ركـــن بنات وأبناء كســـلا ( خيــرات)

Quote: العمرُ تجاوز أصابع اليدين بقليل .. يانعُُ أخضر ، مثل ظل شجرة النيمة الوارفة التي كنا نجلس تحتها كعادتنا كل يوم ، مثيرين من الشغب والفوضى ما يكفي لكي نُطرد من هذه الشجرة الحنينة التي إحتملت بكل صبر وجلد ، ما لم يتحمله الكبار ، فطردونا نحو أشجار أخرى بعيدة .. كنا في ذلك اليوم على نحو من الهدوء عجيب .. متكاسلون ولا رغبة لنا في اللعب .. ما أتذكره الآن ، أن السبب في ذلك هو أننا كنا في بداية دخول مرحلة جديدة من العمر .. فقد كنا في آخر من محطة من محطات الطفولة ، وعلى أعتاب دخول مرحلة المراهقة .. حيث عدم التوازن الذي يفرضه حنين خفي إلى بقايا ظلال طفولة قريبة العهد ، وشوق عارم إلى إكتشاف مستقبل مجهول قادم .. في جلستنا تلك ، رأينا اللاندوروفر أو كما كنا نطلق " الأندروبل " اللبني التابع لوزارة الثقافة يتهادى ببطء ، وفي أعلاه سماعة ماكرفون كبيرة .. وصوت قوي ذا أسلوب مميز يعلن فيلم هندي بالسينما الوطنية .. صاح أكبرنا سناً ، وكان دائماً ما يفاخر بأنه الوحيد الذي يسمح له بالذهاب إلى السوق وحده ، صاح قائلاً ده " فيصل دعاية " ... عندما مرّ الأندروبل من أمامنا ، كنّا كلنا لحظتها " آذانُُ " فقط ، فقد تبلدت حواسنا الأخرى وصرنا لا نرى ولا نحس .. ولا نسمع غير صوت فيصل وهو يردد .. اليوم وعلى سينما كسلا الوطنية ، الفيلم الهندي الجديد .. البطل كومار والخائن ... إلخ . كانت هذه المفردات جديدة علينا تماماً .. ولكم لا زلت أذكر كيف أثارت فينا هذه الكلمات الدهشة ، وحرّكت فينا كوامن الرغبة لإكتشاف هذا العالم الجديد الذي نقله إلى مسامعنا فيصل .. مرّت عربة الأندروبل من أمامنا مخلّفة وراءها دخانً كثيف متسرب من عادمها المتهالك ، ومخلفة كذلك بروق مغامرة جديدة بدأت تلتمع في رؤوسنا ..لا بد اليوم من الذهاب إلى السينما الوطنية ، مهما كانت العواقب .. لا أتذكر بالضبط تفاصيل ما حدث بعدها ، ولكن ما أذكره جيداً أننا ذهبنا يومها إلى سينما كسلا الوطنية ، وكذلك أذكر العقاب الذي تلقيناه في البيت لهذا الفعل .. بعدها .. ظللنا نرهف السمع كلما يتردد في البعيد صوت فيصل وهو يردد من داخل عربة الأندروبل اللبنية .. اليوم وعلى مسرح تاجوج .. الفاضل سعيد في مسرحيته الجديدة أكل عيش .. فنبحث بعدها عن أين يقع مسرح تاجوج .. وجاك يا المسرح .. اليوم وعلى إستاد كسلا ، المباراة النهائية بين التاكا والميرغني .. أين الإستاد يا رفاق الصبا .. وإلى الإستاد مباشرة .. إذن لقد ساهم صوت فيصل في لفت أنظارنا إلى الكثير من الأحداث الثقافية التي إحتضنتها كسلا ، والتي وبلا ريب ، كان لها الدور الكبير في تشكيل شخصياتنا ورؤانا ، وبلا شك كان لأسلوب فيصل المميز ، كوسيلة إعلانية جاذبة ، الدور الكبير في هذا التشكيل . ومنذئذ وإلى اليوم لا زال فيصل يمارس هذه المهنة ، ولا زال محتفظاً بصوته القوي وأسلوبه المميز .. ولا زالت الذاكرة تختزن كلماته وعباراته الجميلة .. آمل أن يلتفت إعلامي كسلاوي نابه إلى مثل هذه الشخصيات الكسلاوية الجميلة - وهي كثيرة - وأن يقوم بتوثيقها عبر إذاعة وتلفزيون كسلا ، بالرغم من قلة مواردهما .. ولكن في رأيي أن الفكرة النبيلة تتغلب بقوة دفعها الذاتية على كل الصعاب .. أليس كذلك ؟ نفترع – كما يقول المعلم الأكبر صديق رحمة – هذا البوست لحفظ الجميل لفيصل ولشخصيات كسلاوية أخرى ، أسهمت في صياغة وجدان إنسان كسلا – فأرجو أن تدلقوا كؤوس ذكرياتكم على سطحه ، فربما تكون كلماتكم في حقهم ، التكريم والعرفان الوحيد الذي نالوه في هذه الدنيا الفانية .