الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 05:12 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-12-2005, 11:35 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    4.سليم البستاني:إعادة تركيب الموروث السردي



    في الوقت الذي عرفت فيه رواية "غابة الحق "وشاعت،كان "سليم البستاني"(1846-1884) يتأهب للقيام بتأليف أول سلسلة متكاملة من الروايات في تاريخ الأدب العربي،تلك السلسلة القائمة على الحركة والمغامرة التي بدأها بروايته " الهيام في جنان الشام" و ظهرت ابتداء من العدد الأول من مجلة " الجنان" الذي صدر في بيروت خلال شهر كانون الثاني/ يناير من عام 1870،وقد ختم الرواية بالفقرة الآتية المعبّرة عن الفهم الشائع للرواية في أول أمرها،كما يراها "البستاني":" إنني أرجو مطالعي هذه الرواية أن يعاملوني بالعفو والصفح،إذ انني مع تراكم الأشغال،لم أقدر أن أتفرّغ حقّ التفرّغ لكتابتها،فكنت أقدّمها للطبع مسودة بدون تنقيح ولا تبييض.وقد اعتنيت بجمعها من صفات الفضلاء والرذلاء والعقلاء والجهلاء،ولم أترجمها عن أعجمي،ولا نقلتها عن عربي.والمأمول أنَّ الزمان يمنّ علي بزمان يمكنني من أن أقدّم لقراء(الجنان) 1871 رواية حبيّة تاريخية،موضوعها (زنوبيا) ملكة تدمر،وكان الفراغ من كتابتها في مدينة بيروت،في اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول 1870 للميلاد حساباً غربياً"(19).

    تصلح هذه الخاتمة مفتاحاً للحديث عن أمور وردت فيها،وأخرى تثار ضمناً كجزء من السياق اللازم لمنح هذه الخاتمة أهميتها،ويحسن أن نبدأ بما تثيره دون أن تصرّح به،وفي مقدمة ذلك التلازم بين الكتابة الصحافية والكتابة الروائية،ولم يقتصر ذلك على "سليم البستاني" وحده،أو التأليف الروائي العربي في منتصف القرن التاسع عشر وما بعده،كما نلاحظ ذلك عند "خليل الخوري" الذي دشّن ذلك التقليد حينما نشر روايته " ويّ. إذن لست بإفرنجي" في جريدته الأدبية الخاصة"حديقة الأخبار"كما أشرنا من قبل،إنما كان الأمر تقليداً شاع في القرن التاسع عشر.ففي الفترة ذاتها التي كان ينشر فيها " الخوري" و " البستاني" رواياتهما متسلسلة في"حديقة الأخبار"ثم " الجنان"،كان "دستويفسكي" (1821–1881) ينشر رواياته الكبرى في الصحف والمجلات الروسية،وكان يتعرض لمضايقات قضائية لأنّه لا يستطيع في بعض الأحيان تسليم فصول تلك الروايات إلى المطابع قبل الموعد المحدّد للصدور الدوري لتلك المطبوعات؛الأمر الذي يفقد مصداقية وعودها للقراء،أو يحول دون تغطية صفحاتها.وكثير من فصول أشهر رواياته كتبت بسرعة تحت تهديد الدعاوى القضائية،أو الإلحاح المباشر من أصحاب المجلات من أجل إكمال السلسلة المتفق عليها حسب العقود بين المؤلف والمجلة.وهو أمر لا يرد ذكره مع " الخوري" و"البستاني"؛لأنّهما كانا ينشران في صحف ومجلات تعود إليهما.

    ومعروف أيضا أنَّ "ديكنز"(1812-1870)كان أيضاً في إنجلترا يواظب في تلك الفترة،أو قبلها بسنوات قليلة على نشر رواياته في الصحف والمجلات البريطانية،ولا يقتصر الأمر على روسيا وإنجلترا،إنما شمل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها،إلى درجة لا يمكن فيها الفصل بين تلازم النشأة المشتركة للصحافة –وبخاصة الأدبية –والرواية،وكان ذلك شائعاً طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الأدب العربي،فقد احتضنت"حديقة الأخبار"و" الجنان" و" البشير" و"حديقة الأدب" و"المقتطف"و"الهلال"و" المشرق"و" المنار" وغيرها – وكلها صدرت قبل مجيء القرن العشرين - الكتابة الروائية على نحو ما كان جارياً في العالم آنذاك،وذلك قبل مدة طويلة من الانفصال النسبي بين الصحيفة أو المجلة والرواية،حينما بدأ في وقت متأخر نشر الروايات بكتب مستقلة.

    ذهب باحث تخصّص في دراسة مجلة " الجنان" إلى أنّها"المجلة العربية الأولى في العالم العربي التي اهتمت بالروايات المصنّفة منها والمترجمة والقصص التاريخية والأقاصيص والملح"(20).على أنَّ الأمر المثير أنَّ النشر المتسلسل لروايات تقوم على المغامرة والحركة المطعّمة بالغرام كان يجذب المتلقّين ويشدّهم لمتابعة تلك الدوريات،وذلك ما دفع بعض الأدباء،بسبب الإقبال المتزايد من القراء على تلك الروايات،إلى التفكير بإصدار دوريات خاصة بالرواية،وهي كثيرة،وقد أحدثت حركة غير مسبوقة في تنشيط عملية التأليف والتعريب الروائي،ونُشرت فيها مئات الروايات بين مؤلفة ومعرّبة،وهي دون غيرها التي لعبت دوراً حاسماً في تطوّر هذا الفن وإشاعته ونشره والتعريف به.ومن المؤكد أنَّ "سليم البستاني" كان من النخبة الرائدة في هذا المجال،ففي غضون أقل من عقد ونصف من السنين،وفي سن الثانية والعشرين بدأ بإنجاز ما أصبح فيما بعد أول سلسلة متكاملة من الروايات العربية القائمة على المغامرة والحركة.

    وتشير الخاتمة بوضوح إلى أنّه كتب الحلقات نصف الشهرية لرواية " الهيام في جنان الشام" خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 1870،فاكتملت الرواية في نهاية تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه،وهذا يؤكد أنّه كان يواصل الكتابة والنشر دون الأخذ بالاعتبار للاتجاهات المحتملة لأحداث الرواية،فهو يكيّفها لحاجة المجلّة وتتابع النشر،وترد إشارات في تضاعيف الرواية إلى أنَّ بعض أحداثها وقعت في العام السابق 1869.وما أن وافته المنية في عام 1884 إلاَّ وخلّف،في الأقل،تسع روايات جميعها نشرت في" الجنان" بين الأعوام 1870 و 1884.وهي على التوالي فضلاً عن "الهيام في جنان الشام" و"زنوبيا" التي أشار إليها في الخاتمة المذكورة:" بدور"و" أسماء"و" الهيام في فتوح الشام" و" بنت العصر"و" فاتنة" و"سلمى"و" سامية"هذا فضلاً عن مجموعة من المسرحيات مثل " قيس وليلى" و" الإسكندر" و" يوسف واصطاك".وكان مجيداً للإنجليزية والفرنسية والتركية.

    إنَّ تفصيل ما أثارته ضمنياً خاتمة الرواية ينقلنا الآن إلى ما صرّحت به،وفي مقدمة ذلك الركاكة الأسلوبية للنصّ طبقاً لمعايير البلاغة التقليدية،ثم حرّية المؤلّف في اقتحام السياق السردي للرواية،واستبعاد الراوي،ومخاطبة القارئ مباشرة،والكشف عن الظروف الخارجية التي احتضنت نشأة النصّ،واستغلال ذلك للإعلان عن رواية جديدة ذات حبكة "حبية- تاريخية".وقد لجأ "سليم البستاني" في هذه الرواية إلى إحدى أشهر الحيل السردية في الرواية،وهي الإدعاء بواقعية الأحداث،ومطابقة الوقائع الخطابية للوقائع الحقيقية،وهو ما يصطلح عليه بـ" السرد الكثيف" إذا يخترق الراوي السرد،وينطق باسم المؤلّف مباشرة،وهي تقنية إيهام سردية كانت شائعة في الرواية طوال القرن التاسع عشر،لكنها تكشف حقّ المؤلّف في التعبير المباشر عن أفكاره في ذلك الوقت.قال "البستاني":بأنّه أجّل وضع خاتمة للرواية بانتظار أن" يمنّ عليّ الزمان بخبر صحيح عن نهاية الحبيب والحبيبة،وكنتُ أخشى أن يبلغني خبر موتهما،أو موت أحدهما؛لأنّه معلوم أن خبر عدم توفيقهما،هو ما يكدر المطالع ويكدّرني"(21).

    وسنجد أمرا مماثلا عند "جورجي زيدان" فيما بعد.والواقع أنَّ دمج الظروف المحيطة بالتأليف مع أحداث النصّ،تمّ في هذه الرواية على نحو يبدو بريئا،فلم يرد منه المؤلَّف خدعة حقيقية للإيهام بين الراوي والمؤلّف،إنما القصد منه-فيما نرجّح-كشف ملابسات التأليف الأدبي،وربما فهم طبيعة التمثيل السردي في بداية أمره،وربما بهدف التشويق،وهو فهم أولي لم يرتق بعد إلى الوعي بأهمية التمثيل السردي كما انتهى إليه الأمر في الرواية العربية في الفترة اللاحقة.وهذا الأمر كان شائعاً آنذاك،ويكشف عن غياب الحدود الفاصلة بين العالمين الواقعي الخاصّ بالمؤلّف والتخيّلي الخاصّ بالراوي،فكان الاجتراء على الأخير قائماً،وكلّ هذا مختلف عن الصيغ التي يلجأ إليها السرد الكثيف لتمرير الخدع السردية التي منها إيهام المطابقة بين العالمين المذكورين وبين المؤلف والراوي وغير ذلك.
    كل ذلك سيقربنا إلى الموضوعين الأكثر أهمية في هذه الخاتمة،وهما براءة التأليف الخاصّة بالرواية ومضمون العالم التخيّلي فيها.فـ" البستاني" يؤكد أنها من تأليفه،فلا هي ترجمة عن"أعجمي" ولا اقتباس عن " عربي"والحقيقة فإنَّ هذا التأكيد الذي يحرص المؤلّف على تثبيته،يفضح نمط التأليف والتعريب والاقتباس الذي كان شائعاً في تلك الحقبة،فقد كان التعريب لا يراعي الدقة ولا الأمانة،وغالباً ما تؤخذ الهياكل العامة للنصوص الروائية ثم تغير الوقائع الجزئية والتفصيلية حسبما يرتئي المعرّبون،فتغير أسماء الشخصيات والأمكنة والأزمنة والأحداث،وتكيّف الموضوعات حسب الحاجة،ونادراً ما يشار إلى كل ذلك،فتغير النصوص ولا يذكر أسماء كتابها،وبها تستبدل أسماء المعرّبين أو المؤلّفين،وهو أمر يشمل التعريب والاقتباس على حد سواء،وبهذا كانت تطمس الخصائص البنائية والأسلوبية والدلالية للنصوص الأصلية،ويحلّ محلّ ذلك ما يراه المؤلّفون أو المعرّبون مناسباً،وتحذف العنوانات الأصلية،أو تغير جزئياً،ويُستبعد المؤلّفون الأصليون،وتتداخل النصوص ومرجعياتها،وتستغل لإقحام أحداث جديدة،وأشعار لا علاقة لها بالمتون الأصلية،وهذا أمر مارسه عدد لا يحصى من الكتّاب في تلك السنوات المبكرة من التأليف والتعريب،ونجد أمثلته عند الكتّاب في بلاد الشام ومصر.وظل شائعاً إلى العقود الأولى من القرن العشرين.ولا يكاد معرّب يستثنى من ذلك بداية من " الطهطاوي" وصولاً إلى "حافظ إبراهيم" و"الزيات" فضلا عن أعداد كبيرة من كتاب الروايات، وكان "البستاني" يريد تبرئة نفسه من هذه التهمة التي لم تكن مستكرهة آنذاك،وقد شاعت في العقود اللاحقة.

    وأخيراً تجيء إشارته التي تخصّ مضمون العالم التخيلي في روايته،وهي إشارة على غاية من الأهمية،ولا تقتصر على هذه الرواية،إنما على رواياته الأخرى،بل ومجمل التأليف الروائي في ذلك الزمن.فالعالم التخيّلي منمّط ومنشطر على نفسه،إنّه مبني على نماذج تجريدية متعارضة طرفها الأول تم تشكيله من عالم " الفضلاء" و" العقلاء" وطرفها الثاني تم استعارته من عالم " الرذلاء" و "الجهلاء"وهكذا فقد بثّ التناقض الأخلاقي بين النموذجين،وسيكون هذا التناقض هو الحافز لحركة الأحداث،والناظم لخصائص الشخصيات،وهو الخلفيّة التي تُعرض عليها نوازع الخير والشر في صراع مرير قاسٍ وطويل،عماده التضحية والمغامرة والوفاء والإخلاص والصدق من جانب،والخداع و التضليل والكيد والكذب والأنانية من الجانب الآخر.

    وبناء على الفرضية الأخلاقية التي تطرح كمسلّمة لا شك فيها،فإنَّ كلّ عناصر البناء الفني في النصّ تكون رهينة الأفق الأخلاقي للمعنى،وتتحرّك في مسار ثابت ينتهي دائماً بانتصار الخير،وهزيمة الشرّ،وعلى الرغم من أنّ الحبكة النصّية تطرح إمكانات متعدّدة للتشويق والإطناب وتعويق لحظة الظفر النهائية،فإنَّ النتيجة هي فوز الأحباب والعشاق والأخيار من الفضلاء والعقلاء،وخسارة المعارضين من الأدنياء الذين هم وحدهم الرذلاء والجهلاء في عالم يحتاج إليهم كعلامة سوداء،ليظهر الخير الأبيض.وخلف كل حركة وموقف ثمة تضادّ دلالي وبنيوي،للإيهام بأنَّ عالم الحكاية هو عالم الحياة،فالأخيرة تحتاج دائماً إلى العبرة والموعظة،ذلك ما كان يشغل الفكر القديم،ويشكّل صلب فرضياته الفكرية والأدبية والدينية والأخلاقية،وقد تجلّى في المرويات السردية العربية التي جهزت الرواية العربية في أول نشأتها بنظام دلالي مقنّن وكامل ومتلازم العناصر.هذا الأمر يُدعم لدى "البستاني" والروائيين اللاحقين بإشارات لا تغفل عن الوظيفة الأخلاقية للرواية،فهو يحدد في رواية" أسماء"وظيفة الرواية في عصره بالصورة الآتية:" المقصود من روايات كهذه الروايات إصلاح الهيئة الاجتماعية ببسط المبادئ الصحيحة"(22).

    وذلك أمر يرد أيضا في رواية "بدور" التي يؤكد فيها أنّه ينبغي للروايات أن تكون"موافقة لمشرب الشبان،مع المحافظة على الآداب،ومجانبة كل ما يهيج الأميال الفاسدة"(23)ويطّرد في معظم رواياته،فالوظيفة الأخلاقية للرواية حاضرة في ذهنه،والمقصود من كتابتها ونشرها،هو" غرس الآداب في القرّاء"(24).والهدف منها " تمكين الأهالي من الحصول على فكاهات جامعة بين أسباب الملاهي والنفع"(25).وفي ضوء كل هذا تفهم إشارة "روجر ألن"،التي ذهب فيها إلى أنَّ " البستاني" في رواياته قد بدأ" الخطـوة الأساسية لتهيئة قـرّاء لذلك النوع الأدبي،وذلك بالـربط بين عناصر الترفيه وعناصـر ولإرشـاد في عمـل واحد"(26).

    يعرف " البستاني" أنَّ تلك الوظيفة وذلك الهدف لا يتحققان إلاَّ بحدث مداره حكاية حب يحتضنها سياق ثقافي عام؛فالحقائق التي يتقصّد الروائي إرسالها إلى المتلقّي لا تُقبل إن لم ترفق بحكاية مشوّقة،ولهذا يحرص على التأكيد بأنَّ كثيرا من القرّاء لا يحبون الحقائق المفيدة،بل يكتفون بالوقوف على خبر العاشق والمعشوقة،و"هذا خطأ مبين؛لأننا لا نقدر أن نفهم حقيقة مركز العاشق ولا مركز المعشوقة،ولا الحوادث الجارية،ما لم نقف على تواريخ أزمانهم وعلى عاداتهم وحروبهم،هذا وكم من فائدة تاريخية يحصل الإنسان عليها بواسطة روايات،فيكون قاصدا الوقوف على خبر المتحابّين،فيعثر بحقيقة تاريخية أو نتيجة حكمية أو إصلاح أو تنكيت يلزمه أكثر من غيره،فالضجر من الكلام عـن هذه الأمور في بلاد ظروفها كظروف بلادنا خطأ عظـيم"(27).ويتكرّر الأمر ذاته في روايات أخرى.وكان " البستاني" شأنه شأن معظم الروائيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يوقف مسار الأحداث،ويتدخّل لإبداء أفكاره الخاصّة،فيما له صلة بوظيفة التمثيل السردي في النصوص،وهذه ظاهرة كانت شائعة منذ " خليل الخوري"و" مرّاش"،وظلت إلى " زيدان" و" هيكل" وما بعد ذلك.

    يُختزل العالم التخيّلي في روايات "سليم البستاني"،بأحداثه وشخصياته ونظامه الدلالي إلى نماذج أخلاقية متنازعة شديدة الشبه بعالم المرويات الخرافية والسيرية المو########،وتتجلّى الفكرة المهيمنة من خلال الصراع بين النماذج الُمجسّدة للفضائل والرذائل،ففي رواياته التسع التي ذكرناها تقوم الحبكة السردية على تعارض نوايا ورغبات وإرادات ورؤى وتطلّعات،وتتركّب الأحداث لتبرهن على أنَّ المصالحة بين عالمي الخير والشر أمر مستحيل،ولا بد من هزيمة الأشرار ليستقيم شأن العالم الفني التخيّلي.والشخصيات الخيّرة والشريرّة تواجه قدرها المحتّم،فهي مدرجة كوسائل لإثبات نظرة أخلاقية للعالم،وموتها في هذه الرواية وانبعاث أشباهها في الرواية الأخرى،وظهور هذه واختفاء تلك،هو أمر مقدّر كتعاقب الليل والنهار.فالنهاية هي ليست ختام فكرة فلسفية،إنما إقفال لحادثة في سلسلة من الحوادث الرتيبة المتتالية التي لا تمايز جذرياً فيما بينها،إنما تنويعات ضئيلة جداً في درجة اختلاف الوقائع وليس النسق البنائي والدلالي فيها.فثمة تصميم ثابت يفضي دائماً إلى نتائج معروفة؛لأنَّ نظام القيم الموزع في النصوص يتكرر فيها جميعاً بوتيرة واحدة فلا يجوز الاعتراض عليه،فالخيّر فاضل ومتسامح ولا يحقَّ له إلحاق الأذى بالآخرين،والشرّير مخادع ومضلّل وطامع،ولا يحق له أن يقوم بعمل خيّر.ولا بد للمتلقّي أن ينحاز إلى نماذج الخير،ليشارك في صوغ عالم عادل مُطهّر من دنس الأشرار.
    ويسود التشكيل الثنائي تلك النماذج،ففي الرواية الأولى" الهيام في جنان الشام" يتأسّس التعارض بين" وردة "و" سليمان"رمزي الخير،و" البدو"و" الأوباش"رمزي الشر،وهو الأمر الذي يتواتر ظهوره كنسق مغلق في بقية الروايات.فـ" أسماء" و" كريم البغدادي" في رواية " أسماء" يقابلهما ويعارضهما "بديع"و" بديعة". و"ريمة"و"ماجد " في رواية" بنت العصر"يقابلهما ويعارضهما"جميلة"و" أنيس"،وهكذا الأمر بالنسبة لـ" فؤاد" و" فاتنة" و"سلمى"و" راغب" و" سامية"و" فؤاد" في الروايات الثلاث الأخريات،فهم جميعاً يواجهون على التوالي"مراد" و "صابر" و"المأمور العثماني"و" صالح"و"واصف"و" فائز".وحتى في الروايات التي تستثمر الموضوعات التاريخية فإن الثنائية الضدّية هي النسق المهيمن،فـ" زنوبيا"و" جوليا" في مواجهة" الإمبراطور أورليانوس" والقادة الرومان. وفي روايتي " بدور"و" الهيام في فتوح الشام" تظهر" بدور"و"عبد الرحمن الداخل" في الرواية الأولى،و" سلمى"و" سالم" في الثانية،بمواجهة" الخليفة السفاح" و"القرصان"و" جوليان"و" أوغسطا "على التوالي.على أنّه في الرواية الأخيرة يدعم نسق التضادّ الصراع الأكبر بين " المسلمين"من جهة و" الرومان"من جهة أخرى في أثناء عملية فتح بلاد الشام.إلى ذلك فإنَّ نماذج الخير و نماذج الشر تتقوّى بشخصيات تساعدها في إنجاز أفعالها.ولا تخلو رواية من هذه الشخصيات الثانوية التي تسهّل للأبطال أعمالهم وتحقق لهم رغباته،وتستخدم ضدّ خصومهم،وهو أمر شديد الشبه بما ظهر في السير الشعبية والمرويات الخرافية.

    حينما ندقّق النظر في البناء الفني لروايات " البستاني" التأسيسية،وروايات معاصريه طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر،نجد أنّه بناء قائم على هذا النسق المغلق من الأحداث المعبرة عن أفكار ثابتة وجاهزة،على أنَّ " البستاني" ومجايليه،كانوا يستثمرون ذلك النسق لبث بعض الأفكار الإصلاحية،والحال فنقدهم كان خاصاً بالسلوك،ولم يصل إلى الأفكار المولّدة لتلك الأنساق المغلقة،وكما يقول " ميشيل جحا ":فالهدف الذي كان يتوخّاه " البستاني" من نشر رواياته هو"الموعظة،وأخذ العبرة والإصلاح الاجتماعي الذي كان يسعى إلى تحقيقه" ورواياته" تجمع بين التسلية والترفيه والترويح عن النفس والفائدة والغاية منها تربوية وتعليمية وتثقيفية"(2.

    سيمرّ وقت طويل قبل أن تنهار تلك الأنساق المغلقة،وتتحرّر الرواية العربية من هيمنة الفكر القديم.ومما اهتم به أولئك الكتّاب،وعلى رأسهم " البستاني" ثم "جورجي زيدان" فيما بعد،هو نقد السلوك والعادات، والدعوة للأخذ بالتمدّن الغربي في مظاهره الخارجية التي كانت قد انتشرت في ربوع بلاد الشام ومصر وبلاد عربية أخرى.ولذلك فإنَّ " طرّازي " في تقويمه للبعد الإصلاحي المبثوث في روايات " البستاني"،يذهب إلى أنَّ قلمه كان " أعظم ترجمان للتمدن الغربي في ديار الشرق"(29).

    وهذه الملاحظة،بذاتها،لم تفت "محمد يوسف نجم" الذي خلص إلى تقويم تلك التجربة الروائية الرائدة بقوله:"هي أول نتاج ضخم في أدبنا،وعلى الرغم من الإطار الرومنطيقي الصريح الذي يلفّها وما يفرضه من المبالغات والصدف والبعد عن الواقع وفتور الشخصيات وبُعدها عن الطبيعة الإنسانية،وجفاف العرض وضعف الأسلوب،لا نستطيع إلاَّ أن نسجّل لصاحبها فضل السبق في هذا الفن،وتنبيه أذهان الكتّاب إليه،ولفت نظر عامّة القراء إلى ما يحويه من لذة وفائدة. وعيب "البستاني" الأول أنه كتب ليعظ ويُصلح،لا ليحقّق مُثلاً فنية،نصبها أمام عينيه.وهذا العيب تخفّفه معرفتنا لروح الأدب في هذه الفترة،فقد كان الأدباء..ينتجون الأدب على اختلاف ألوانه لتحقيق غاية اجتماعية هي الإصلاح والتهذيب"(30).

    وفي سياق لا يتقاطع مع هذا الرأي،قال باحث آخر" من الحق أن نقرّر أنَّ السمات الفنية لم تكتمل لدى البستاني،إذ نفتقد الروابط والتحليل والاستبطان،ونلتقي بالسطحية والتفكّك والتناثر والعظة وعدم رسم الشخصيات،والمباشرة،والتاريخ ،والجغرافيا،والاجتماع...الخ، فكأن مهمته الصحفية قابعة في عمله هذا،كما نلتقي بالسجع والإطالة والمصادفات والتضخيم والتهويل،مما يجعل عمله بداية تمهيدية لا عملا فنيا قصصيا ناجحا"(31).

    5."علي مبارك":"علم الدين" وتعطّل الميثاق السردي



    في هذا الجو المشبع بالأهداف الاعتبارية،لايمكن للنصوص الأدبية أن تنأى عن الانخراط في وظائف متّصلة بالسياق الثقافي العام للعصر الذي ظهرت فيه،فهي،كما يذهب "آيزر"،تشكّل رد فعل للمواقف المعاصرة لها،وتلفت الانتباه إلى المشكلات التي تحدّدها معايير عصرها،على الرغم من أنَّ تلك المعايير لا تقدم حلولا لها(32) وقد استشعر نخبة من الكتّاب بأنَّ السرد يصلح وسيلة لتمثيل الأهداف الاعتبارية،نجد ذلك واضحا في المقدّمة التي وضعها "علي مبارك"(1823-1893) لكتابه" علم الدين "وجاء فيها:" وقد رأيت النفوس كثيرا ما تميل إلى السِّيَر والقصص وملح الكلام،بخلاف الفنون البحتة والعلوم المحضة؛فقد تعرض عنها في كثير من الأحيان؛لاسيما عند السآمة والملال من كثرة الاشتغال وفي أوقات عدم خلو البال.فحداني هذا أيام نظارتي ديوان المعارف إلى عمل كتاب أضمّه كثيرا من الفوائد في أسلوب حكاية لطيفة،ينشط الناظر في مطالعتها،ويرغب فيها رغبته في ما كان من هذا القبيل،فيجد في طريقه تلك الفوائد ينالها عفوا لا عناء،وحرصا على تعميم الفائدة وبث المنفعة،فشرعت في جمع هذا الكتاب،مستمدا من عناية الله...فجاء كتابا جامعا،اشتمل على جمل شتّى من غرر الفوائد المتفرقة في كثير من الكتب العربية والإفرنجية،في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الخليقة،وغرائب المخلوقات وعجائب البر والبحر،وما تقلّب نوع الإنسان فيه من الأطوار والأدوار في الزمان الغابر وما هو عليه في الوقت الحاضر..على نمط يسمو من السآمة،ولا يميل إلى الملالة،مفرغا في قالب سياحة شيخ عالم مصري،وسِم بعلم الدين مع رجل إنكليزي،كلاهما هيان بن بيان،نظمهما سمط الحديث لتأتي المقارنة بين الأحوال المشرقية والأوروبوية"(33).

    هذه المقدمة تشير إلى جنس كتاب" علم الدين" الذي ظهر في عام 1882 فالمؤلّف يشير بوضوح إلى أنَّ هدفه فيه:الفوائد المتفرّقة في كثير من الكتب العربية والإفرنجية،في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الخليقة.والإطار السردي المتقطّع والرتيب إنما جاء بهدف تجنّب السآمة والملال من كثرة الاشتغال وفي أوقات عدم خلو البال.ويكاد الكتاب يكون موسوعة تتضمن المعارف السائدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بداية من المعلومات الجغرافية والتاريخية والعلمية والدينية في العالمين الشرقي والغربي،وصولا إلى استخدام البخار في تسيير القطارات،وتكاليف بناء السكك الحديد وأطوالها في العالم،وحديث مفصّل عن مواسم الأعياد،والخانات والفنادق،والبريد،والملاحة،والبراكين،والمسرح،والقهوة،والحشيش،واللؤلؤ، والحشرات،والحيوانات،والجيولوجيا،وعشرات الموضوعات الأخرى،ومنها علوم اللغة العربية، وتاريخ العرب،وقضايا فقهية ودينية،وشرح العادات الاجتماعية والأخلاقية وغيرها.وتختنق الحركة السردية وسط هذه الاستطرادات اللانهائية التي تقتحم الحديث وتتشعّب،ثم فجأة ينتهي الكتاب،والشخصيات قد وصلت باريس في طريقها إلى بلاد الإنجليز دون أن تنجز الغرض الذي يمكن اعتباره( الميثاق السردي) المحرّك للأحداث ألا وهو الاتفاق بين علم الدين ورجل إنجليزي ويقوم بموجبه علم الدين بتدقيق معجم" لسان العرب"بهدف نشره لصالح الإنجليزي،فينطلقان من مصر إلى بريطانيا لتحقيق الهدف،يرافقهما برهان الدين،ابن علم الدين،ثم يلتحق بهم فيما بعد يعقوب.

    ينتهي الكتاب دون أن يتحقق مضمون التعاقد على مستوى الفكرة وعلى مستوى السرد. والحقّ فمضمون الكتاب،والطريقة الاستطرادية،والهدف المعلن في المقدمة وفي تضاعيف الكتاب يتعارض مع الميثاق المذكور،فالمؤلف يريد أن يجعل منه سمط الحديث للمقارنة بين الأحوال المشرقية والغربية.ولكن هذا لايعني غياب المكونات السردية في كتاب" علم الدين" على العكس تماما فقد كانت الحركة السردية الابتدائية موفّقة،فالمؤلف ابتدع شخصيتين خياليتين" كلاهما هيان بن بيان"،وهو في هذا يحذو حذو " الحريري" و"اليازجي"،وقد أشارا في مقاماتهما إلى فكرة اختلاق الشخصيات،ثم ابتدع فكرة التعاقد،وأخيرا أطلقهما في رحلة داخل فضاءين ثقافيين مختلفين:العالم الشرقي والعالم الغربي.لكن الرغبة العارمة لأن يكون الكتاب موسوعة إخبارية وتاريخية جعل الحركة السردية تتضاءل،وتتوقف أحيانا،وظلّ الأمر يتفاقم؛أدى في النهاية إلى توقف الكتابة في منتصف الطريق دون أن تتحقق نتائج تلك الحركة،ولا يُعرف الآن فيما إذا كان " علي مبارك" قد توقّف عن الكتابة والشخصيات تتجوّل في باريس،أم أنّه أنهى الكتاب،واقتصر الأمر على نشر الأجزاء الأربعة الأولى فقط منه.وإذا أخذنا المقدّمة في الاعتبار كدليل على الهدف من الكتاب،فإنَّ مضمون الكتاب ورسالته تحققا،لأنَّ المؤلّف أورد كلّ ما وعد به في المقدمة،سوى المضي في تحقيق الميثاق السردي إلى نهايته،ولما كنّا نرى أنَّ هنالك تعارضا بين طبيعة الميثاق ومضمون الكتاب،وأنَّ المؤلّف كان اصطنع ذلك الميثاق لترتيب مادة الكتاب المستعارة من عشرات الكتب العربية والأجنبية،فقد انتفت أهمية ذلك الميثاق الذي لم ترد أية إشارة إليه إلاَّ لحظة توثيقه في القاهرة ثم نُسي نهائيا،فحلّ محلّه الهدف الذي شدّد عليه "مبارك" في المقدمة.ومن المؤكد أنَّ كتابا يهدف إلى تحقيق الرسالة التي أرادها المؤلّف لن ينتهي على الإطلاق،فلابد من وقفه عند نقطة ما فجأة دون إبداء أي سبب.وقع تعارض لا يخفى بين مسوغات السرد ورسالة الكتاب.ولم يكن ممكنا،في نهاية الأمر إلاَّ وقف الاثنين معا.

    لم يستطع "علي مبارك" التوفيق بين الحركة السردية التخيّلية التي تمثّلها علاقة الشخصيات المتخيّلة في النصّ،والرسالة التي يلحّ على إيرادها في الكتاب،كما نجح فيما بعد "جورجي زيدان" في التوفيق بين الحركة السردية المتخيّلة والمادة التاريخيّة،و"محمد المويلحي" في الانسجام بين تجوال الشخصيات،ووصف المظاهر المستحدثة بعد عصر الباشا " أحمد المنيكلي"،ولم يكن ذلك بدعة في عصر " علي مبارك"،فقد كان "جورجي زيدان" يورد قوائم بمصادر بعض رواياته التاريخية،وكثير من المسرحيات آنذاك كانت تقوم على أخبار وردت في الكتب الأدبية والتاريخية،ومنها مسرحيات "مارون النقّاش" و" إبراهيم الأحدب"،ولكن الأمر مع " علي مبارك" جاء ليعطّل الأحداث،ويقدّم فصولا إخبارية معرّبة بتصرّف عن كتب أجنبية حول كشوفات علمية وجغرافية،أو نصوصا من المعاجم وكتب التاريخ والدين،فصولا تعليمية مبسّطة يضعها الإنجليزي أمام "علم الدين"،ليبيّن له تقدّم الحضارة الغربية،وفصولا تعليمية يقدمها "علم الدين" للإنجليزي ليبين له الماضي العريق لثقافته العربية– الإسلامية.

    تشكّل فكرة الارتحال إطار مناسبا لبعث حركة سردية شائقة،وهذه الفكرة راسخة في الموروث السردي العربي،ظهرت في مرويات الإسراء والمعراج،وفي السير الشعبية،وفي معظم الحكايات الخرافية التي تضمنها كتاب" ألف ليلة وليلة" و تكرّست بصورة نهائية في المقامات عند الهمذاني والحريري وابن الصيقل الجزري والسرقسطي واليازجي وعشرات غيرهم،وفي "رسالة الغفران" و"رسالة التوابع والزوابع"،وفي كتب الرحلات إلى درجة يبدو السرد القديم قرين حركة ارتحال وعودة.ويبدو أن " علي مبارك" قد وجد هذا الإطار مناسبا له،كما سيجد ذلك "المويلحي" فيما بعد،لكن الاستمرار في نمط من الكتابة جعل التناقض يتفاقم بين الأمرين.

    ينطلق الإنجليزي و"علم الدين" وابنه من القاهرة باتجاه بريطانيا،ويصلون الإسكندرية بالقطار،فتكون الرحلة مناسبة لعرض مفصّل حول نشأة السكك الحديد في العالم،ثم ينطلقون بحرا إلى مرسيليا،وتكون مناسبة لمزيد من التفصيل في كل ما يصادفون،ثم تنطلق المجموعة صوب باريس محطتها الأخيرة في الكتاب،وهناك تقدّم تفصيلات كثيرة حول العالم،ولكنّ كلّ ذلك لا يخلو من الفصول السردية منها جولات" إبراهيم" و"يعقوب"،بل إن حكاية "يعقوب" الطويلة التي تتوازى مع حركة المجموعة تعتبر إحدى أهم العناصر السردية في الكتاب،فالراوي الذي يطلق على نفسه صفة "ناقل الحديث"يتلاعب بحكاية "يعقوب" فيقوم بتقطيعها وتوزيعها على كثير من الفصول،فيضفي على الكتاب روح الحركة والخيال.ومصطلح "ناقل الحديث" مستعار من السير الشعبية.

    ليس من المناسب الآن محاكمة هذا الكتاب طبقا للتصوّرات الخاصة بالدراسات السردية المعاصرة،لكن من المفيد القول:إنَّ رسالة الكتاب الصارمة قد حالت دون انفتاح السرد على وظيفته الطبيعية،فقد ظهرت الشخصيات المنمّطة الجاهزة ثقافيا وعقائديا وسلوكيا،فلا تطوّر في الأفعال السردية،إنما استخدمت الشخصيات وسائل لتلخيص مئات الصفحات المبثوثة في الكتب المختلفة،فالشخصيات لا تنطق بشئ خاص إنما تورد معلومات مستعارة من كتب يشار إليها علنا في المتن أحيانا،ويتم تجهيلها أحيانا أخرى،وكثير منها تقارير إخبارية كانت تنشرها الصحف والدوريات والكتب التعريفية التي بذل "علي مبارك" جهدا كبيرا في تعريبها وتلخيصها،فأصبحت شاهدا تاريخيا الآن على لحظة الدهشة الأولى بالعالم الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

    إذا ادرج كتاب"علم الدين " في سياق المرحلة التي نتحدّث عنها الآن،فيبدو وكأنّه لحظة توقّف بين " البستاني" الذي توفي بعد ذلك بقليل و" جورجي زيدان" الذي بدأ بعد عقد يستأنف مسار " البستاني"،فـ" علم الدين" كما كرّر " علي مبارك" كثيرا،إنما هو كتاب يتوسّل بالحكاية أسلوبا له،لكنّه لم يوفّق في ذلك،فقد تقهقر الفعل السردي لصالح المادة التوثيقية الثقيلة والتعريفية،ولكنّ الكتاب من ناحية أخرى كشف سياقين مختلفين حول فكرة التمدّن؛السياق الغربي القائم على العلوم التجريبية،والسياق الشرقي المنهمك بالعلوم الشرعية،ومن هذه الناحية كان كتاب"علم الدين "وسيطا مهما،يضمر رسالة تدفع ضمنا بفكرة المقارنة بين عالمين مسوقين بفكرتين مختلفتين عن نفسيهما ووجودهما.ويخيّل لنا أنَّ هذا هو السبب الذي من أجله وصف " لويس شيخو" الكتاب بأنّه جاء على" طرز رواية أدبية عمرانية" وأنَّ علي مبارك " أودعها كثيرا من المعارف والفنون، كالتاريخ، والجغرافية،والهندسة،والطبيعيات،وغير ذلك،مما قرّب إلى قرائه فهمه بمعرض شهي"(34).ووافقه في ذلك "رشيد عطا لله"،وأضاف:بأنه" أودعها الفرائد الجمّة"(35).

    وكان "عبد المحسن طه بدر" قد صاغ ملاحظاته حول الكتاب،فقال:بأن"علي مبارك لا يهتم بهذه الرحلة إلاَّ باعتبارها وسيلة تتيح له الفرصة لتقديم معلوماته ،وكثيرا ما ينسى هذه الصلة ليتحدّث في فصول خالصة عن العلم وحده، كما أنَّ الشخصيات لاوجود لها إلاَّ باعتبارها أداة لعرض معلوماته،ومن مظاهر عدم الاهتمام بالعناصر الروائية اختفاء العنصر الغرامي والتشويق،وهي ظواهر تتصل بها الرواية التعليمية بصورة خاصة،كما يسود الأسلوب العلمي الجاف جو الكتاب كله"(36).وبالإجمال فإنَّ الغرض من الكتاب" تقديم معلومات إرشادية"(37).

    6."جورجي زيدان":التمثيل السردي للتاريخ



    بدأ "جورجي زيدان"( 1861-1914) سرديا من حيث انتهى "سليم البستاني"،وشأن سلفه الذي أنجز في مدة وجيزة مجموعة كبيرة من الروايات،فإنّه،هو الآخر،وفي غضون ثلاثة وعشرين عاماً، أنجز ثلاثاً وعشرين رواية،بدأها بـ" المملوك الشارد"في عام 1891،وختمها بـ" شجرة الدر" في عام وفاته.وقد احتذى البستاني في إنتاجه الروائي،سواء تعلق الأمر بالأبنية السردية والدلالية للنصوص الروائية،أو في الظروف المرافقة لعملية الكتابة والنشر،فكما كان الأول يحث جهده للوفاء بحاجة مجلة " الجنان" الدائمة والمتجدّدة كل نصف شهر،فإن الثاني كان يمخض قدراته كل شهر لإشباع حاجة مجلة " الهلال" إلى درجة لم يكن يعرف من رواياته التي يكتبها إلاَّ خطوطها العامة،وبهذا الصدد يقول:"من الغريب ما يتفق لنا من هذا القبيل أننا ننشر الفصل من الرواية ونحن على غير بيّنة من الفصل الثاني،أي أننا نضع حوادث كل فصل أو بضعة فصول في حينها،ويبقى سائر القصة في علم الغيب.فلو سئلنا أن نقص ما بقي منها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً،إلاَّ إذا سئلنا عن غرض الرواية بوجه الإجمال (أي عن هيكلها)فلا نظن القارئ أكثر تشوقاً إلى مطالعة الرواية منا إلى كتابتها؛فإننا نفرغ من كتابة الفصل ونحن تشوّقا إلى كتابة ما يليه تطلّعاً إلى ما سيكون بعده،فنحن والقارئ في ذلك سواء" (3،ويشرح " زيدان" السبب:" إن ما ننشره من رواياتنا في الهلال إنما هو ابن يومه فلا نكتب الرواية عند كل هلال إلاَّ ما نحتاج إلى نشره في ذلك الهلال،ولانفعل ذلك إلاَّ اضطرارا لما تحتاج إليه الروايات التاريخية من المراجعة والتنقيب لتمحيص الحوادث التاريخية،وتطبيقها على الحوادث الغرامية حتى لا يظهر فيه تكّلف أو ضعف"(39).وكما كنا قد بيّنا ذلك،فالأمر كان شائعاً في الرواية العربية آنذاك.

    كانت تاريخيات "زيدان" قد بدأت بالظهور في الحقبة التي ازدهر الاهتمام فيها بتأليف الروايات التاريخية وتعريبها،وروايات المغامرات والحب.وإذا كان "البستاني" يعتبر أنموذجاً للتأليف من بين عدد كبير دونه أهمية وتأثيراً،فإن عدداً وافرا من الروايات التاريخية الأجنبية كانت قد بدأت بالظهور معرّبة إبان تلك الفترة، من ذلك أنَّ تعريبين متتاليين لرواية" الكونت دي مونت كريستو" لـ" إسكندر دوماس"،ظهر الأول،الذي قام به "سليم صعب" في عام 1866، في بيروت والثاني في القاهرة قام به "بشارة شديد" في سنة 1871،وبعد عشر سنوات فقط،عرّب "قيصر زينية" رواية دوماس الأخرى " الكونت دي مونغوميري"وصدرت في القاهرة مسلسلة في جريدة "الأهرام" خلال عام 1881 ثم رواية " الفرسان الثلاثة" في أربعة أجزاء بتعريب " نجيب حداد"،ظهر في القاهرة عام 1888 هذا فضلاً روايات أخرى كثيرة لـ"فولتير" و"فينلون" و"شاتوبريان" و"سكوت" وغيرهم.

    هذا الأمر كان مثار اهتمام "زيدان" ومتابعته،،فقد أورد رصداً لظاهرة الإقبال على التعريب الروائي في كتابه" تاريخ آداب اللغة العربية" ومما قال فيه إنَّ معاصريه" قد أكثروا من نقل الكتب عن الفرنساوية والإنكليزية والإيطالية،وهي تسمى في اصطلاح أهل هذا الزمان "روايات"والروايات المنقولة إلى العربية في هذه النهضة لا تعدّ ولا تحصى،وأكثرها يراد به التسلية،ويندر أن يراد بها الفائدة الاجتماعية أو التاريخية أو غيرها".وما أن ينتهي من رصد ذلك إلاَّ وينتقل إلى وصف الكيفية التي تلقى بها القرّاء العرب تلك الروايات،دون أن ينسى الفارق بينها والمرويات السردية العربية "رحّب قرّاء العربية العقلاء بهذه الروايات لتقوم مقام القصص التي كانت شائعة بين العامة لذلك العهد مما ألّفه العرب في الأجيال الإسلامية الوسطى،نعني قصة علي الزيبق وسيف بن ذي يزن والملك الظاهر.فضلاً عن القصص القديمة كعنترة وألف ليلة،فوجدوا الروايات المنقولة عن الإفرنجية أقرب إلى المعقول مما يلائم روح العصر"(40).

    والحق فقد اكتسحت المعربات التاريخية المحاكاتية عالم السرد العربي الحديث في الحقبة التي كان "زيدان" منهمكا في تاريخياته،وبخاصة روايات "دوماس الأب" التي توصف عادة بأنها " نهر خارق من السرد" يركز فيها على تاريخ فرنسا،هادفا من ذلك إلى جذب القراء الذين كانوا يجهلون أشياء كثيرة عن تاريخ بلادهم بعد أن تربّعت بوصفها إحدى الدول الأوربية الكبرى. لكن" زيدان" الذي شغف بهذه السرود التاريخية التي تهدف هي الأخيرة إلى تأسيس وعي بالماضي،كان يريد من وظيفة هذه السرود أن تحقق الهدف نفسه كما تقرّر في تاريخيات" دوماس " وسكوت" ولكن بأسلوب مختلف.

    وسط تفاعل النصوص المؤلّفة والمعرّبة التي شاعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،وبخاصة الاقتباس غير المقيّد الذي ازدهر آنذاك،ظهرت على التوالي تاريخيات "زيدان" لتقدّم أول سلسلة،شبه متكاملة،تقوم على تمثيل سردي تاريخي للأحداث العربية– الإسلامية منذ العصر الجاهلي إلى الانقلاب العثماني في نهاية العقد الأول من القرن العشرين،وعلى الرغم من أن العمر لم يسعف "زيدان" بإكمال السلسلة،فظلت بعض العصور دون تغطية،إلاَّ أنّه كان يعلن باستمرار أنّه في سبيله لإعادة تفريغ التاريخ العربي –الإسلامي من مظانه الكبرى والمعقّدة وتقديمه مبسطاً ومتتالياً.

    ومن أجل شدّ الانتباه كان يختلق قصة حبّ،أو ينتزع من ذلك التاريخ حكاية ليجعلها الوسيلة التي بها يستكشف الوقائع التاريخية.ولهذا كان يشير دائماً وبإلحاح،وفي معظم رواياته،إلى أنه ينتقل إلى مرحلة،بعد أن فرغ من تقديم أخرى،بحيث يبدو التصميم و القصدية واضحين،وما الحكاية إلاَّ وسيلة لإثارة الاهتمام،وكان يذكر المصادر الأصلية التي يستعير منها الأخبار التاريخية منها.وبعد أن أتم سبع روايات تاريخية وجد أنّه من اللازم عليه تقديم تفسير لطبيعة الكتابة التاريخية –السردية لديه،وبذلك فقد استنبط القانون العام الذي سار عليه،والذي سيسير عليه إلى النهاية،وقد جاء ذلك عام 1902 في المقدمة المهمّة التي وضعها كمدخل لرواية" الحجاج بن يوسف الثقفي" وبيّن فيها تصوّره لمجموعة من القضايا،وفي مقدمتها،وظيفة الرواية التاريخية عنده،ووظيفتها عند الكتّاب الأوربيين،ووظيفة الحكاية الفنية داخل النصّ،وأخيراً كشف النقطة الأساسية في كل مشروعه الروائي،وهي اعتبار رواياته مرجعاً شأنها شأن كتب التاريخ،قال:"رأينا بالاختبار أنَّ نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته،والاستزادة منه،وخصوصا لأننا نتوخّى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج.وفيهم مَن جعل غرضه الأول تأليف الرواية،وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة،فجرّه ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث التاريخية بما يضلّ القرّاء.وأما نحن فالعمدة في روايتنا على التاريخ،وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقا للمطالعين.فتبقى الحوادث التاريخية على حالها،ندمج فيها قصة غرامية،تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها،فيصح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص،إلاَّ ما تقتضيه القصة من التوسع في الوصف مما لا تأثير له على الحقيقة"(41).

    كان " جورج لوكاش" قد قرّر بأنَّ الرواية التاريخية نشأت في مطلع القرن التاسع عشر،ثم أبدى ملاحظة مهمّة،ذهب فيها إلى أنّه يمكن العثور على روايات ذات موضوعات تاريخية في القرنين السابع عشر والثامن عشر أيضا،ويستطيع المرء إذا ما أحس ميلا في نفسه إلى ذلك،أن يعتبر الأعمال القروسطية المعدّة عن التاريخ الكلاسيكي أو الأساطير" أسلافا " أو مقدمات للرواية التاريخية،وهي في الحقيقة،تعود إلى ماض أبعد حتى تبلغ الصين أو الهنـد(42).وطبقا لـ" لوكاش"،الذي قدّم دراسة معمّقة عن الرواية التاريخية،تكون هذه الرواية،بمعناها الحقيقي،حديثة عهد في الآداب الغربية،وهي رواية لا يراد بها أداء وظيفة التاريخ،إنما استثمار المناخ التاريخي،وتوظيفه كخلفية للوقائع،كما كان " فرح أنطون" قد حدّد تلك الوظيفة في وقت مبكّر،حينما قال:" إنَّ الروايات التاريخية لا يقصد بها سرد وقائع التاريخ وأرقامه،فإنَّ طالب هذه الوقائع والأرقام يلتمسها في كتب التاريخ حيث تكون قريبة المنال ليجردها عمّا ليس منها،لا في الروايات المطوّلة التي تشتبك وقائعها الخيالية بها،ولا يصبر طالب التاريخ على مطالعتها،وإنما المقصود من الروايات الخيالية...تكميل التاريخ في جوانبه الناقصة"(43).وهذا ردّ ضمني على ما ذهب إليه "زيدان" في جعل التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض الروائيين الغربيين.

    من الواضح أنَّ الفوارق الدقيقة بين التاريخ كخطاب موضوعي،والسرد كفنّ لتشكيل الأحداث كانت ملتبسة في ذهن "زيدان"،وكان إحساسه بها باهتاً،فلم يكن يظن أنّه بوساطة السرد سينزلق ترتيب الأحداث ودلالتها إلى سياق غير سياقها،وإعادة تشكيلها سردياً لن يحافظ بأي شكل من الأشكال على أبعادها الموضوعية أو شبه الموضوعية،ولهذا فإنَّ جوهر عمل "زيدان" الملتبس هذا سينتهي به إلى الانقسام على نفسه،فهو في الوقت الذي يريد أن يجعل" التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج" فإنّه لم يأل جهداً في بث المواعظ الاعتبارية المتعدّدة الأبعاد والأغراض في تضاعيف رواياته،وبذلك كان يستخلص عبرة،فالتاريخ غادر ميدانه كسلسلة وقائع،وأعيد تركيبه ليكون مصدر عبرة وعظة،في حين يريده هو أن يكون مرجعاً.وبعيداً عن الأغراض المباشرة لاستخدام التاريخ كخلفية للحكايات عند " زيدان" - وبعضها خاص بعملية إشباع حاجات التلقّي المتزايدة لهذا الضرب من التأليف الروائي آنذاك - فإننا نظن أنّه كان يريد تأسيس وعي ميسّر بالتاريخ،وثمة بون شاسع بين كتابة التاريخ والوعي به؛فالكتابة ممارسة تعليمية،والوعي مجاهدة تفكيرية.

    حدّد " زيدان" الوظيفة الخاصة بالرواية التاريخية كما فهمها وكتبها،وبدا أقلّ تشدّدا مما صرّح به من قبل،فقال:" لا نريد بالرواية التاريخية أن تكون حجّة ثقة يرجع إليها في تحقيق الحوادث وتمحيص الحقائق،ولكننا نريد أن تمثل التاريخ تمثيلا إجماليا بما يتخلّله من أحوال الهيئة الاجتماعية(=المجتمع) على أسلوب لا يستطيعه التاريخ المجرد إذا صبر الناس على مطالعته..فإذا جرّدت روايتنا من عبارات الحب ونحوه كانت تاريخا مدقّقا يصح الاعتماد عليه،والوثوق به،والرجوع إليه،وإن كنا لا نطلب الثقة بها إلى هذا الحدّ،وإنما نعرف لها مزية هي تشويق العامّة لمطالعة التواريخ باطلاعهم على بعضها على سبيل الفكاهة"(44).وذهب أكثر من ذلك إلى تفصيل وظيفة الرواية التاريخية بشكل عام،فقال:"بالروايات التاريخية نهيّئ الناس لمطالعة التواريخ وإن يكن في تأليف الرواية من المشقّة أضعاف ما في تأليف التاريخ مع ظهور فضل مؤلّف التاريخ أكثر من ظهور فضل مؤلّف الرواية،ولكن غرضنا الفائدة العامة وأقرب الطرق إليها من حيث التاريخ الطريقة القصصية التي نحن سائرون فيها.زد على ذلك أنَّ لهذه الطريقة في نشر التاريخ مزية لا تتأتى لنا في التواريخ المحضة،نعني بها تمثيل الوقائع التاريخية تمثيلا يشخص تلك الوقائع تشخيصا يقرب من الحقيقة،تتأثر منه النفس فيبقى أثره في الحافظة فضلا عمّا يتخلّل ذلك من بسط عادات الناس وأخلاقهم وآدابهم مما لا يتأتى بغير أسلوب الرواية إلاَّ تكلفا"(45).

    وعلى الرغم من هذا التفصيل الذي كان القصد منه بيان الكيفية التي وظفت فيها المادة التاريخية،فقد وجّه "زيدان" نقداً إلى الروايات التاريخية الأجنبية التي كانت الحكاية فيها حاكمة على التاريخ،وهذا نقد مبطّن لـ"والتر سكوت "و" إسكندر دوماس" كونهما غلّبا المكوّن الحكائي في رواياتهما على المكون التاريخي.ومع أنَّ " زيدان" كان حذراً مما اعتبره خطأ لديهما،الأمر الذي جعله يشطر رواياته إلى شطرين متوازيين:عرض أحداث تاريخية وعرض أحداث تخيّلية،فإنه،حينما لا يستطيع العثور على شخصيات تاريخية حقيقية يمكن ربطها بعلاقة حب رومانسية،كان يبتدع تلك الشخصيات من مخيلته؛فشخصيات رواياته تتحدّر عن مصدرين:الذاكرة التاريخية والمخيلة الإبداعية،ومثال النوع الأول شخصيات رواية " العباسة"ورواية " أبي مسلم الخراساني" وبعض شخصيات" عذراء قريش" ومثال النوع الثاني شخصيات رواية" الانقلاب العثماني"و" أسير المتمهدي" و" جهاد المحبين".

    اهتدى "زيدان"،فيما يخص المحتوى الدلالي للعالم الفني في تاريخياته،بالموروث السردي القديم الذي جهّزه بالنسق الدلالي العام،كما كان قد جهز " البستاني" من قبله عبر الحبكات العاطفية القائمة على المغامرة.وبالإجمال،وكما مرّ بنا كثيرا من قبل،فالروايات العربية إلى العقود الأولى من القرن العشرين كانت تنهل نسيجها الدلالي من المرويات السردية التي تقوم على الاستقطاب الثنائي المتضادّ بين الفضائل المطلقة والرذائل المطلقة،ولم يُخرق هذا النسق على الرغم من تغير الموضوعات بين تاريخية واجتماعية ودينية وأخلاقية،فثمة امتثال لذلك النسق،وقد ظلّ "زيدان " يفكر داخل هذا الإطار،فهو يضع شخصياته في منازعة أخلاقية أولية قوامها مناصرة الخير ومعاداة الشر،ويفصّل شخصياته على أساس الطبائع الثابتة،ولا يدخل تغييرا يذكر عليها إلى النهاية،إذ تظهر وتختفي وهي حاملة لطبائعها القارّة،فكأنَّ الخير والشر ليسا مفهومين زمنيين وثقافيين واجتماعيين منظورين،إنما هما طبعان وغريزتان ونزعتان لهما ثبات مطلق.وهو لا يسمح بالتحوّل من هذا إلى ذاك،إلاَّ نادراً جداً،فشخصياته نماذج مقفلة في مسارين لا تخرج عنهما؛لأنَّ التداخل والتحوّل سيفسد ثبات النسق الأخلاقي،وهذا يفضي إلى انهيار سلم القيم في العالم الفني الذي رسخه الفكر القديم على ركائز ثنائية متعارضة.

    هذا الانقسام الدلالي والحكائي،أي الانقسام الخاص بالقيم والآخر الخاص بالمناوبة بين المادة التاريخية والتخيلية،أضفى نسقية ثابتة على رواياته،وكان مثار نقد واضح تقدّم به نخبة من الدارسين،منهم " المازني" الذي قال:" إنَّ الحكاية عند جورجي زيدان مشوّشة مضطربة؛لأنّه لم يتولّها برويّة،ولم يتعهّدها بنظر وتدبّر..وهو لا يحلّل أخلاق أبطاله،ولا يشرح لك شخصياتهم..ولم يعن بتمييزهم،كما لم يعن بالقصة(= الحكاية) ولم يعن باللغة"(46) و"شوقي ضيف" الذي رأى أنَّ رواياته ليست روايات بالمعنى الدقيق" إنما هي تاريخ قصصي تدمج فيه حكاية غرامية، وهو تاريخ يحافظ فيه الكاتب على الأحداث دون أي تعديل، ودون أي تحليل للمواقف والعواطف الإنسـانية"(47)،ثم "سهيل إدريس" الذي فصّل الأمر بوضوح أكثر،مبينا مظاهر الضعف المتوطّن فيها،لأنَّ" تحليل نفسيات الأبطال يكاد يكون معدوما،فهو يبدأ بإعطاء صفات الشخصيات التي تقوم بالأدوار الرئيسية،وهي صفات عامة لا يراعي فيها الشعور البشري المتقلّب، وإنما يحتفظون بأخلاقهم وعاداتهم إلى النهاية، ثم أنّه يحرص على وصف جميع أبطاله، وكشف الستار عن شخصياتهم وصفاتهم بحيث أنَّ حسّ المفاجأة لدى القارئ يصاب بضربة فيتنبّأ بكل شيء ويزهد بالقراءة. ثم أنَّ تعليقات المؤلف وعظاته ودروسه تبدو نابية في سياق السرد، من غير أن تشرح شيئا"(4.وهذه الملاحظات الانتقادية التي انصرفت إلى المظهر السردي لروايات " زيدان" لم تحجب التقريظ الواضح للمظهر الأسلوبي فيها،فقد وصفه "رشيد يوسف عطا الله"،وهو من معاصريه:بأنّه" كان يرسل لفظه مسوقا للمعنى المطلوب،دون تكلّف أو صنعة"(49) فيما أكد "مارون عبود" :بأنه" كان يرسل عبارته على السليقة بلا تكلّف ولا تصنّع"(50).

    كل هذا سيفضي بنا إلى أنَّ كلّ روايات "زيدان" إنما هي تنويع ضعيف ومحدود لحبكة واحدة،وتغير نوع الأحداث وزمانها ومكانها وشخصياتها،لا يقود إلى تغيير في نظام العلاقات السردية فيما بينهما،هنالك نسق تكراري دائري مغلق في البناء والدلالة،أضفى على عناصر البناء الفني (الشخصية+الحدث+الزمان+المكان )سمات يصعب استبدالها وتغييرها.فالشخصيات تظهر حاملة لأفكار وملامح وأفعال لا تعرف التغيّر،وهي تُصوّر منذ البدء على أنّها أنموذج فكري وأخلاقي،وليس إنسانياً.وكلّ الأحداث إنما تُنضّد لدعم خصائص النموذج لتجعله في تضادّ مع أنموذج مناقض،وكما لاحظنا ذلك من قبل في روايات " البستاني"،فإنَّ روايات " زيدان" تنهج الأسلوب ذاته.فـ" سلمى"و" سليم" في رواية" جهاد المحبين" لكونهما خيرين وطيبين ومحبين،فإنّهما يوضعان بالضدّ من " وردة "و" الخدم" لأنَّ الأخيرين يسعيان لإفساد علاقتهما الخيرة.و" العباسة"و" جعفر البرمكي"ممثلا الخير،هما ضدّ" زبيدة "و" الفضل بن ربيع" لأنّهما شريران يحولان دون زواجهما.والأمر نفسه يتكرر بين " شيرين "و" رامز " من جهة،و"صادق"و"الأب"من جهة ثانية في رواية" الانقلاب العثماني"،وبين" فدوى"و" شفيق"من جهة،و" عزيز"من جهة أخرى في رواية " أسير المتمهدي".وبين كل من " أسماء بنت مريم"و"محمد بن أبي بكر "و" أبو مسلم الخراساني"و" جلنار"من جهة،في روايتي " عذراء قريش"و" أبو مسلم الخراساني"و" الأمويون"و" دهقان مرو" و" ابن الكرماني"من جهة أخرى.ويقاس ذلك الأمر في" غادة كربلاء"و" فتاة القيروان "و" شارل وعبد الرحمن "و" الأمين والمأمون ".ومجمل أعمال " زيدان" الروائية.

    مرّ زمن طويل قبل أن يخفت وهج التاريخيات في الكتابة الروائية،فقد أورثها "زيدان" لـ"محمد فريد أبي حديد" ثم "علي الجارم" فـ"محمد سعيد العريان" و"إميل حبشي الأشقر" وغيرهم،وستستأثر باهتمام " نجيب محفوظ" في مطلع حياته الأدبية قبل أن ينعطف إلى موضوعات أخرى.ولكن سلسلة "زيدان" التي لاقت صدى طيّبا لدى المتلقّي،وظلّت لمدة طويلة تستأثر بالاهتمام،امتصّت بصورة شبه كاملة الموضوع التاريخي،فانتهت الرواية التاريخية في الأدب العربي بتلك السلسلة،والمحاولات التي جاءت بعد ذلك ظلّت،إلى حدّ بعيد،تدور في الأفق البنيوي والدلالي لها،وقد ظهرت تلبية لحاجة أخلاقية وثقافية تريد نوعا من معرفة الماضي،وبتوفّر البدائل انحسرت الظاهرة نفسها؛لأنّها غيرت ترتيب المكونات،فبدل أن تتحرّر من قيد المادة الوثائقية،فتجعلها مرجعية للتفسير والفهم،جعلتها الهدف الأول،وذلك أمر لا يستقيم مع التمثيل السردي بدلالته الفنية.وفي الوقت الذي كانت تتوالى فيه روايات "زيدان " ظهر كتاب"حديث عيسى بن هشام" لـ" المويلحي" الذي نقض بقوة ظاهرة كل عناصر الثبات التي كانت شائعة من قبله في النصوص الروائية:الثبات الدلالي والبنيوي.


                  

العنوان الكاتب Date
الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-07-05, 05:58 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-07-05, 06:04 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-08-05, 08:25 AM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nassar elhaj05-09-05, 05:25 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nada ali05-09-05, 08:41 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-09-05, 01:03 PM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-09-05, 06:32 PM
      Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-09-05, 09:38 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nada ali05-10-05, 03:35 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-10-05, 04:58 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-10-05, 05:03 PM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-10-05, 07:59 PM
      Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Tumadir05-10-05, 08:13 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-11-05, 10:28 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-11-05, 01:09 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:01 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:14 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:28 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:30 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:32 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:35 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:37 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-14-05, 07:29 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-15-05, 07:12 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-19-05, 03:35 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de