الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 11:19 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-12-2005, 11:14 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    مقاربات بين الكتابة والديمقراطية

    عدنان الصائغ


    1
    حوار المسدس


    · أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين

    - القرآن الكريم -

    · اني لا أحول بين الناس وألسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين السلطان.

    معاوية بن أبي سفيان - الأمامة والسياسة -

    · الألسن التي نتكلم بها مختلفة أما الألسن التي في أفواهنا فواحدة.

    - رسول حمزاتوف -

    · الصحفي البريطاني يتدرب منذ نعومة أظفاره على الاستماع الى طرفي أو أطراف النزاع أما الصحفي العربي فيعيش على تقاليد داحس والغبراء، فأما داحسي وأما غبراوي.

    - فالح عبد الجبار -



    ما الجدوى أن أحاورك بالكلمة .. فتحاورني بالمسدس.. فلا حواري يصل إليك، ولا مسدسك يترك لي فرصة أن أتكلم أو فرصة أن تفهم، وبالتالي فكل كلام تحت قوس المسدس يبقى كلاماً خارج قوس الحوار.

    ثمة أوطان تتحاور بالدبابات وثمة كتاب يتحاورون بالتقارير الأمنية والخناجر، لكن غالباً ما ينتهي بهم الأمر إلى الفجيعة: أوطاناً أو نصوصاً..

    فحوار الطلقة يولّد مزيداً من الطلقات والأحقاد والجهل والجثث .. وحوار التقارير الأمنية يولد مزيداً من السجون والمعتقلين .. وكل هذا يبقى خارج قوس التأريخ .. ذلك أن الأمم لا ترتقي إلا بحضارتها، وحضاراتها لا تتكون إلا برقي ثقافاتها، وثقافاتها لا تأتي إلا من عصارة فكرها، وفكرها لا يأتي إلاّ من حوارها مع الذات والآخر.

    أن العصر الذهبي الذي مر بالأمة العربية لم يكن عصراً ذهبياً لو لم تولد فيه مختلف التيارات الفكرية والدينية والسياسية، وتنشب فيه معارك المعتزلة والخوارج والشيعة والسنة والأباضية والمرتجئة والجبرية والقدرية .. والخ .. والخ.

    لم يكن عصراً ذهبياً - رغم نواعير الدم - لو لم تفتح دار الحكمة أبوابها لأرسطو وأفلاطون وأبيقراط والسفسطائيين وزرادشت .. والخ .. والخ.

    فنشأ مبدأ الحوار بين الكلمة والكلمة والفكرة والفكرة والمعتقد والمعتقد، ورغم بعض حوارات السكين التي سجلها التاريخ، لكنها تبقى – بالقياس إلى حوارنا المعاصر – عصراً ذهبياً، يستطيع فيه رجلاً مثل سعيد بن المسيب أن يقول أمام الملاً: "إذا رأيتم العالم يغشي الأمراء فاحذروا منه فأنه لص" ثم ينزل من المنبر ماشياً إلى بيته مطمئناً، هادئ البال، دون أن يفكر بأن ثمة مسدساً كاتماً للصوت في انتظاره.

    غير أن عصرنا لم يعد يتسع لسعيد بن المسيب .. ولا صدور مثقفينا تتسع للحوار، ذلك أن المسدس أسس بنيته الخاصة به حواراً وفكراً ومريدين ومصفقين ومثقفين مهزوزين يتمايلون كالقصب أمام الريح ..

    مرة صرخ الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين قائلاً: "آه .. منا نحن المثقفين الجبناء" لم يقل ذلك إلا حين أدرك خطورة انهزام المثقف قبل خطورة انهزام السياسي .. فالمثقف يقود وعي الأمة، وهو حين يرتد أو يجبن أو ينهزم فأن ذلك معناه اهتزاز الأمة وسقوطها.. فحضارات الأمم تقوم على وعيها وفكرها وليس على سيفها ورمحها، فقد ينبو السيف وقد تكبو الخيل، فيكون ذلك خسارة معركة، ليس غير، فإذا ظل الوعي متحفزاً وناهضاً، فسرعان ما تستعيد الأمة خسائرها غير أن انكفاء الوعي قد يسبب خسارة أمة وتدهور حضارة لن تُسترد بالسيف أو المال. فالتاريخ كثيراً ما يحدثنا عن آلاف المعارك التي حدثت على ظهر البسيطة بين غالب ومغلوب وهي كلها تنصب في مضمار الصراع حول المال والنساء والأرض والسلطة، غير أن معارك الفكر حفرت نفسها على صفحات التاريخ وتغلغلت في وعي الأمم ووجدانها ، وكانت هي المسار الذي شق للإنسانية طريقاً نحو التقدم والتطور والازدهار.

    وكان فرسان الفكر كثيراً ما يسقطون مضرجين بدمائهم قرباناً لحرية الرأي والمعتقد، فيكونون كالشعل المتوهجة في الظلام ينيرون للأجيال دربها الطويل.

    أما جبناء الفكر الذين كانوا ينهزمون من أول الشوط فهم السبب وراء عصور الظلام التي مرت بها أمتهم، فهم غالباً ما ينكفئون على أعقابهم نتيجة الخوف، فيزورون التاريخ ويشوهون الحقيقة ويضللون الشعوب. وهم لا يقلون خطورة عن سماسرة الفكر وتجار الكلمة لذلك جاءت صرخة عزيز نيسين لتهز نواقيس الخطر في زمن السبات وخنوع المثقفين لرؤسائهم.

    وهذا هو ما يولده المسدس بين الثقافي والسياسي على مر العصور مسوخاً أو جبناء أو شهداء أو صامتين أو منفيين …

    * * *

    2

    المثقف والاغتيال 1



    · يمكن لدباباتكم أن تدخل أي مكان

    ولكنها لن تستطيع أن تحتل أغنيتي

    - بابلو نيرودا -

    - وهي القصيدة التي غناها "فكتور جارا" قبل أن يغتاله رصاص الفاشية ايضاً -

    · الحرية هي روح الدين.

    - الكواكبي -

    · أن أحد السمات العليا للشعر في القرن العشرين أنه وقف ضد الأنظمة.

    - شيماس هيني -



    الذي قتل لوركا لم يكن سوى شاعر فاشل أغاظه النجاح الباهر الذي حققه شاعر القيثارات الغجرية فوشى به إلى فرانكو …

    وهكذا افترق الشاعران: ذهب الأول إلى النسيان، وضاع تحت أحذية السلطة، فلم يعد يذكره أحد إلا إشارة ذميمة إلى عار المثقف الذي يرتضي لنفسه أن يتحول إلى تقرير أو ممسحة أو مسدس …

    وذهب الثاني مفتوح العينين يتطلع إلى القمر وهو يمشي هادئاً بين فرقة رجال الإعدام الذين أطلقوا عليه الرصاص فخمد جسده النحيل لكن روحه بقيت وهاجة ترتل أغانيه تحت أقمار العالم وبين أشجار الغابات، وظل صوته خالداً على شفاه الأجيال لا يستطيع إخماده كل رصاص القتلة …

    ولم يكن ينتبه جنرالاتنا لخبايا القصائد لولا ما تبرع به هؤلاء الفاشلون بكتابة التقارير التي تشرح لهم ما خفي من معاني النص وتأويلاته وتحريضاته …

    وحين أدرك المسؤولون في بلادنا أهمية هؤلاء بدأوا في تقريبهم ومنحهم الهبات والمناصب وتعيينهم عيوناً حارسة في الشارع الثقافي وآذاناً سرية تسترق السمع لخلجات روح المثقف وحواره الداخلي بالإضافة إلى تعيينهم رقباء على الأجهزة الثقافية ودوائر المطبوعات …

    والأدباء الفاشلون أنواع وليس كلهم من هذا الصنف، منهم من يؤمن بقدره الذاتي فيوصد دكانه الأدبي ويروح يفتش له عن مهنة أخرى أكثر راحة وربحاً من هذه المهنة الشاقة التي لا يجني الكاتب منها في بلادنا سوى وجع الرأس والمخاطر …

    وهذا النوع من الأدباء يمكن أن يبقى صديقاً حميماً للأدباء يتابع أخبارهم بين آونة وأخرى يبرحه الحنين فيقترب وتحبطه المشاكل أو تلهيه المشاغل فيبتعد، وهو بين هذا وذاك يبقى على الهامش دائماً متذكراً أمجاده الغابرة أو فتوحاته الوهمية، راضياً بذلك أو يحاول إقناعك برضاه، معيداً إليك صدى بيت امرئ القيس الشهير:

    لقد طوفت بالآفاق حتى

    رضيت من الغنيمة بالإياب

    لكن بمعنى مقلوب

    ولا ضرر أن تأخذه العزة بالإياب، فيصرح لمن حوله إنه لو أستمر في الكتابة لقلب دنيا الأدب، رأساً على عقب … وحين يسمع ببروز أديب من أبناء جيله لا يتردد عن الترديد بأن هذا الأديب كان تلميذاً له يصحح أخطاءه اللغوية وأنه كان يعلمه كيف يكتب …

    وأذكر مرة إنني وصديقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي كنا في زيارة أحد الفنانين المسرحيين واكتشفنا بعد أن خرجنا من بيته أنه لم يعرض لنا سوى البومات صوره القديمة مع كبار الفنانين الذين كانوا من قبل زملاءه بل كان هو أفضل منهم في بداية الرحلة. لقد تجمدت ذاكرته تماماً على الماضي فكلما حاولنا أن نجره إلى الحاضر، إلى الحديث عن أعماله الجديدة، إلى مشاريعه المستقبلية غافلنا وحمل لنا صور الماضي .. فأدركنا إن الرجل نفدت بضاعته، وفعلاً كان ذلك حيث ظل أسيراً لماضيه لا يقدم شيئاً حتى تناساه الناس وضاع في زوايا النسيان إلى الأبد…

    وأذكر أدباءً آخرين كلما سألتهم عن أسباب توقفهم عن الكتابة أجابوك بأنهم انسحبوا عن عالم الكتابة تأففاً، أو ترفعاً، أو تأجيلاً مشروطاً بتغير الظروف، أو عدم قناعة بالوسط الثقافي وبما يكتب وينشر، والخ من العلل والأسباب التي لو لم تكن هي لأوجدوا غيرها، فما أسهل التبرير وما أشق الرحلة وهذه الادعاءات وغيرها ليس لها من جانب ضرري إلا على صاحبها وفي إطار ضيق جداً، لكن الأكثر إيذاءً وقسوة يكمن حين يتحول هذا الفشل إلى حقد أعمى يطال المبدعين ويوزع عليهم تهمه وشتائمه وعقده، فما أن يسمع الأديب الفاشل بنجاح أديب أو اشتهار كتاب أو فوز مبدع حتى يرتجف هلعاً ويروح ينفث سمومه في زوايا المقاهي وأروقة المؤسسات متبرعاً بالنقد والتشهير وكيل الشتائم وإلصاق الصفات المجانية وحياكة المؤامرات وغيرها… ربما لاعتقاده الباطني إن هذا المبدع قد أخذ فرصته، وأنتزع الأضواء عنه، بينما الحقيقة إن هذا النجاح الذي استفزه والذي حققه زميله مثلاً ما كان ليستفزه إلاّ لأنه كشف لنفسه أو للآخرين فشله وكسله، وكان يمكن لو أراد، أن يكون له ذلك حافزاً خلاقاً لتحريضه على المنافسة الإبداعية الشريفة وبذل الجهد والسعي إلى التجاوز … ولو كلن قد أبعد نفسه ووقته عن سفاسف الأمور وبذل على عمله الإبداعي ما بذل من ذلك الوقت والجهد لكان يمكن أن يقدم شيئاً يغنيه…

    ويمكن أيضاً أن يبقى هذا الأمر رغم خطورته محصوراً على نطاق الإيذاء الثقافي أو الاجتماعي في التشويه أو التهميش غير إن خطورته المميتة تكمن حين يمتد في أحيان كثيرة إلى نطاق الكيد السياسي ويتجاوزه إلى السجن والنفي والتصفية والاغتيال…

    فإذا كان سانت بوف في معرض حديثه عن شاتوبريان يذكر قائلاً: "لقد كنت أرتعش حين أرى شعراء حقيقيين ينصرفون للعمل السياسي" فما سيقوله أمام غير الحقيقيين، فهو قد يتحسر على ضياع الموهبة في دهاليز السياسة ومكاتبها وتحويلها إلى دكان صغير ناطق باسم هذا الحزب أو ذاك حيث يمكن بعدها أن يغريه الأمر ليصبح بوقاً مدوّياً، رغم عدم انطباق هذا الأمر على الكثيرين، غير أن هذه السهولة ستغري غير الحقيقيين فهم بالإضافة إلى نشوئهم بالأساس كأبواق أو أجهزة استنساخ أو آلات محركة يمكن بقليل من الرشاوي أو الضغط من قبل السلطة أن يتسع نطاق عملهم ليشمل كتابة التقارير عن الأدباء بدل القصائد والقصص وملاحقة المبدعين المعارضين في الداخل والخارج والمساهمة في تصفيتهم…

    يقول الشاعر بلند الحيدري: "لستُ مع الشاعر الذي توظفه السياسة في جهد شعري مسطح وكأنه مقال سياسي، وأنا أخاف على الشعر وقيمته من هؤلاء …"

    لكن الخوف اليوم لم يعد على الشعر فحسب بل تعداه إلى الخوف على الشعراء الحقيقيين أنفسهم من بعض كتبة الشعر …

    * * *

    المثقف والاغتيال 2


    · كلما كانت الحرية أقل كان الإنسان أقل.

    - همنغواي -

    · كنا نعرف الرقيب ونتحايل عليه، ولكن الجديد في الكتابة اليوم أننا لم نعد نعرف من يراقب من، وما هي المقاييس الجديدة في الكتابة.

    - أحلام مستغانمي -

    - في ملتقى عمان للكتاب 1998 -



    لقد عاش تولستوي حرب القوقاز فيما بين عامي 1851 و 1853 كموظف حكومي وضابط مدفعية. لكنه هل كان حقاً ضابط مدفعية ملزم بواجبه الرئيسي بالقتل أم كان روائياً عملاقاً سجل بدقة ومهارة عذابات الإنسان وفواجعه في الحروب والتي أوحت له بواحدة من أروع الروايات في تاريخ الأدب العالمي إلا وهي "الحرب والسلام" وكان يحاول في كتاباته إصلاح المجتمع عن طريق العدل والمحبة وعدم العنف والظلم ..

    لم يكن تولستوي بالطبع وحده الضابط والكاتب الذي شهد الحرب لكنه كان الأصدق والأجرأ إبداعاً في التعبير والأكثر التصاقاً بالنبض الإنساني بل وكان يتساءل مثلنا: "كيف يحدث ألا يدرك بعض الكتاب المعارضين أن الشرط الأولي والضروري الذي لا بد لأي عمل إبداعي هو مدى تفهم الفنان وحساسيته" ...

    أن الكاتب ما هو إلاّ " شاهد على ما يحدث في وطنه" كما تذهب إلى ذلك الكاتبة نادين جورديمر الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 1991 ، فبمقدار ما يكون الكاتب أصيلاً وواعياً ومبدعاً تكون شهادته أكثر تعبيراً ونصه أكثر قيمة وبالتالي فهو منحاز دائماً للإنسانية وللحرية في وطنه وفي كل مكان في العالم وهو لا يفتح عينيه على بعض الحقائق التي تخدم مصلحته ويغمض عينيه عن الأخرى مثلما يحدث لبعض الكتاب الذين فروا من أنظمتهم القمعية والتجأوا إلى أنظمة قمعية أخرى أقل أو أكثر، فسكتوا عما يحدث في داخلها وأوصدوا آذانهم عن سماع شكوى زملائهم في الكتابة وتأوهات الناس السرية، خوفاً على مصالحهم واستقرارهم .. أن النضال ضد القمع والدكتاتورية واحد لا يتجزأ ..

    هنا يجب التفريق من جانب الظرف التاريخي والموضوعي والحياتي بين أديب تضعه الظروف في مواقع لا يرغب فيه وبين آخر يندفع أليه راغباً ومؤمناً ومصفقاً. ومن جانب الوعي والمسؤولية بين من يكتفي بالمشاهدة السلبية (تأييد القمع) أو الحيادية، والكتابة وفق منظورهما، وبين من يكتوي بالمشهد (داخله أو خارجه) ويمارس التحريض بمستوياته النضالية المختلفة وطرقه الفنية المتعددة في الكتابة السرية لتوثيق المرحلة التي يعيشها إبداعاً، حين لا يتمكن من نشرها في وقتها خوفاً من بطش النظام به أو بأفراد عائلته، أو في تسريب نصوصه السرية داخل دوائر معينة قد تضيق أو تتسع أحياناً، أو مراوغة الرقيب في ممارسة الكتابة المبطنة التي تحتمل التأويلات المتعددة والتي يمكن للكاتب الذكي أن يمرقها من خلال مقصات الرقابة لتصل إلى قلب القارئ ووعيه وتحمل أليه ما يريد أن يقوله .. وقد فعل سارتر ذلك في مسرحيته التي قدمت على المسارح أثناء الاحتلال النازي، وقبله فعل المتنبي ذلك حين مدح كافور الاخشيدي (ظاهرياً) بينما كان يهجوه (باطنياً) في مطلع قصيدته الشهيرة:

    كفا بك داءً أن ترى الموت شافياً

    وحسب المنايا أنْ يكنَّ أمانيا

    ومثلما يفعل الآن الكثير من أدبائنا الملتصقين بهموم شعبهم وإبداعهم والذين يعيشون ويكتبون داخل مناخات الإرهاب في الأنظمة الشمولية..

    وحين نضع كل هذه الشروط القاسية التي يعيشها المبدع داخل تلك الأجواء الكابوسية علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار ازدياد فطنه الرقيب وخبثه وقسوته وتفننه في قراءة التأويل وتفسيره لذا فان كفتي ميزان المراوغة بينهما – أي بين الكاتب ورقيبه – قد تميل إلى هذا الطرف أو ذاك ..

    وأتذكر الشاعر معين بسيسو وهو يقول:

    "على سحابة

    كتبتُ يوماً تسقط الرقابة

    فصادروا السماء .."

    لقد ذكر ستورياس في حديثه عن ناظم حكمت قائلاً: "كان رجلاً يجابه بالشعر برابرة كل زمان .." هذه المجابهة المدهشة هي شد حبل بين طرفين غير متكافئين ربما على مستوى الأداة: الكاتب بجلده العاري وقلمه وقرائه، والسلطة بكل أجهزتها المعروفة وغير المعروفة. غير أنها تؤكد على فعل الكلمة وموقعها في التصدي والمجابهة وقد روى حكمت ذات يوم لصديقه بابلو نيرودا كيف وضعه رجال السلطة الفاشية داخل المرحاض لعله يضعف أو يستكين لكنه حين أحسس بعيونهم بدأ ينتصر على وهنه الجسدي بالغناء .. بدأ يغني بصوت خافت ضعيف ثم علا غناؤه واشتد شيئاً فشيئاً حتى غطى على كل شيء .. فيكتب له نيرودا: "انك بهذا قد أجبت عنا جميعاً" .. فبين الغناء والبرابرة تكمن قوة الشاعر على التحدي والإجابة على أسئلة العصر .. وهذا يتطلب حتماً مواجهة العاصفة بعيون مفتوحة، "أن المتاعب سكاكين – هكذا تقول مدام دي ستيل – أما أن نقطع بها أو نتركها تقطعنا .. ونحن وحدنا الذين نستطيع أن نستخدمها لصالحنا إذا تعلمنا كيف نمسك بها من يديها لا من نصلها.." لكننا في المقابل ونحن نقيّم تجارب من ظلوا في الداخل يمسكون بالسكاكين أن نتفحص النتاج الشامل لهذا الأديب أو ذاك ونرى هل ينصب إبداعه وعمله الثقافي في خدمة النظام الجائر أم كان محرضاً ومشاكساً أم ظل محايداً ...

    وقد يقول قائل: ولماذا وجع الرأس هذا كله ومناطحة الجبل، لماذا لا ينكفيء الأديب إلى داخل ذاته وينعزل في بيته وينقطع عن المشهد العام حين يكون المناخ الثقافي – السياسي موبوءاً وبذلك يكون بعيداً عن الأضواء التي تغري السلطة به وتعرضه إلى المشاكل وهذا الرأي على صوابه أحياناً يقودنا إلى مغزى ما ذهب أليه برخت: " لا حاجة إلى هذه الفضائل في بلد طيب .. نستطيع أن نكون جميعاً جبناء ونستريح" ، ومنه يقودنا إلى صرخة الكاتب التركي عزيز نسين: "آه منا نحن المثقفين الجبناء" ، ومنه يقودنا إلى جدوى الكتابة ذاتها ودور المثقف في أحداث عصره، ومنها إلى أهمية أن يكون الكاتب داخل الحدث أم خارجه، متفرجاً من نافذة غرفته إلى حركة الشارع مكتفياً بسلامته الخاصة، أم زاجاً بنفسه وقلمه وروحه في آتون الفعل الجماهيري، معرضاً حاله إلى ما يتعرض له الناس في حياتهم اليومية ..



    * * *

    3
    هجرة القطيع


    · قالت مصلحة الضرائب أن مصر التي يبلغ عدد سكانها 62 مليون نسمة فيها من الراقصات ما يعادل راقصة لكل خمسة آلاف مصري.

    - مجلة الرأي الآخر – لندن 15/7/1999 -

    · كان أبواه يؤديان رسالة دينية وهما مستغرقان في صنع الأطفال تحت شعار محمدي "تناسلوا إني مباهٍ بكم الأمم".

    - حسن بن عثمان -

    - من رواية "بروموسبور" -



    سُئل زكريا تامر: ما هو إحساسك بعد موت؟

    أجاب: أحس بفرح عظيم ونوع من الشماتة لأن القطيع العربي المحكوم نقص واحداً!

    هذه السخرية المرةّ التي أطلقها صاحب "النمور في اليوم العاشر" تكشف عما يدور في دواخلنا فمنذ أن فتحنا عيوننا على الدنيا وجدنا أنفسنا مربوطين إلى حبل مشنقة، وليس إلى بطون أمهاتنا كما يعبر عن ذلك محمد الماغوط، صارخاً من قاع البؤس واللامبالاة: "لا شيء يربطني بهذه الأرض، سوى الحذاء".

    مَنْ زرع في داخلنا هذا الإحساس بالهزيمة كما يُزرع العاقول والشوك والصبار، مَنْ ألقى بظلال الكوابيس على أجفاننا وهي تحلم في الليل، ومَنْ لوّن المشهد اليومي بالألوان الكابية كلما فتحنا عيوننا ونوافذنا على الصباح..

    ما الذي يجعلنا نعيش في أوطاننا تحت وطأة التهديد، يراودنا إحساسٌ دائم بأن ثمة كاتم صوت يترقبنا في المنعطفات، وثمة مخبراً قميئاً يتنصت على أحاديثنا وهمساتنا خلف الجدران، وثمة ورقة استدعاء أو حضيرة مداهمة تنتظرنا كلما عدنا إلى بيوتنا.

    لماذا لا نحسّ بالأرض إلا حين نغادرها، وبالأصدقاء إلا حين نفارقهم، وبالسنوات إلا بعد أن تتساقط أسناننا من المرارة وفقر الدم ومضغ الأوهام.

    ولماذا لمْ نذقْ حنان الوطن وطمأنينته إلا بعد أن نضع رؤوسنا المتعبة على وسادة المنفى، لكي نحلم به من جديد.. ونبكي عليه وعلينا...

    وأتذكر الشاعر الصيني المنفي وانغ وي الذي عاش تحت حكم التانغ 701-761 وهو يطل من نافذة منفاه هاتفاً:

    "أنتم يا من تأتون من وطني..

    تعرفون ولا شك عنه أشياءً شتى

    لدى رحيلكم، هل كمثرى الشتاء

    أمام نافذتي أثمرتْ..؟"

    ها أنا أنظر من النافذة إلى أشجار السرخس السويدية العالية التي تظل البحيرة الهادئة وقد كساها الثلج والظلام ملتبسين معاً، في التدرج الخفي بين الضوء والعتمة، سارحاً بعيوني في هذه السماء الخفيضة وهي تندف قطنها على الشوارع والأغصان وقرميد البيوت، آه، يا لهذه السماء الساكنة التي لم تمر في أديمها قذيفة مدفع منذ أكثر من مائتي سنة، ولم تعكر صفاءها تلك الحشرجات الحبيسة التي اكتضتْ في صدورنا هنالك وهي تتصاعد من أعماق الزنازين والبيوت الحزينة الخالية وسواتر الحروب.

    أهيم بنظراتي إلى البعيد ثم أعود فألقيها كسيرةً على طاولتي فترتد أمام نشرة صغيرة بنصف صفحة، مفتوحة الفم كجرح فاغر، كنتُ طيلة النهار اقرأها وأعيد قراءتها وكأنها رواية لا تنتهي، تلك النشرة كانت تنزف أمامي مشيرة إلى حجم استنزافنا من خلال الأرقام التي أعدتها جامعة الدول العربية عن هجرة العقول العربية إلى الغرب حين كشفت في تقريرها عن هجرة 1085 عالم ذرة وطبيعة، منها 200 عالم ذرة مصري وخروج 470 ألف من حملة شهادات الدكتوراه والماجستير والمؤهلات العلمية الأخرى، وأرجح التقرير ذلك لأسباب اقتصادية وسياسية وأوضح كذلك أن الدول الغربية حصلت نتيجة عمل بعض العقول المهاجرة ونجاحها على بلايين الدولارات، فقد حصلتْ الولايات المتحدة على أرباح صافية من الكفاءات العلمية التي هاجرتْ إليها خلال أعوام 1961 – 1972 تُقدّر بنحو 30.8 بليون دولاراً، وهو يمثل 50% من قيمة المساعدات التي تقدمها للدول النامية، أما كندا فقد حصلت على أرباح تُقّدر بعشرة بلايين دولاراً وهي تمثل 27.2% من قيمة مساعداتها للبلدان النامية، وبريطانيا على مبلغ 3.5 بليون دولاراً أي ما يعادل 56% من قيمة مساعداتها للدول النامية والمنظمات الإنسانية، وقد حذر التقرير من النتائج الكارثية لاستمرار ظاهرة هجرة العقول العربية وطالب بضرورة وضع دراسات حول أسبابها والحد من انتشارها مستقبلاً..

    وكنت أتمنى لو امتدتْ كشوفات أرقام التقرير لتغطي سنوات ما بعد 1972 وحتى الآن، لربما أصبنا بالذعر حقاً، ولربما سمعنا قهقهة حكامنا وهم يسخرون من مخاوفنا على هذا الطفح الفكري الذي تخلصوا منه أخيراً ليبقى لهم القطيع والعرش..

    وأرى من بعيد مظفر النواّب وهو يشدُّ على يدي في مقهى المودكا ببيروت مودعاً قبل سفري بأيام – أنا الجديد على المنفى أمام رجل ضيّع نصف عمره على أرصفة المنافي – كان يتحدث أمامنا، صديقي الفنان المسرحي باسم قهار وأنا، بخبرةٍ وهدوءٍ عن جالياتنا المتناثرة على قارات العالم التي رآها في رحلاته الشعرية الطويلة وكأنه يردد مقولته الشهيرة: "لا أظن أرضاً رُويتْ بالدم والشمس كأرض بلادي" وفي عينيه الغائمتين تلوح المدن والسجون والمنافي وتغيب ليبقى ظلال دمعة حبيسة بحجم وطن..

    وأسمع قاسم جبارة الذي صرخ من منفاه البعيد، قبل انتحاره:-

    "كل أعضائي هادئة باستثناء العراق…."

    ثم ألقي بنظراتي على صحيفة عراقية بعثها لي أحد الأصدقاء من منفاه وهو يقول بالحاج: ارجوا أقرأها!!

    وحين أفتحها أجد فيها برقية كتبها المشاركون في عمل دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الأعلام إلى الرئيس صدام حسين، جاء فيها نصاً: "في عصركم الذهبي نهضت الموسيقى والفنون وتطورت آفاق العمل الموسيقي والفني واجتازت حدود الوطن ووصلت إلى أبعد رقعة في العالم، وقد كان ذلك بفعل واقع القدرة على التغيير والتطوير الذي بلغه العراق بقيادتكم الفذة وبتوجيه سيادتكم المتواصل وبالإرث الرصين حيث استطاعت الموسيقى العراقية أن تلعب دورين مهمين في مسيرتها الجديدة، فقد لعبت دورها المتميز في معركة قادسية صدام وأم المعارك الخالدة في معارك الشرف..." حين انتهيتُ من قراءتها تشبثتُ بطاولتي خوفاً نم أن أرمي نفسي من النافذة قرفاً وإحساساً بالمهانة، لكنني بدلاً من أن أفعل ذلك قمتُ ودعكتُ بين يدي نشرة جامعة الدول العربية وكورتها ثم فتحتُ النافذة ورميتها للشارع مخالفاً القوانين السويدية التي ترجو رمي الأوراق في الحاويات الخاصة بالورق في أسفل العمارة، بعد أن وجدتُ أن كل دراسة حول أسباب هجرة الأدمغة العربية ستذهب سدىً وأن كل جهوده الجامعة العربية والعالمية والكونية وغيرهما ستذهب أدراج الرياح في هذا المجال وغيره، أمام مثل هكذا برقيات وهكذا حكومات.

    لذا فبدلاً من ضياع وقتها الثمين في النفخ في قربة مثقوبة انصحها أولاً في تأشير الثقوب أو حمايتنا في الأقل حين نعري قِراب حكامنا المثقوبة، بدلاً من الوقوف مكتوفة الأيدي أمام دموعنا وانكسارنا في المطارات ونحن نودع أوطاننا واحداً واحداً وننسل في حلك الليل والقهر والحنين إلى منافينا، لنقرأ من هناك نشراتها وهي تندب رحيلنا...

    لقد أُصبتُ بالدهشة حقاً حين وطأتُ صقيع لوليو، في جنوب القطب المنجمد الشمالي، بعد أن رمتني الطائرة من بيروت إليها، وأنا أرى أمامي حجم الجالية العربية والعراقية بالتحديد، وتذكرتُ مظفر النواب، ثم حدثني البعض أن الأمر يزداد أكثر في بعض المدن الجنوبية فحين تسير في مدينة مالمو في الجنوب السويدي، مثلاً تحس كأنك تسير في أحد شوارع الوطن نتيجة اكتضاضه بالمحلات والأغاني والمطاعم العربية والوجوه السمراء المشدوهة...

    والى هناك شددتُ رحالي بعد شهور ستة من الصقيع.

    * * *

    4

    المنفى … والرأي الآخر



    · الحرية هي الشيء الوحيد الذي لا تستطيع امتلاكه إلا إذا منحته لسواك.

    - ويليام آلن وايت -

    · ليس سوى السمك الميت يمكن أن يسبح مع التيار.

    - كارين لنتز -

    - شاعرة السويدية -



    يحمل المنفى انشطاراً بين ثقافتين، في وقتٍ واحدٍ، قد يجد الكاتب المنفي نفسه منشطراً بينهما وهو يعيش اغترابه القسري أو الاختياري موزعاً آراءه وحياته ونصوصه على مساحتين تلتهم أحدهما الأخرى أو تلفضها أو تعيد إنتاجها بشكل مختلف تبعاً لقوة التأثير الذي يفرضه مناخ الثقافة المؤثرة على الثقافة الأخرى مما ينعكس ذلك بشكل جلي على نصوص الكاتب وهو يعيش عملية الشد والجذب والانصهار والافتراق، فقلما يستطيع السير بينهما بشكلٍ متوازٍ إلى مسافة طويلة، إذ سرعان ما يبدو انحيازه إلى أحد الأطراف واضحاً.

    لكننا نرى بعض المبدعين خارج دائرة الاستلاب استطاعوا أن يصهروا الثقافتين معاً أو كل الثقافات في داخلهم، ليؤسسوا اتجاههم الخاص ورؤيتهم المفتوحة للعالم بعيداً عن الخانات والأيديولوجيات، فلا انحياز إلا للقيم الإنسانية العليا وللجمال والحق والإنسان والوطن بمفهومه الروحي، وهذا يتطلب قدراً عالياً من الانفتاح والعمق معاً وهو ما ميز نصوص المبدعين الكبار على مر التأريخ ومنحها هذه القدرة على إدهاشنا وشدنا إليها والتأثير بنا رغم تباعد السنين واختلاف المناخات والجغرافيا، ويمكن أن نرى في نصوص "أوفيد" مثالاً رائعاً على الكتابة في المنفى من خلال كتابيه "فن الهوى" و"مسخ الكائنات" اللذين لم يفقدا دهشتهما الإبداعية رغم تعاقب العصور وتغيّر الحكام والأذواق والقراءات والمعارف. أوفيد الذي يصفه الكاتب الألباني المنفي أيضاً إسماعيل كاتدريه بأنه أول كاتب في التأريخ يجبر على العيش في المنفى على يد الدولة الاستبدادية.

    وقد يتيح المنفى للكاتب مساحة للتأمل في استقراء تراثه وثقافته الوطنية ومراجعة ذاته ونصوصه، ربما لم يكن يجدها أثناء انغماسه وانشغاله هناك داخل وطنه، ناهيك عن الجو الذي قد لا يوفر له قدراً من الحرية يتيح له هذا التأمل أو يشجعه على المراجعة ..

    يقول ديغول: "إذا أردت أن تعرف ما يحدث في وطنك، فأرحل عنه بعيداً" حيث يتيح البعد أحياناً رؤية صافيةً للأشياء، وبهذا يستطيع الكاتب – أن أراد – غربلة الكثير مما علق من تراب وبخور بالنصوص التراثية، ومما علق من شعارات في النصوص الحديثة، لتأخذ – بعد نفضها من كل ذلك – بعُدها الإنساني في القراءة والتأثير والرؤية والانصهار، وهذا الأمر يحتاج صفاءً ذهنياً خالياً من تشويش الإيديولوجيا والقراءات المسبقة.

    إن البعض من كتاب المنفى يعيش امتدادات ذلك التشويش، ساحباً معه إلى أقصى بقاع الأرض أمراضه المزمنة التي كان يعيشها هناك، فارضاً على نفسه وعلى الآخر قمعاً داخلياً لم يستطيع التخلص منه وهو يعيش في أكثر المناخات حرية وانفتاحاً.

    إن أحدهم يملأ صفحات الجرائد والكتب والندوات بالحديث عن الحرية أو تجربته في التشرد والنفي من أجل وطنٍ بلا قمع وكتابات بلا رقابة، لكنك ما إن تصطدم معه في أول حوار أو نقاش (وأنتما تعيشان في المنفى معاً، هاربين من القمع والتسلط والإلغاء) حتى تجد مخلفات شرطة وطنك كلها تبرز أمامك فجأة داخل ثيابه العصرية المنتقاة بعناية شديدة… بل إنك ما أن تشير إلى رأيك المختلف أو المخالف لفقرة من فقرات كتابه حتى يتحول هذا الحمل المقموع إلى أنياب لا تدري كيف أطبقت عليك بلمح البصر دون أن تتمكن من شرح وجهة نظرك أو تخليص نفسك والفرار بجلدك العاري …

    يرى أدونيس: "أن "اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة هو مصدر كل قمع، فهذا الاعتقاد يعتقل العقل: عقل الذات وعقل الآخر، ذلك أن كل اعتقاد من هذا النوع هو بالضرورة إرادة سياسية وممارسة القوة المرتبطة به إنما هو الإرهاب والطغيان" ثم يرى كيف أن "المذهب السياسي – الإيديولوجي يطلب من اتباعه ما يطلبه المذهب الديني من أتباعه: الخضوع دائماً والتضحية بالذات حيناً، والقبول بتضحية الآخر غالباً" ويضيف: "الغير هنا هو العدو/العميل بلغة الإيديولوجيا السياسية، وهو الخارج/الكافر بلغة التدين اللاهوتانية" وهي – أي هذه المذهبيات – "تفرض بالضرورة أشكال القمع الخاصة بالسلطة". إن الحرية أما أن تكون كامنة في داخل الإنسان بشكل حقيقي أو لا تكون. ومن هنا يصبح الحديث عنها ضرباً من الكلام والتشدق إذا لم يتطابق ذلك مع سلوكنا اليومي على المستوى الثقافي أو الحياتي مع الآخر …

    فالسؤال الذي يصدم المثقف المقموع هو أنه حين ينال الحرية ويعيشها، كيف سيتصرف بها؟ كيف ينظر إلى الرأي الآخر؟ كيف يتعامل مع من لا يتطابق معه فكراً وحياةً ونتاجاً؟ ثم – وهذا هو الأهم – هل يستطيع أن يمنحها للآخر ؟…

    إن النقاش الحر كما يرى برتراند رسل في كتابه "الصراع بين العلم والدين": "يعزز اكتشاف حقيقة جديدة بينما يعيق القمع ذلك وإنه على المدى الطويل يزيد اكتشاف الحقيقة من الرفاه البشري بينما يعيقه العمل القائم على الإرهاب، وإن من واجب رجال العلم وجميع من يقدرون المعرفة العلمية أن يحتجوا ضد الأشكال الجديدة للاضطهاد" وهذا الاحتجاج ملقى بشكل أكثر مسؤولية على كاهل الذين هم في الخارج حين لا يكون بإمكان الذين في الداخل التعبير عن آرائهم والمجاهرة بها في ظل النظام القمعي. وهذا يتطلب قدراً من التضحية والشعور بالمسؤولية إزاء الثقافة الوطنية المعرضة للتشويه والانسحاق والتزوير، وبغير هذا العمل الواعي الفعال يصبح المنفى حالة سلبية حين يميل البعض إلى الاسترخاء ونسيان مهمته الوطنية والثقافة التي خرج من أجلها فيغدو وجوده في المنفى مجرد انتقال أو تغيير جغرافي ليس إلاّ …

    وهكذا نجد أن البعض لم يستطيع أن ينسى خوفه وجبنه وتردده وهو يتحدث أو يكتب أو يعمل – في المنفى – فما زال ذهنه قابعاً تحت الأجواء الكابوسية البوليسية التي عشاها وهو بالتالي يشكل نمطاً آخر من استلابات الماضي، حيث يعيش منغلقاً على نفسه غير قادرٍ على التفتح والتفاعل مع الحياة الجديدة.

    ومن جانب آخر يشكل التطرف الأعمى في الرفض الكلي أو القبول الكلي للثقافة الوطنية والتراث نكوصاً آخر يقترب أو يمتد بموازاة الانبهار الكلي أو الامتعاض الكلي من النتاج الغربي والحضارة الغربية برمتها، غير ان المبدع الحقيقي هو الذي يتجاوز تلك الإشكاليات ليعيد تشكيل منظوماته الثقافية وغربلتها وفق ما يخدم نصه وعصره ومتلقيه، وبالتالي لا يجد نفسه على هامش المنفى، أو على هامش الوطن … بل أنه يعيشهما معاً ثقافةً ونتاجاً وانغماراً حقيقياً قادراً على التأثر والتأثير بشكل إيجابي، وعلى التمييز والموازنة دون خوف أو عقدة أو رأي مسبق من جميع الأشياء التي تواجهه. أنه يتعامل مع الحياة والنصوص جميعها بروحية عالية من التفهم تاركاً المجال واسعاً للأخذ والرد، دون غلق الدائرة أو غلق باب الحوار سواءً مع نفسه أو مع الآخرين …

                  

العنوان الكاتب Date
الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-07-05, 05:58 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-07-05, 06:04 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-08-05, 08:25 AM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nassar elhaj05-09-05, 05:25 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nada ali05-09-05, 08:41 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-09-05, 01:03 PM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-09-05, 06:32 PM
      Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-09-05, 09:38 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nada ali05-10-05, 03:35 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-10-05, 04:58 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-10-05, 05:03 PM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-10-05, 07:59 PM
      Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Tumadir05-10-05, 08:13 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-11-05, 10:28 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-11-05, 01:09 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:01 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:14 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:28 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:30 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:32 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:35 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:37 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-14-05, 07:29 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-15-05, 07:12 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-19-05, 03:35 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de