|
من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء
|
لم تنتظر ليلى عبد المجيد موت السنة الماضية ، بل اختار لها المولى أن ترحل عن الدنيا في الأرجوحة الأخيرة من عام 2003 . وقبل إطفاء شمعة الميلاد ، وتنظيف المائدة ، غسلت ليلى يديها ، سريعاً ، من وسخ الحياة ، ولوّحت لنا ، يوم 15 ديسمبر الماضي ، ومن بعيد : وداعاً . قبل أن يتعهد آخرون بلفّ جسدها في قماشة بيضاء .. لم تكن تحبها أبداً .
اشتدّ عليها المرض ، وأكلها الموت ، في عام واحد ، هو نفس العام الذي كانت تمنّي نفسها فيه بزيارة بلدها السودان ، بعد طول غياب في بلدان الشتات . وفي ما يشبه العزلة غير المعلنة ، رحلت ليلى عبد المجيد ، وأبقت للشعر الكوني ـ وليس السوداني وحسب ـ أكثر من ثلاثين نصاً وقصيدة ، من دون نشر ، وفي ذمتنا شيء من هذا المنجز ، شيء من خطّها العابر في نشيدها وانشاداتها الموصولة ، منذ أول اكتشافنا لها متلبسة بالشعر ، وملتبسة بسببه ، في كوستي التي زارتها عام 91 من القرن الماضي ، وبقيت فيها حتى تاريخ التحاقها بزوجها في اليونان عام 95 .
وفي كوستي ، انضمت ليلى إلى رابطة " الشعلة " الثقافية ، ومن ثم رابطة " الأصدقاء " الأدبية ، وكانت عنصراً فاعلاً ومحرّضاً على الإبداع في كلا الرابطتين . وفوق ذلك ، كانت تشع بالإنسانية وحب الناس ، وكانت باحثة نهمة عن العدالة ، ومدافعة شرسة عن حقوق المستضعفين والفقراء ، ونصيرةً لهم ـ بما ملكت يداها ـ في مواجهة القهر السلطوي والظلم الاجتماعي وكل أشكال التعسف والإقصاء .
وبعد سفرها إلى اليونان و قبرص ، انقطعت أخبارها إلا لماماً ، وانصرفت إلى شؤونها العائلية ، وهي أم لـ " مروة " و " مهيد " ، إلى جانب انصرافها إلى إتمام دراستها للصيدلة التي كانت بدأتها في جامعة الخرطوم . وهكذا ، أصبحت مقلّة في الكتابة ، على أنها كانت تقول لنا في بعض الرسائل إن القصائد تتبعها في المرئيات التي من حولها : " رؤيتي لـ شغب مهيد ومروة يعني لي قصيدة مكتملة ، كتبتها بكل لحمي ودمي ومشاعري ، وأراها أمامي كائنات حية حرة لا يحدها حرف ولا تسجنها لغة " ..
وبالطبع ، لن نحمّل ليلى عبد المجيد أكثر مما احتملت أناملها ، أكان في الوطن أم المنفى ، فهي ، كما عرفناها ، لم تكن تطمع بالشعر إلى جوائز أو تكريم ، شأنها شأن كل الشعراء المنسيين " الظليين " .. المارين في شعرهم كما يمر الفقير في ثيابه .
وأكثر ما يلفت في كتابة الراحلة ، دورانها حول لازمة " الموت " / " الغياب " .. ففي أكثر من قصيدة / نص ، تسبك ليلى متحولات الموت بعمق وجزالة وصبر تمتد حتى على أفق رسائلها للأصدقاء .. مرة ترى الموت بعين بصرية، مرة حسية، مرة بعين رائية، مرة بعين غشاها البياض، ودوما تترك في ذهن القارئ/ة غصة ولوعة هذا الشيء الذي اسمه ( الفقد) الذي يعصف بالأرواح والأجساد، والأشياء المحيطة.. .يخرّب قيلولتها وصمتها ويتدخل في أشد ساعات الصفاء والهدوء الممكنة. تجد الموت / الغياب يسكن بهدوء، يخرج بهدوء ، يمشي مع أوراق الشاعرة، يسايرها، يحاكيها، يسهر معها ولا يقيم : " أيها الموت يا صديقي تعال ، واجلس أمامي ، كفاكَ قنصاً اليوم وجهك تبقَّـــعَ بالسأم . تعال ، أقرأ لك الليلةَ بعضاً من شعري " .. ولأن الشعراء أكثر كائنات الله تحديقاً وتأملاً في الموت ، فإنه أكثر ما يكتبونه في أشعارهم بتلك الإشعاعية الصادمة . ولم تكن ليلى استثناء ، بل الأرجح أنها تمادت أكثر في " الاحتفاء " بالموت ، دون المبالغة في ذمه أو اعتباره ـ وحده ـ الهادم الأكبر للّذات . وعلى هذا الأساس ، تتعدد إحالاتها وتزداد مراوحتها في فكرة الموت / الغياب ، شروعاً في فكّ الطلسم الذي يجعل من ( الفقد ) شريعةً يدين بها إنسان العصر الحديث ، ويكون ذلك أكثر وضوحاً عند ما نتعمد ربط الشاعرة بما لاقاها من جنايات الطغاة بها وبوطنها ورفاقها، حيث تكاثفَ الموت ، واشتدّ الرحيل من الوطن الذي كان جميلاً ذات يوم .. وإذ ذاك ، تجد أن كتابتها هي عن واقع متشظ يكثر موته ويقيم في كل ركن وقلب وحفيف شجرة .. تظهره الشاعرة بآليات معتمة، حادة وموجعة ومرهفة وكئيبة وظليلة وشفيفة وبلا أفق منجز. بل الأرجح أنه أفق يراهن على الشعر وحده لهزيمة عتمة الموت / الغياب ، كما يراهن على انبلاج فجرٍ ما على مدينةٍ لها قلب ،
.. ثمّ غادرت ليلى ( وحقاً لا نحبّ لها الرثاء ) قبل أن يتحقق حلمها النبيل في رؤية وطنها طيباً معافى ، ويعيش ناسه إنسانيتهم كحق من الحقوق . وغادرت قبل أن تطأ أقدامها ثراه من جديد .. قبل أن تشاهد " مروة " و" مهيد " وهما يكبران .. لكنها تطوف على الديار / علينا : حروفاً مخضلات تتمشّى فينا قمراً لا نهاية لضوئه الباذخ .. مطراً خفيفاً لا صواعق فيه ولا رعود .. وعلى هذا الأساس ، سنأخذ مقولة الصديق حسام هلالي مأخذ الجد ، و ..
" لن نقيم المآتم بل سنطلق أسراب الحمام " ..
وبعيدا عن كل موتٍ يا ليلى .. سنسير معاً تحت المطر .. وشِعرُكِ آخذٌ بيدنا إلى الجهات التي في آخر الحلم ،، وأنتِ مَنْ قالت لنا ذات أمسية طازجة في الذاكرة : وحده الشعر يمشي بلا مظلةٍ تحت سماء العالم !
ميرفت نصر الدين / نزار عثمان ـ سمندل
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-14-04, 08:46 AM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | muntasir | 02-14-04, 09:07 AM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-14-04, 09:21 AM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | muntasir | 02-14-04, 09:49 AM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | Habib_bldo | 02-14-04, 10:07 AM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-14-04, 10:44 AM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | Alia awadelkareem | 02-14-04, 12:14 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | عشة بت فاطنة | 02-14-04, 03:50 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ali othman | 02-14-04, 12:22 PM |
افسحوا لي مكاناً بينكم | farda | 02-14-04, 02:41 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-14-04, 04:55 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-14-04, 05:00 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | رقية وراق | 02-14-04, 05:50 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-14-04, 05:04 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | lana mahdi | 02-14-04, 05:04 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-14-04, 05:11 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-14-04, 05:14 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-15-04, 03:13 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | هدهد | 02-16-04, 03:15 AM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | Mahmed Madni | 02-16-04, 03:04 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | المهدي صالح آدم | 02-16-04, 03:43 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | السمندل | 02-17-04, 05:24 PM |
Re: من أجل صديقة لا نحب لها الرثاء | ميرفت | 02-21-04, 07:22 PM |
|
|
|