|
الشاعر كلب المدينة المفضل-هرمس (Re: بله محمد الفاضل)
|
الشاعر كلبُ المدينة المفضل هرمس
لا يوجد ذلك الفارق الجوهري بين الشعر و أي شيءٍ آخر، مثل الهريرة العمياء التي تربض على كتفي الآن، أو حتى حاجتي التي تكاد تكون سرية لكوب إسطواني مزخرف متوسط الحجم لأشرب فيه شرابي، أقصدُ أن الشعر عملية حفرٍ مستمرة، في الجسد؛ عندما يكون الجسد قد نسيَ الفوارق التي بينه وبين الأشياء. بأريحية تامةٍ تغزو خيالاتك الهواء من حولك، عينك تتدحرج على نسمة وتتصل إلى شجرةٍ، قطار يرجّ المقهى الذي تجلسُ فيه مع حبيبتك، بينما تتحاشى أنت نظرات طبقات متراتبة من البشر العاملين هناك. من صوت ارتطام الكتب بالأرض وأنا أنتقل للعيش ببيت جديد، أو صوت الكتب على الخشب وأنا أقلب الكتب المقلوبة، هذا الصوت المقدس. وأًصواتٌ أخرى؛ أنفاس المريدين المغاربة وهم ينشدون كلمات أبي الحسن الششتري: “من يهِم في جمالي ويعوّل عليّا”. أو التداخل العظيم في مقهى بوسط المدينة، وسط المدينة حيث قلب الرحى، هناكَ بين ميدان الفلكي وكل هدى شعراوي، إلى نقطة أخرى هي ميدان الحسين ونقطة ثالثة هي مسجدي الرفاعي والسلطان حسن، حياتي ضاعت في هذا المثلث الغريب وأنا أطارد جنيات الشعر أو يطاردنني. المدينة، أم الخلاء، سيظل هذا السؤال حاضًا وحاضرًا في تجربتي، الشاعر كلب المدينة المفضل، وهو ذئب الخلاء المفضل، الانتظام داخل نير المدنية أم خبط عشواء النجوم والشهب.
من أعظم اللحظات التي أمر بها هي تلك اللحظة التي أصل فيها لمحطةٍ على طريق السفر، وأجد هناك إمضاء أحد شيوخنا القدامى، ابن منظور، الجرجاني، أبي العلاء، تأبط شرًا، الشنفرى، محيي الدين، الحسين بن منصور، شهاب الدين، المجنون. لهذا تحدثت عن الحفر، ذلك الأركيولوجي الذي ينتظر تراصفات عابرة للأزمنة، تحدث. ففي الحقيقة، الكلام قد قيل، والمعاني قديمة كالكون.
في البداية، كتبتُ رسائل، ومارستُ سحراً، وتقافزت بين الجدران والنوافذ والأغصان والأسوار، وكانت القصائد المدرسية الصارمة في المدارس الثلاث التي التحقت بها قبل الجامعة، كانت تلك تمريناً صوتياً على الحس بالمعنى. أما الصوت الأزلي، الحاضر، المكدّس عبر صحراوات الزمن، القطب الناظم؛ النمل يأكله، وهو واقف مثل سليمان متكئ على عصا. نحن نعبرُ الميادين بخطوتنا، ندوسها وتدوسنا، السيارات المسرعة والقطارات الجانحة والمدرعات المجنونة والباصات المحترقة كلها تدهسنا، ونحن، في الطريق إلى المعنى، نكتبُ على ماء الإنترنت، خساراتنا كبيرة، وموضوعنا الأبرز هو الفقد العام، المحو الكبير، محو الأثر الذي لا نتقنه نحن، فترانا مخلفين وراءنا في كل مكانٍ و زمانٍ، آثاراً: أوراق، حفرٌ على خشب المكاتب والخزانات، دماء، صور، أحبّة، حتى اليوم عندما كنت أستسلم للتفتيش كولد مؤدب على باب سفارة ما، اضطررتُ لترك أُثر، ملعقة غليون مصنوعة في التشيك، قلت للموظفة: ألقيها في القمامة.
أما جامعو التذكارات، فإنهم ينظرون لنا بدهشةٍ من على عروش المال، كيف أننا صنعنا كل هذا الفوران، وكيف أننا كمشعلي حرائق مبتدئين قمنا بحرق الغابة لنرسل رسالة بالدخان إلى السماء. هم لا يعلمون البتة أن الورق الذي أحالوه إلى ماء، وكلامنا المكتوب بالضوء والأرقام عليه، هو لغة. واللغة، دينُها الموت. في هذا الفيضان العظيم الجارف لكل العالم القديم، أعدّ نفسي من الأشجار، التي ستكتم أنفاسها تحت الماء لفترات لن تطول، حتى تطلع الشمس الجديدة من وراء غضب الرب. أما الشاعرُ، فإنه كما قلتُ:
ببساطة شديدة يدخل الشاعر منا قاعةً مليئةً بالبشر فيبحث عن أول شجرةٍ ليدخلها، الطيور ستأتي أولاً، تتلوها الكلاب والقطط، ثم تخبّ الخيل الحرة، والنساء، والأطفال، الحراس يراقبون عن قرب بخطوة الحرس المشينة، الملك ينظر من أعلى العرش، من دخل بلاطي، الملكةُ تراجع مفاتيح الأروقة وما وراءها، وتتذكر المفتاح الناقص، الشاعر يمسك نايه ويزفر العالم كله في نغمةٍ، نغمتين، هل سيمطر السقف المضاء بالنيون، هل ستبكي عيون المراقبين خلف الكاميرات، هل ستتفجر عيون القهوة من الأرضية الرخامية؟ أما طابور النمل الذي يهز الأرض من بعيد، قادما من أمكنةٍ سفليةٍ في العالم؛ فإنه سيحطم كل شيء.
* شاعر ومترجم من مصر
خاص ب (البعيد): http://www.albaeed.com/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D9%83%D9%84%D8%A8%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%B6%D9%84/http://www.albaeed.com/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D9%83%D9%84%D8%A8%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84...5%D9%81%D8%B6%D9%84/
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-19-15, 08:17 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-20-15, 08:12 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-20-15, 08:14 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-20-15, 08:15 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-20-15, 08:16 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-20-15, 08:17 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | Elmosley | 09-20-15, 01:12 PM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-21-15, 02:37 PM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | osama elkhawad | 09-21-15, 08:35 PM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-27-15, 11:49 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | osama elkhawad | 09-28-15, 02:53 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | أبوبكر عباس | 09-28-15, 10:32 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-28-15, 12:07 PM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-28-15, 11:57 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | osama elkhawad | 09-28-15, 06:14 PM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | معتصم الطاهر | 09-29-15, 00:30 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-30-15, 09:15 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 09-30-15, 09:14 AM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | osama elkhawad | 09-30-15, 07:55 PM |
Re: شعراء اليوم بلا آباء ولا مرجعيات | بله محمد الفاضل | 11-03-15, 08:41 AM |
الشاعر كلب المدينة المفضل-هرمس | بله محمد الفاضل | 11-18-15, 05:25 PM |
"الوردية الثانية" | osama elkhawad | 11-19-15, 02:57 AM |
لماذا يمارس "الكُتَّاب العرب" الكتابة ك"وردية ثانية" | osama elkhawad | 11-20-15, 05:55 AM |
إمتاع النفس | بله محمد الفاضل | 11-21-15, 09:31 AM |
|
|
|