نقول إن تكور الجذوع لا يرهب أحداً، ولكن المشكلة عندما تنقلب الأشياء لأشياء أخرى. وتنقلب هذه هي المشكلة بالتحديد. لا أحد مطلقاً يحبذ أن ينقلب مخلوق من تحت فخذيه إلى مخلوق آخر. مخلوق ينهض من عجين الدبق النباتي بشوق سمومه لذاك الدبق الحيواني –المهروس- عند المناطق الحساسة. سؤال الأشياء عن هويتها بالسونك طول عمر إذن، التحسس الظنّان الذي يُعَطِّل السير. والوحل اللعين أيضاً يعطله، كما هو حَمْل الأشياء الثقيلة. كنا نزحف زحفاً نحو ذلك الدليل الجديد. فوقنا المطر وحدها، لا نجم ولا قمر ضنين ولا حتى البَرَكة. الكل ينفض يده مما نحن فيه.
    ليس معنا إلا هذه القلوب المتهورة بقدر ما فيها من بارود الشهوة للبطش والحقد والسيطرة والتدمير. هذه أرضنا بلا شك، ولن يطأ عليها ولا حتى مواطن إسرائيلي أو كوبي محترم دون إذننا، فما بالك بالمرتزقة؟ ولكن الحق والعدالة نفسيهما يقامان بهذه الشهوة للبطش والحقد والتدمير، يقيمهما ما هو سيئ في الإنسان وليس ما هو سامٍ وعفيف. شهوة فطرية وطماعة كالاستعداد للدخول مع امرأة في مكان مظلم. تنفرد بالداخل كما ينفرد الجذع الذي كان متكوراً قبل لحظة. الشهوة المسؤولة عن قتل إنسان لأخيه الإنسان سَواءً إجراماً أو إقامةً للعدالة. الإنسان السوي هو الذي لن يقتل بالمبدأ. هذا الكلام جئتُ به من مذكراتي قبل هذه المشاركة، أي كنت قد وضَّبتُه من تصوراتي المكتبية للحرب والقتل. وقد ظننته لوقت طويل كلاماً شاعرياً وفيه انفصال عن التفكير الوضعي، كما حدث في عقل نصير الدين الطوسي الذي رفض تكفير إبليس بالمبدأ، بناءً على رحمة الله. ولكن عندما تلصصت الطبيعة العريضة، بداخل طبيعتي الضيقة والمحصورة ظاهرياً، اكتشفت أن هذا الكلام فيه ولو بعض الحقيقة.
    بدت الأمور وكأنَّ تلك القرية "ك" تريدنا أكثر مما نريدها. وإن كانت تماطل فلكي تمنح الوقت لشهوة البطش هذه لتستيقظ بداخلنا عن آخرها. قوانين الطبيعة تسعى دائماً للتناسق فيما بينها.
    النقطة "ك" كانت تريدنا عند حوافنا الشرهة، المغالية والمتجبرة، التي لا تراجع عندها ولا شبع لها. ومثلما كانت تسعى ليقظتنا كانت تسعى ليقظة الطرف الآخر. وكيفما كانت تشدنا نحن، كانت تشد الأسباب لينتبه خصومنا. المسألة كلها مبيَّتة منذ زمن أزلي وتجريدي. والناس يمكنهم ملاحظة ذلك عندما يُحصي كل طرف عدد أفراده بعد المواجهة، عندما يتحسسون الندبة الغائرة. فأي تحسس شهواني ومختل لمعالم طريق ليلي ومجهول، يؤدي لتحسس ندبة أكيدة.
    خرجنا من بطن "توج" أجرد إلا من الحشائش الكثيفة لنقف على أضواء القرية بغيتنا، التي انكفأت عليها الغابة والليل وزخ المطر. نيران الحطب الرطبة وخفوت الفوانيس الرخيصة أظهرها خابئة وضنينة كحشرجات أصحابها بالمستشفى الملكي، مستشفى آل سعود بـ"واو". مستشفى الموت المتوفر والمجاني. الموت الذي تحققت فيه الشيوعية الكاملة التي حلم بها ماركس وإنجلز. موت يفي بأغراض كتابة المذكرات لا غير، وربما رئيستي في العمل مُحِقَّة.
    مزدوج الظلام والتعثر بعثرنا بنوايا الموزِّع الغشاش لأوراق الكتشينة. وجدت نفسي هذه المرة بجانب غريمي، كتفاً بكتف. أوراق الكتشينة أيضاً قَدَرُها يتوقَّف على الحركة، ليس بوسعها أن تستحق مكانها إلا من خلال قوانين احتمالات متقنة. بعيداً منّا قليلاً يقف "الكمندان"، هذه الكلمة لها هاهنا مهابتها وتُنجز إشارة الألقاب والتقنيع حتى عظمة الدلالة. وقف لجانبه ملازم المدفعية الصارم.
    "الخطة تقتضي أن يذهب أفراد الاستخبارات وحدهم لمفاوضة الرجل. يفهمونه أننا نتبع للجيش الشعبي لتحرير السودان، ومن ثم يتقدموننا ويشغلونه بالكلام حتى نصل النقطة "ك".
    المواطنون يرهبون جيش "الأنانيا" أكثر من جيش "المندكورو". الجيشان يتشابهان عندهم في أن كلاهما مؤذٍ بالنسبة لهم. ويختلفان في أنَّ جيش الحكومة يضرب ضربته ويختفي، أما الجيش الشعبي فيضرب ضربته ويبقى معهم في الغابة ليُصَحِّح أخطاءها. فبالتأكيد هم يتمنون لو أنه لم يكن هناك تجييش من أساسه، هذا آخر ما سيساعدهم في زراعتهم البسيطة ورعيهم وتزويج أبنائهم. بل هم بزحفهم هذا، المتحسس بالسونك والمتجرجر في عماء الليل، يدمرون الزرع وأقنية الري، يحطمون سيقان الدخن ويبقرون بطن "البنجوك". كلاهما شيطان ويجب طرده بالتعاويذ.
    بالرغم من أن الجيش الشعبي أيضاً فيه شماليون، إلا أننا اقتصدنا في استخدام اللغة العربية من جانبنا. انتفينا قليلاً، لا نريدها أن تطغى كي لا نستبق أوان صراع اللغات والتعدديات في الظلام. ما يزال الوقت مبكراً، و"ك" اللعينة هذه لا تريد الغابة أن تلدها لنا.
    قال إدريس لملازم المدفعية -قائده المباشر- وهو يداري سيجارته من حبات المطر الذي يكاد أن يتوقَّف: هذه الخدعة طفولية ولن تنطلي على أحد.
    لم أستطع لعنه، كنت أوافقه. ردّدتُ مع نفسي: "نيكانج لا يدل على أبنائه أبداً". ثم أخذتْ هي تردد نفسها داخل دماغي، آلياً وغصباً عني. كالصدى الذي يجعلونه يتكرر في السينما لترتبط به مَرْكَزَة دلالات أخرى هامشية.
    "فاولينو هذا مراوغ ولعين"، هكذا دافع أحدُ الملازمين عن جدوى الخطة. هو ملازم مشاة وواجبه متابعة الجنود مع رفيقه الآخر، ولكنه اقترب في تلك اللحظة ليعرف نتيجة المفاوضات مع الرجل العجوز.
    رد عليه إدريس بدون أدنى اكتراث إلى أنَّ الرجل قد يسمعنا، هكذا بدت لي الأمور. كنتُ أُريد للأمور أن تنجح كلها وبسرعة وإنْ كانت غبية.
    "حتى لو كان فاولينكم هذا إبليس نفسه فلن يضلل عجوزاً من "الدينكا" عن رائحة "جلابة" العرب. تحاربون في هؤلاء الناس أكثر من نصف قرن وما تزالون تعتبرونهم أطفالاً، أي تفاهة سيشارك فيها "ود قريمان" هذه الليلة؟
    أطلق إدريس كلماته هذه بشكل متتابع وسريع كما لسان غرب السودان، وبلغة متزنة لا يقف خلفها رجل مستهتر بالمرة. ولكنه لو استمرَّ في سرد حكمته في هذه اللحظة بالذات فسيفسد على الأقل الاقتناع الذي يمكن أن يُؤَدّي إلى خطة. كلمة "خطة" أصبحت تَرنُّ في رأسي مهمة وخالدة ولها وبَرَ كالدابة.
    "لو فتحت فمك مرة أخرى يا إدريس فإما أنت أو أنا". انتُهر إدريس بسخط مكبوت حذر الضجة، نفس ملازم المدفعية الصارم الذي بدا وكأنَّ وظيفته إسكات إدريس.
    الغضب وفوضى البحث عن النقطة "ك" جعلت الملازم ينسى رتبته ويتكلم مع إدريس كند، وكرجل نهايةً.
    الملازم ختم تحذيره من هنا وإدريس أجابه من هنا: "هاأنا أسكت. ترجم لنا إذن، خصمتَ من مرتبي ثلاثة أيام لكلامهم الذي لا يخرج إلا مع جالون بصاق هذا".
    ضحك النقيب معتصم بخفوت، بل كلنا. بدا صوت ذلك الرجل في الظلام لعيناً في سخر، طَنَّاناً وملحاحاً كسرب النحل. فيه عنصر من عظمة المُلحة ولا شك، وإن كان لا يعرف متى يكون مليحاً.
    رغماً عن ذلك انحزت ضده، لم أدافع عنه أبداً عند نفسي بأن الحرب بالنسبة إليه مجرى حياته، وليس موضوعاً جاء يستكشفه كما هو الحال معي. هؤلاء الناس يعرفون جيداً أنهم يستخدمون هنا أعمارهم كاملة وليس جزءاً منها، لا بُدّ أن يعيشوا ظروفاً كهذه بشكل اعتيادي إذن، يكونون طريفين، غاضبين، سكرانين، زانين، وإلى آخر أمور الحياة الاعتيادية، إذ لا عُمُر احتياطي بحوزتهم.
    همس الملازم الصارم بصوت ضارع وفيه بقية ضحك ما تزال: إدريس، وحقِّ تربة أمي اسكت.
    بدأتُ أستاء من أبواز الجميع،.. "هذا العسكري، الملازم المتربي، لا يمتلك عزيزاً يقسم به سوى تُربة أمه التي ماتت".
    كنا ننتظر وعيوننا تَرِفُّ في الظلام ببريق المكسب. أبناء قبيلة واحدة يخدع بعضُهم بعضاً ونحن سنأكل سُحْت هذه الخيانة. وماله؟ ذلك لأجل الجغرافيا الأعرض من قبيلتهم وقبيلتنا. هكذا نُضفي الغموض السياسي على الموضوع، نُزيحه من فم هذه الشفرة ليكون عُرضة لشفرة مفاهيم أخرى وأمضى حِدَّةً.
    بالطبع لم نكن نفهم من حديثهم شيئاً، وأفراد الاستخبارات تبعنا لا يتوقعون منا مساعدة في هذا الشأن العائلي بأي شكل من الأشكال. لاح لي الموضوع كله من هذه الزاوية المختلفة، كأنما هم جميعاً أشخاص لا علاقة لهم بنا أبداً، وقفوا على الطريق يتحدثون في أمر يخصهم، ونحن لا نزيد على كوننا مررنا بهم في تلك اللحظة. لا رابط ولا مربوط، ولا أي لـ ـواطة مندكورو كما يقول العريف "رياك".
    ربما هم يتآمرون، ربما. من المحتمل أن أحدهم يخطب أخت الآخر، ممكن. ربما بقرة الطويل منهم أكلت زراعة القصير الذي يتحدث بصوت عالٍ لأنه يريد غرامة، يجوز. ويمكنك أن تمط شارع ربما هذا نحو أي احتمال لن يسرنا الآن يختبئ على بعد نصف قرن إضافي من الاحتراب وعدم التفاهم. هؤلاء الناس لسنا نحن، وحتى لو قتلنا الإسرائيليين والكوبيين في بلدانهم التي يأتون منها فلن يُحَدِّد القتل مصير هذه الغابة.
    أخيراً تفاهموا مع الرجل العجوز، غاص في بيته لبعض الوقت جاء فيه بشملة يتقي بها برد ذلك الجو ورطوبته ثم انطلقنا ثانية. هذه المرة نَكِدُّ السير المتخبط وراء دليل جديد، أو فرد استخبارات تسوَّلناه في الطريق. ومن هذه الزاوية المختلفة أيضاً، حربنا هذه موضوع أهلي لأبعد الحدود، لا يرقى أبداً لأن يكون حرباً. لو تمكنا من قتل المرتزقة الخبراء أولئك، فهذا يعني أنهم جاؤوا وميتتهم في جيوبهم، ليست الأمور جدية بالمستوى الذي يظنونه. هم يجهلون، ولكن نحن نعرف أن أمورنا كلها لا يمكن التنبؤ بها لا بقوانين الله ولا الطبيعة ولا الاستراتيجيات التي تعلموها هم كشيء فذ وحاسم. هذا علمه قاصر على أهل السودان فقط كما يقول الجغرافي اليعقوبي.
    فَرْد سلاح الإشارة ما يزال يُكَرِّر: يا فلان.. آلو آلو.. أجب أجب.. يا فلان.
    تخطّى هذا الفرد الأهالي حاجز المعرفة، وما تلقاه في أكاديمية تطمح لخلق مؤسسة، تخلّى عن "س" و"ص" و"وحدة كذا"، أخذ ينادي بالاسم على زميله في وحدة المتابعة بـ"واو"، ربما درسا معاً أو هما أبناء قرية واحدة، لا داعي لكلفة وتقَعُّر لا مبرر لهما. هو ينادي منذ تحركنا وصوته لا يذهب أبعد من صندوق عِدَّتِه ذلك. حقدتُ عليه وعلى لمبة البيان الحمراء في جهازه، كانت تلمع، الكذّابة،.. كموظفها، بينما أي حشرة من النوع المضيء هنا أكثر أداءً لوظيفتها منها.
    "بدت لي الأمور غبية منذ البداية".
    إدريس همهم مع رفيق مدفعي كان بجانبه، أخبره أن فرد سلاح الإشارة ذلك مخمور لدرجة التطيُّن، أو عند مرحلة الإنسان قبل تركيب العقل عليه وجعله آلة مفيدة. فقد أتوا به على عجل من بطن خَمَّارة، وكان يرمي سلكاً أو قطعة حديد بداخل صندوقه ذلك ثم يطوِّح على رِجْل واحدة ليتقيأ الخمر، أو يسقط بالتمام على الأرض ويستغل وقعته تلك ليربط زراً أو اثنين من حذائه العسكري. باختصار ربما جاء هذا الرجل بطلمبة أو ماكينة سينجر أو أي جهاز آخر لا علاقة له بالاتصالات.
    "لا تتحدث عن فرد الاتصالات هكذا". قال المدفعي لإدريس وهو يلكزه في بطنه ويضحك. أجابه إدريس: أي فرد؟ هذا الآن ليس بفرد اتصالات ولا قيامة، إنه رجل سكران فحسب.
    هكذا إذن!؟ كأننا ذاهبون لبيت عزاء أو ميتم. هذا الجيش يمتلك استهتاراً يُحْسَبُ في مقدراته العسكرية، مكثوا هنا طويلاً وأصبحوا ينادونه بالخبرة. الخبرة عندهم هي هذا العمى عن ملاحظة الموت، موت لا يلاحظه إلا كُتّاب المذكرات.
    توقَّف دليلُنا العجوز فجأة وأخذوا يتراطنون. الغابة كريمة وأغدقتهم بملايين الطرق الصالحة لتضييع الليل، أم ماذا؟ السخط، التوتر، السخط. قلت لنفسي بحنق "جَيِّد أنَّ المطر توقف، ولكن إن لم تكن هذه النقطة "ك" تبعد عنا كما يبعد المطبخ عن باقي منافع المنزل فلن نصلها إلا ضحى".
    قَدِم علينا العريف "رياك"، ولعامل الغبش، وجَّه حديثه لملازم المدفعية يحسبه الكمندان: "خلاص يا كمندان، ياهو توج قدامنا دي، بعدين نحن طوالي نلم في مكان".
    شاكسه إدريس قائلاً: "لا أرتاح للعجوز "أبو سنكيت" هذا يا رَياك، ماذا كنتم تقولون بلغة "السنبر" تلك؟
    - F u ck you, go hell شتمه "رياك" بالإنجليزية.
    ردَّ عليه إدريس: You cant swallow my sexual machine
    ها قد عدنا لحرب اللغات. دفع الكمندان العريف "رياك" ليلحق بعجوزه كوضع حد لحركات الجيش. عادي طبعاً أن يتحدث جنوبي بالإنجليزية، هذا نزوح حضاري تَمَّ كَهَرَب من ضغط اللغة العربية على لغاتهم، في الوقت الذي لا تمثل فيه العربية لا لغةً ولا أمةً ثقلاً علمياً أو حضارياً. ولكن بقيت عبارة إدريس تطن في أذني، عبارة نابئة وراقية في آن، فيها اجتهاد بالنسبة لرقيب أول في المدفعية. كان بإمكانه أن يحصل على واحدة من السينما أرخص منها.
    هبطنا برهبة في "التوج" الفاتح والفاتن حتى في غبش الظلمة. وما كدنا نتجاوزه ونقترب من ظلمة الحشائش والأشجار مرة أخرى، إلا وانطلقت ثلاث أو أربع رصاصات من طبنجة وانبطح الناس أرضاً. سمعت تحليل كونها رصاصات طبنجة من جاري ملازم المدفعية. قالها للكمندان والملازم الذي معه ثم بدؤوا يصيحون في جنودهم باتخاذ الوضع القتالي. ملازم المشاة ركض ناحية جنوده، الكمندان وملازم المدفعية أخذا يصيحان بوصايا لأسماء ضباط صف وجنود بعينهم. أما إدريس فركض ناحية أفراد الاستخبارات الذين بدأت رشاشاتهم ترد صائحاً فيهم بإبطال الضرب. يبدو أن العجوز غيَّر رأيه، طارت في رأسي من جديد: نيكانج لا يدل على أبنائه أبداً.
    أطلق عجوز "الدينكا" رصاصه في الهواء وعلى "فاولينو" كي يحذرهم في النقطة "ك". ولكي تستيقظ شهوة الجنون الطبيعي والقابلية في الجانب الآخر، وانفلت العجوز في الظلام والحشائش. طارده إدريس بأقصى حد يمكن انتزاعه من الركض في أحراش كافرة بالمرة. كانا يدهسان الحشائش والفروع المتيبّسة كالجواميس. لاحت المسألة بينهما كالثأر.
    "التوج" كان يلتف على حفير مياه عريض الجوانب. وصوت الرصاص الذي انطلق أجفل قطعان الحيوانات التي كانت تنام قريباً من المورد. الهرج، دهس الحشائش، وتعالي صرير جندب الليل، أصوات وقوع وتَعَثُّر بعض الوحوش الهاربة، النطح والتصادم خلال ركض غير مدروس وبعد يقظة ذعر بقلب الليل. الجنون الغافي كله نهض، هرج المصائر، يقظتها واختلاطها ببعضها، السيرة الذاتية للطبيعة والمعزولين. الأمور مفتولة بمواصفات الريح كحبل الصاري. الحيوانات عبرت من خلال دروب القرية "ك" الضيّقة في غارة مهولة وضخمة، لا بد أنهم يستعدون الآن. مثل هذا الذعر لا يمكن لأسد أو لأي ضارٍ آخر أن يشيعه. الأسد لن يطرد قطعاناً كاملة من الجواميس البرية والفيلة والأيائل وعشرات القطعان الأخرى من الحيوانات الأقل شأناً. الذي يحدث الآن ليس الذعر، وإنما التهجير. الشيء الذي لا يقوم به إلا الكائن قليل الصحة وذو الساقين فقط.
    إدريس عاد يلهث، والعجوز ابتلعته مزالق الغابة.
    "العجوز الملعون، لو قبضتُ عليه يا فاولينو لقيَّدتُه بقضيبه". قال إدريس بينما انكب على فاولينو يفحصه. "أين أصابك؟". وقبل أن يرد على إدريس أحد سلخت عتمة الليل قذيفة لمدفع "زوو رباعي". وقعت في المسافة التي تفصلنا عنهم. صاح النقيب معتصم، "إدريس، جهِّز ناسَك". يطلب منه ذلك لأنه القائد الفعلي للمعاونين. أجابه إدريس بحسم،..
    "ليس الآن، علينا أن نتقدم. التي عجزت عن بلوغنا قبل قليل قذيفة "زوو رباعي". فما بالك بـ"الكلنكيت" التافه أبو عفنة هذا؟".
    العساكر يقولون إن "الكلنكيت" -أصغر فصيل من مدافع المورتر- لا ينفع إلا في طرد الأئمة من منابرهم، أما طرد العسكري من خندقه فهذه مهمة تتطلب أكثر من التخويف.
    "لا أظن التقدم الآن ممكناً"، قال أحدُ الملازمين لإدريس الذي أجابه بدون اكتراث: "لو أضعنا الوقت في المجادلة سينزلون لخنادقهم ودفاعاتهم ولن تقتحموهم ولو كنتم طالوت. هذا بعد أن يتمترس لكم بالخارج ضاربو "الدوشكات" وأنتم تعرفون الباقي".
    "تقدموا" هكذا صاح النقيب معتصم، قائدنا، ساري الليل، الكمندان، الذي يجعله رُقِيُّهُ هامشياً جداً. أسماؤه الحسنى كثيرة، ولكنه بدا لي بلا مهمة.
    تَقدّمنا بتعجل مذعور. أشياء تقع ودرب نخطئه وحفرة موحلة واحدة يقع فيها أكثر من شخص. معظم ثيابنا تركناها لشوك الأشجار والفروع الناتئة، بقي علينا القليل منها. وصيحات تحريض الضباط وحثهم لنا كالبغال تشكل موسيقى خلفية لجرينا وتخبطنا المرتبك في الظلام والحشائش. والبعوض فوق ذلك لا يعرف ما نحن بصدده.
    "هنا المكان مناسب"، قال إدريس للنقيب معتصم بلهجة مَنْ يستشيره. أجابه الكمندان محرضاً لهمته: "ستثبت أنك قريمان الذي نعرفه؟".
    "على أن لا تكون معهم مدرعات حديثة!"، قال إدريس بتشكك. وكلمة "مدرعات" هذه، نطقها إدريس باحترام إن لم تكن مهابة.
    نادى ملازم المدفعية في الجنود: ارتكِزْ كلك واستعد.
    كانوا يختارون أماكنهم وَفْقَ نظرية واضحة لهم على ما يبدو. لا أدري أية نظرية أو حكمة تقودهم، ولكنهم كانوا يتساءلون عن ضارب كذا ومُشغِّل كذا وفاعل الأمر الفلاني ثم يتخندقون تبعاً للأجوبة التي يتلقونها.
    "نبدأ سيادتك؟"، سأل ملازم المدفعية الكمندان.
    نظر الكمندان إلى نجوم السماء المختفية بعيداً ثم إلى ساعته: "دعنا نَرَ، صمتُهُم مريب. كما ولو أنَّ لا قرية تربض هناك ولا شيء. هذا ليس نزولاً للخنادق فحسب". قال الكمندان بعد أن قَدَّر توقيت ما كان يُفترض أن يحدث وتَجَاهَل الحدوث، أو ذلك الشيء الذي تدل عليه نجمة بعيدة أو حركة تُعَيِّن الزمن ولم يفِ بميلاد نفسه، ذلك الشيء القابل للتبدُّل على الدوام والذي ربما عَنَّ له خاطر أن ينقلب إلى شيء آخر.
    بعد صمت قال إدريس للكمندان: لو صَدَق ظني فإنَّ معهم مدرعات. من كان يظن أن معهم "زوو رباعي"؟ أعرف صبر هؤلاء الناس، لا بد أنهم الآن يحلقون صلعة للرجل الذي أطلق قذيفة "الزوو" قبل قليل، هو إما مخمور أو مغفل، أو الاثنان معاً. يريدوننا أن نتورط أكثر فلا يخسرون فينا ذخيرة ما دام سنُدفن تحت جنازير المدرعات. يتجاهلوننا نحن المعاونين على وجه الخصوص.
    قال عريف سمعتهم ينادونه "أبو القدح" ويبدو مهماً هو الآخر،..
    "علينا أن نقدم ضاربي "الـبي 10" كاحتياط". صوته جاء وقوراً مع بقايا الليل الأخيرة وأهاليل السَحَر.
    "معك حق، غَطِّي هذه الناحية بضاربي "الدوشكات" و"الديكتريوف". ناحية "التوج" المكشوفة دعها لـ"القرنوفات" ورشاشات "42". هكذا أحكم الكمندان فكرة الرجل، تَلَفَّتَ ثم أضاف مخاطباً الملازم بغضب، "المعلومات التي معنا كلها تفاهات إذن؟ ما الذي كنا سنفعله لو لم نأت بهذا العدد البسيط من المعاونين".
    العساكر القريبون منّا يسخرون: "طلعت بامية!"، "الليلة حَشْ"، "الطهور جاييكم".
    يبدو أن المعلومات الاستخبارية التي معهم كانت –فالسو- وتُغريهم باستسهال المهمة. فهمتُ أنهم كانوا يتوهمون بأن المشاة وحدهم قادرون على إنجازها، لذا فهم يحمدون الله الآن لأنهم جلبوا من المعاونين العدد الذي لا يجعلهم يموتون على الفور، سيؤجلون موتهم للصباح مثلاً.
    علَّق إدريس بذات لهجته مقيتة الظرف: "جيشكم هذا كل استخبارات العمليات فيه من الجنوبيين، بالبَرَكة هكذا، دون أي ولاء وحسب أمانة الشخص وفي ذمته. لذا بطونهم فقط هي التي معنا ومع الآخرين. فحيثما يتعشون جيداً يدلون بمعلومات أكثر". ثم أخذ يقهقه مع أفراد طاقمه.
    صعد الكمندان على تَلَّة شجيرات يستطلع أشياء يعرفها العسكريون في مثل هذه الحالات. ملازم المدفعية انشغل بترصيص ضاربي "الـبي 10" في مواقع تؤهلهم لحمايتنا من المدرعات المفترضة. لأنها -هذه المدرعات- لو كان الخصوم يمتلكونها فقطعاً ستشارك، ولن يهمها إن كانت مدعوَّة للمشاركة في معلومات الكمندان الاستخباراتية أم لا.
    إدريس أخذ يجمع هدافي "الآربيجي" و"البازوكا" ويوزعهم على نقاط أراد تعزيزها، لأنَّ هذه النوعية من القاذفات مجدية تماماً في صد المدرعات القديمة. إذ هذه الحرب تدور في العصور الحديثة بالفعل، ولكن أسلحتها لن يتعرّف عليها إلا النابغون والملمون بتاريخ الأسلحة من ضباط نابليون.
    أظن أن إدريس كان يُكَرِّر على أفراد مدفعيته أشياء هم أصلاً يعرفونها، ليس من باب التذكير وإنما لفرض جو من الحضور والانتباه، ولذلك لم يكونوا مهتمين بما يقوله. الملازمان الآخران كانت وظيفتهما بقية الجند منذ تحركنا.
    وكما ينفرط شهاب من أقرب سماء قاسية انفصلت فوق رؤوسنا قذيفة جعلت النيران تطير في كل مكان. مطر الله مضى، وتفتحَّت فراغات السماء والشجر بذخ البارود من كل مكان. قذائف المدافع وصواريخ الراجمات الصغيرة ورصاص الرشاشات الثقيلة والخفيفة، وكل ما يمكنه أن يطير ويخلِّف قتيلاً في مكان بعيد. فوقعنا على التراب وتشبثنا بأعراف الأرض التي اخترنا امتطاءها ولم نختر العيش فوقها، الأرض التي يزعم أهلُها من الطرفين بأنهم يحمونها من أبنائها الأعداء. هذه أرض بخيلة، عَطيِّتُها قبراً وعَالَماً لا تصلح فيه الزراعة.
    سمعت صوت إدريس يصيح بثقة بعد أن حسم شَكَّه: "ركِّز يا زول، هؤلاء المعرصين يُغَطُّون للمدرعات كي تدخل".
    وفعلاً بدأ هدير الآليات الثقيلة وأزيز المجنزرات المخيف يطغى على صوت الرصاص وأخذت مدافعها تدك كل شيء. يزحفون نحونا، والظلام انقشع أو يكاد أن ينقشع تماماً. كان مخططاً لها كعملية صغيرة، ولكن هاهي العظمة لله وحده. هاهي تعثر على موقعها الواحد والمدفون تحت الورق، الذي يتقدمه ألف احتمال متبدل وقابل للإنجاز.
    "لا تطلقوا النار أبداً، دعونا نضللهم عن موقعنا بالضبط، هكذا سنختلط بهم دون مدرعات والسونكي يكسب". هدر فينا الكمندان وبصوت رجولي لا يشبه صوت صديقي بـ"واو" مطلقاً.
    شعرتُ ببعض الحماس المُبَقَّع بالخوف حين صاح الجنود كلهم خلفه،..
    "السونكي يكسب".
    وصاح آخرون،..
    "جنزير التقيل البقلها ياتو، يا ود أم درجات، البيوقد نارها -يدفابها هو".
    أصوات وهدير وفتونَة،..
    "عَرّش دود مراقد السار، المن قلبو مو فشّار، سمحة الملَكة فوق مختار".
    "عظيم أب شان، جاني القاش ملان، جناح جبريل فوق الختم تيبان".
    اقتربوا منا أكثر وازدادت سطوة النيران. "إما ثلاث مدرعات أو أربع، لا أكثر. واحدة منهن فقط الحديثة"، قال إدريس للملازم.
    إما أن هؤلاء الناس لهم خبرة العميان بمعرفتهم لأي شيء من خلال صوته، أو هم بكاملهم أعضاء ترى وتترَصَّد ولكن لمخلوق غير مرئي بالكامل. الكل كان ينادي إدريس: إدريس هكذا جيد؟ إدريس هذه لا أعرف مالها! إدريس الزاوية ¾ أم الزاوية.....؟ من هذه الناحية يمكن الصبر على سخريته الشريرة إذن؟
    هنالك نكتة صفوفية خبيثة، تقول إن الضباط الكبار مسؤولون عن قيادة القوة في حفل العرض العسكري قبيل العمليات فقط، وبمجرد وصولها للميدان الحقيقي يصبحون جنوداً لضباط الصف.
    هذه النكتة جادة مائة بالمائة، فتسعون بالمائة من الاستشارات كانت تُوَجَّه لإدريس أو العريف "وادي تل" أو "أبو القدح" أو وكيل عريف آخر اسمه "الصادق". أما ضباطنا الكبار فكانوا يقفون هناك من أجل صرف الموافقة النهائية لا غير، أو لظروف تتعلق بالنظام ورفع المعنويات. ملازم المدفعية الصارم لا بأس به. "أنور" المدفعي يعرف شغله جيداً، ولكن ليس فيه نزعة أو صفات قيادية، مثله هذا يندر وجوده بداخل الجيش السوداني، فكلهم رؤساء جمهوريات انقلابية لم يحن أوانها! هو ينشغل بمدفعه فقط وتكفيه أغنية يلوكها مع سيجارة "القامشا".
    طبيعي أن هذا الحكم لا يصدق على ضباط أمثال ود العالِم أو محمد عثمان الجعلي. فهذا الأخير بلغ من الشهرة حد أن تعزف له فرقة "الأنانيا" مقطوعة خاصة به، وبالطبع يتلو ذلك أن يردموه بالمدفعية الثقيلة. ما يعني من قِبلهم أننا لا نقتل من الخصم إلا مَن نشرّفه بقتله ويشرّفنا بموته. المدجج الذي يكره الكماةُ نزالَه كما قال عنترة. الجنوبيون قوم أشداء، باسلون ومهذبون تجاه الخصم الذي يستحق. وللأسف هذا يعني نضج المحارب والحرب التي امتدت حتى نضجت وابتنت ناموسها الخاص بها وثقافتها. تطلق البلد لجام كل شهواتها حتى تنجب رجلاً من طراز "ترهاقا"، "بعانخى"، "أركماني"، "المك نمر"، "عبد الرحمن الرشيد"، "المهدي"، "عثمان دقنة" العظماء، ثم تشرع في تجهيز معزوفات تليق بموتهم، ويمكن استخدامها مستقبلاً في تحضير موت آخرين.
    النقيب معتصم لم تكن تنقصه لا الخبرة ولا الشجاعة، ولكن هو رجل راقٍ ولا يشبه العسكريين إلا في بدلتهم. أو ربما في السُّكْر والتحشيش واتخاذ الصديقات ولو بشكل يختلف قليلاً عن همجية العسكر. السلطوية والعناد لم تكونا من طبعه أبداً. فهو أشبه ما يكون بفناني التشكيل المأخوذين حتى عن ذواتهم. يبدو وكأنه ينتظر أحداً أو أمراً هناك فحسب.
    لم أكن أعرف أنَّ البندقية سلاح تافه وشخصي لهذا الحد. البندقجية "إذ يسمونهم" لم يكونوا يفعلون شيئاً تقريباً، إلا في حالات الاشتباك المباشر، "السونكي يكسب". كانوا مبرأين لمجرد تدخين "القامشا" و"البنقو" وسنِّ الشتائم وحَدِّها لحين طلبها.
    الهدير اقترب منا لدرجة الصياح بأعلى صوت للشخص المجاور. صاح ملازم المدفعية في "أنور" بطريقة من يثق فيه كثيراً: "خُذ "الآربيجي" من "حيدر". الحديثة دعوها لإدريس، عليكم بالأخريات".
    "لا داعي للتعب، الموديلات الفشنك تأخرت للاستكشاف. الغربي آمن". هكذا قَيَّمَ إدريس الوضع، وانتهى بتذكير رفاقه بعدم توجيه نيرانهم غرباً لأنه سيستغل هذا الاتجاه.
    دَهْس الحشائش ووقوع الشجر أخذ يتصاعد بقوة وعنف. جلبة الحديد وصلصلته كانت تصم الآذان بصوت انزلاقها على الحشائش والطين الدبق. الآلة التي كان يجب أن تكون في مثل هذا التوقيت المبكر وفوق هذه الأرض الممطورة حَصَّادة قمح، هاهي ستحصد أرواحنا.
    إدريس جَرَّ مدفع "البـي 10" الوحيد وقَدَّمه في ناحية أخرى غير التي طلب تأمينها، وأيضاً ليست بالناحية التي قدَّر من خلال الصوت أن المجنزرة الحديثة ستأتي منها.
    نادى فيه قائده المباشر ملازم المدفعية مصححاً: "احتمِ بلسان "الكركور"، مغارة الحجار يا إدريس، لا تدعها تأتي في ناحيتنا مباشرة. ضَيِّق المسافة بينها وبين الخور هناك.
    أي كلام كان يبدو لي ساعتها ذكياً ومحترفاً ومخالفته تعني هلاكنا دون شك. تحَرَّك إدريس بمدفعه عكس ما قاله الملازم بالضبط. اختفى. جعل الآلة تطمع فينا نحن وتجهل وجوده هو. لا شيء يصدها من ناحيتنا. ضَرْب رشاشاتنا الثقيلة والخفيفة كان ينزلق من على جسدها كما ولو أنه ثمار "لالوب".
    ذُهلنا كلنا للحظة، كأنما الأشجار داستها صاعقة. ثم وطئت تلك الآلة المدرعة فوق خنادقنا الضحلة مباشرة. لم تمهلنا ولو جزءاً من الثانية. فقد انطلقت المدافع المحمولة فوق ظهرها في عواصف قاسية من الذخائر واللهب. أوراق الشجر والفروع ونحن، كل شيء أخذ يتساقط، ينمحي من أمامها ويندبغ بالأرض. ذلك لم يتجاوز اللحظة الخاطفة، ودوَّى الانفجار في جسمها المبني من الشفرات. اندبغنا بالأرض أعمق من خنادقنا، وتطاير الطين بأوحال لزجة في كل مكان.
    كل شيء أضحى غائماً، أصواتنا وأصوات أشياء كثيرة صاحت في تلك اللحظة بما يشبه انتقال الأصوات تحت لجة الماء. الانمساخ والاختلاط بعالم بعيد بيننا وبينه مشوار الحياة.
    سمعتُ شخير الآلة الوحشي والمتقطع لمرة ثانية. أرادت أن تنهض كي لا تعبر. وكان إدريس قد ألقم قذيفته الثانية. هذه المرة سمعنا بشكل واضح جداً، صوت الشيء الذي يسلخ صفيره الهواء كالصاروخ، ثم ينكتم قريباً من انطلاقه. وتفرقع جبل الحديد ذلك فوق رؤوسنا. كل شيء تراه أمامك كانت تُبَقِّعُه دوائر مثل رغوة الصابون. لم أعد أفهم شيئاً. الجنود أخذوا يتصارخون بذلك الصوت الذي يجمع بين تهليل النشوة والثُكل في آن. تلك الولولة الغامضة وهتاف الجيش الخاص والمعروف. أحدهم صاح شامتاً من الآلة: "بَرَكتْ تبول. ينصر دينك يا إدريس".
    فعلاً كانت كالدابة التي تهالكت فوق جثة أرجلها لتتبول. النار تندلع فيها أكوام أكوام. وذخيرة الرشاشات التي لم يسعفها الوقت لتطقطق بداخلنا، كانت تطقطق بجوف الآلة تحت حمو النار.
    الأمور جرت بهذا التسلسل في إطارها العام، أما على صعيد كل شخص فقد تَمَّت كاللغز. موديلات المدرعات التي أسماها إدريس بـ"الفشنك" لم تتقدم بعد دَك الحديثة، ولكنها تمترست خلف الأشجار الضخمة وأخذت تجلدنا بمدافعها من مكانها. آلة الحَفْر أم رأسين، البغيضة ساعة حملها، بدأنا نحفر بها موقعاً للرأس وهو حي. قمنا بالتخندق أكثر مما كان.
    "فاولينو" أسلم الروح. العجوز اللعين قتله وهرب دون أن يقيده أحد بقضيبه. عشرة قتلى سقطوا بلغة الجيش "كخسائر" سَبَّبتها المُدَرَّعة الحديثة.
    بعضنا جرحى وينزفون. لا أدري كم كنا سنخسر لو اعتمد إدريس توجيهات قائده. لقد راوغ الذين كانوا بداخل الآلة بتثبيت نفسه في الموقع المتروك لورقة أخرى. الجنون الغافي يقتلنا مثلما يؤهلنا لأن نقتل غيرنا.
    ناورها إدريس من خلف مائل، كان يتخلَّق من ورائها في دائرة أيقظ. لعبة الحرباء معكوسة، أو بأيدي الطرفين. جعلها تُقَدِّر لعابها على مدى الضحايا ولبَّد عنها لعابه هو. افترسي، افترسي، افترسي، فتعمى، تعمى، تعمى، حتى تنزلق في الظلمة ويعمُّها ذلك الشيء اللزج والمُفَتِّت للخلايا.
    إدريس جاء من ناحية "الغربي" يجذب مدفعه ذا العجلات بيد، والأخرى تمسك بسيجارة "قامشا" مشتعلة. صورة أعمق في وجوديتها من بطولتها الظاهرة. المصير. كان يخفي رأسه من الرصاص بحركة متكلفة. الذين من نوعه يعرفون أن الأشياء لا تقتل أحداً، هذا شيء مفروغ منه، وإنما خبرة الطبيعة في القتل هي من يقوم بذلك. أمَّن إدريس "الغربي" كي ينسحب إليه بعد قذيفته الأولى إذن؟ ليتفادى مدى انفجار الآلة في الثانية، يا للوقاحة التي لا تعترف بما يمكن أن يتبدَّل، بل فقط ما يجب أن يكون.
    "أبطلوا الضرب، هذه الذخيرة التي كانت مقيتة في الطريق ستبكون عليها بعد قليل". نادى إدريس فينا.
    "سيتقدمون" احتج أحد ملازمي المشاة على طلب إدريس. ردَّ عليه ملازم المدفعية: "لن يتقدموا، "التوج" يكشف ناحيتهم".
    صاح رقيب آخر في الجنود: أبطل الضرب كلك يا زول. "أبطل الضرب يا زميل". "أبطل الضرب يا بُلدة". صاح بها كل شخص فيمن يجاوره. لأنَّ الأشجار وقباب التراب العالية التي تصنعها الأَرَضَة وتضاريس الأرض غير المستوية تُفَرِّقنا عن بعضنا بعضاً. المناداة بهذا الشكل على بعضنا بعضاً، ذَكَّرتني بلعبة كنا نلعبها في الطفولة، هذه الحرب مرح الراشدين، وإلا فماذا؟
    انكتمت أسلحة كلا الجانبين، ثَمَّ عَمَّ صمت مجيد، كوقت لدورة غامضة، ومطروحة لكي يتعفَّن الزمن نفسه، صمت لأجل تَخمُّر وجودي شامل، هذا الإنسان التركيبي، والمعطوب بفعل تركيبته هذه نفسها، القابل للتعفن وهو حي. الآن هو ببطن دورق جِدُّ مناسب، وبحاصل عمره إبِّان استحالته إلى زمن تجربة بالضبط، حامض الخوف، كبريت الأمل، نترات الذكرى، وقلويات أخرى، مُضادة للوجود وغير مُضادة. التهجُّس على مدى وحشة عريضة وضارية، والانشحاذ بثقل كل الغرائز عند لحظة ذروة واحدة، كأنَّ كل شخص منا أصبح غابة بمفرده. الخلاص.
    صاح عسكري منَّا تُخبئه قُبَّة تراب بعيدة كَوَّمتها الأرَضَة، كأنَّه يستحث الذي لم يتيقَّظ بعد منَّا ومنهم، لننجز المهمة ونخلَص: واي مالُن؟ واي حَرقُن. واي مالُن؟ واي حَرقُن. ديل مالُن؟ ديل غَلبُن.
    وشَيَّع العساكر صوته بالترديد خلفه، لإحياء التغبيش على العقل، إيهامه وشغله فحسب، فما نحن فيه من ورطة بدا واضحاً حتى لظل الشجر الذي أخذ يتسارق من تحتنا، ما نحن فيه الآن ربما التشجُّع مطلوبٌ لتحمُّل نتائجه لا أكثر.
    سيحسبون حسابنا بعد ضرب المجنزرة الحديثة. يقول أحد الملازميْن لرفيقه. ويقاطعه إدريس بحيث لا رُتب ولا أي شيء آخر عدا موت مضمون،..
    "لا فالح! بل هم في هذه اللحظة الصامتة بالذات يخططون لتكنيك ذبحكم عن آخركم، الدلالة الأخطر لكونكم تمتلكون "بي 10" هي أنكم كُلَّ اللعبة، لا طلائع، لا كشافة، ولا من ورائكم بطيخ. ولا بد أنهم يُرَتِّبون الآن لكيفية قطع الطريق أمامنا. و"واو" أُم مريسةً مُرَّة تلك ستصبح بالنسبة لنا جائزة والشاطر منا مَنْ سيصلها بعطشه".
    والتفت بعد ذلك بشكل عفوي للغاية، كي يقول لأنور الذي يجلس لجواره،..
    "رأسك الكبير هذا سينفعك يا أنور، اطمئن، لن يحطموا جمجمتك ويتلفوها، فلا بد أنها ستنفعهم كبُرْمَة لسحر "الكجور". يجر أنور إصبعه على نحره، راسماً، فيما يعني أنَّ الحد الممتاز لقطع تلك البُرمة ينفع من هنا، ويقهقهان.
    لم أُعِدْ مع نفسي ترديد أنَّ الأمور بدت غبية منذ البداية، من عند هذا الحد انقلبت أمورهم تلك في نفسي، إلى عجين، عجين مقرف لشيء ما، شيء لا يمكنك أن تعرف ماله؟ أو ما هو؟ ولا نحو أي كائن –في الغيب- هو يُرسي سَمْتَه.
    ولكنني تأكدتُ من كون سخرية ذلك الرجل، الذي كان زائداً في الصورة، ليست من نوع السُخرية التي يؤدونها على المسارح بتاتاً، ولا التي يكتبونها في الكتب، بل هو نزيف وجودي بحت، لقاء خبرة ضخمة ودراية عميقة بمهنة القَنَّاص. الرجل الذي يقف في ظلام ويرصد الحركة في ظلام موازٍ، ويُلْصِق عينه على الثقب المفتوح بين مصير ومصير، بين نَفَس محبوس في الداخل وآخر طليق الأمنيات، بين عَالَمٍ وثانٍ. البرزخي.
    صمتنا في هرج داخلي مجيد، هاهنا خلاء حميم، وأرض ليست من نوع التراب الذي يستخدمونه في أصيص المُزهريات. تراب من معدة الأرض، ومن دود شهواتها. ومثلما الإنسان شهوته الأرض، الأرض أيضاً شهوتها الإنسان.
    لو بقينا هاهنا سيتغيَّب الكثيرون عن بيوتهم دون شك، وربما يتغيَّب الكل وينمحوا كأي حملة تاريخية مجهولة، قَصَدت إلى جهة ولم ترجع منها حتى قصَّتُها.
    "كمندان ساري الليل، العمل الآن، معانا شوية بارود وعافية، لكن بعد شوية بنعدم فيها البصَارة".
    كلمة ناجزة بالتأكيد، قالها "وادي تُل"، لو انتظرنا أكثر مما هو متوافق مع حظوظنا فسنلتحق بنهار بعيد، بعيييد، بُعد المشرقين والمغربين، وبُعد الأرواح على الشاطئ الآخر.
    تقرَّر الانسحاب المنظَّم بموافقة الجميع. الأرواح حين تصطف في خط واحد يواجه عمق مصائرها مباشرة، دون التفافات أو دوران، لا بُدَّ أنَّ ذاك الخط يترك خلفه درباً واحداً فقط يطمع في الحياة بدون أي مواصفات لنوع العيش فيها.
    "خط ثلاثة، خط ثلاثة، استعد، طاقتك يا زول، تركيزك كله معانا، شَكِّل قوس واستعد" صاح بها عسكري ضخم وجهوري الصوت، تنفيذاً لتعليمات سيادة النقيب بذلك، صوته جعجع في الأجمات حولنا بتشفٍّ، وللغرابة،.. دون خوف أو عجلة، بل بنفس طمع وخِفَّة الباعة المتجولين في صياحهم على بضاعتهم.
    "عددنا لن يكفي، هكذا يا كمندان.... "، يقطع عبارته ويصيح في ناحية أخرى..
    يا زول أسمع الكلام.
    يواصل ملازم المدفعية توجيهاته لضاربي المدافع بتعزيز الجماعات المتشكلة. ولكن سيادة النقيب يجيبه مُقَدِّراً تتمة تلك الجملة المبتورة: لا تقلق، سنسد جهة العرض من هنا وهناك، يؤشر للمكان ولرجل بعينه ثم يُكمل: معنا متفجرات.
    "حَرِّك يا جماعة المهندسين، يلا يا رقيب عثمان".
    ما هو أكيد طبعاً أنَّ الأمر لو تُرك لي، فلن أفيدهم إلا بما يمكن أن تفيدهم به هذه الشجرة لجواري. لم ألحظ بالطبع أنَّ عددنا لا يكفي لتنفيذ تلك الخطة إلا بعد جملة الملازم. ولم أفهم كيف سيحل رقيبهم تلك المشكلة إلا حينما رأيت رجاله يُفرغون الألغام والمتفجرات على الأرض ويفرزون سلوكها الحمراء والصفراء، ومن ثم يدحرجون بكراتها بعيداً ليمددوها على طول الجهة التي يبدو أنهم سيتركونها لحماية أعقابنا مباشرة حين الانسحاب.
    وبتوقيت قَدَّروه ومع صافرة تنبيه واحدة، بدأت مدافعنا القصف وكأننا في حملة هجومية مرتَّبة ومدعَّمة. بينما كنا بشكل سريع ومعافى تماماً من العراقيل نُخلي الموقع بحساب بدا لي جيداً. وحين ابتعدنا عن الموقع بكثير كان لا بُدَّ أن تتعرَّى حركتنا الخادعة مهما بلغت من شدة الذكاء. فقد سمعنا انفجارات ضخمة، تَعَثُّر مطاردينا في دسيستنا،.. صاح بعدها "أنور" في "وادي تُل" بادئاً بتقليد صوت القُمري:
    "قُوق، قُوق..." وصاح خلفه عسكرٌ كثيرون مشيعين:
    (قُوق، قُوق... قُوق.. واي رِجْلي، الشَرَك قَبَضها، حَيْ حَيْ.. ووب قَطَعها).
    "المساخيت، لو وطيتلك لغم أحسن من تاطالك خراء واحد منهم" يقول إدريس لرقيب عثمان ويقهقهان.
    كنتُ متعجلاً من عند هذا النجاح لأن نُكمل المسافة جَرياً حتى مدينة "واو". ولكنهم توقفوا وجمع إدريس رجاله وأخذوا يصفُّون مدافع المورتر ويضربون موقعنا الذي أخليناه بكثافة نيران شعرت معها بالغيظ، لكونهم أولاً لم يكسبوا الزمن بجعلنا نواصل الانسحاب فوراً ناحية "واو"، وثانياً لأنهم يهدرون ما معنا من ذخيرة. ولكن هذا ما حدث، وبكل جد وحرص من ناحيتهم. بل بدا الأمر من الضروري جداً في نظرياتهم. وبعدها اخترطنا الدرب ناحية "واو" كما يُخترط سيفٌ من قِرَابه.
    وبينما ظَنَّ الجميع أنَّ ما تبقى منَّا قد نجا بذلك الانسحاب المُرتَّب، ولكن يبدو أنَّ ما تمنَّاه لنا ذلك العرَّاف، البرزخي، كان ينتظرنا بجوار النهر. حيث تقف هنالك أبراجٌ كان قد أعدها الجيش الحكومي أيام دخوله "واو" أول مرة؛ متينة البنيان وتحجز بين الداخل إلى النهر والخارج منه. شعرنا بالصمت الخصيب حين اقترابنا منها ونحن نجرجر ما بقي معنا من معدات وأحياء. لم ننسَ وصية ذلك الضابط الحكيم في "واو". السلاح، هذا الذي يقتل روح الإنسان، لا بدَّ أنه أهم منها، ولماذا؟ كي يقتلها مرة ثانية وثالثة، وألف، وتعيده هي، البلهاء، لنفس المخزن، كعُهدة. ذلك الشكشوك، عليه أن يعثر على مدرسة تُعَلِّمه الخياطة.
    للمرة الأولى بدا لنا ظهور هذه الأبراج بشرى غالية، كإعطاء عُمر إضافي للمستبشر. ولكن ما كان مغموراً ببطن إدراك كلي وجوهري عن إدراكنا الهامشي والجزئي، ما كان يخربش باطن رحمه ليكون نبوءة القناص، أنهم كانوا يكمنون لنا بجوف تلك الأبراج، تمترسوا بداخلها منذ ساعات طويلة وأصاب قناصيهم ضجر أن لا تعبر روح من بين دِرْفَتي النشنكة.
    يا لكآبة منظر المخلوق ومسكنته وهو يسير في الغفلة، مُضيُّه نحو جهة غارقة. أذكر تلك اللحظة التي فاجأني فيها ماء الرجال، الماء الذي يفصل بين كائن وكائن، حين نظرت في بياض، بياض غليظ يميل إلى الزرقة، وعبرت من طور إلى طور. ومن خانة كائن منقرض، لخانة كائن آخر يخبئ إرشيفه ونسخه في عمود ظهره. أذكر تماماً دهشتي المريعة من عالم كنت أحمله لصق ذاتي وأجهله، فيا لطور الموت متلاشياً في طور كان سائداً قبل لحظات فقط. الطور المعكوس.
    رأيت ملازم المشاة، ليس الطويل منهما، وإنما الملازم الآخر وفي طوره المعكوس. أيقظني تناثر الرجل من جواري على أصوات الرشاشات وقذائف الآربيجي والمورتر وهي تتقصَّف على الأرض وتبتلع كل شيء. في تلك اللحظة تَتَّحِد الأشياء، وكل مخلوق حي هو حليف ما بجواره من روح، ضد الموت... هيلاهوب، هيلاهوب، هيلاهوب.
    لقد كان كميناً موفقاً من ناحيتهم لأبعد الحدود، هم متمترسون بالأبراج وبالخنادق التي حفروها على مهل، ونحن أمامهم مباشرة، وبمسافة تحضُّر وآجال لا مثيل لهما حتى في يوم الدينونة.
    وكصوت من مكان بعيد، وفتَّش عليَّ في مكان أبعد. تذكرت "لوكا" الطالب الجنوبي وعبقري الرياضيات، كان دائماً يُصارع "محي الدين" ابن خالي، منافسه في القوة والذكاء، بينما نحن طلاب بداخلية ثانوية شندي العليا. بمجرد أن تخلو قاعة الطعام إلا من شُلَّتنا يرميان بذراعيهما المفتولين على الطاولة، الأسود الداكن والأسمر الثقيل، يجذب كل منهما الآخر بكل قوة يمتلكها، أو يُحَضِّرها في تلك الساعة المشهودة -خَفْض الذراع خَفْض للرأس، يُهَرِّج ابن خالي الفصيح، لوكا لا يغش، ومحي الدين يجتهد في ذلك، ولو كان النصر للوكا، يقهقه ويطارد بمزاحه الجميع: هنا المستنقع، هنا المستنقع، أرجع وراء يا جلابي.
    هنا المستنقع، هنا الذهاب ليوم الدين أقلُّ تكلفة من الذهاب لأي مكان آخر. أثناء هذه اللحظات رأيت أنَّ الأمر قد انفرط عن تقنية التعسكر والتكنيكات، ما يخفيك الآن عن سلة الموت لا يحتاج لدليل ولا لخبراء. ولم يكن أمام ما بَقي من الأرواح إلا التقهقر ونسيان فكرة الزوارق العجيبة تلك.
    "ساري الليل" أُصيب، وصناديق الذخيرة تُركت للطين. أخذنا نتراكم من جديد في فحص مخيف للأحياء، لم أكن أعرف الناس بأسمائهم، ولكن الكثير من الوجوه اختفى، والكثير صار يحفر في ذاكرتي بفعل ذلك التزاحم.
    لم يفقد النقيب تماسكه أخذ يصيح في رجاله بينما يمسك جنبه: يلا يا زول، خلينا نَحَصِّل رأس التبة من وراء.
    فعلاً، لم تكن لنا تغطية سوى الالتفاف حول أعلى منطقة والاحتماء من جهة ظهرها. لم أرَ إدريس لحظتها، بفعل الهرج والاختلاط الذي صرنا فيه.
    تجرجرنا من هناك، كنا بعض حيوان ساعتها، ونتصرف بتقديرات محكمة الانتماء لعالم الغرائز. عند بلوغنا رأس التبَّة من الخلف، شعرنا بشوط من المهمة يلامس هواء المرتفع، الغريب بالنسبة لي، نكات اللغة الرخيصة ما زالت مستمرة،..
    "أسمع، يا فلان.. عزرائيل ما حنكل ليك؟".
    "يا قشران، الليلة بتبيت غرب جذلانك".
    الأدهى أنهم أخذوا يرصصون أنفسهم في شكل حماقة جديد، ضارب كذا وفاعل كذا، آمر كذا ومشغِّل كذا، -تأكد يا فلان... لملازم المدفعية، أو للملازم الذي ما زال حياً، وأنت يا إدريس- يوجههم الكمندان وهو منبطح على الأرض.
    لكم بِتُّ أكره مناداة السَّحَرَة هذه: "شخلاي مخلاي، وشخلاي زفت.. والطربوش ينقلب حمامة، والحمامة كتشينة، والكلام الفاضي هذا، الآن لا فائدة.
    النهر أصبح أمامنا وعلى بعد خُطوات يسيرة، ولكن يختبئ بيننا وبينه في القصب والحشائش ما يختبئ.. وتحت ظرف أرقى. الآن نحن في شبه أمان من أسلحتهم، وإن كانوا يقطعون طريقنا ناحية النهر بسيطرة فادحة.
    ملازم المشاة –المحظوظ- أُصيب هو الآخر برائش خفيف عند كتفه، جلس قريباً منا يحاول أن يبلغ بيده موضع الجرح، قام عسكري لجواره بسحب كباسين القميص له كي يتفقد جرحه بنفسه. تحادث الكمندان بصوت خفيض مع فرد الإشارة، بالطبع كان قد فقد صندوقه السحري. سُمعت قرقعة خافتة في القصب من جهتنا، قَدِم من عندها أنور أولاً ثم تبعه إدريس وهو يتحدث معه في شبه تشاجر. تَحَدَّث مع طاقم البي 10 تبعه ثم جلس قريباً مني ومن الكمندان.
    بدا لي أننا أخذنا نتكاثر ونترتَّب في شكل أفراد أسرة هذه المرة، لقلة عددنا والحميمية التي هبطت على الجميع. كل شخص عليه أن يترك مسافة معلومة بينه وبين أخيه، ولكن رغم ذلك ابتلعتنا دائرة أسرة أكيدة ولا شك فيها.
    أحد العسكر، حمل سلاحه ومعدات في يديه بالإضافة للحربي –منظف ماسورة السلاح، ثم تلفت متطلعاً ناحيتي ليجلس، أفسحت له قليلاً ليتربع خلفي ويعطيني ظهره، شرع في مهمته وبدأ يلكزني بكوعيه من ورائي، فقد أخذ يعافر بأدواته تلك ظرف بارود انقطم في ماسورة سلاحه، دفأني بالتحام ظهره مع ظهري، فرفرته المغلوبة والراجية، ذكر أهله يمر في خاطره هذه الساعة ربما، طيف حبيبة، لعب إخوته... صرنا بيتاً يجلس في الغابة.
    وكدنا نشعر بدفء البيت لولا أن قذيفة مورتر دَكّت شجرة شديدة القرب من موقعنا. المورتر مخيف في هذه اللحظة لأننا دون خنادق وقذائفه تهبط من عُلوٍّ مقوَّس، أو يضرب خلف الساتر بلغة المدفعيين. لقد زعزعنا وقوعها، فلو تريث مطلقها ذلك قليلاً لانمحى الكثيرون من تلك البقعة.
    تَذَّمَرَ إدريس بطريقة فيها احترام للمهنة، ثم وضع يديه مبوَّقتين على فمه كمُكَبِّر للصوت وصاح من خلالهما منادياً عبر القصب، للمهني الآخر، المدفعي الخصم،..
    "أهذا وقت الهاونات يا ابن الشرموطة؟".
    فَخْذ الكمندان كانت تنزف بغزارة. قلت لإدريس، "اسمع، كم قذيفة "آربيجي" بقيت معك؟".
    أجابني وهو تركيزه على سيجارة "القامشا" التي يفتلها بين يديه: معي واحدة بَسْ، ولو رفعت رأسك فوق هذا القصب كي تطلقها فلن تلبس الطاقية في حياتك مرة أخرى.
    اغتظت بشكل خاص لكون الكمندان ينزف، أما هو فضحك بوقاحة رزينة، ليكمل دون أن يلتفت ناحيتي: صلاة الجمعة بدون طاقية بايخة والله.
    رمق إدريس الكمندان بنظرة ثم انكفأ على بطنه وأخذ يدخن بهدوء، التفت مرة أخرى ناحية الكمندان وقال يدعوه إلى سيجارته،..
    "تأخذ نَفَس يا كمندا؟".
    يدلعه بـ"كمندا" هذه. "مُشْ بطَّال، هات؟"، أجابه الكمندان بهدوئه المعتاد.
    قال إدريس للكمندان وهو يخرج تبغ "القامشا" من جيوبه كي يُعِدَّ لنفسه سيجارة أخرى، نَفَضَ فمه من عوالق "القامشا" وقال: "هم الآن يشمتون منَّا".
    ضحك الكمندان بخفوت وتدريج يناسب أنفاسه التي يجرها جرَّاً من الألم. أكمل إدريس،.. أتذكر يوم شمتنا منهم في تحرير "رُمْبيك"؟ هاهم ينتقمون.
    أجابه الكمندان وبدا لي أنه يجامله بضحكه ذلك، وخصوصاً في تلك اللحظة،.. "فعلاً، تحرير "رمبيك" كان دورنا في الشماتة، ولكن في كوبري "البَوْ" شمت هذا الخلاء منا جميعاً، تضاربنا حتى شبعنا، وتفرَّقنا دون أن يحجز بيننا أحد، اللهم إلا انعدام الظروف المواتية للاستمرار، من الحماس والذخيرة وحتى الأحياء، لا أدري من هو الشامت الكبير من كل هذا!".
    سمعنا صوت دكدَكة أرجل في القصب، وصاح أحد الرجال من خلفنا،..
    (صوت مروحة، صوت مروحة).
    دفعني الكمندان لأسقط بجانب إدريس، وانزوى هو خلف جذع متيبِّس. ونسفت دكة الانفجار هذه التشكيلة بترتيب بعضنا خارج الحياة كلياً. صوت الصفير بالنسبة لمدافع المورتر يعني أنَّ القوة الدافعة للقذيفة ما تزال كبيرة، لذلك ستعبر الهدف دون أن تصيبه. أما صوت المروحة -الذي حَذَّرنا زميلنا منه- فيعني أن القذيفة استنفدت طاقتها الدافعة وشارفت على السقوط، ولذلك يمكن سماع صوت مروحتها الخلفية. وبالفعل سمعنا كلنا خربشاتها الأخيرة وهي تتخبط مندفعة نحونا، شَفْ... شَفْ... شَفْ، فوق التفافة مياه النهر اللامعة، طقطقة تدحرجها الثقيل والمهيب، تشتت نارها، ثم الصوت الكلي المكتوم وعَمَّ الدخان.
    وجدت نفسي ملقىً فوق "إدريس" غريمي الساخر، التقت أعيننا لبعض الوقت كجنازتين في تابوت، الكمندان كان مرمياً على وجهه بعيداً، واثنين من ضاربي مدفع البي 10 مُمَزَّقَيْن على الجذع مكانه.
    علا صوت أحد الأنانيا منادياً عبر القصب بشماتة،..
    "موت يا "مندكورو"، تاني إنت بجي مولد؟ أمشي "سعودية" هناك، بلد بتاعكم، دي مُش بلد بتاع عرب".
    نار، وموت، وأخيراً شتائم النفي والبت عن الأرض، يلعن دين أي حرب من على هذا القرب وبهذا التواجه. أجابه إدريس وهو ينهض كالملدوغ،..
    "كلِّم السعوديين يعطونا تأشيرة".
    ثم قفز بسرعة فوق ممر صخري يلتوي من وراء الأجمة التي تسترنا وانزلق في بطن "التوج"، بينما هو يُلْقِم "الآربيجي" ويولول مثل المحاربين البدائيين من "الأنواك" و"الأباتشي" و"الزولو". قوة الانفجار الذي حلَّ بنا أربكتهم مثلما أربكتنا، المسافة بيننا وبينهم ضيقة فاقتسمنا بَلْبَلة عماها ودخانها معهم بالتساوي.
    فَعَلَها المصطول. شعرت بالغابة كلها تنخلع من مكانها وتغرب ببطن هاوية بعيدة. برج الزنك والتراب اللعين تهاوى ناحية المياه الضحلة كبركان مقلوب. انفجار عظيم تماماً، وكان بإمكانه هو أيضاً أن يأتي بكون جديد ومَجَرّات لو تحَلَّى بهدف منذ البداية. سحب إدريس رشاشه من على ظهره بسرعة وعلَّق مكانه "الآربيجي"، ثم صاح ناحيتنا فحسب، إذ ليس بوسعه أن يرانا فقد هبط إلى أسفل الأجمة، وجَّه حديثه لي،..
    "جُرْ الكمندان معك، أسرع، لو دخلت المدرعات إلى هناك ستعجنكم مع خرائكم".
    هذا لأنَّ قذيفتهم الأولى كانت قد أصابت مدفع البي 10 التابع لنا وطاقمه، في الوقت الذي نفدت فيه قذائف "الآربيجي". أما قذيفة إدريس فقد أصابت تمترسهم في البرج مع بارودهم ورشاشاتهم الثقيلة التي تحول بيننا وبين النهر. كدنا أن نختلط بهم لولا طول الحشائش وضخامة الأشجار. كنا نسمع صراخهم بالرطانة: "باديقو"... هذا مؤلم. "كوجاي تاقي يا". جذبت الكمندان من سترته وحملته نصف عليّ ونصف على ما أبقاه النزيف، ثم أخذنا نتراكض ونعرج ملتحمين.
    الكل كان يطلق الرصاص وبشكل عشوائي. أنت تشعر ولا بُد بالشجاعة عندما تعمل بندقيتك، حتى في أسوأ الظروف تشعر ببعض السيطرة على الأمور، مع علمك التام بطيش الظرف الذي أنت فيه. إنها أوقات هَدْر الذخيرة والمعرفة كما يسميها إدريس، التي يموت فيها الشخص دون أن يتذكّر موته.
    بلغنا النهر بعد إدريس بمدة قصيرة، ولأول مرة رأيتُ النهر يعني شيئاً غير فطور السمك. جذب إدريس قارب "بنقلو" صغير -عبارة عن جذع شجرة مُجَوَّف لا أكثر- وصاح فينا: هيَّا.
    ركبنا وناديت عليه: ناولني الرشاش واركب.
    أجابني لاعناً بعهر: أركب كيف! وهي أضيق من خُرم العروس؟ ستنقلب، جدف يا حيوان.
    دفع القارب برجله دون تردد فانطلق في عرض النهر. رغم إهانته لي نظرت إليه برجاء وتعاطف باسل بينما هو يركض على الشاطئ، حذاؤه العسكري الإثيوبي "البوت" يبتلع نصف بنطلونه، والنصف الآخر يبتلعه الوحل. لم أشفق عليه مطلقاً، نوعه هذا خُلِقَ ليغوص. وليقول نكتته البذيئة الأخيرة وهو بين فك الأرض ونشنكة المطارِدين.
    الخيزران يتبع الشاطئ في هدوء أحسست به فجاً، لَمْعَتُهُ تقع في النهر بَرَّاقة مثل نصل، والضفة قافية بالكامل. هاهو إدريس يعثر على "فلوكة" ويدفعها في الماء، رجالنا المرتبكون جميعهم تكالبوا على الزوارق. أصبحنا مكشوفين ولن تجدي أية محاولة لتأمين انسحابنا، فقط الإسراع المدروس غريزياً وليس تكتيكياً. نادى فينا إدريس عبر النهر،..
    "الأنانيا الوسخ يقترح علينا الذهاب إلى السعودية".
    ابتسم الكمندان بفم شاحب ومتيِّبس. الجانب الآخر للنهر ليس بعيداً، ولكن نهر الجور يندفع من مرتفعات قريبة، فهو يمر من هنا في جِلدة صلف الجبال التي انسلخ عنها للتو. تياره المتعجل والمدوي، صارم وأسود كسير طاحونة لعين. في الوقت الذي ترمي فيه بمجداف يشتت هو مفعول عشرة مجاديف.
    هذا نهر يا كمندا أم بول شيطان!؟، يسأل إدريس مقهقهاً ويتابع: لو صدَّقت الأنانيا يا كمندان وذهبت إلى الحجاز ستطاردك "كشة" السعوديين كالصيد، وسيرسلونك إلى "بورسودان" في برميل فسيخ. أولاد أي بَرّ نحن يا ساري الليل، "جدة" أم "سواكن"؟ هؤلاء يعتبروننا ضيوفاً بلا حياء، وأولئك يعتبروننا إما مرتزقة أو حُجَّاج نيجريين. غايته، دخلنا في طيز الوزة.
    يقهقه إدريس وحده، يترك مجدافيه للحظة يستبدل فيها خزانة رشاشه بأخرى. بعض الفلوكات لرجالنا تتخبط خلفنا. الذخيرة بدأت تحزر مكاننا من جديد، هكذا يقول العساكر. دخلنا في استغمائية الموت مرة أخرى. الرصاص أخذ يذرع النهر طولاً وعرضاً، انزلاقه بذاك الصوت العجيب على الماء يفورَّه، يجعل النهر كله كأنه موضوع على قِدْر حامية.
    تمتم الكمندان قائلاً لي بوهن وهو يتقيأ، اقصدْ غابة المهوقني، هذه تيجان كاشفة.
    كأنما كان على تخاطر مع إدريس، فقد صاح ذلك الرجل بهمجيته: إنت يا دين الحَجَر! إلى أين؟ هل ستختبئ تحت بعرك في هذا الخلاء؟
    كان قوياً ويجدف باحتراف، لا بد أن عشيرته الرعوية تصل في رعيها إلى تخوم بحر العرب، فغرب السودان هو الأرض الوحيدة التي بلا نهر من بلدنا. لم تعد تفصل فلوكته عن شجر المهوقني المتدلي في النهر إلا ضربة مجداف أو ضربتين. حاول الكمندان أن ينهض ويعاونني لولا أن ثبّتُه في مكانه بعقب المجداف وأخذت أضرب بمقدمته ذلك النهر الحَيَّة.
    أسرع إدريس خائضاً في المياه الضحلة ليعاونني في جذب القارب إلى البر. تعاونَّا في حمل النقيب معتصم ناحية الأشجار الكثيفة. تمترسنا هناك لبعض الوقت كما أشار علينا النقيب معتصم. الأحياء منَّا كانوا يصلون تباعاً. إدريس يسألهم واحداً تلو الآخر: عندك ولعة؟ ولآخر: معك كبريت؟ يجيبه: لا. "طيِّب ولا ذخيرة مضيئة؟"، يقهقه بخفوت.
    ولما سكت حس المجاديف في النهر، ولم يعد يعبر إلينا إلا صوت الطيور، وهشهشة القصب وحفيفه، صدرت التعليمات بالتوجه ناحية وحدة الكوبري التابعة لنا، فمن العار شَقُّ المدينة بهذا الفقد الذي يشي به عددنا وبؤسنا، وبمجمل هذه الكارثة.
    اقترب إدريس من ظهري بشكل مريب، لوهلة ظننت أن ذلك المصطول ربما يعاجلني بسحب السونك خاصتي ويرسله بين أضلعي، لم ألتفت ناحيته كنوع من لامبالاة رجولية تجاه حركته المستفزة، استدار بسرعة وقال لي بصوت واطئ وحاد،..
    "كَفّك يا يتيم"،...
    لم أفهم في البداية، حين لمحت يده، استدرت ناحيته بتدبير وفتحت يدي كمن يريد لقارئة الكف أن ترى له الوجهة والجوار. ناولني المفتاح، مفتاح مكاتبنا بواو، كنت قد نسيته معي تحت وطأة خروجي المتعجل والمرتبك. لقد ظَلَّ هذا الرجل صاحياً طَوال تلك الفوضى إذن! لم يهدر ذخيرته، ولا معرفته، حين يقوم الجميع بإهدار كُلَّ ما معهم. فهو لا شك عثر على المفتاح حين ألقاني انفجار طاقم الـ"بي تن" عليه.
    لربما أعطاني إدريس ذلك المفتاح كي تصدأ أبواب دنيا قديمة في مغاليقها، وتُفتح ثانية، قاسية وتشبه حياة الرجل الواحدة، المهدَّدَة والخَطِرة، المتحفزة للحظة قنص ربما يختبئ فيها موتُها.


    ..
                  

العنوان الكاتب Date
تموليلت: سيرة وحَجَر محسن خالد01-10-05, 01:46 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات المعتمد01-10-05, 11:07 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات خالد أحمد عمر01-10-05, 11:58 PM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات مصطفى عجب01-11-05, 00:10 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:25 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:26 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:26 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:27 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:27 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:28 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات aboalkonfod01-11-05, 00:18 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات عاطف عبدالله01-11-05, 00:27 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات بدري الياس01-11-05, 05:04 AM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-11-05, 08:45 AM
          Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-12-05, 05:50 AM
            Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات أسامة معاوية الطيب01-12-05, 10:26 AM
              Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Abo Amna01-12-05, 04:25 PM
            Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات aboalkonfod01-16-05, 11:27 PM
  تيموليلت محسن خالد01-13-05, 03:31 AM
  البيضاء هشام المجمر01-13-05, 05:21 AM
    Re: البيضاء حبيب نورة01-13-05, 06:00 AM
      Re: البيضاء محسن خالد01-13-05, 12:13 PM
        Re: البيضاء bayan01-14-05, 01:35 AM
          Re: البيضاء sympatico01-14-05, 03:48 AM
            Re: البيضاء Tumadir01-14-05, 04:15 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات fadlabi01-14-05, 04:29 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات WadAker01-14-05, 09:29 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات صلاح نور01-14-05, 10:29 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات TahaElham01-14-05, 10:50 AM
  ندعو لك بعاجل الشفاء هشام المجمر01-15-05, 01:56 AM
    Re: ندعو لك بعاجل الشفاء عاطف عبدالله01-15-05, 07:45 AM
  محسن يخرج من المستشفى بعد إجراء جراحة صغيرة هشام المجمر01-15-05, 10:02 PM
    Re: محسن يخرج من المستشفى بعد إجراء جراحة صغيرة bayan01-15-05, 10:48 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات aboalkonfod01-16-05, 11:40 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-17-05, 08:44 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات bayan01-17-05, 09:16 AM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Isam Widaa01-17-05, 09:38 AM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-17-05, 09:46 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Fadel Alhillo01-17-05, 09:34 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات WadAker01-17-05, 09:45 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-17-05, 04:20 PM
  تيموليلت: يتسلسل محسن خالد01-17-05, 04:36 PM
  حسناء هشام المجمر01-17-05, 10:25 PM
    Re: حسناء محسن خالد01-18-05, 03:28 PM
  يتسلسل محسن خالد01-18-05, 03:38 PM
  (أعيش إجمالاً ليس أهم عندي من عيش نزوة صغيرة لي كهذه) محسن خالد01-19-05, 10:06 AM
    Re: (أعيش إجمالاً ليس أهم عندي من عيش نزوة صغيرة لي كهذه) عاطف عبدالله01-20-05, 09:00 AM
  (أعيش إجمالاً ليس أهم عندي من عيش نزوة صغيرة لي كهذه) محسن خالد01-20-05, 06:36 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-20-05, 11:37 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-21-05, 04:06 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-22-05, 06:18 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Sabri Elshareef07-16-06, 10:12 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات عبدالله الشقليني09-25-06, 06:06 AM
  يتسلسل: تيموليلت محسن خالد01-22-05, 10:01 AM
    Re: يتسلسل: تيموليلت شادية عبد المنعم02-28-06, 05:41 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات AlRa7mabi01-22-05, 11:06 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-22-05, 01:43 PM
  زوغة حلوة هشام المجمر01-22-05, 11:11 PM
    زوغة حلوة محسن خالد01-24-05, 04:53 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات WadAker01-24-05, 09:46 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محمد خليفة محمد جميل01-24-05, 02:22 PM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Ishraga Mustafa01-24-05, 03:58 PM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات yumna guta01-24-05, 08:50 PM
  البيضاء هشام المجمر01-24-05, 10:15 PM
    تيموليلت محسن خالد01-25-05, 12:24 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات مريم بنت الحسين01-25-05, 12:34 PM
    تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-25-05, 01:04 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات 3mk-Tango01-25-05, 02:27 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Abomihyar01-25-05, 07:14 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-25-05, 10:45 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات الجندرية01-25-05, 11:30 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات abas01-25-05, 11:49 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-26-05, 05:36 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-26-05, 05:36 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-26-05, 01:34 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات برهان تاج الدين01-26-05, 06:35 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات الجندرية01-26-05, 11:04 PM
  البيضاء هشام المجمر01-27-05, 01:30 AM
    تيموليلت (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-27-05, 02:18 AM
      تيموليلت (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-27-05, 04:02 AM
        Re: تيموليلت (الجمال غول الجمال) kabaros01-27-05, 04:24 AM
          Re: تيموليلت (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-27-05, 09:33 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات السمندل01-27-05, 05:56 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-27-05, 08:25 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات فتحي الصديق01-27-05, 10:37 AM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات الوليد محمد الامين01-28-05, 03:54 AM
          تيموليلت: (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-29-05, 00:17 AM
          تيموليلت: (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-29-05, 00:18 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات nashaat elemam06-17-05, 09:12 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات بخاري بشير07-12-05, 12:51 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات السمندل01-29-05, 06:47 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-29-05, 08:40 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات طارق جبريل10-15-05, 00:16 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-29-05, 09:30 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Balla Musa01-29-05, 09:53 AM
      تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-29-05, 10:25 AM
    تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-29-05, 12:27 PM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Balla Musa01-29-05, 08:18 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محمد السر01-29-05, 11:17 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-30-05, 04:29 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-30-05, 04:41 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de