|
Re: ميرغنى شايب: تفتح مبكر، ملكات متعددة ومواقف حازمة ضد حكم العسكر.. د. صديق الزيلعي (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
ولم تكن رياح الثورة والتغيير تهب من العالم العربى فقط، فقد شهد العالم ثورات الشباب في 1968 والتى هزت ساكن الحياة في فرنسا ( حيث كادت مظاهرات الطلاب واضرابات العمال أن تسقط نظام ديجول). وكما هز ربيع براغ الجمود والتحجر فى المعسكر الاشتراكي السابق وتحول الماركسية لعقيدة صماء. ولم تنحصر تلك الثورات في أوربا فقد واكبتها انتصارات حركات التحرر الوطنى في فيتنام ولاوس وكمبوديا وأنجولا وموزنبيق وغينيا بساو ودعوات نكروما ونيريري للاشتراكية الافريقية. إستوعب ذلك الجيل كل تلك التغييرات وترجمها لمواقف عملية في النضال من أجل التغيير في السودان. وكان ميرغني أحد المتاثرين بذلك الزخم الثورى وأحد الفاعلين في صنع الأحداث، فقد قاد مظاهرة حاشدة من مدرسة الابيض الثأنوية دعما لمطالب العمال ( أعلن اتحاد العمال بقيادة الشفيع أحمد الشيخ إضرابا عاما فى 1968، شاركت فيه أكثر من مائة نقابة، رفضا لمقترحات كادر العمال التى قدمها وزير المالية الشريف الهندى وكانت لا تلبي التضخم الذى حدث لتكاليف المعيشة ومطالبات اتحاد العمال المستمرة لتحسين أجور العاملين). وكانت تلك المظاهرة، التى قادها، ميرغني تجسيدا للعلاقة التاريخية الراسخة بين الحركة الطلابية والحركة العمالية السودانية وهي امتداد طبيعى لمواقف اتحاد العمال الداعمة للطلاب وأهمها موقف اتحاد العمال الشهير ضد السلطة الاستعمارية وتهديده بالاضراب العام عندما فصلت المئات من طلاب خورطقت الثأنوية كعقاب للطلاب لقيامهم بإضراب. ما قمنا به من عمل تطوعى وثقافى أعطى اتحادات الطلاب موقعا مميزا فى المدينة وفي أنشطتها العامة. وأذكر أنه تم تكوين لجنة قومية بمدينة الابيض تشمل كل منظمات المجتمع المدنى للتفاكر حول قضايا المدينة وكيفية تطويرها. وكنا، ميرغني وشخصي الضعيف، من مناديب اتحاد طلاب مدرسة الابيض الثانوية في ذلك الاجتماع. بهر ميرغني الحضور بلغته الرصينة وآرائه النيرة. ولا يزال يرن في أذني تعليق أحد الشيوخ الذين حضروا ذلك الاجتماع وهو يعلق على مساهمة ميرغني: " كلي ثقة على مستقبل البلد ما دام لنا شباب بهذا المستوى من الوعي والدراية". صدق ذلك الشيخ في التنبؤ بالدور المستقبلى لميرغني ولكن وللاسف لم تصدق توقعاته حول مستقبل البلد ( والله يجازى الكان السبب(.
بعد نجاح ميرغني في الالتحاق بجامعة الخرطوم وبروزه في النشاط العام جاء للابيض في أول اجازة. وتصادف زيارته للابيض مع قرار سلطة مايو باقامة الاحتفالات القومية في عواصم الاقاليم . وكانت ضربة البداية إقامة احتفالات عيد الاستقلال بمدينة الابيض في الفاتح من يناير 1971. وتقرر حضور كل الطاقم الحاكم واعضاء السلك الدبلوماسي لذلك الاحتفال وقد خصص قطارا كاملا للضيوف. وكان الصراع بين الحزب الشيوعي وسلطة مايو في أوجه خاصة بعد هزيمة التيار المتحالف مع السلطة، ما عرف بجناح معاوية، في المؤتمر الاستثنائي الذي انعقد في أغسطس 1970 وانقسام قادة ذلك الجناح من الحزب. صعدت السلطة من العداء للحزب وأصدر نميري قرارات 16 نوفمبر 1970 والتى عزلت بابكر النور وفاروق حمدالله وهاشم العطا عن مجلس قيادة الثورة. قررت قيادة الحزب أن تواجه النظام من داخل الاحتفال. أعد المركز بيانا جماهيريا وأعد فرع الحزب بالابيض بيانا آخر، كما تقرر خروج موكب بلافتات وشعارات. كتبنا العديد من لافتات الجباه الديمقراطية بمدارس الابيض وكانت كلها تحوي الشعارات المعادية للسلطة. أقيم الاحتفال بميدان تيتو وخرجنا بلافتاتنا وهتافاتنا وكان ميرغني أحد قادة تلك المظاهرة. وقد توقف موكبنا طويلا أمام المنصة الرئيسية التى كان يقف عليها نميري، مرددا الهتافات بقوة واصرار وقد سمع من تابع الاحتفال المذاع على الهواء مباشرة هتافاتنا التى شقت عنان السماء. تم اعتقالنا من داخل الموكب. هز الموقف نميري وقرر الغاء برنامجه المسائى والعودة فورا للخرطوم. تم اقتيادنا لمركز البوليس ( حيث مكتب الامن). وبعد مغيب الشمس بقليل تم اقتيادنا لمكتب حكمدار البوليس لمقابلة وزير الداخلية (أبوالقاسم محمد ابراهيم). في الطريق وقبل دخولنا لمكان ما سمى بالاجتماع اتفقنا أن يمثلنا ميرغني ويقدم دفاعا سياسيا لأنه كان أكثرنا إطلاعا ومتابعة للوضع السياسي وأفصحنا لسانا وأكثرنا شجاعة فقام بمهمته خير قيام ( الدفاع السياسي في عرف الشيوعيين هو تحويل المحاكمة لمحكمة للسلطة ومن يمثلها ومن أشهر ذلك دفاع عبد الخالق محجوب أما محكمة نظام عبود ودفاع التجانى الطيب امام محكمة سلطة نميري). كنا 11 معتقلا تم ادخالنا للحجرة ثم حضر أبوالقاسم وخلفه عبد الباسط سبدرات. ولن أنسى ما حييت اضطراب أبو القاسم أمام قوة حجة ميرغنى واسلوبه الخطابي المتميز وشجاعته في المواجهة وعدم التردد في مواجهة أبو القاسم الذى اشتهر بالصلف. شعر ابو القاسم بضعف موقفه امام قوة حجة ميرغنى فلجأ للمهاترة حيث قال : " الشيوعيين ماكان عندهم مكانة فى البلد وأنحنا عملنا لهم مكانة وهاهو الشيوعي سبدرات سكرتيرا لوزير الداخلية" ثم وقف ليخرج من الحجرة و عند الباب التف الينا قائلا " سأعطي المحافظ أمرا بأن يصرف لكم ماكينات رونيو علشان تسقطوا مايو ومايو لن تسقط بالمنشورات". المهم قضينا ليلة ليلاء بمركز البوليس، حيث وضعنا في حوش داخلي يقع خلف زنارين المحبوسين ولم نكن نملك غير ملابسنا التى في أجسادنا. ولم يقدم لنا اي شئ وهكذا قضينا الليلة نلتحف السماء ونفترش الرمال وما أدراك ما رمال الابيض في زمهرير يناير. وتقرر عند ظهيرة اليوم التالي، ارسالنا لسجن الابيض العمومي. قررت سلطات السجن أن نحبس في قسم يسمى بعنبر الأحداث وهو قسم شبه معزول عن بقية السجن، كما وافقت أن يحضر لنا أهلنا مراتب وأكل بصورة يومية. قام أهلنا باحضار المراتب وأذكر أن المرحومة والدة ميرغني أحضرت له مرتبة وفوقها غطاء مصبوغ بلون برتقالي لمعرفتها بأننا ننام أرضا. وخلال أسابيع قليلة اتسخت مراتبنا ( نحن مستجدي السجون). كما قاد ميرغني حملة وسطنا لاقناع أهلنا بعدم احضار أي أكل من البيوت وكان يكرر بأن اطعامنا هو مسئولية من اعتقلنا ولا يمكن أن نكلف اسرنا بتكاليف اعتقالنا. وكان ذلك ( المراتب والاكل) أحد الدروس التي تعلمناها من أسرة عبد الله مالك العريقة في النضال ضد الأنظمة العسكرية منذ ايام عبود. وهنا ( كما ذكرت) بأننى استمعت ولأول مرة للخطيب المفوه عمر مصطفى المكى ( أحد نواب دوائر الخريجين بالجمعية التاسيسية بعد ثورة اكتوبر 1964 ورئيس تحرير جريدة الميدان) فى ندوة جماهيرية حاشدة، اقيمت بحوش منزل عبد الله مالك بالابيض وهذا قليل من كثير مما قدمته هذه الأسرة المتميزة. وكانت اقامتنا الجبرية بذلك العنبر ( منعنا حتى من الخروج للرياضة فى ميدان داخل السجن) مليئة بالاطلاع والنقاش والسمر والقفشات المضحكة. وأذكر أن عمنا محمد مصطفى كنين كان صاحب قفشات ######رية مميزة يقولها بطريقة تجبرك على الضحك. ومنها أننا صحونا باكرا، بعد أول ليلة قضيناها بالسجن، فاخرج رأسه من تحت البطانية وقال لنا أن جرس الطابور لم يضرب والحصة الأولى لم تحن بعد وعلينا العودة لمرتبنا يا فارات ( الفارات في لغة السجون هى المستجدين فى السجون الذين لا يفقهون النظام الداخلى غير المكتوب للسجون). وعندما اشترينا كتشينة من المساجين (كنا ممنوعين من كافة اشكال المكيفات وادوات التسلية وتزجية الوقت) وسأل أحدنا الفورة كم؟ رد كنين بأن الفورة مليون وردد ساخرا دا سجن يا بشر. خلال تلك الفترة قدم ميرغني عدة دراسات لمجموعتنا وكان يحدثنا كثيرا عن الجامعة وعن الأنشطة المتنوعة التى تمور بها جامعة الخرطوم وكان كثير الحديث عن الجوانب الثقافية وخاصة المسرح الجامعى. ولا يزال يرن في أذني صوت ميرغني الجهوري المحبب وهو يردد مقاطع من مسرحية قدمها المسرح الجامعي وشارك فيها ميرغني: مارا مارا مارا مارا ماذا حدث لثورتنا يا مارا مازلنا فقراء يا مارا اليوم نريد التغييرات الموعودة اليوم نريد التغييرات الموعودة وهنا أذكر تأثير أحاديث ميرغني عن الجامعة علينا فقد صارت قلوبنا تتعلق بتلك المؤسسة العريقة المتميزة كقلعة للمعرفة وللنضال في آن واحد. وقد تم اعتقالى وأنا فى الصف النهائى للمرحلة الثانوية، فقررت قيادة الحزب بالابيض أن توفر لي بعثة دراسية بالدول الاشتراكية وكان ردي هو أنني أفضل الدراسة بجامعة الخرطوم والبقاء بالسودان. وأعتقد أننى تعلمت الكثير من دراستي بجامعة الخرطوم وهذا واحد من أفضال فقيدنا العزيز عليّ وهى كثيرة لا أستطيع تفصيلها هنا.
|
|
|
|
|
|
|
|
|