تموليلت: سيرة وحَجَر

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-19-2024, 11:56 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الاديب محسن خالد(محسن خالد)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-29-2006, 05:19 AM

محسن خالد
<aمحسن خالد
تاريخ التسجيل: 01-06-2005
مجموع المشاركات: 4961

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات (Re: محسن خالد)

    ..

    من رواية (إحداثيات الإنسان) -الكتاب الثاني،..

    Quote: التداعي الثاني
    الرجل الكلوروفيل

    أَبْلَغُ الأرض حين ينطقها معول
    وأَبْلَغُ المرأة حين ينطقها عضو الرجل

    وقفتُ في ذلك الليل؛ أو قل انتصبتُ ذكراً للمدينة النائمة. الأشياء تلمع أمامي من فوق أرض قاسية ومتشدّدة بشهواتها. والعجول؛ هذه المجيدة؛ تنام فوق أعقاب جنسها وعلفها كأحلى كائنات بريئة ومتشرّبة بحكمة أجسادها. والأشجار سافرة؛ مائدة؛ ومهزوزة على جذور متعة تعرفها هي، بطعم الملح وطعم التراب. وقفتُ في ذلك الليل وتعامدتُ مع وحدة كل خيط من ضوء ووحي يقطُرُ من سماء شهيدة. وفي مواعيد ينهض معها كُلُّ ذي معنى وبهيم؛ ويتفتّح؛ ويعبق؛ أقوى وأخضر من أي روح كانت له فيما مضى من عُمُر.
    هاأنذا متشبعٌ جنسياً لحد الشعور بأنني لو بصقت فسأبصق شفاه نساءٍ بالأطنان. ولكنّ عينيّ لا تزالان تصنعان لأقفية العابرين كلهم قافية واحدة من أرداف صبيّة مكتنزة.
    تمطّى ذلك القاضي السفيه والعجوز؛ الذي ألقمني لحلقوم كل هذا الحرمان؛ قبل أن يقول لي،..
    - أنت متهم بجريمة زنا وسُكْر، تُقر أم تُنكر؟
    "وبماذا يفيدني الإنكار؟".
    - أيعني ذلك تأييدك للاتهام!؟
    "يعني تأييدي للفليل".
    صاح حينها ذو كرشٍ متدلٍّ جاعراً: محكمة.
    وصحت أنا،..
    "سيبقى المطموث كأي سيف حرب لا سلام له إلا بجوف غمد".
    شتمني نقيب الشرطة الذي ضبطني مع زوجته، أمام القاضي، فلم يُهَدِّنه مولانا ولم أقل أنا شيئاً يستفزه. فهو سيظل ضابطاً في كل يوم قادم، وأنا سأظل الفليل نفسه وفي مدى أرحب، كلما أيقظتني الشمس ومرور الناس من دوخة خمر أو رائحة مبيت مع امرأة. كما أنك لا تستطيع أن تقول للضحى اصطبر ما لم تكن الغد.
    لقد عَذَرتُه، فقد ألقى عليَّ القبض وهو يجرني جراً من بين فخذي زوجته. وجدها طافية معي بما يُعَدُّ من مغمورها الحرام. كانت ورطة لا يمكن تفاديها. ولكن رغبة الإنسان الدائمة في تخليص نفسه أيضاً لا يمكن تفاديها. قلت له من دون أي منطق أو سروال: "الحقيقة أنا قصدتك أنت في موضوع و...".
    "قصدتني في موضوع، ها؟ ولمّا لم تجدني قَرّرت أن تبحث عني في سروال زوجتي!؟".
    لا شك أن بلادنا كبيرة لدرجة أنَّ أُمَماً لا تدري ما الذي يجمعها مع أغراب من نفس جنسيتهم، ومع أهلٍ بعيدين جداً، ما عادوا يذكرون منهم سوى أنَّ النيل ربما يسقي أرضهم أيضاً. ففي بعض أركان هذه البلاد المترامية يُطلق الناس على عضو الرجل لقب "المطموث"، الدلو الذي يقصد عمق الأرض ليجلب الحياة، طارداً في طريقه الخفافيش، ومنيراً بلمع الماء كهوف البئر ونسيج العتمة. القيمة المطلقة لمنتهى الرجل. التي ليس بوسع نساء الأرض تجاوزها، وليس بوسعهن جميعاً أن يأتين بمجرد تصور لرجل بلا مطموث. إلا أنَّ صاحبنا النقيب كان ذلك التصور المُرَاهَن عليه لاستحالته.
    فقد كان عِنّيناً ولا شاغل له في هذه الحياة سوى جمع اللوحات والمجسّمات الفنية. وارتضت هي العيش معه بالرغم من جدبه الرجولي، بدافع فقرها الأُسري العريق والمتوارث. ليبحث سيادة النقيب عن عزائه في الفن أو المنشطات الصيدلانية أو كما يشاء. فأعمال نورمان ركويل ولوسيان فرويد وماتييس الفنيّة لا تطردان حكّة دود بمصارين ابن آدم. وتلك المسكينة تريد مطموثاً لا حقنة. تريد أن تتلوّى ورائحتها رجل رجل، مُشْ، أجزخانة أجزخانة.
    كانت "شموم" زوجة الضابط، تمارس بعض التجارات الصغيرة من باب التَلهِّي وتمضية الوقت والتناسي. وتسللتُ إليها أنا عبر هذه الهواية مُدَّعِياً بأنني تاجر صحون أيضاً. قمت بتوسيط إحدى الجارات لديها بكوني أُريد مشاورتها في مشروع مشترك يتعلّق بتجارة الصحون. ولكن الطريقة التي تَمَّ بها التشاور بعد ذلك لا علاقة لها لا بالصحون ولا بالتجارة. لقد دحرجت الحوار بخبرة عملي الطويلة في جبهة النساء، نحو نقطة معينة، ليست بمهمة ولا هامشية، بل نقطة يلتفت عندها الإنسان لما يجري حوله بناءً على صوت أعماقه. الروائح، سطوة الأعين، روح المكان في عين اللحظة، ضياء الأسنان الخبييء، التواءات الدعوة المعدّة بالجسد –منذ الأزل- لاستضافة آخر. مقيل أرواحنا الذي يمكن أن نفرده لأرواح أخرى تلفحها هاجرة شمس لاهبة. قلت لها من عند هذه النقطة وأنا أُرَكِّز في عينيها تحديداً وبعمق،..
    "عيناك أصبحتا غريبتين عليك".
    - لم أفهمك!
    "أقصد أنهما صارتا لكائن لا يشبهكِ قبل قليل".
    - أنت تراوغ.
    "أبداً لا. ربما تُعَبِّران عن شيءٍ دخيل ومستجد، تُزيّفه الملامح في حالاتنا العادية".
    - أيُّ شيء!؟
    "الرغبة. الرغبة هذه مخلوق بكامله ينضاف إلينا. ملامحه تختلف؛ شِيِك، عصبي أكثر من اللازم وربما يُدخّن".
    انطلقت منها ضحكة غواية وسلطنة. ضحكة في آخرها كَمْ إمالة وبكَمْ نبرة بديعة الفحش، كي تجرح أينما الْتَوت وتترك نُدَباً. ضحكة امرأة نسيت نفسها طويلاً. لقد جعلتني أستجيب من جهات كثيرة وأُمطر فَلِيلاً في كل درب يريد أن يسلكه جرح.
    "وأنتَ أيضاً تغيّرت". قالت وهي تطعج قطعة اللبان في فمها بشراهة أكبر، وتدفعها من خد إلى خد. أجبتها ويداي تدسان تنميلهما في حرارة صدرها،..
    "طَيِّب، جعلتيني حامض، ليمون بَسْ".
    انزاحت بعيداً، عني ونحوي، قائلة كهَرَبِ الموج وارتداده: أوعَ تقول أنا السُّكَّر.
    وضحكنا في رشفة كأس طويلة من عصير ابن آدم. غصت فيها وكلي أنصال لامعة ومُشْهَرَة كالحصّادة. كانت لا عظم ولا كوع ولا ساق. الحيلة التي تفرّد بها خلق تلك المرأة: صُلبها اندلق إلى أسفل وكوَّن رجليها، ثم طمح إلى أعلى وكوَّن صدرها. لقد خُلقت بكاملها من لدونة الأرداف وملمس غوايتها.
    شعرت وأنا بين فخذيها كأنني أحفر قبراً لأدفن فيه الأرض برمتها، أو لأُخرج منه الوجود بكامله. المهم أنني كنتُ أفعل أشياء في أشدِّ تطرف قيامتها المجهولة. تعالت أنفاسها بلهاث حار وحميم، منظوم مع بعضه بعضاً في تتابع مثير ومترابط كتدلي الشلال من أعلى الجبل. ثم دَخَلتْ عيناها، مخزنا الرغبة، في حَوَر بديع تحت وطأة اللذة. نعم، كنّا بأبهى لحظة تُغَيِّم عندها عيون الإنسان كالسحاب.
    لقد قاومتني كثيراً وحالت بيني وبين منجمها. تحايلتْ عليَّ حتى وجدنا أنفسنا ملفوظَيْن بساحل الوهن، فارغَيْن تماماً، فيما يشبه الاستعداد الكامل للامتلاء بالحياة كلها، من جديد، ودفعة واحدة. لم أسألها عن سبب حرمانها لي من ممارسة جنس كامل معها، بل همستُ لها بأحاديث متفرّقة وعيناي مغمضتان.
    - افتح عينيك، لماذا تغمضهما؟ ومالت على خدها الآخر لأحشر يدي بين ردفيها.
    "لأن أمثالكِ بالنسبة لي كالحلم. ولكي تسمع الأحلام جيداً فلا بُدّ من أشباه النوم هذه".
    - تبدو لطيفاً ومسالماً، أنت في غاية الظرف. لا أظنك تتشاجر مع زوجتك مطلقاً؟
    "الشجار معكن أيضاً أُنْس".
    أضفت بالذي أمكنني تحريكه من أعضاء: ليس لديّ زوجة، والمرأة دائماً عندي مقترح توقيتها، والأجمل الذي لن نحوزه مهما حشدنا له من المأذونين وشهود العقود.
    ضحكتُ وأنا أشفط أنفاسي وهي طبقات إثر طبقات كبعضٍ من عبير لعابها، وقلتُ لها كي تتسلَّى بها الأفكار وليس العكس:
    (الواحدة بعد خصر الليل؛ هنا الفليل؛ وكل ما عداي من إذاعات الدنيا مجهولات. لندن، مونتي كارلو، صوت أميركا، صوت القاهرة، صوت دمشق، صوت أم درمان، كلها دجل الليل. هنا الفليل، في كل مكان وبلا حد، وخلف كل حلم يقظة ومنام. ومنذ افتضاض الأرض).
    لقد تصادقنا من حينها أنا وشموم. وصار يربطنا الذي لا يستخدم الحبال في وثاقه ولا يمكن شرحه. كنتُ في تلك الليلة التي فتحت فيها جسدها على الحياة، كي يتلقّاها وتتلقّاه، مخموراً ومصطولاً لدرجة أنني أشعر بالطريق ينسحب من تحت أقدامي لورائي ولا أشعر بسيري عليه. أسمع وقع أقدامي كصوت غريب ينبعث من معنى المشي نفسه؛ وقطعاً ليس من ترجمته السطحية والتافهة التي تعني اصطدام أرجلٍ بالأرض. أنظر إلى أي واحد من المباني الهناك فأراه يميد يمنة ويسرة وتشوبه حركةٌ ناعسةَ الناس وحييَّةَ الإضاءة.
    طرقتُ بابها بعد أن تأكّدتُ من عدم وجود عربة زوجها أمام البيت. كانت قد وعدتني في المرة الفائتة بأكثر مما هو سطحي وصبياني. لم تصدِّق لوهلة، البحر يطرق بابها ويقول لها: هاكِ عوم!
    وكانت الليلة التي اقتحمتُ فيها قسطنطينيتها. وجدتها بتمامها وعند خيوط ختان طفولتها فاستعذت بالله. لم أكن أدري عِنّة زوجها الضابط. تساءلت في أعماقي: أهذا الرجل متزوجها أمانة؟ ولكنه كَفَرَ نعمتي، فلولاي لكان إلى الآن حبيساً عند كهف علي بابا وسمسه قد مضت به حواصلُ الطير.
    كانت تتملّص مني وتتقَلَّب كالمحموم. أحياناً تُخَلِّص نفسها حتى تكاد تفلت، ثم تعود لتصفع قفاها بالفراش من جديد. النساء، الصيد الحرون؛ والوحيد الذي يتملّص كي تتمَكّن منه شِباك الشَرَك أكثر فأكثر.
    البنقو أمدَّني بهلوسة سمعت من خلالها صوتها يحرضني قائلاً: "غَرَقك ولا عوم الضَحَل. تفرد طيور البجرواية أطول بال جناح عندها وأختارك مشياً".
    لله نعمة مَنْ غَنِم، فإني أشهد أن لا منام يُبَلُّغُ قدرَ راحتها وبلاد طِيبِها. إذ هي بدينة بمقدار أن لا يسقط الرجل من فوقها لا أكثر. أعملت فيها معولي من جديد. فهذا هو المنجم الوحيد الذي بإمكان الفقراء أن يحفروه ويأخذوا ما فيه من ذهب لأنفسهم. قبضتُ على نهديها، الجسد، المادة، فاستحالا لقبضة من مادة بخصيصة الروح، كقبضة يدي السامري للتراب من تحت جواد الروح القدس.
    تأمّلتُ ذلك الجرح الذي جُرحت به المرأة وكُتِبَ على الرجل أن يحمل ألمه. جُرح بموضع أسفل المرأة ويخز بأسفل الرجل. حقاً، إنّ حياتنا جرح طويل بطول الأبد، نُولد منه ونحيا له ونُدفن فيه. كانت ختيناً على ملة فرعون. ويا لجبروت هؤلاء الفراعين الذين وصلت حضارتهم إلى كل مكان، حتى إلى إفريقيا المرأة السُفلَى. وصحيح أنّ المرأة كلها آثار ثمينة، فمفاهيم حضارة الفراعنة هذه رحلت من كل مكان إلا هذه الأدغال.
    "الله حَيْ" ولنا في النساء أفانينٌ من جياد وفواكه وحصاد. دفعتُ فيها بشفرة الحصّادة من جديد. وتَخَطّت هي صوتها وحلقها في الصراخ وأخذت تصيح بكل الظمأ الذي تلملم منذ أن ردموا ينبوعها. عويلها الملتهب والفاضح غَطّى الليل وانكشف عالمٌ ماست فيه الجن. وربما هي لم تصرخ على الإطلاق، وكل ما جرى ويجري كان زيطة قبائل ومهرجانات احتفالاً بالمطموث.
    بَدَا للحظة وكأنَّ الزمن، البعد الرابع، لطول الأشياء وعرضها وارتفاعها، يندك من جهة وينبني في جهة أخرى، ووجدت نفسي في متصل عالم عجيب، وانزلقتُ في مكاشفة رهيبة للتاريخ والفنون فيما هو الأزل والأبد في آن. فقد انفجر المكان بالضوضاء وأصوات القدوم والصحو من الموت ومن كل زيف عالمنا البسيط الذي نظنّه عالم الحقيقة والشهادة.
    وهاهم الناس والأشكال وما هو تصوّرات يتدفق من كل فج، ويحضر في لا صفة وخِلْوَ كل ما نعرفه عن الحضور. فقد نزلت كل الشخوص والأشكال المرسومة في اللوحات المعلّقة على جدران بيت صاحبنا الضابط. كل ما كان يمُتُّ للفنون بلمسة ريشة في ذلك المنزل تملّص من موته وصبّ حياته في قدح. لقد مات الموت لأنّ الفنون وجَدَت طريقها ومغزاها أخيراً. الكل أسرع يرتدي نزواته واحتياجاته ليلحق ببعُد تلك الليلة المفارقة من الدهر.
    ذلك العالم، بتمامه، الذي عاش عزلة اللون والظلال والجبص ونفسية الفنانين الغتمة، ألقى بنفسه خارج الإطارات والبراويز والأسوار، مُفَضِّلاً الانتحار على تحنيط الرغبة.
    كانوا حُكّاماً وفقراء وصعاليك وباعة وقساوس وشيوخاً، فرساناً وجميلات، وحتى أشكالاً غير مفهومة وإنْ عند نفسها. يتعلّقون ببراويز اللوحات كأنها حيطان ويقفزون على الأرض. بينما الألوان تتشتت منهم وهي تلصف وتُبرق كقطع الزجاج، ورائحتها الطازجة تمتد إلى أعماقنا كالرياحين. لقد كانت الألوان تحمل خصائص لحظة ميلادها وكأنّ الذي مرّ عليها ليس الزمن، وإنما شأنٌ لا يختلف عن ترديد حركة الريشة لتركيز اللون ساعة رَسْمها.
    صار الناس إذا رغبوا في رؤية الغد يفتحون النافذة فحسب، والأطفال الذين يلعبون الكُرة في حديقة المنزل، لو صادف أن سقطت كرتهم خارج السور يأتون بها من الأمس. لقد كان بُعداً شفيفاً وعُلويّاً من الوجود، أكسبني هلامَ كلّ شيء.
    التجليات التي تزرعك بما تحب أن ينبت فيك وتورق به، وتحصدك من كل ما هو زرعٌ لقوم آخرين. التجليّات المنتخَبة والمُطَهِّرة.
    أول من تململت أضلاعه بالحياة وخرج من زواياه الضيّقة وسخف الحساب، إلى رحابة الوجود، مجسمٌ للعالم فيثاغورث. هاهو جاء ليبتهج معنا بمتوالية أساسها المطموث وليس أعداداً بليدة، ورموزاً ضالَّة عن سوائها لدرجة أن تظن نفسها المنطق كله. هاهنا عالَم وجمهورية لمنطق يتخلّق بفعل الضرورة لا التواضعات.
    كأسك،.. كأسك،... ليركب رأسك النجم،.. كأسك،.. كأسك،... وكنت أبحث بين الطاولات عن عضو امرأة يكون قد سَهِيَ عنه أحد الناس كي أدسه في جيب فيثاغورث، هكذا سيكتشف لنا الوتر الموسيقي الذي يلعب معزوفة الحياة بأشهر وأطول أصبع سحري لدى الرجل.
    يا فيثاغورث، جيب سين وجتا ص، تطلّع دينك،... صُبّ الهانيكان، الفوستر، وهاك نبيذ،... هاك جِنْ عشان تجن، وكان ما جنّيت أدَّين، أتسلّف ياخي، ولو غلبك تسدّد ديونك أستمر مجنون،... أيوي يوي يوي يويييييي،...
    ندمت لأنني أسأت الظن بفيثاغورث، فقد لاح لي من بين وسط شخوص كثيرة تتزاحم، رأيتُه يدسّ يديه بين فلقتي كل ردف يمر من أمامه، غلمان، جوارٍ، أشكال ذات إيحاءات جنسية، لا تمييز لديه أبداً، اللعين، لتتبارك الأيدي التي لم يكن لها من وحي في ماضي أيامها سوى رسم المثلثات والدوائر، الكروكي واللاكروكي، هاهنا عالم يقع على الحقيقة من أوّل شخبطة.
    أحد الشخوص كان يحمل موعداً مع فتاة في يده، ويعبث به كحاملة المفاتيح، سألته ما حكايته،..
    - هو ليس لي، بل لواحد فنّان. ضحك متحاذقاً ليكمل،..
    "التافه.. لقد نسيه معي وذهب لفتاته من غير مواعيد، هؤلاء الملاعين دائماً ينسون لدينا أشياء عجيبة، تصوّر؟ كان بإمكاني أن أذهب لفتاته بدلاً عنه"، وقهقه الشخص.
    ليكن أي شخص ما يشاء وعلى أي موعد يشاء، إنها ليلة خصّيصة لأجل ذلك.
    القساوس والأئمة يشبهون ضوّينا في وسامته، وقفوا يناولون الناس هدايا قيّمة من السماء، حتى إنني رغبتُ في أن أذهب إليهم وآخذ واحدة.
    الباعة كانوا يبيعون أشياءهم على طرف طاولة العشاء، الطلح، والكليت، والشاف، ولم يأتِ أحدٌ مطلقاً على ذكر الحرجل والمحريب، ينصر دينكم، اليوم يتنكّر الموت وحده، أخذتُ أُمرحب الجميع،..
    "مرحب قَفَا التاريخ، مرحب صدر الحاضر، مرحب مغيّب بالسَكَر يا غد. مرحب يا ريشة خُلقت من رمش امرأة وبُلِّلت برضاب شفتيها نزولاً نحو رسمتها التحت والأسحر".
    لاحظت أنّه عندما تصرخ "شموم" تأتي الشخوص والأشكال لتتجوّل بالقرب منّا، وتتطفّل علينا، بينما هي تُترجم كالمتصوفة المجذوبين، وتصدر همهماتٍ كالتي تصدر من متنزّه ليلاً أو من أطواء غبار لسوق قديم. وعندما تكف "شموم" عن الصراخ، تبتعد قليلاً وتتجاهلنا، تساءلت مُخفياً دهشتي عن شموم،..
    "الصراخ،.. الصراخ،.. الصراخ،... في الميلاد وببطن اللذة وساعة الموت. ما الذي نشر التاريخ والموت والفنون على حبل صرخة؟". توهّمتُ أنّ شموم ستجيبني، ولكنها تساهتْ فتمتمتُ بلوعة،..
    "لو أنّ المعاول ادّخنت وحامت في أحلام الأرض طيف عروس، كان تحتلم كل المناجم الراقدة تحت الأرض وتقذف ذهبها، فلا عَرَق ولا بارود ولا حروب".
    كدنا أن ننام في الأعالي منّا لفرط اللّذة، ونمنا في قرارتنا بأن أغمضت "شموم" جفني عين واحدة على المستيقظ مني، عين تبصر الأشياء بسقوط الرغبة وانعكاسها وليس الأشعة.
    لقد تشتّتتُ عليها كالبذور بوسط بيدر عريض، حتى أعجزتني لملمة حالي، فلو فاجأتني ريحٌ ليلتها لقامت قيامة "الكلح" في كل أرض تقع فيها ذرّة مني. ومضى الزمن بسرعة من عند تلك الليلة، أو قُل انتفض كملسوع، ليقف عند تلك الحادثة، حادثة مبيتي الثلاثين ربما مع "شموم"، التي سألني القاضي في إثرها،..
    "أيعني ذلك تأييدك للاتهام!؟".
    وأجبته أنا: يعني تأييدي للفليل. سيبقى المطموث كأي سيف حرب لا سلام له إلا في غمد.
    دعا الضابط ليلتها، أصدقاءه وحوشيته ممّن كانوا معه من العسكر، وهم تملّقوه بضربي، فقد انكالوا عليّ ضرباً وشتماً بعنفٍ عُقِدت عليه آمال. للحقيقة هو نهاهم عن ضربي، ولكن ماذا يفعل لهم؟ فمنهم من ينوي أن يأتي للكثير من الطوابير العسكرية متأخراً ومتسخاً ومخموراً وزانياً مثلي، عليه أن يشطب كل ذلك بتملّق قائده وادعاء متانة صداقته به الآن، وإلا فلا فرصة معه مستقبلاً. دعاهم إلى الدخول لكي يشهدوا ضدي، ولكي يشهدوا طلاقه الفوري لـ"شموم"، التي اكتفى بطردها فقط.
    واكتفت هي بارتداء ملابسها لا غير، ولم تأخذ من بيته ذلك إلا سَبَت الصحون الذي كان بادئة تعرّفنا على بعض. أثناء مرورها ناحية الباب كانت أجزخانة المنشّطات تبع صاحبنا مرصوصة على منضدة فاخرة، فركلتها شموم في طريقها لتتبعثر في كل ركن من أركان البيت، العنّين، ولأنني كنتُ مصطولاً فقد صنع خيالي حركة لذيذة، إذ تخيّلته سيضع يديه بسرعة على منطقة حزامه وينحني بقوة تجاه الأرض، مطلقاً صوت ألمٍ مكتوم. ولكن الذي حدث أنني أنا من أطلق صوت الألم المكتوم إثر رميي كزكيبة علف مبلول بداخل جِيب الشرطة.
    أمي كانت امرأة طيّبة ومستقيمة، لم تكن جميلة، ووجهها ليس بكريه، ولكنني لو كنت مكان أبي لَمَا تزوّجتها مطلقاً. لقد عَرِفتْ حبي لكلية الآداب، وحاولت دعمي في هذا الاتجاه، ولكن هيهات، فقد ذبحوا خروفهم بنيّة أن أكون "الرضي بن التوم"، فما سلم خروفهم ولا أرضيت الله ولا أرضيتهم، كما تتندّر هي، ولكم كرهتْ عربدتي وعربدة أبي الذي كان هو الآخر، فليلاً تقدّمت به السن. أذكر حينما ضبطني في صغري مع الدخّان، باغتني وأنا بجوار الأزيار أودّ أن أشرب،..
    "لقد كنت تدخّن، ها؟ ما هذه الرائحة؟".
    "أبداً يا بوي، كنت قاعد مع واحد صاحبي بدخّن و...".
    جَرّني من خدي، ليقاطعني بسخرية صارمة: صاحبك وما صاحبك، ها؟ وهو البدخّن مش إنت؟ إلا إنك كنت ولد جدع وسلّفته خشمك عشان يدخّن بيهو؟
    طأطأتُ رأسي، فالطريق مغلق كما هو واضح، فاقترب مني هو ليقول بتودّد،..
    "يا ولد يا إبليس، هات علبة السجائر"، أخرجها بيده من جيبي وبتعجّل ليُكمل: وكمان بينسون! عب كبير. بورسودان مَطَرَتها كيف؟ وألا الأخ ما سوّاق شاحنة؟
    لقد خُلقتُ عائراً كما تقول أمّي، حتى المدرسة أذكرها كرائحة حبر تنبعث من الأولاد الوسيمين والمرفّهين، ولكم لَزِقنا بورّانيتهم. فقد كُنّا نحن أبناء السباريت غُبشاً كأنما خُلقنا من العجاجة التي أثارها الناس بعد أن خلقوهم ومضوا.
    التاريخ يُثبت أنّ كُبَراء القُرى والنواحي استطاعوا استعمار المجتمع الريفي لأنهم الأكفأ والأفضل، وجمعوا جرّاء ذلك أموالاً من كَدِّنا وعَرَقِنا ليتزوجوا بها المرأة الأجمل والأفضل. طبيعي إذن أن ينجبوا بعد ذلك النسل الأحلى والأليْن لأنه الأرقى. فالمعارك بيننا وبين أولادهم تاريخية، ونحن تلقينا فيها الهزائم حتى قبل ولادتنا، فآباؤنا مَن فاز عليهم العُمَد، وأُمهاتنا مَن دُحرن في مسابقة اختيار نسائهم.
    مدير المدرسة والوكيل عرّضا كثيراً لكون هنالك من "يتصارعون" من الصبية في أماكن منزوية، أو بقرب الحقول وسكّة الحديد. وأنني لا بُدّ وأعرف أمور الضحكات المتغنّجة بالأماكن المظلمة تلك. خشيتُ المدير لأنه رجل خبيث، أما الوكيل فكان يستولدني شفقةً من "مافي"، فهو رجل أروش، خلا فوق وخلا تحت، إذ كان يحمل صلعةً كبيرة جداً، ويحمل بداخلها فراغاً يسع المجموعة الشمسية. ولم يكن دوره في المدرسة إلا مكبّر صوت للمدير، أو صدى خشناً لصوته. عليّ إسكات المدير إذاً، فأذعتُ أنا أيضاً أقاويلي وتعريضاتي، بأنّ هناك من يرغب في حرق محاصيل، وزرائب، وأعلاف،...إلخ.. ولمّا خشي المدير على ممتلكاته فقد اجتنبني، ولمّا لم يجد مكبّر الصوت من ينفخ فيه، بقي صامتاً.
    كانت قريتنا متنوّعة البشر والمستويات، ما يجعلها متنوعة المزاج وما تحتاجه. أفواجٌ كثيرة من الباعة كانت تقتحم علينا صمت القرية وحواريها. منهم من ارتبط مجيؤه في أعماقنا بالمطر، ومنهم من يلده سراب الصيف المترامي بعيداً وخارج القرية، وشِقٌّ آخر يجدنا متكدّسين في "الكدّكة" بظهر الجُدُر اتقاء القِرّة.
    ما كان يُمَثِّل انتظاري المتلهّف والعميق فرقتان فقط من أولئك الباعة. الفرقة الأولى هي باعة "الحرجل" و"المحريب" و"الجردقة" و"الطلح" و"الكليت" و"الشاف". كانوا يُعرفون باسم باعة "الحرجل والمحريب" أو "باعة الجردقة" تدليساً، ومن باب التنكّر، الحرجل والمحريب عشبتان تستخدمان للتداوي وتنكيه المشروبات. أما الجردقة فشيء يشبه الحجارة الجيرية يستخدم لعلاج سوء الهضم. هؤلاء الباعة، انشتلوا في أعماق الفليل بصفتهم الأكثر أهمية من التنكّرات وأمور الحِواء هذه. إنّهم باعة "الطلح" و"الكليت" و"الشاف" ولا غير، يصيح أحدهم بالدوبيت من فوق جمله الأغبر،..
    أخَمْجِي الحِنّة بي دمي ليك لُخِّيها
    وحُفرة قبري للدّخان عليّ فِجِّيها
    طاش بالليل نجوم الضِّهاب باريها
    بايت القَوى وصاقعة الخراب راجيها
    حينما يأتون تصبح المسافة بيني وبين ذاتي جِدّ قصيرة، أقطعها بجرّة نفس واحدة، جرّة نَفَس واحدة وغالية، كأني أسحبها من طيز سيجارة بنقو. إبلٌ تجيء من قُهبة الخلاء، تحمل على ظهورها الحطب السحري وبدواً صحراويِّ السحنات والطباع، اندسوا فوق ظهورها غير ناشزين عمّا تحمله من متاع. يعرفون عن قيمة حياتهم أنّها أكثرُ اتساعٍ حر من حياة إبلهم، التي ترغي بما تشاء وتبول على ما تشاء.
    يبيعون أعواد وحطب الطلح، الكليت، الشاف،.. التي من شأنها في بلد قديم، كالسودان، أن تقطّع لقطع صغيرة ونشارة، ثم توضع بداخل حُفرة منزلية صغيرة، تُعَدُّ عادةً في جانبٍ منزوٍ من المنزل أو ببطن المطبخ وحتّى بغرفة النوم أحياناً في المناطق الإقليمية البعيدة. كي تأتي المرأة من بعد ذلك وتصير عاريةً كفطرتها وتجلس على نار العطور تلك، بعد أن تُغطّي نفسها بشملة غليظة تحجب عنها الهواء تماماً، كي ترعى فيها تلك التركيبة وتتخلّلها مساماً إثر مسام.
    يقال إنَّ النساء في بلدان أخرى بعيدة يسألن الرجل: تريدني؟ أو يزحفن بجواره كالسحالي الملساء، الراغبة والمتزلّفة.
    أما هنا في هذا البلد القديم والعريق فالمرأة تقوم بإشعال حُفرة دخانها فحسب. الرجل عندنا تدعوه النار شخصياً، وبأبهاء احمرارها الرهيب والماجد.
    فالناس بتكنيك الدخّّان هذا يضيفون للمرأة أوّل ما يضيفون عنصر الأسطورة، ويَلْحمونها بجانبها الغيبي الذي كان متهدّلاً وغافياً، خصوصاً حينما يخرجونها من شملة الدخّان وبوخها يلوي ويسد الأفق، كجنيّة جُلبت من قيعان جبال "الباريا"، ثم يُبرّدونها بما يُعرف بـ"الخُمْرَة" و"الدِّلْكَة" وهذا الشِّق التكنيكي يُعْرف بـ"الكَبَريت". أمّا "الخُمْرَة" و"الدِّلْكَة" فهما مستخلصات من الذرة، والمحلب، والصندل، والدّهن المعطّر، بعطور السودان، والهند، ومصر، وسوريا، وكلّ البلدان القديمة، مع ملحقات حداثية من باريس ولندن.
    هكذا يصير أوار المجال الجنسومغنطيسي، كلعنة، تنقل فضيحة البدن من جن لجن. وتصبح فتحة التلاقح في المرأة كثقب إبرة أرادوا له أن يكون شديد السريّة فهَمُّوا بثقبه فقط ثم تركوه. كما أنّ الدخّان والكَبَريت لا يمتصّان الروائح الكريهة من الجسد فحسب، بل يُثبتان أنّ المرأة عود نَد يُشعل من أسفل.
    "عوووووك آناس، الدخّان تساب النسوان، وجهنّم غربتي وحنيني، يا الله تحشرني فرعونها".
    هؤلاء هم باعة الآخرة في الدنيا، كلّما تذكرت الجنّة، حور مقصورات في الخيام، في كل خيمة سبعون حورية، في كل يوم لك أهل جديدون، حور، غلمان، ولدان،.. يتناهى إلى سمعي،..
    "الدايرة الكلح التشتري الطلح".
    أو صياح بائع آخر: "الدايرة الحتيت التشتري الكليت".
    ففي تلك الجنة التي تبدو كداخلية بنات كبيرة، لا بدّ أن يكون لباعتنا هؤلاء شأنٌ كبير وأصوات أعمق نداءً وإغواء. كانوا ينادون بأصوات مليئة بالرجولة الخلوية، ومنغّمة بالدوبيت، فتفيض القرية بالضجيج الداعر، وتنطلق قهقهات الصغار وشهقات البالغين وتأوّهات النساء، فتنقلب البلدة لسوق كبير من ممارسة العادة السريّة الجماعية.
    "يا أخوانا أسكتوا خلوّنا نسمع،.. العريبي دا نَمَّتُو ممشهَدَة خلاص".
    "فيها حُرقة يبقالي آود علي".
    ود علي: "حُرقة ساي!؟ عليّ الطلاق أتقول بدوبيها بمصارينو".
    وينطلق صوت العريبي البائع، من بعيد،..
    أهيييييي، إييييي،...
    ليلك عليّ دون الخَلِق مطبوق -يا الزينة
    وطلحك دُخّانو متل القَطَر مبقوق -يا الزينة

    يصيح ود علي خلفه،..
    "هيع، أتَّبلعك آمنجوه، دولبها تاني، يدولبك بابور البحر"، قاه قاه قاه.
    الجميع يحفظون شعر العريبي، يقول أحد السكّيرين المتخفيين في الوراء، بعد أن يزيل لثام عمامته ليبصق تمباكه،...
    "الدامشيق،.. الدامشيق،..".
    فينادي "العريبي" بعد هنيهة حادياً،..
    حليلنا من زولاً –مغارب- طلوحو تَبِق
    نيين نين نين
    وحليلنا للبلد، الدامشيقو مُرّاً يشق

    ينكتم صوت العريبي لبعض الوقت، لأنّ "النزيهة" المرأة المتغنّجة ستشتري،..
    "حاج فلان بقولك بعنا بكذا، أو زدنا كذا"، لعامل الخجل الملفّق طبعاً، النساء تشتري باسم الزوج، وكأنّه هو الذي سيخلع ملابسه ويدلّي خصيتيه في حمو النار.
    يصيح البائع المعروف بـ"الداهي" لكثرة استخدامه لهذه المفردة، التي تعني الشيء والشخص في آن واحد، صوته ثقيل وكأنّه يخلع نفسه خلعاً من بين فلقتي عود طلح أو شاف،..
    "الدايرة الحتيت التشتري الكليت،... الدايرة الكلح التشتري الطلح".
    فتتضاحك النسوة من حول العريبي، ويتغامزن مع رفيقاتهن اللائي يُطللن من نوافذ وكُوى البيوت، أو يتفرجن من فوق الحيشان والجُدُر. إذ إنّ غالبية البيوت كانت من ذوات القامات القصيرة، ومعظم نوافذها تقريباً تطل على الشوارع والأزقة. فالشوارع والأزقة هاهنا تُعتبر امتداد لحرمات البيوت. كما أنّ البيوت واضحة وما بداخلها من أشياء وحُوَار محفوظ لكل أحد، فليس لديها ما تُخفيه أو تتستّر عليه. والشوارع والأزقة نفسها لم تلتف حول البيوت لتراقبها أو لتتنصّت عليها، وإنما لتكون صوت البيوت الجماعي في ملمّاتها بفرحها وغضبها وأتراحها.
    تَقَلُّ أعداد النسوة من حول العريبي فينطلق مُقَصِّداً من جديد،..
    "المارقني نُصّ الليالي أتهمّى
    مِعَلِّب شَافَها لزولاً مقامو مذمّه"

    ود علي: "صِحْ يمين الله"،..
    فقد أخذوا منه امرأة أحبّها فيما مضى.
    "الداهي" يصيح أحياناً بجُمَل سوريالية يفهمها هو وحده،..
    "سِلْك القلب، يكهرب، يمين وشمال
    ناديتو، ما سَعَل فيني سُعال
    يا الماشي الصعيد، كلّم جبال الفاو"

    يعيد صيحته من جديد، لكي لا يفوز العريبي بكل زبائنها،..
    "الدايرة الحتيت التشتري الكليت،... الدايرة الكلح التشتري الطلح".
    هو يعرف أنّ الكل يُريد "الكلح" و"الحتيت" أي النكاح من رجل موهّز، بقسوة ووحشية يجعل الورّانية تكنتك كأضواء الزينة، ولكن لماذا تتهافت النسوة على العريبي المحبوب وليس عليه هو؟
    لأنّ هنالك وَزْنَة هو يجهلها، عليك أن تنادي رغبة الناس وحياءهم في آن واحد، دعارتهم مع أقنعتهم وبفن، وهو فاحش ووقح بنفس استقامة سِكّينه.
    "حلو الكلح، في المنَجّض بالطلح".
    الصبايا المراهقات يهربن من أمام الأهل وتصفرّ خدودهن بمجرّد صياح "الداهي"، ولكن لكي تردّد أصواتهن اليافعة بخفوت، ولكي تقرقع في السر الأواني أثناء غسلها، الطاسات، الطشوت بملابسها، ترتج بين أيديهنّ مع نقرات خفيفة، من أصابع ناعمة ومتحضّرة لشراء الكثير في مقبل الأيام: الدايرة ودايرة الكلح، هَيْ بسْ التشتري الطلح".
    وتغزر وفود النساء بالخارج، وترفّ الأفخاذ للّون الخمري، الذي يتوزّع على مسوح الدخان، وترّف الأفخاذ الأخرى أيضاً لأن تختم تفاصيلها الصغيرة بذلك الحبر الجهنمي، في الوقت الذي تتفرّق فيه جماعات البيع في القرية كالمشارق ويبدؤون الصياح الجماعي من جديد، فتلتحم القرية كلها، في التعبير عن شهوة واحدة وأكيدة، ومطلب بازلتي يتظاهر من باطن الأرض والكائنات، ويخضوري تهبُّ به رائحة الحقول وحَيْدُ النهر.
    العريبي نافخ صُور قيامة الكلح تلك، يهب جمرَه،..
    "الدخّان السيدو ممسّح، فطيراً في لبنه طفّح".
    فيلتبس الأمر على الصبية اليافعين، لأنهم يعرفون معنى الفطائر عندما تُطفِّح في اللبن، ولكنّهم يجهلون مغزى المرأة المدخّنة عندما تطفّح في المسوح، يسألون العريبي، فيرد ناهراً لهم -بتلاعب- من حول راحلته المحمّلة بالحطب،..
    "بعدين، بعدين بتعرفوا، هسّع ألقفوا الفطير باللبن ساكت، قوّوا عضامكم".
    يبايع امرأة، ويلتفت مهمهماً مع نفسه وبخصوص سؤال الأطفال،..
    "يابا حلاوة لبان، وجيب لي معاك كريملّة. كان مو طلحي دا آولاد الحايلة كان في ود غلفاء ببيعلوا كريملّة؟ يبلّغ العريبي حسده لـ"الماحي" صاحب البقّالة.
    يرفع "العريبي" رأسه ليجد أنّ "الماحي" يحدجه بعدم مودّة هو الآخر، يتزلّفه العريبي، بقهقهة أوّلاً ثم يقول،..
    "أنحن نكورك النهار كله الدخّان السيدو ممسّح، الدخّان السيدو ممسّح، وإنت تنسف جركانة سمسم وراء جركانة".
    "بالله!؟ لو مكورك عشاني أنا سد خشمك من يوم الليلة دي، لا ممسّح لا مشتّح، شوف العربي المطرطش دا عليك الله، يعني إنت كان مُتّ وألا مَسَكَك وجع حلق، زيت السمسم بتاعي ماشي يبور؟"، يجيبه الماحي بتضاحك ساخر.
    "والله لِعيْمَاً! لا حولَ"، ويخففها العريبي بتضاحك هو الآخر.
    كانوا قوماً لا مبالين، مستهبلين وسعاليق، يركبون جمالهم المنهوكة في مرح وسرور وقلّة أدب. ولطالما اعترض إمام مسجدنا على مسلكهم وسابّهم وناصبهم العداء، ولأنه يعتقد بأنّ الشارع هو ما يقع ناصية لمنزله وليس العكس، فقد منعهم من المرور به بالمرّة.
    ما عدا "الداهي" لكونه بهيمة وسكّينه هي المنطق الوحيد الذي معه، و"العريبي" لسبب فصاحته ولأنه شاعر له سلطة الكلمة، وبوسعه هجاءه بحيث يكرّس له منقصة لا يستطيع دفعها مدى الحياة.
    "ها ناس إنتو ديمة في كلامكم المسيخ دا! بتعقلوا متين إنتو؟". يسألهما إمام المسجد، مع غضب مكبوت.
    يجيبه "الداهي" بلغة بطيئة ومسترجلة،..
    "بعد جُمَالنا دي ضهرها يفضى، إمكن نَعَقَل".
    العريبي: نحن أحرار ومن يريد أن يذبح حريتنا فليجرّب ذبح البحر الراقد للذبح.
    "المعايش ما كلّنا ساكّنها متلكم، بنصيّح جنس صياحكم المافيهو حياء دا؟". واضح أنّ الإمام ينتقي عباراته، فهو يرى ذراع "الداهي" تبرم عكازه بين أصابعه كسَيْر طاحونة، رجل أعسر وقوي، ومشهور بتأديبه للفتوّات.
    "معايش من معايش تفرق يا مولانا"، يجيبه العريبي بينما هو ينقر على علبة تمباكه بأصابع حريفة.
    يسأله الإمام بحدّة: يعني إنت شايف عماراتنا البتنطح في السحاب، وألا شنو؟ ما ياها كلّها ويكة وتمليكة.
    "ناس الويكة والتمليكة ماك منّهم، شوف الضراطن تفاح"، يجيبه العريبي، "الداهي" طبعاً ينتظر فحسب، لا حُجج معه، فهو من ناس "أكتح" و"كَيّلوا".
    يحاول الإمام استخدام لغة خطبة الجمعة، كنوع من عدم رفع الكُلفة وادّعاء الرسمية،..
    "ظراط التفاح أنساهو، لأنّ الله لم يخلق دبرك له".
    "لكن يا مولانا دبرنا دا ما زهج من فساء البليلة"، يقهقه الحشد الذي بدأ يتجمّع لأجل الشماتة من الإمام، ما يضطر الإمام لأن يبصق وينطلق مبتعداً ومتعوّذاً.
    حيّ يا باعة الطلح، لو تقومون بجولة في أوروبا!؟
    أتوسّد كفي كيفما يتهدهد النائم، وأرى: "العريبي" و"الداهي" ينهران إبلهما بجادّة "هاي ستريت كينزنغتون" بقلب لندن، في جولة ستمرُّ من جادّة أوكسفورد وبيكاديلّي دون شك، و"حلو الكلح في السمارو ملهلب بالطلح"، تلعلع من حوش سماء لحوش ثانية...
    و"العريبي" يدوبي وينم، قول في درب قول. ويتناهى إليّ صوتُه الحاد والمستفحل من بعيد،..
    "لا حول ولا قوّة، هآ زول ما تجابدنا كتير، والله آخوانا الناس المحومرين ومقدَّدين ديل!" يهز رأسه وتصوّت علبة تمباكه تصويتتها الحريفة،..
    "يمين 3 اصطرليني ما بفوتلك منها "تِفْ"،.. يؤكّد "تِفْ" هذه بحركة طرقعة يؤدّيها بأن يحشر إصبعه في جانب فمه ويجذب حواف شدقيه للخارج، ثم يطلقهما مرة ثانية ليصطدما بموقعهما، في تصويتة تتزامن بالضبط مع كلمة "تِفْ".
    ويضيف: "يا زول ما تكتّر المجَابَدَة، لا حول ولا قوة، الخواجة دا ظنيتو أصنج".
    لا أحد أحسن من أحد، "الداهي" المنافس والصديق التاريخي للعريبي، يصنع حركة "طج،.. طج،.." بفمه، التي تُقاد بها الحمير، بمعنى تثنية لحكم "العريبي" بصناجة الخواجة، ويضيف هو الآخر،..
    "لا بوم تب، الداهي دا بوم مرّة واحدة،..".
    "غايتو ترى معايشنا بقت مَبَاصَرَة من جُمُلات حريم الرخم ديل"،.. يقول العريبي بعد أن يحنث بقسم "تِفْ". فيهز "الداهي" رأسه بطرب، وينفخ: "أوففف"، ويقهقه بمتعة طفولية ساذجة بعد نفخة "أوففف".
    "أوففف" الخرطومية هذه، يترقّى بها "الداهي" طبعاً، ويصعد بها من منزلة مدنية لأخرى.
    حيّ يا باعة الطلح، لو تقومون بجولة في أوروبا!؟
    فإنّ الرجل الأوروبي يُقَدّر الإبداع والحياة، وقطعاً لو ذاق المرأة المدخّنة سيكفر بأنثاه المثقّفة، التي تجادل في التلوّث وقضايا "ناسا" و"مير" والكيمياء الحيوية والعضوية، وسيأتي لينازعنا هذه الأنثى التي لا تجادل إلا في سعر الطلح. هذه الأنثى التي لن يهمها حَفر بئر بترول بقدر ما سيهمها حَفر حُفرة دخان، بنزين الناس أوّلاً، وبالمَهَلَة بنزين الطلمبات.
    كنت أشعر بأنّ كلّ نداءاتهم تلك تستدعيني أنا وحدي، لأشتري كلّ ذلك الطلح والكليت والشاف، فأصنع منه كمينة ضخمة كالتي يُعَدّ منها الطوب الأحمر، بدل حُفرة الدخان الصغيرة والمنزوية تلك، ثم تُجْرَد لي نساء القرية بتمامها كجَرْدية الحصاد، أكون مسطولاً جداً، ولأنّ البنقو سوط من يريد أن يجلد الهبوب، أقشط الأرض بسوطي، فتجري أنهار الخُمْرة والدِّلْكَة، وتطقطق فروع الرياحين والعطور في قنانيط أُمّها، فتبرّد لي النساء بغمسهنّ في ذلك النهر، لأشفى من نهر أعماقي، نهر الحنين كلّه، وشوق الإنسان للإنسان بإجماله وفي تمامه،..
    "العريبي" و"الداهي" ليسا وحدهما من كانا يشطّفان المكان من سماجة الإمام، وإنما أيضاً تشاركهما امرأة رائعة اسمها "دهرية". كانت أوّل امرأة تفتض عذريتي، وتجعلني أتهدهد كموج رائق عند حواف أجمل ما يسكنني من شاطئ.
    لم تكن بالجميلة مطلقاً، بل قبيحة يتعثّر فيها الحَجَر (شينة تعتّر للحجر). أجمل ما فيها صدرها، وهي تعرف هذا التفوّق كحال كل النساء، أي واحدة منهن تعرف أين رُبِط شيطانها. فـ"دهرية" في مشيتها تحاول أن تجعل من صدرها رجليها، كي يتفرّغ صدرُها لاحتضان كل الهائمين، وأهل الفقد، والموجدة، والتخلّي، و..و...
    كانت "دهرية" شُجاعة ونمرة، لا مثيل لها. التقاها إمام المسجد ذات لوثة من لوثاته بجوار الفرن، فافتعل معها شجاراً، وقال لها ممّا قال،..
    "روحي بالله، وليّة قليلة أدب، تفو عليك وعلي مِلّتك، عديمة الوليان والتربية".
    فالتفتت إليه بتحدٍّ، وعيناها تحُشّان عينيه كالمنجل،..
    "يعني شنو؟ قِلّة الأدب للمرأة رأس مال".
    "وكمان عندِّك لسان تتفاصحي؟ يا مرحاض السوق وبتاعة المريسة؟".
    "آي مرحاض سُوق، وإنت ذاتك أتفضّل بول. وعَبّار المريسة أطول من مئذنتكم، وشِن عجبك!".
    هاهنا يبصق الإمام، ويتستّر بكونه أهملها لأنه سيشتري برسيم بهائمه، يُلاحح بائع البرسيم متهرِّباً.
    عفارم عليها "دهرية"، مَنْ علّمتني أنّ القُبلة سديم لكون ابن آدم، فبها يجعل من فمه مركزه، ليدور فراغه حوله، وليس العكس. وتشرحك لذاتك، كرجلٍ تلوي الأزقة رجليه، فيستقيم المشي نحو وصولٍ داخله. وعلى صدرها اكتشفت أنّ اعتلاء المرأة بقدر ما يعني الإشراف على العالم من علٍ، يوازي النزول إلى جوف خندق، أثناء قصفٍ مجنون.
    في بدء صداقتي معها، وكنتُ حينها طالباً غريراً، وقفَتْ "دهرية" قُبالتي كهينغ واثقة. وقفتها تمنحها صِبَا امرأة تفتّحت في أوانها، واشتمّت سماد الرجل، سألتني باعتداد إغرائي،..
    "ماذا تريد؟".
    "ما يُريده الذين يأتون إلى هنا".
    "أيووة، ولكنهم يأتون إلى هنا بالمال لا بأرجلهم".
    "ومن هنا، هل يذهبون بالمال أم بأرجلهم؟".
    ضحكتْ بظرف من سؤالي، لتقول: الكلام مثل اللبان، يمكنه أخذ أشكال كثيرة كلّما لاكَه ضُرس، ولكن الواقع له هيئة واحدة، وشكل واحد. وأنت واقعك أنك لا تملك مليماً واحداً. أمشي أبْلُغ، وأشتغل، وألا أقول ليك أغترب وتعال.
    عرفتُ من كلامي معها أنها ليست أي داعرة كما توهمت. وأنها تبدو ملّمة بالكثير، ومتفتحة إن لم تكن مثقفة، والأهم أنها من النوع الذي يمكن أن يُشفق، ولكنها قطعاً ليست ممّن يمكن ابتزازهم. قلت لها بخيبة،..
    "سأذهب ما دام المال لسان الناس وأرجلهم".
    تركتني أذهب مبتعداً، والحسرة جوّاي جبل، ولكن عندما بلغت الباب الخارجي للدار، صاحت فيّ،..
    "تعال يا إنتَ، يا طالب".
    أوشكتُ أن أطرب، فقد لمحتُ لمعة الزيغ الشهواني بين درفتي صدرها.
    ولكنّها سألتني، ضاحكة، قبل أن أبلغها: معانا وألا مع مولانا الإمام؟
    تلفّت، كنتُ صغيراً، وأخشى إن صففتُ نفسي لجانبها، أن ينزل مَلَك عذاب ويقبض عليّ في تلك الساعة، تلوّت هي ضاحكة ودسّت يدها تحت ملابسي: طيّب مع الإمام وألا مع صاحبك دا؟
    انطلق جسمي ناراً، سألتها مبتسماً باضطراب: الإمام ما كفاه ناس جبريل والعَشَرة المبشّرين بالجنة؟
    قعقعت ضحكتها، كفروع شجرة اللالوب المثمرة: خلاص اتفقنا يا جميل، قانوني يقول: اكسب الرجل ولا تكسب منه جنيهين.
    تطلّعت إليّ قليلاً ثم سألتني،..
    "هل كرهتني حينما صددتك؟".
    "لا، كرهت الاحتياج، هنالك فرق بين أن يؤلمك الواقع وبين أن تكرهه".
    تعجبت من وجود امرأة مثلها في ذلك المكان، حتى شرحت لي أنها مجرد فنّانة فاشلة، كانت تود بقوة أن تصير ممثلة فانتهى بها الحال بين يديّ دهرية. وأنها كانت تعمل مع فرقة غناء إثيوبية جوّالة، فزاولت التسواح وجرّبت المدارس والمسارح وتذوّقت كُلَّ ما صادفها من أنواع الخمور الجيدة، والتبغ الجيد، والرجال الذين لم يصادفها منهم صنفٌ جيّد بالمرة.
    وبرغم ما شهدتُه بنفسي من زيف العاهرات وغشّهن، فقد منحتني دهرية في ذلك اليوم صدقاً نادراً إن لم يكن معدوماً. صدق رئيس بلدية مخلص، حمله مَنْ فوّزوه فوق أعناقهم، فكان حرصه على أن لا يسقط، أكثر من حرصه على أن يراه الناس فوق هاماتهم، للمبالغة طبعاً. فقد كانت امرأة سِمِّيرة وشهوانية تعرف كيف تفاجّ بين فخذيها وكأنّ الذي سيهبط بينهما نيزك لا رجل. لقد ضاجعتني بأوّل امرأة فيها كانت تدخرها لرجل بلا نقود. أما أنا فقد نَقَدتُها ابن آدم نفسه وبتمامه دون تمحيص أو مفاصلة.
    ومجنون أبدك يا جسد، إذ تنقض حنوطك بالبلوغ، وتُبصر منذ أن يؤرخ فيك الجنس لعَيْن... أيّما جسد هو مومياء في طفولته، لن تعمُرَ بالحياة إلا حين يباغتها الماء اللوزي، يخضور الإنسان، ومخ عظامه.
    ومنذ "دهريتئذ" مشيت الطريق، الطريق من الكمبو إلى القرية. ذلك الطريق الذي لم يكن في عُرف الناس طريقاً يصل بين منطقتي إقامة، بل يفهمونه على أنه طول قامة الشيطان الذي يرقد بين القرية والكمبو.
    الطريق الذي يُراد له أن يكون خالياً من آثار الناس ويبدو ظاهرياً كذلك، وما إن تسير عليه قدماك حتى تجد أنّ خطواتك تقع على رهبة خطوات كثيرة سبقتها. وتكتشف أنّ سودانيين كثيرين ساسقوا على طول هذا الشيطان المنبطح، وخطاهم تُشَلِّخ الدرب كلٌّ على حسب قبيلته. إنه طريقٌ لا يفصل بين عيشٍ وعيش فحسب، بل بين كوكب وكوكب، وبين كائنات وكائنات. الدرب الذي يوجد تقريباً على كل الخارطة السودانية، وخصوصاً مناطق الإنتاج والمشاريع الكبرى. حيث يقطن الكمبو العمال تحديداً والفقراء والنازحون من القبائل الزنجية على وجه العموم.
    هذا الطريق متحكّم ونافذ في أقدار الناس هنا، فبإمكانه إسالة الدم وتخمير الجو برائحة البارود، تغيير الوصايا وتبديل حصص الميراث، نقض عقد أو صُلح أو انتزاع أرض من رجل وتقديمها لآخر. يمكنه طرد أيٍّ كان من بيت وُلِدَ وخُتِنَ فيه، وربما من البلد كلها التي حدّد فيها البقعة التي سيضع فيها جنبه للموت، فكل حيّ هنا يعلم أنّ قبره ذراعين، ثلاثة، أو كذا خطوات يمين أو شمال قبر جَدّه فلان.
    أما القرية التي تكون مناظرة للكمبو على الدوام، فهي لأجلاف العرب من باعة السكّر والشاي والقديد. مصلّو الجمعة نهاراً، الذين هم في الحقيقة منتسبو الكمبو ليلاً.
    إمام قريتنا كان يدعو على الكمبو بالخاسفة كلّما وجد لسانه رطباً وبداخل فمه. كما كان يتهم "ضوّينا" المؤذن بأنه رجل سُوقي وبكّاش، يطلس الناس ويداهنهم. أما الحقيقة فهي أنّ ضوّينا قد كان رجلاً سمحاً وفيه نُزوع للمشاورة، يهتم بطرح آرائه في شكل مقترحات يسعى لأن يجمع لها الموضوعية قبل المناصرين. يقف دائماً مُقَسَّماً بين رجل مهيب ورجل طاعم اللهجة. بالتساوي. عين تُطل من عالم جليل، وأخرى تُطل من عالم ضحوك. وجهه لا يفتش وإنما يتنَقَّل كمدرة القارب، يعرف عمق الناس وضحلهم أينما التفت. بادئ ذي بدء ليقدِّر نبلهم ويجلّه، وثاني ذي مثنى ليقوِّم اعوجاجهم بحنان. هو لا يترصّد ولا يثأر ولا يعظ. إنه شاهد الخير فحسب.
    كان الإمام لئيماً ولطينة بني أُمية، يقطعه الله. فإن دَرَج على الترويج إلى أنّ ذلك الطريق الذي يصل بين القرية والكمبو طول الشيطان الذي يرقد بينهما، فلطالما سعى لترسيم حدوده فوق الناس على أنّه قامة الملاك الذي يقف بين القرية والسماء.
    الغريب أنّ ضوّينا لم يخلُف الإمام بعد موته كما هو متوقّع، بل خلفَه ناظر المدرسة. ليحلّ صنف رجال الدين الحديثين هؤلاء. الذين هم أصلاً ذلك الدجال القديم، بعد أن أُضيف له القليل والمضلِّل من معرفة الحساب والجغرافية، والكثير من الخبث وجداول الضرب لتجويد حسابات لصوصيتهم. فنوعه هذا هو بالتحديد ما يدفع سانتينو لمقولة: الله يعتبر المشتبه فيه الأوّل، في الجرائم التي تُرتكب باسم الدين.
    ضوّينا كان حلو اللهجة وطاعمها، ولأنني مفتونٌ باللغة والقواميس منذ صغري فقد كنت أحبُّ حديثه، خصوصاً حينما يحكي عن مذبحة الإمام الحسين، ولطالما جسّد لي حضرة الإمام الناظر بني أُمَيّة بأنوفهم الطويلة والقاسية، والخُرج الكبير الذي كان يجمع فيه الفاصوليا والفول والمحاصيل من أناس أفقر منه، وتحوّلت خطبة الجمعة في عهده من شتائم الإمام الراحل، إلى هرطقات بهلوانية تشبه كثيراً حصصه في مادة الجغرافيا، التي يتناول فيها صناعة الأفّاقين من بيض جنوب إفريقيا.
    ضوّينا الرائع كان متواضعاً، وعيناه الصوفيتان يسكنهما على الدوام انعكاس نخلتيه اللتين بجوار الساقية، وحتى حينما يعود من حقله ويفارق ساقيته يجلس إلى الناس وعيناه تُطلان بانعكاسهما وظل نخلتيه نفسه. فلم يكن يتحرّج مطلقاً من القدوم لدائرة شجرة اللَّبخ العملاقة بقرب النهر، حيث اعتادت أن تنزل على الدوام المجموعة الثانية التي كانت تستهويني من الباعة، الغجر، وابنتهم "سنيّة" على وجه الخصوص.
    الحَلَبْ "الغجر" يسيحون في البلاد بطولها، ليقوم الرجال منهم بصيانة الأواني وقِطَع الأثاث وغيرها من الأغراض، أمّا نساؤهم فيقمن بتجارات صغيرة أهمّها بيع أدوات المكياج والأواني المنزلية والملابس.
    قلت لوالد سنيّة كأنّي أرمي بشِباكي في النيل،..
    "يا عمّنا إنتو ما عندكم لا أهل لا بلد؟".
    "كيف يا ولدي!؟ أمّة محمد دي كلها أهل منو؟ وأرض الله دي من حدّها لحدّها الدّخلها معاه في قبره منو؟ دهور بأكملها يا ولدي وأنا أمتلك خيمة لها 12 وتد، لم ينبت أحدها في أرض بلد، ولم أغرسها في مياه بحر. دائماً معي، ودائماً أجد لها الأرض والمنزَلة. نحن يا ولدي بلدنا موسم مش مكان. أما كلام أرضنا وبلدنا وحدودنا دا كلام ناس حكومة وبَسْ".
    فليفهم أبو سنيّة ما يشاء، من كون ملكية الأرض كمرادف للوطن، ضلالٌ كبير وغيره، فأولئك قوم الوطن عندهم رديفٌ على حمار. أمّا الذي أفهمه أنا، فهو أنّ النساء من جنس سنيّة ابنته أكبر فكرة ضد الوطن، لستُ مراهقاً صغيراً ليخدعني شاعر ما ببيت شعر يقول فيه إنّ المرأة وطن مهم ومثل هذه السذاجات، كلا، أنا مراهق متمرّس، يعرف أنّ المرأة الجميلة لدرجة الإبهام، ما هي إلا الحنين في تجليّاته العضوية، فانظر بهذا المفهوم بُعد امرأة كهذه من أن تكون وطناً.
    سنيّة لم تُخلق من الشِّعر الداجن لتخدَع أحداً بالمواطنة، بل أنزلوها من ظهر الشعر غير المطيَّع أبداً، جاذبة دون حد يتوقّف لديه الخيال. كانت رسمة ولم تكن بنتاً، قبضوا عليها من شِق ماد به النخيل في تيه فانزلق منه.
    بالأمارة، كنتُ أجمع صور الجميلات من كل غلاف، وأُكدّسهن لحد أن ضاق بهن المنزل. ولكنني لاحظتُ أنّه بعد فترة تنقلب الجميلة لمجرد فتاة لا أكثر. أحياناً أعتبر نفسي قد أخطأت التقييم، وأحايين أخرى أتأمل هذا الاستهلاك نفسه للجمال، وأقول لنفسي لا بدّ أنّ للإنسان مَلَكَة تعمل على استئناس الجمال! وإلا قتله الحنين. وكنتُ أفترض من ناحية أخرى أنّه لا بدّ من وجود جمال فذ ووحشي، لا يمكن استئناسه بالمرة، لأنه يقع في بلاد الحنين بالكامل، فما من مقدرة هنا بوسعها بلوغه كي يتم لها استئناسه بعد ذلك. وسنيّة كانت ذلك الشاهد الحي على صدق نظريتي، كانت الجمال الوحشي كما لم يُقدّر حتّى لخيال البشري أن يمتطي ظهره مطلقاً.
    أتذكّر جيداً حينما بَرَّر المرحوم حسنين طلاق زوجته بقوله لحمدان الطبّاخ،..
    "أنا رجل محكوم بالموت كما تعرفون، لتأخذ حرّيتها، فهي بأي حال تزيد على المرأة ناقصة العقل والدين بكونها ناقصة ذوق وجمال".
    ضحكوا ساعتها، وأجابه حمدان،..
    "كلهن يصبحن هكذا بعد فترة، ولكنّا نُكْمِلُهن بالصبر وغض البصر". ضحكت معهم، ولم أقل لهم إلا "سنيّة"، فأنت لن توافق على نظرية سوى هذه إن لم يُقدّر لك أن ترى "سنيّة".
    كانت قانوناً من قوانين الطبيعة في حد ذاتها، القوانين التي تُوجد بدافع أن تَحْكُمَ بناءاتٍ، وتُفني غيرها.
    وكنت أنا أيضاً قانوناً في المقابل، أعرف حكاية الجسد وشبح الجسد من مبتداها لخاتمتها، فمع أحاجي كـ"سنيّة" أقود حواراً مختلفاً، في مناطق الضَحَل المليئة بالصير، بلغة شاغفة التطفّل أكثر منها ذكية، لغة رحيمة مع غربة الغريب وحواجزه.
    "وجهكِ يبدو مألوفاً بالنسبة لي. قولي بس شفتك وين؟".
    "أنا؟ وين يا وِلْدي؟"، قالت بلهجة الحَلَب، وأردفت،..
    ما أظن أنا، تكون واحدة تانية".
    "لا، أنا لا أقصدك أنت، ابنة الحَلَب، وبائعة الصيني!".
    مع إجابتي هذه أخرجت عينها التي تتأكَّد بها من كون الناس مجانين أم لا، فأكملتُ على الفور: أقصدك أنتِ، البنت الحلوة وبس. يعني إنت كان لازم تشتغلي بنت حلوة وبائعة؟
    فأطلقت "سنيّة" ضحكة غير مترحّلة، ضحكة كدَقِّ وتد الخيمة في الأرض.
    "أيوة أيوة، دلّلني بالكلام الحلو، أصلها الحلاوة دي شَغّالة عند ألسنتكم، مش عندنا". ردّت وهي تُدير ابتسامة من خلف قمر وجهها بكامله، وبعد تفتيش فمها الجميل، لإخراج بسمة خاصة تدخرها لمن يتفاوضون معها في غير الأسعار. ربما أحسّت باللعبة الودودة القادمة.
    وهكذا لعبسة بعد لعبسة حتى صارت لي معها علاقة بطول أسفار غجر الدنيا كلهم، وإن كانت كالأنهار الموسمية، تمتلئ وتفيض مع موسم مجيئهم إلى قريتنا، وتذوي وتتصحّر أوان غيبتهم.
    لا زلت أذكر أوّل لقاء جسدي كان لي معها. أشّرتُ لها من بعيد، وأشّرتْ لي هي بماعون العَلَف، فتبعتها. تظاهرتْ بكونها ستعلف الحمير البعيدة بعض الشيء عن الناس، وأنا جلست لظل شجيرة قريبة منها بدعوى أنّ هنالك شوكة في قدمي.
    كانت "سنيّة" أجمل حكاية رافقت الغجر من بين كل حكاياتهم. حتّى المسترجلات قليلاً من نساء قريتنا، كنّ سيأتين لينخسنها ويغمزنها ويتغزّلن فيها، كما رَغِبت "الروضة" بائعة البروش، كانت أكثر شخص ينافسني على الفتيات، لأنّ معها تصريح الدخول لجميع أماكن تجمّعات النسوة. كانت امرأة مشلّخة ووسيمة بشكل لافت، تتحدث دوماً بأرخص لسان شوارع دنئ، تحاججها امرأة حول "بِرش" في السوق،..
    "هوي يا الروضة، إنتِ والله إلا كان دايرة تغشّيني".
    "شوفي يا وليّة إنتِ، هسّع في ذمّتك صبغة البرش دي بتاعة عشرة ريال وألا عشرة جنيه! أقوم أنيكك؟ الدنيا براها حر".
    تنكمش المرأة حين تقوم الروضة، ولكنّها لا تهرب، فكل النساء فيهنّ تلاعب ما، تتضَحّك المرأة، لأنّ الروضة تقول،..
    "أقيفي أوريك نوع السعف"، طبعاً لا سعف ولا يحزنون، "الروضة" تميل في اتجاه الجوالات المرمية في الخلف، بينما تضغط بعضوها ردفي المرأة الطريين، ويدها تفعل أشياء في صدرها، توزّع المرأة المستلذة كل تلك الحركات الواضحة جداً على،..
    "هَيْ يا يمة شوالات سعفك بعيدة، كان تجيبيها في وشك بي هنا". لتقول لها الروضة مقهقهة،..
    "يعني إنتِ كايسة الراحة لي منو فينا؟".
    مع بدايات ظهور سنيّة وجمالها الفذ، كنتُ حاسماً مع "الروضة"، فقد سمعت بكونها بدأت تحوم حول "سنيّة". لمحتها تحمل سعفها من بعيد، فربطتُ حماري بجوار الترعة وأسرعت أقصدها بينما طوريتي في يدي بطينها، وبدون مقدّمات،..
    "شوفي يا الروضة، إنتِ ما عندك ذِب، صاح؟".
    "هوي آود التوم، قول بسم الله، وارعَ بقيدك!".
    "بطّلي حركاتك دي، واسمعيني كويس، والله،.. ووالله، أشوفك وألا أسمعبك قرّبتي من لبخة الحلب دي، إلا أزرع ليك الذِب الدايراهو دا في رأسك، وبالطورية أم طين دي، شايفاها؟".
    كانت الروضة امرأة لها كلمة: "مبروكة عليك"، قالتها كوعد وأنجزته برجولة.
    أصبحنا بعيديْن عن أعين الناس، وكانت سنيّة تعلف البهائم، بماعون فارغ، بينما كنت أنا أستخرج شوكة لم تدخل إلى جسمي بعد، وبدون منقاش، فتواعدنا مساء ذلك اليوم لدى صفصاف الشاطئ.
    كنتُ منتصباً لها بتمامي، قرب النهر، ومن قبل مواعيد لقائنا. أشعلت سيجارة بنقو غليظة وفاهمة، بوسعها تقريح شفاه حتّى ذلك النهر، وإصطاله ليخرج مهرجلاً بين البيوت. بنقو الجنوب من صنف "الكافن"، حين تتلقّاه تتلقّى المعرفة كلها في جرعة واحدة وكبيرة، فليس بمقدرة أي كلام بعد ذلك أن يُعَقِّد نفسه بداخلك حتّى يبلغ قامة السؤال فيك، يُعيد صياغة الصور الواقعية ويؤطّرها بضباب لذيذ يُبرز عمقها، يُحمِّض منك ما يُحمِّض،... يشذ بالحياة الغريبة كلها نحو مألوف منسي بداخل الإنسان، يستأنسُ فيك ما يستأنس،..
    دخّنتُ ودخّنت، حتى رأيت الشمس ترفُّ فوق المياه، كوزّة تُريد أن تبترد. وإلى أنْ تشقّق النهر عن فتيات كُثر، يرتدين منامات رهيفة. فإذا ما صرفت بصرك باتّجاههن، لا تُبصرهن كتحريري عَيْن، وإنما شفهياً وبكل لغة.
    صرفت بصري ناحية النهر من موقعي ذلك، فوجدته قرمزيّ اللون، زِدتُ من تركيزي وهِمَّتي كي أتيقّن منه، فلامسَ عينيّ كوجود رائق من دلكة خالصة.
    الزمان والمكان استحالا لسجسجٍ من عناق، ودغدغة، وتورّد خدود، وانفتاح وانغلاق غمّازات وأرداف.
    ضوء الشمس الشفقي يشطّف بلمعه وجوه الفتيات السُمر، فيأخذ تلك الوجوه رويداً رويداً إلى حيث جوهر الإشراق وكلّياته الخفية. ثم بدأ غناؤهن بكلمات تتراكب أمامي عينيّ كقطع ملوّنة من نوع دُمى الأطفال التركيبية.
    أخذتُ أُردّد معهن كلمات الأغاني، فأحسستُ بنفسي تتحدّث لغةً سَبَقت قومها للتحضّر بعصر جيولوجي كامل، لذا ظلّت بِكراً وطي ألسنتها لدهور، وهاأنا أوّل المفتضّين.
    فالإنسان حين يصطل يسد منابع اللغة البدائية فيه، ويفتتح مجاهل للكلام من حيث لا يرتهن للّسان.
    حينما بدأن البرود بالدلكة كنت أتطاير أمام نفسي مثل قطع الكلام تلك، وأتراكب مع بعضي بعضاً في مليون صفة وهيئة وهيئة.
    لاهَ برقٌ فضي في علياء ذلك العالم المثير ثم اختفى، وإن كانت أشتات ضوئه لا تزال تقشط نهر الدلكة ذلكم في تيه. فتبتلُّ منامات الفتيات من جديد، وتقطر ندف الضياء برفق، حتى تلتصق بأطراف شعر الفتيات في شكل بلّورات صغيرة، وأيضاً في شكل حِزم كبيرة بعض الشيء، تتراءى من بعيد وكأنها من جنس الشرائط اللامعة التي يُصفَّف بها الشعر.
    أجسادهن كانت حرباً معمارية، فحين ينثنين.. قوساً، وحين يستقمن في وقفتهن يصرعني سهم. أمّا شعورهنّ فكانت سوداء فاحمة، وطويلة حد الدنيا تغيِّم. انغمستْ في نهر الدلكة ذلك لدرجة الغرق، وتغطّت بضفاف من أرداف الفتيات. كنّ ينفضن شعرهن بغنج، فيطير فَراش الرذاذ المعطّر ويدس نفسه حيث تندسّ الخَمْر. ثم تضحك واحدة منهنّ فالثانية، ويبدأ التراشق المَرِح بتيار الخُمْرة الذي يجري من تحت طبقات الدلكة بخرير يصطل الروح.
    اجتاحني احتياج شهواني بحجم يفوق هياج أنوثة كلّ الفتيات الخائضات في النهر. فشاطئتُ نهر الدلكة، قاصداً الفتيات، بخطوات لا أكاد أنزعها عن الأرض حتى تنمو شجرة حناء أو صندل على الفور حيث موطئي، بلغت عالَماً من أيادٍ بيضاء، حنطية، وسمراء، يمتدّ إلي بأكمله مستغيثاً،... وما إن بدأت أخوض نحوهن...
    نادتْ هي، وقطع صوتها الواجف وساوس ذلك النبات السلطان، كانت تقف أمامي من بين بوادر الظلام الذي بدأ يحل، ومن بين أصقاع البنقو التي أخذت تنقشع.
    "تعثّرتْ على أرض النهر الحرشة وهي في طريقها إليّ، وتلقفتها أنا بسرعة لتكمل تعثرها وباقي وقوعها في صدري. فلاقتني وأنا مواقيت المواسم كلها، يميني الشتاء، غربي الصيف، "اجلس يا ربيع"، "غُوري يا أم مشير"، أنا يوم اليوم وخميرة الدهر.
    انحنيت فوقها، تحملني ساقٌ تحفظ لي توازن ما بعد الوقوف/ المشي، وعلى مركزي لا على رقعة أرض أو أي مُعْتلَى آخر.
    كنتُ كالعتّال، العتّال باليد الحنينة والساق الأحن، لأُنزل من فوقها الهموم مطمورة وراء مطمورة، وسهر الوحدة ليلة بعد ليلة.
    أخذتُ بكامل راحتي اليدين، حلمتيها الورديتين في شفاف، إسكابتيّ ماعون الحياة، ثم فتلتهما مترفّقا مترفّقا، مثل لف ورق التبغ والكافن، فغزاني إحساس أُشَني، وجذبتني طاقة الحياة بين عُمر وعُمر، حيث المشي بالساق الثالثة والتحليق لزيادة المحرّكات.
    طرحتها على العشب الطري برفق، برفق، بهدوء وكأنني أخشى عليها أن تندلق، مباعداً بين بدايتها ونهايتها، ثم جثوتُ بين فخذيها كمزارع يريد أن يبدّد عناد أرض شاسعة، بطورية وحيدة؛ وبضربة واحدة فقط؛ يُريدها أن تُسوَّى وتُزرع وتُحصَد. مكثتُ بين ضفتيها طويلاً، حتى خشيت أن تُداهمني صرخة طفل وأنا في ذلك المكان.
    انتبهت إلى أنّ عرقها أخذ ينتح كندى الأوراق، ثم فحنا بعبق أشجار الحناء والقرنفل، والفاكهة المتبرعمة لتوّها، نكهات كثيرة، من اللّبان واليانسون والأناناس واللافندر، يا رب الكلوروفيل، الأرض ينكحها الجدول، والمرأة يُفلحها الرجل.
    لقد احتلمتْ كل مسام جسدها بالخروج، وغدت كل شقوق الروح منها حُبلى، إثر ذلك الاحتلام.
    تشابكنا والتقت جذورنا عند خصب مناطق التقاء التيارات.
    كنتُ أهمزها من جانبها، هاهنا موضع للبهجة وأسارير غالية، البهجة دفينة بجانب الإنسان، وحين تضحك بالكامل أمصّها من فمها، يصبح نصف الضحكة بفمي وأترك نصفها الآخر بفمها، ويرفس المرح بيننا كسمكة صغيرة معلَّقة من رأسها وذيلها بين فمّينا، هذا ما يُجَمِّع شتات الأرواح في مدارها الواحد، وينظمها في خيط عقدها وتتابعها الأزلي.
    تذَكّرت مع الراحة المبهمة التي شعرت بها، أنّ الناس من أرضنا يُلقِّبون "المطموث" أيضاً بلفظة "الشيء"، أمر عُجاب كما ترى، فهو بذلك يصبح الأمر الوحيد الذي يُعَرَّف بالتنكير ويحدَّد بكلمة مطلقة وماهلة. همست في أُذن سنية،..
    "ارفعي رأسك لأرى عينيك".
    كانت تتأود بين يديّ كدمية من العلك، على وجهها ترتيب المحاريث وأسارير أخرى غالية، أجابتني بما يتوق لأن يكون ندماً: "لا بُدّ أنني مخبولة". أدارت وجهها ليلمع بوهجه في جهة أخري كصفحة نهر كانت رائقة وعَنَّ لها خاطرٌ آخر، خاطر انقلابي، من جنس وميض لروح تتألّم في العميق، سألتني بلهجة ندم متدلّلة،..
    "ألست خائفاً؟".
    "أبداً لا،...".
    "ولا حتّى ندمان؟".
    "اسمعي يا سنيّة، أنا هنا بالتحديد لكي يتحرَّر قلبي من أمراضه".
    "ولكننا نتعذّب بعد هذا"، تحسستْ بيديها يديّ، فقلت لها: "ولكننا قَبْله أيضاً كنا في عذاب".
    نهنهتْ: "لقد غلطنا، أشعر بذلك، وفي نفس الوقت بالرغبة فيك مجدداً".
    بالنسبة للفليل، مراجعة حالة كهذه في رأسه لم تكن تعني المحاسبة أبداً، بقدر ما تعني اجترار المتعة، قلت ويدي تمغنط باللذة الذي كاد أن يفيق من خَدَرها،..
    "الغلط بدأ يوم تلصَّص ردفان صغيران لصدرك. الجسد يغلط غلطة كهذه في النمو؟ يا لفداحة الأمر، ستنبني عليها جمهورية من الغلط. أمثالي لن يصححوا الدنيا ولن يقترحوا أنفسهم مُعَدّلِين أوضاع. لتغلط الدنيا على كيفها، ولنغلط نحن من بعدها على كيفنا. نمو الحياة وابتناؤها من بدأ لعبة الغلط هذه، بَذْر الحياة وتبرعمها يحتاج لأغلاط كثيرة".
    ثم سرحنا،.....
    تذكّرت علاقاتي بنساء كثيرات خسرتهن، ولم أحزن أو أندم على أي واحدة منهن مطلقاً، إنَّ خسران أي امرأة هو في الحقيقة شاغر مكان لكسب غيرها، إلا شاغر سنيّة هذه، بل هو مخزنها وليس شاغرها، مخزنها الذي سيبقى في انتظار موسمها القادم على الدوام. لقد سكنتني إلى الأبد كوسواس لذّة تلعاب، تنهرها فيركض ظلها فحسب، أمّا هي فتلبد بين لعبة الشيء وظله.
    سهرتُ لجانبها حتى الصباح، ولم أغفُ لثانية واحدة، ولا عجب، فالسهر بقرب امرأة عارية عند الفحل تُمباك عين. عانقتها بشرَه وجنون حتّى تحوّلت سلسلتها الذهبية إلى عنقي دون أن نشعر. عانقتها لآخر شبر يرتكز عليه المطموث مبلّلاً كأصبع لقارئ يود تقليب صفحات المرأة جيلاً بعد جيل. سعينا معاً على أنهرٍ، وخيل، وبُراقات، ورواحلٍ كثيرة ممّا نعلم، ومن مجاهيل، فالمطموث عندي ذو سُرَى وأكثر من موصِّل جيّد بين بدنين.
    تلاشينا في تركيبة واحدة وفي غير ما شكل أو صفة، فنحن لم نكن نتلاحم بوضع جانبي، ولا حتى قائمٌ أحدنا على الآخر. لقد اصطلحنا أيْنَاً من وحينا في تلك اللحظات اللصّة، التي تدفعك للوقوع دفعاً، وحين تنفصل عن توازنك ولا يصبح أمامك خيارٌ سوى الوقوع، تسبقك وتسرق الوقوع،... خليك هنا: بين أعلى أرض وأنوَر سماء.
    لم أصحُ إلا على صوت المؤذن ضوّينا وهو "يتكّل فَتَر الأرض بي حيل السماء". صوت الأذان غار في أعماقي كالمدية، تمادى، تمادى، وأنا أتمدّد وأتطاول كالنفق، فلم يلبث أن تجاوزني بعد أنْ تردّد صداه بداخلي لأزمنة لا أعرف قدرها، ثم امتصّته آفة ما، كما تمتصّ الحقول الرطبة دويّ البندقية.
    لقد أكسبتني ليلة البارحة شيئاً محسوساً ولا يمكن شرحه، كملكة شعر أو رسم، أو طريقة سريّة للغناء. شعرتُ وكأنّي تلقّيت عناقاً من نساء الأرض كلها، وألفيتُ أنّ كل ما بي من أسف وحزن وحنين مجهول، قد شربته أولئك النسوة أثناء احتضانهن ومصّهن لي.
    وهاأنذا سجين مكان لئيم، ضوء الشمس سقط ههنا فتسوّس، لأنه لم يجد الغجرية الشفّافة التي يعبرها. أُراهن على أنّه لو زُرعت شجرة لبخ ههنا لأصبحت تُلقي بظلالها في جيب، كما يفعل الناس بنقودهم. هنا مكان ضد أن يُقيم الغجر وضد أن يترحّلوا. ولكني سأبحث عن عالمي في هذا المكان داخل الشق النسوي النائم بأعماق الرجال، سأُوقظه، فكل رجل يمكن تعميره كماكينة السيارة ليلعب عُمْرَين من حياة وظيفته الواحدة، ولن أكون مغفلاً أبداً، فالمغفل لن تسوءه الدنيا بقدر ما سيسوء هو نفسه.
    قلت لمكاشفي صباح أحد الأيام، والهواء يخضّنا بذكرياتنا وشغفنا الهائم نحو لا شيء، كجريد النخل،..
    "لِمَ أنا شهواني يا شيخنا؟"
    وعدّلها هو الإنساني الكريم، ليُلحقني ببقية البشر، ولكي لا يصنّف نفسه بدرجة ثانية في مواجهتي،..
    "نحن شهوانيون لأننا لا نفكّر إلا في أنفسنا". وضحك بلطفه المعتاد، وسألني برغبة حقيقية في التآنس،..
    "ألم تحب امرأة يا الرضي؟".
    لم أُجبه، بل طاردت ردّه السالف بقولي: "ولكن هناك شيء سيغيب عنك، إن لم تلاحظ أنّ الشهوة في الأصل جزئية عطاء، وليست أنانية بحتة". نظرت في عينيه الوقورتين وأضفت،..
    "ابن آدم ليس مستودع الروح فحسب، بل كله مستودعات، و...
    ولكنه قاطعني قائلاً،..
    "المستودع الذي في صُلب ابن آدم على وجه الخصوص هو مستودع البترول، ومن ثَمّ الطاقة أو الحرائق. أما بالنسبة لشخص مثلي فبوسعه العثور على طاقة من خلال أشياء جِد بعيدة عن مفاهيم مستودعاتك هذه".
    شعرت به قد كَرِه التفلسف في ذاك الصباح، ومعه الحق، فكل مسجون تافه منّا تخطر له فكرة ما، إما أن يأتي ليضجر بها مكاشفي أو يذهب بها إلى بشرى محمود. امتثلت الصمت. أما هو فقال لي،..
    "رغبت في استفسارك عن شيء، لو أمكنك أن تصارحني".
    "لك ما تشاء".
    "هل سبق لك أن نبشت قبراً؟".
    لم أكن أتحرّج من مكاشفي، ولا من موقفي نفسه تجاه وجودي، ككائن ممثّل للحياة من طراز أول، ولن يتوانى عن جَرّ الحياة من الضفة الأخرى للعالم الثاني، عوداً بها نحو هذا العالم، لو كان بوسعي فعل ذلك، ولكنني تحرّجت فقط من بعُد المسافة بين نظرتينا تجاه الموت وداخله. قلت له بلهجة اجتهدتُ كي تخرج بسيطة وثابتة ما أمكن: ذلك حَدث معي يا شيخنا، ولكن مَرّة واحدة فقط. سألني باهتمام تعَجّبت له في دخيلتي: كيف؟ أو اروِ عليّ ما حدث.
    كان هناك رجلاً يلقبونه "الشالع" يا مكاشفي، لشجاعته وإقدامه، بالرغم من ضآلة حجمه وقصر قامته. لم تكن تربطني به إلا معرفة طفيفة، وكان يشتغل في مجال البناء، مع عمل إضافي بتحضير المياه والطوب في المقبرة لو كانت هناك وفاة، كما اعتاد الناس أيضاً على مناداته بـ"عزرائيل" لأنّه الأمين على مفاتيح مخزن أدوات الحفر الخاصة بالمقبرة.
    كنت أُدخّن بجوار الطاحونة الفوقانية والدنيا شبه ليل، يوم ماتت "نعمة" الأرملة الجميلة. فمرّ بي "الشالع" وهو يحمل بعض أدوات الحفر، وحيّاني بتحدٍّ أو بإصرار ما اعتدت عليه منه، كنت أُقيّمه فَجّاً وساذجاً لا أكثر، ولكنه توقّف ونادى فيّ بصوته الأبح والمنخور،..
    "ود التوم، المطيميس، مصيّدلك لبنيّة وألا شنو؟".
    جاملتُه أنا من قِبَلي: "الليلة سوقك عاد، عزرائيل عارف ما عندك حق سماية، وألا ما ياهو؟"، كانت امرأته قد وضعت مولوداً لتوِّها.
    "بصّح والله، عارف ما عندي حق سماية، وعارفني متوسِّد الكَرّاب"، قالها وضحك. استغربت أنا عبارته الخاتمة، هو سيجني بعض جنيهات من أهل المتوفية نظير خدمته في الدفن، فيسمّي بعائدها مولوده، ولكن "متوسّد الكرّاب" هذه تعني أنه يلتحف سريره فحسب، ولا ينام فوق زوجته لأنها واضعة، ما معنى ذلك؟ ما كان ليفوت رجلاً مثلي الإيحاء الجنسي لعبارته ورنّة صوته المحظوظة التي قال بها ذلك. اقترب مني أكثر وقال لي مكشّراً بأسنانه الصفراء،..
    "إنت آود التوم زول دِلكة وخُمرة ساكت؟".
    أوليتُه اهتمامي هذه المرة، فسألني،..
    "جرّبت السعوط المتخمّر لحدي ما عفنته تطقطق زي كراع الجرادة؟".
    طبعاً كنت أعرف ذلك، كحال كل الكيِّفين، كلما كان السعوط قديماً زاد مفعول تخديره، أحياناً كنت أتركه حتّى يتعفّن فبذلك يصبح ألذّ وقوياً كالشراب. لم أكن أعرف النيكروفيلية واتجاهاتها بالطبع، قبل أن يشرحها لي كمال هنا، القراءة العكسية للأشياء، الأبواب الثانية، ليس عطر المرأة ما يهم، ولكن رائحة الآدمي منها، الإدراك للجمال بعد تشريح وتذوّق القبح، الخلود للراحة بعد تلقي الألم لدرجة امتصاص مفعوله، تذوّق الدم بوصفه "الوالدين" للُعاب الجنس، تذوق اللحم لصد السعر المختبئ خلف كل نزوة.
    لَمَح "الشالع" في عينيّ، تحت الضوء المتسرّب من الطاحونة البعيدة، أنني فهمته جيداً. دَقْ، دَقْ، دَقْ، صوت الطاحونة، في رأسي وفي فضاء الليل البكر تناهى إليّ آسراً، ما يدهس القمح والذرة ويؤمِّن الحياة، بطَق الحجارة وتصادمها. قال متحرّشاً بي،..
    "فلاحتك بس في النهود أمّات حليب".
    راهنتُه على الفور: أنا معاك الليلة في أمّات دود، تَنْقد الرهيفة".
    يا لبرودة دمه، قصد بي داره أولاً ونادى على زوجته من فوق الحائط، فجاءته أخته: لِمّي السُّكّر والدقيق ديل، قولي ليها الصابون بجي أجيبو من دكان التعاون.
    ثم توجّهنا ناحية المقبرة،…
    "لو خائف أرجع، الشغلانية دي فيها وسواس". اعتقدته يقصد أنها ربما تؤثر على نفسيتي سلباً، فأجبته،..
    "لو فيها موت ما برجع".
    "لا أنا قصدي، حلوة ولذيذة، سيدها تاني بحرس المقابر دي لي ديمة".
    لم أرد عليه، أخذ هو يضحك، أزعجني بكونه يضرب بعصاه على كل شيء نمر به، أردته أن لا يُحدث إزعاجاً فيلفت إلينا الأنظار، بالرغم من كوننا تجاوزنا دائرة الآهلين. ثَبّتُ عصاه في إحدى المرات ففهم قصدي،..
    "ما تخاف، أنا سيد الناس الميتين ديل كلهن، وكمان الحيين الإنت خائف منهم ديل، لأنهم برضوا ح يموتوا، خذ راحتك وما تهم". يُريني حدود أملاكه المختل، ويعزمني على التصرّف بحرية.
    عندما وصلنا وجدته قد رتّب كل شيء،…. ضربات معدودة بالفأس، في مجارٍ خبأها أصلاً وبحنكة، وهاهو يستعيد نعمة، يضحك،..
    أنا تهيّبت الموت فعلاً، دعاني باستفزازه،..
    "قَرِّب آخوي، أسهل من شغل الحمير، لا لفخ، لا فقعنا بيضتك".
    يستشيرني: أنا أوّل وألا إنت أوّل؟
    "لا خُذ راحتك"،…
    ابتعدت عنه قليلاً، أعرف أنه لن يأتي أحد إلى هنا، ولكنني تشاغلت بكوني أُراقب الطريق، لأراجع فكرة مشاركته، أو الإحجام!
    كان يغني، وكان رأسي يغلي، انتهى وجاء ناحيتي،…
    "قرّرت يا بتاع الطالبات؟ وألا نخلي الوليّة تتوكّل؟".
    لم أتمالك نفسي من ضحك متخوّف، وقلبي يضرب،…
    "راقب،…"، وتوجّهت ناحيتها، لم تكن مختلفة كثيراً كما كنت أتوقّع، كانت امرأة جميلة في حياتها،..
    رائحتها كانت نفّاذة وشبيهة برائحة موقد الكيروسين إبّان اشتعاله، أو رائحة النار في حطب مبلول، أكثر ما استدرت حوله مراراً ملمس أوردتها، وقريباً من سُرّتها،...
    شعرتُ باكتفاء مكاشفي لدى هذا الحد، فأكّدت له: "لم أُكرِّرها يا شيخنا".
    إذ لا بدّ أن نتعاطى المرأة كقصيدة، وأن لا نقترب منها كشيء يُكال أبداً، فالمكاييل لها بداية ولكن لا آخر لها. والجرائم الجنسية تحدث لأننا نريد من الجسد ما هو أكثر، مثلما أنّ الكوارث البيئية تحل لأننا نريد من الأرض ما هو أكثر.
    علينا بالاستشفاف، فالكل يريد النفاذ إلى سكينة عميقة، عبر شيء يمضغه، يعلكه، يتذوقه، يدركه عبر اختبار شكلاني،.. نُريد ذلك من أجل القرارة، إنه جوع أزلي منذ التفتّق القديم، يسعى للعودة والالتحام عند كل صيرورة من صيرورات الجسد، ولدى كل لفّة أو منحنى من تعريجاته ونوافذه، كُن مثلي إذن، شاعراً أو متصوفاً برّاني، لأنّ الشروع في تعاطي الجسد بالجسد لا ينتهي إلا به، وبتدميره في النهاية، ولن يتحقّق لنا تَجَابُه الكيان الداخلي الممتع إلا بروح تصوُّف بَرّانية مرحة.
    وقفت في ذلك الليل، أو قُل انتصبت ذكراً للمدينة النائمة. تسيطر عليّ رغبة صارمة، في أن أكتشف بأسفلي الأمامي، كلَّ ما هو أسفل خلفي من هذا الوجود. أنا الكائن الغريب، الذي أمطره غمامٌ تجمَّع من ماء الرجل، فنزل للأرض دوائر دوائر، مثل فقاقيع الصابون، ليختلط بأشجار الصندل والطلح والكليت والشاف، ولينبت معها بذرةً بذرة، وعوداً عوداً، في كل مهبل بور، وكل دبر مثل طريق مقطوعة، لا تعبرها راحلة ولا غرباء، وأنا الغريب كلّه والغربة كلّها.
    كمال يقول: "الإنسان كالريح، ويأخذ وجهته من الفصول المتغيّرة".
    وبشرى يقول: "الإنسان كالبوصلة، ويأخذ وجهته الثابتة من الله".
    ولكن الذي أعرفه أنا، أنني أنتظر قيامة إنسان الريح هذا أن تقوم من جسدي، وإن كنتُ بوصلةً فإن مؤشرها في أسفلي، وما تحت النساء شمالي الخالد. أما أيْن الله للبشري، فلا يُلخصّه فصلٌ ولا اتجاه. وربما يصدق فيّ ما قاله حمدان: "أنت هكذا، لا ترى الأشياء، وإنما ترى انعكاسك عليها".
    أذكر حينما كنّا نجلس في فناء السجن وفاضت بي مثل هذه الأحاسيس، قلت لسانتينو وكمال،..
    "كل الناس الذين عرفتهم في صغري كانوا بدايات لذوات أخرى مكتملة، أو تشبه أن تكون مكتملة. شيء مؤسف جداً أن يكون ضوّينا مجرد بداية مسار ينتهي بمكاشفي، مدير المدرسة بداية لشيطان مكة، أما أبي فبداية ركيكة لي.
    ضحك سانتينو وكمال، وواصلت حديثي: ولكن سلامة تختلف، يا ترى هي تتمة أو بداية من؟ وفيمن أجد خاتمة دهرية؟ ولا شك أنّ المأمور ملحق لوكيل المدرسة. أما والد سنيّة فلا بُدّ أنه ضاعت منه بعض الفصول أثناء تجواله. كما أنّ إمام المسجد الجديد تسلسله غير جيد، ما يحتّم أن تختتمه مصيبة.
    ضحكنا لكون الناس كمجموعة شجر من نوع واحد، منها الجذوع، ومنها ما طوله متر، ومتران،...
    "سأشكرك يا الفليل لو أثبت أحد الناس أنني فصل يخصّه، ليأخذه فأُعتبَر لاغياً وأستريح"، قال كمال ضاحكاً، فتحمّس سانتينو: يا لها من لعبة ماكرة، تستنفد خيرات الأرض بأفواه كثيرة، كان يجب أن تلخّص في فم واحد ونصف فتحة شرج.
    اصطدمت ضحكاتنا بعد هذا التعليق فوق رؤوسنا، وسقطَتْ على الأرض تتلوّى في غبارها. اختطفَنَا الغبار لبعض الوقت، ثم أعادنا إلى مواقعنا جزءاً جزءاً، حتى اكتملنا فرادَى ومنفصلين عن بعضنا بعضاً، وكلٌّ على حدة. لقد كانت لعبة ماكرة بالفعل كما يبدو.
    بالليل عليك، نار الحُفَر
    تغنّي في حطب الطلح
    وخشم الرواكيب
    يداور في الرذاذ
    يا مرحب حبابك، ومنشرح
    يضهب في الضلام
    نور الفوانيس القُدَام
    ويضوِّي فيك،..
    وهج الجرح

    طاردت بهذه الأبيات كمال جعفر –ذات يوم- وهو يتملّص مني ويضحك، كنّا نعدُّ للمسرحية التي سنقدّمها للترفيه عن المساجين. ولم أكن أعرف أنّ سلامة ستشارك فيها، على كل حال فقد انزلق لساني أمامها بهذه السيرة. كان هذا الموضوع يعتبر من الأسرار، ولكن ماذا أفعل مع فمي؟ إنّ فم الإنسان إنْ لم يجد فماً آخر يوظّفه فلا بدّ أنّ عطالته ستكون الثرثرة.
    تضاربنا أنا وكمال في تعابث جميل، كنتُ أقول له،..
    "أنا منجم الفيرمون، أنا جوهانسبيرج الفيرمون، أنا رور الفيرمون، أنا بني شنقول الفيرمون"،... طالبتُه بأن يجعل هذه الصيحة مقطعاً في المسرحية.
    يقول لي وهو يضحك: كركوك الفيرمون نسيتَها،..
    إنها نفس الفترة التي ضحكنا فيها أنا وسانتينو من منديل سلامة الأبيض بمكتبها، حين لوّحت به كراية بيضاء! فعالم المسرحية تردُ فيه الوردة، كرمز للجوع، ومَن يحمل وردة في يده يعني أنّه يحتاج لوجبة. وتغالط المسرحية دلالة الراية البيضاء كرمز للاستسلام، ففيها تستخدم المرأة الراية البيضاء لطلب الجنس والمتعة. هذه أمور كمال طبعاً، يريد أن يجرّب عالماً ذا دلالات بكرة ومختلفة.
    قلت له، لو أُلهمت موسكو دلالة الراية البيضاء على هذا النحو، حين رفعها نابليون بقلب روسيا، لفعل الروس المنمَّشون بنابليون وجنوده الأفاعيل، ولَجَرَى إسهال الغزاة الماضيين وهم في قبورهم.
    أمّا الدلالة التي أزعجتني، فهي تصوّرهم لأنّ الألوان لم تكن مختلطة بالشهوات والغرائز في الماضي، أي أنها كانت ذات دلالة شاعرية حالمة كالموسيقى تماماً، ولها متعة في حدّ ذاتها ومن صميمها، لا تعوِّل فيها على شيء آخر تختلط به كي يُظهرها. ثم تلت ذلك مرحلة جيوسية ما على الحياة، تَمَّ فيها تكوين المخلوقات من المستويين، الحيواني والإنساني، الأرضي والسماوي. فأصبحنا بذلك نشتهي الفاكهة من خلال لونها، ونستثار جنسياً لمجرّد كون شعر المرأة أسود، أشقر، بُنّي،...
    أمّا ما أفهمه أنا من الموضوع، أنّ الشهوة هي الأصل، وأنّ الموسيقى أعظم اشتهاء خالد عرفه الإنسان، وأنّ أُمَميتها ووحدة خطابها من أُممية الجنس ووحدة خطابه، الخطاب الشمولي والديكتاتور. ولهذا فنحن إلى الآن لم نصل لفهم تحليلي حولها وحول التلقّي لبنية خطابها، ولا نزال نجهل كيف نشبع بها.
    وبما أنّ سلامة ستؤدّي دوراً في المسرحية، أخذتُ أُشاغب كمال وأُطالبه بإدخال الأحضان والقُبَل إلى النص، ناديتُ فيه،..
    "إن لم تُدخل هذه الأشياء إلى العمل، فإنّ نصكم هذا سيعاني من الخُواء العاطفي والوجودي". فضربني هو بيد هازئة،..
    "ياخي بَطِّل، دعه يعاني من الجذام، ما دخلك أنت؟".
    "أنا؟ أنا مؤمن كبير بالحياة، وفقط".
    قلت ذلك لمناكفته وللضحك فحسب، ولكن زاولني إحساس بالله في تلك الساعة. تذكرتُ مقولة سانتينو الجاحدة: إنّ الله ليس إلا مشوارنا إليه. لأُجيبه أنا على الدوام: إنّ الله إلهٌ أوجَد، وليس برجوازياً يعمل الفقراء في حقله.
    لا علينا، فليحمل سانتينو وكمال ومن يشبههم، سؤال الله كأكبر الأسئلة التي توجد داخلهم، بل كسؤال أكبر من أفق التساؤل المخصّص للبشر. أمّا أنا بحكم خبرتي العميقة وحميميتي مع الجسد، فقد شهِدتُ اللهَ بقلب كل ذرّة منه وبقعة لون ووثبة عَوَز. فالجسد له خيالٌ كالروح تماماً، ولن يتمّ لك العثور على هذا الخيال الجسدي إلا بعد أن تهضم الجسد كدائرة استيعاب كاملة، وذلك عبر سبره والغوص والتوغّل فيه، وليس بالطيران فوقه.
    أنا أحبُّ الجسد لدرجة تجعلني أعتقد بأنني في يوم من الأيام، ربما أصحو مع جتا ردف، وجيب نهد، و2 حضن تربيع، وباي نق العيون، ونهايات الشفاه،... ويكون معي القانون الكُلّي والنظرية التي تفسّر الوجود، فالجسد هو العالم الوحيد الذي يمثّل عالَمَي الغيب والشهادة في قطعة واحدة.
    والجنس ليس استفراغ الجسد لشيء متعفّن أبداً، بل هو العزائر تُفْرِعُها الجذوع، لبناء الكينونة والترقّي، وحَثّ الضفاف للضفاف، كي تعانق وتضم نهرها أينما هرب. إنه ليس شيئاً مرعباً بالمرة، لكي يخيط السودانيون كل ما ينتجونه من الدمور سراويلاً.
    أمّا روح الإنسان تلك، التي برعوا في الحديث عنها كملخّص يُلغي الإنسان ويحل محلّه، فما هي إلا مقدِّمة جانبية متواضعة لخياله الجسدي وما يختبئ فيه من أنحاء. ولطالما سحرتني الإرادة التي أمتلكها بعد تفريغ/ تنشيط جسدي، ولذلك فأنا لا أترك رغباتي تنفجر بداخلي مطلقاً، كي لا أفقد إرادتي. انفجار الرغبة خارج الكيان يمنحنا الإرادة اللانهائية. فالحياة في عمومياتها، وخصوصاً المفهومة منها، هدف تجسُّدي/ خفي نطارده بغرائزنا أوّلاً، وبتخطيط أدمغتنا دعماً لهذه المطاردة وإحكاماً لها ثانياً. فلو توقّفت هذه المطاردة فَقَد الإنسان إرادته، أو أصابه جنون التوقّف، ككمال أو مشتقاته السامّة د. بدوي خليل. فالجنون خلل يصيب الإرادة وليس الدماغ.
    لذا سيظلّ الفليل يجري إلى الأبد دافعاً طاقته لخارجه، كالنيل، مادام أنّه لا مفر من خيار أن تمضي بالجنس كنهر معافى، أو أن تركد به كبِرْكة تتعيّش فيها الهوام وتُمرض الخلق. أنا لا أستحث أشياءكم على الغرق، ولكنني لستُ مديناً للطفو بشيء. فقد خُلقتُ عائراً كما تقول أُمي، عائراً نحو الحقول الماروتية البعيدة، والليالي القديمة والمُقمرة بمروي ونينوى وطيبة.
    منذ زمن بعيد، خطر لي أثناء عودتي من أحد أحياء أمدرمان الموبوءة، أنّ المدن كالنساء تفسد من أسفل. ففي درك قيعان كهذي، تلفظ الإنسانية ضراعتها اليائسة ويتشفّى الإنسان من الدنيا ونفسه. الأحداث تُخلق من طَحْن الدود وإلى بطنه تأوي من جديد. تحت حيث المدينة طائر خرافي، يمدُّ أجنحته السفلية ويحلّق في الحضيض. هناك تكتشف تهوّر الحياة وبركانية البشر، لماذا؟ لأنّهم جاؤوا إلى هنا بعد أن فقدوا إرادتهم. فلو تَركتَ لديهم جنازة امرأة لتسلّمتها منهم حُبْلى. المهم أنّ التسكّع انتهى بي عند مبنى المسرح، فدخلتُ لأجد ممثلة فاتنة وطبيعية، لا تمتلك مزاليج للكلفة كي ترفعها أو تنزلها، إذ كانت عفوية نتيجة لذكاءٍ في فطرتها.
    تتقافز على خشبة المسرح بخفة ورشاقة نضرتين ومتقنتين، ولا يعنيها فستانها القصير حينما ترتفع به هبات النسيم نحو قُرابة نصفها. لقد شرحني جسدها لدى نفسي ككتاب، خصوصاً تحت إضاءة المسرح المراوغة والتنقّلية تلك،..
    "يا رب القُدرة، أي سيقان لعينة وفاخرة لهذه الصبيّة"، صحت أنا فاقداً لإرادتي الخارجية وحائزاً على مجمل إرادة أن لا أكون شبحاً.
    تزحزحتُ كي أتمهّل في مقعدي، فإذا بشبح آدمي ينخلق من ذلك الظلام، الذي يفوِّط المسرح من وجوه الناس.
    "الأخ من هواة مطالعة النساء من أسفل، وألا ما كدا؟"، قال الشبح.
    "طيّب! أنا من محترفي مطالعة النساء من أسفل، لمعلوميتك. والمرأة هي الصحيفة الوحيدة التي تُقرأ بالمقلوب. صنّفني زي ما عايز. فذلك أهون عليّ من أن أكون أُميّاً في مطالعة النساء". أضفت من باب التحرّش: ألا توافقني على أن ساق المرأة أعرض وأهم مانشيت في صحيفتها المسلّية؟
    "هذا لو كانت المرأة صحيفة، وللتسلية".
    "قد لا تكون صحيفة، وليست للتسلية، ولكننا نُسَلِّي بعضنا، نتسلّى يعني".
    "هنالك كائن اسمه الإنسان يا هذا".
    "نعم إنسان، إنسان مسلٍّ، ولا بدّ أنّ هناك نوعاً آخر غير مسلّي".
    واجهني الرجل هذه المرة ليقول: عليك أن تفكّر فوق سروالك قليلاً.
    سألته: "ببطني مثلاً، أم أنت تقصد رأسي".
    "تعرف ما أقصده، لا تتبالَه، هذا لو كان لك رأس طبعاً".
    "وما رأسي؟ إنه سروال من أعلى فحسب".
    "لا خلاص، دمك خفيف وفيلسوف، ولو عامل فيها فاسق ربنا يعينك".
    "ما دمتَ تمتلك سروالاً فنحن نشترك في هذا الفسق. بالنسبة للفلسفة، أنت فلسفتك المطالعة من أعلى، وأنا فلسفتي المطالعة من أسفل. وأنت ترى أن ينتصب عقلك قبل ذكرك، وأنا أترك الأمر للذي ينتصب أوّلاً"،..
    ثم أطلقتُ ضحكة الفليل التي أعرض من فمه، فوجدها الرجل تفسيراً لما دار بيننا من حوار. فقد ظنّ منذ طريقة التفاتته إليّ تلك، بأنّي بهيمة مجنونة، وتأكّد من ظنه ذلكم بإمساكه لتلك الضحكة كذنب لها وصَمَت.
    شعرت بالملل من امتلاء الدنيا بالأشباح، غادرت المسرح على الفور. ليصيدني هذا الليل بالخارج أو لأصيده. وقفتُ في ذلك الليل، أو قُل انتصبت ذكَراً للمدينة النائمة، وكان الحائط أمامي مباشرة، قِزماً وليس بوسعه أن يستر صدر امرأة تقف لجانبه عارية في فلك آدميتها. لم أتسلّق ذلك الحائط، بل خطوتُ فوقه، إذ كان لا يفي بضرورة أن يتسوّره أحد.
    الجميع كانوا ينشرون روائح نومهم في الحوش. رائحة العَرَق والشهوة الغافية، طيّبة ونفّاذة، استطعت تمييز جسد صاحبتي في الظلام، من ضمن الأجساد الكثيرة المنشورة في هواء الليل. بوسعي أنا مرفعين الجسد، رؤية هالات وأبخرة متلويّة وعلامات أخرى كثيرة، منهم ومن أعماقي، تعينني في قراءة وتمييز الأجساد.
    اقتربت من سريرها بلهفة، فقد كانت فتاة فخمة وناضحة بالشباب. جسدها كان متكشّفاً عند مواضع كثيرة ومُغوية، كنت أراها كقضمات الفأس من شجرة، لها رحيق وصمغ ولمعة الكلوروفيل. دكدك شيء في أعماقي كهرولة لجموع، لدواب، لأنهر، لغمام مرعد، وبدا كهروب كبير لغابة من وحوش وطير.
    مددت لها يدي، مضرّجة بالاشتهاء، ونحو صدرها تحديداً. كان يضج بثغاء زرائبه ولحظة حليبه في الظلام. انتفضتْ هي بقوة حينما مسّتها يدي، قوة أكبر من أن ينتجها الخوف أو أن يحتويها. قوة الرغبة في الآخر، وثبة الحياة من ضَحَلِها نحو عمقها. لذلك لم تسألني عمّا أفعل؟ ولا كيف أجرؤ؟ أو.. أو.. بل سألتني وأنفاسها تصكصك كقرطاس في الريح،..
    "من أنت؟".
    أُخفت صوتي كثيراً وأنا أقول: الرضي.
    لم تسمع همسي، فنَوَتْ تكرار سؤالها بطريقة: نعم؟
    ولكنني قرّبت عينيّ من عينيها بسرعة وتدارك، كي يصطدم مخزنا الرغبة، بخوفهما وبجوعهما في وهدة الظلام. عرفتني فوراً، فتحوّل سؤالها –في فمها- من كلمة "نعم" الاستفسارية تلك، لهمهمة،..
    "أممم، الله يجازيك".
    فانتصبت ذكراً للمدينة النائمة، وتلاشيت في غيب امرأة.


    ..

    (عدل بواسطة محسن خالد on 06-29-2006, 05:33 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
تموليلت: سيرة وحَجَر محسن خالد01-10-05, 01:46 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات المعتمد01-10-05, 11:07 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات خالد أحمد عمر01-10-05, 11:58 PM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات مصطفى عجب01-11-05, 00:10 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:25 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:26 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:26 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:27 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:27 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Lubna Taha07-16-05, 06:28 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات aboalkonfod01-11-05, 00:18 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات عاطف عبدالله01-11-05, 00:27 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات بدري الياس01-11-05, 05:04 AM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-11-05, 08:45 AM
          Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-12-05, 05:50 AM
            Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات أسامة معاوية الطيب01-12-05, 10:26 AM
              Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Abo Amna01-12-05, 04:25 PM
            Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات aboalkonfod01-16-05, 11:27 PM
  تيموليلت محسن خالد01-13-05, 03:31 AM
  البيضاء هشام المجمر01-13-05, 05:21 AM
    Re: البيضاء حبيب نورة01-13-05, 06:00 AM
      Re: البيضاء محسن خالد01-13-05, 12:13 PM
        Re: البيضاء bayan01-14-05, 01:35 AM
          Re: البيضاء sympatico01-14-05, 03:48 AM
            Re: البيضاء Tumadir01-14-05, 04:15 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات fadlabi01-14-05, 04:29 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات WadAker01-14-05, 09:29 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات صلاح نور01-14-05, 10:29 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات TahaElham01-14-05, 10:50 AM
  ندعو لك بعاجل الشفاء هشام المجمر01-15-05, 01:56 AM
    Re: ندعو لك بعاجل الشفاء عاطف عبدالله01-15-05, 07:45 AM
  محسن يخرج من المستشفى بعد إجراء جراحة صغيرة هشام المجمر01-15-05, 10:02 PM
    Re: محسن يخرج من المستشفى بعد إجراء جراحة صغيرة bayan01-15-05, 10:48 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات aboalkonfod01-16-05, 11:40 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-17-05, 08:44 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات bayan01-17-05, 09:16 AM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Isam Widaa01-17-05, 09:38 AM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-17-05, 09:46 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Fadel Alhillo01-17-05, 09:34 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات WadAker01-17-05, 09:45 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-17-05, 04:20 PM
  تيموليلت: يتسلسل محسن خالد01-17-05, 04:36 PM
  حسناء هشام المجمر01-17-05, 10:25 PM
    Re: حسناء محسن خالد01-18-05, 03:28 PM
  يتسلسل محسن خالد01-18-05, 03:38 PM
  (أعيش إجمالاً ليس أهم عندي من عيش نزوة صغيرة لي كهذه) محسن خالد01-19-05, 10:06 AM
    Re: (أعيش إجمالاً ليس أهم عندي من عيش نزوة صغيرة لي كهذه) عاطف عبدالله01-20-05, 09:00 AM
  (أعيش إجمالاً ليس أهم عندي من عيش نزوة صغيرة لي كهذه) محسن خالد01-20-05, 06:36 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-20-05, 11:37 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-21-05, 04:06 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-22-05, 06:18 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Sabri Elshareef07-16-06, 10:12 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات عبدالله الشقليني09-25-06, 06:06 AM
  يتسلسل: تيموليلت محسن خالد01-22-05, 10:01 AM
    Re: يتسلسل: تيموليلت شادية عبد المنعم02-28-06, 05:41 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات AlRa7mabi01-22-05, 11:06 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-22-05, 01:43 PM
  زوغة حلوة هشام المجمر01-22-05, 11:11 PM
    زوغة حلوة محسن خالد01-24-05, 04:53 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات WadAker01-24-05, 09:46 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محمد خليفة محمد جميل01-24-05, 02:22 PM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Ishraga Mustafa01-24-05, 03:58 PM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات yumna guta01-24-05, 08:50 PM
  البيضاء هشام المجمر01-24-05, 10:15 PM
    تيموليلت محسن خالد01-25-05, 12:24 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات مريم بنت الحسين01-25-05, 12:34 PM
    تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-25-05, 01:04 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات 3mk-Tango01-25-05, 02:27 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Abomihyar01-25-05, 07:14 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-25-05, 10:45 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات الجندرية01-25-05, 11:30 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات abas01-25-05, 11:49 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-26-05, 05:36 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-26-05, 05:36 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-26-05, 01:34 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات برهان تاج الدين01-26-05, 06:35 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات الجندرية01-26-05, 11:04 PM
  البيضاء هشام المجمر01-27-05, 01:30 AM
    تيموليلت (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-27-05, 02:18 AM
      تيموليلت (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-27-05, 04:02 AM
        Re: تيموليلت (الجمال غول الجمال) kabaros01-27-05, 04:24 AM
          Re: تيموليلت (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-27-05, 09:33 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات السمندل01-27-05, 05:56 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-27-05, 08:25 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات فتحي الصديق01-27-05, 10:37 AM
        Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات الوليد محمد الامين01-28-05, 03:54 AM
          تيموليلت: (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-29-05, 00:17 AM
          تيموليلت: (الجمال غول الجمال) محسن خالد01-29-05, 00:18 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات nashaat elemam06-17-05, 09:12 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات بخاري بشير07-12-05, 12:51 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات السمندل01-29-05, 06:47 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-29-05, 08:40 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات طارق جبريل10-15-05, 00:16 AM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات منوت01-29-05, 09:30 AM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Balla Musa01-29-05, 09:53 AM
      تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-29-05, 10:25 AM
    تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-29-05, 12:27 PM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات Balla Musa01-29-05, 08:18 PM
  Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محمد السر01-29-05, 11:17 PM
    Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-30-05, 04:29 AM
      Re: تيموليلت: المغربية السحاقية، الفاتنة وصيّادة الفتيات محسن خالد01-30-05, 04:41 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de