[email protected] لي منظوري المختلف لما يجري حالياً على أرض النوبة من مظاهر المناهضة للسدود في المنطقة، فأنا أرى أن نظام الإنقاذ أفادنا من حيث لا يحتسب، فقد جمع الشتات النوبي الواسع في قارات العالم على قلب قضية واحدة، وجعل النوبيين في الداخل والخارج يتواصلون، ويتفاعلون عن قرب، حتى تلاشت المسافات، وتكسرت الحدود الفاصلة بينهم، وأصبحوا ينامون ويصحون على هدف واحد، وهو دحر ظلم المتربصين، والحفاظ على أرض جدودهم، بكل ما فيها من ثروات حضارية وطبيعية. وعرّفت القضية أطفال النوبة وشبابها بأرضهم وإرثهم، ومنهم من لم يعر اهتماماً من قبل لانتمائه، ولا يعرف شيئاً عن عظمة حضارته، فأخذوا يتساءلون: لماذا هذه الحماسة من آبائنا وأمهاتهم من أجل أرض لم يطأها كثيرون منهم منذ سنوات بعيدة، ومنهم من (جوجل) عن النوبة -أي بحث في جوجل-، ونقب عنها، ليعرف سر هذا الاهتمام بها، ومنهم من كان لديه قليل من المعلومات، فاستزاد، ومنهم من أصبح مصدراً للمعلومات لغيره، لكثرة ما اهتم وقرأ. لقد أوجدت المناهضة حالة جديدة للإنسان النوبي بفعل فطرة الحفاظ على النوع والإرث والتاريخ، التي تعتري كل من يتهدده الفناء، وأصبح النوبيون في كل بقاع الأرض أكثر قرباً من بعضهم من أي وقت مضى، ولعل مرارة فقدان حلفا التي لا تزال غصة في حلق كل نوبي من أسباب هذا التدافع لمنع تكرار الماسأة. وإذا كانت القيادة دائماً تمثل مشكلة، ومصدر قلق لكل الذين يتصدون لأي قضية عامة، فإن أزمة السدود أفرزت قيادات من مختلف الأعمار، فكبار السن الذين كانت تمضي حياتهم برتابة تمردوا على ركام العمر، وأزاحوها، واستعادوا كثيراً من حيوية الشباب، وتصدوا للقضية، وتصدروا المشهد، والشباب الذي كان الظن أن لا اهتمام لهم إلا تزجية الوقت، والتلهي بمباهج الحياة أظهروا أنهم على قدر المسؤولية، وأنهم أمل لا ينقطع، فقادوا العمل أحسن ما تكون القيادة، وكلما طالت يد البطش بعضهم، ظهر آخرون من لم يحسب لهم الباطشون حساباً، لتؤكد النوبة أنها ولادة. وتصدرت المرأة النوبية المشهد كعادتها، فأشعلت الحماسة في النفوس من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، التي أجادت في توظيفها، وأصبحت رسائل النساء النوبيات البسيطات مادة تتداولها الأسر، وهن يتحدثن ببساطتهن عن الأرض وإنسانها، وإرثه، وذلك بلسان نوبي مبين، لتصل المعاني إلى الجميع بلا استثناء، حتى لأولئك الذين لا يعرفون كلمة من النوبية. وذكر لي بعض الذين شهدوا هبة أهل سكوت في عبري أن النساء أتين إلى المظاهرات من غير دعوة، وارتفعت أصواتهن بالاعتراض على تغييبهن، وأتت المظاهرات في المحس لتفادي هذا التغييب، لتقود المرأة المظاهرات بكل قوة وجرأة، جبلت عليهما على مدى التاريخ الحديث والقديم. وأجبر النوبيون القوى السياسية التي استكانت ورضت بالرضوخ للنظام كثيراً على أن ترفع صوتها بعد طول صمت، وأن توضح موقفها من قضية تعدّ وطنية في المقام الأول، وليست جهوية ضيقة، ولعل إيقاظ النوبيين لها يكون له ما بعده. أثق أن هذه السدود لن تكون إلا في مخيلة الواهمين، الذين ستزلزل الجموع النوبية الأرض من تحت أقدامهم، ولهذا أرى أن أكبر استثمار لهذه القضية أن نستغل ما تولد عنها من طاقات في تحويل مسار الحياة الرتيبة في منطقتنا إلى مسار جديد مفعم بالحيوية، بتغيير نمط المعيشة، واستغلال الخيرات، وإقامة المشروعات، وإعادة الإنسان إلى بيئته؛ ليعيش بين أحضانها، مستمتعاً بكل ما فيها من نعمة وسحر وجمال. هذا الذي أعبر عنه ليس أمنيات بعيدة المنال، ولكنه أحلام يمكن أن تكون واقعاً يمشي، وخصوصاً أن المناهضة أنعشت الأمل، وزادت حجم الطموح، وجعلت ما كان محالاً ممكناً، فإذا كنا قد تواصلنا بامتدادتنا في قارات العالم من أجل قضيتنا، فإن التواصل يمكن أن يستمر من أجل أن نقدم جزءاً ولو يسيراً مما يستحقه الإنسان القابض على الجمر هناك، الذي لم يغادر أرضه ضارباً بكل المغريات عرض الحائط، والذي يواجه اليوم النظام بيقين ثابت وجرأة مدهشة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة