ركـــن بنات وأبناء كســـلا ( خيــرات)

Quote: البتكوبة - albatakoba كنا نمر عبر الطابية (المنطقة العسكرية) في طريقنا من البيت إلي المدرسة الأميرية الوسطى ، وكنا كثيرا ما نتدهده (نتأخر) وناخد علقة ساخنة من يحيى أفندي المسئول وقتها عن طابور الصباح والانضباط. كان مما يقود للدهدهة عادة انشغالنا بمشاهدة التدريبات الصباحية للجنود خاصة تدريبات الفرقة الموسيقية التي يرتدي أعضاؤها الملابس الزاهية ويعزفون الموسيقى العسكرية التي كان إيقاع طبلها الكبير يصل للقلوب مباشرة. وقد كانت عجيبة العجائب ذلك التيس الضخم ولا أذكر اسمه حاليا وهو أبيض اللون ويزين بالملابس المزركشة في المناسبات ليرقص على إيقاع الموسيقى. ويقال أنه كان لهذا التيس رتبة عسكرية ومرتبا شهريا وأن أحد الجنود لا عمل له سوى العناية بهذا الحيوان والاطمئنان على صحته. كان طريق الطابية هو الأقصر ولكننا كنا نفضل طريق البتكوبة وهي غابة كانت تقع شمال السوق وبين الطابية وبيوت كبار الموظفين ، وأقام في أحد هذه البيوت الصديق وابن الدفعة عبد الرحيم سيد علي وقد شربت في بيتهم ماء الثلاجة للمرة الأولى في حياتي. كنا نفضل البتكوبة للتخلص من تعقيدات دخول المنطقة العسكرية حيث كنا نسأل عن اسمائنا ووجهتنا وما إلى ذلك ، وقد يبالغ الديدبان أحيانا ويمنعنا من الدخول. في زياراتي المتباعدة لمدينتي الحبيبة لاحظت اختفاء المساحات الخضراء شيئا فشيئا واعتقادي أن غابتي المفضلة قد اختفت أيضا خاصة وأنها أصبحت جزءا من المنطقة العسكرية. في زيارتي الأخيرة للمدينة في نوفمبر 2002 حز في نفسي كثيرا قطع شجرة النيم التي كانت تزين حوش بيتنا في القشلاق ولا زلت أذكر اليوم الذي غرست فيه وقد أحضرها أخي الأكبر من البتكوبة شتلة لم يتجاوز طولها السنتمرات القليلة عندئذ ثم كبرت حتى ضربت فروعها في عنان السماء وكنا نختبئ بين هذه الفروع أحيانا حتى لا نكلف بمشاوير السوق البعيدة أو يقع علينا عقاب لذنب ارتكبناه. كانت البتكوبة مليئة بأنواع الحياة المختلفة فبالإضافة للأشجار والنباتات العديدة المستوطنة منها كالنبق والحنبك واللالوب والمستوردة كالنيم وبعض أنواع الزهور البرية ، فقد كانت تعيش فيها مجموعة هائلة من الحشرات والزواحف الحيوانات. كانت الحشرا ت هي غرامنا الأول فقد كنا نتابع باهتمام أبو الدردوق وهو يبذل جهدا يحسده عليه عتالة سوق الخضار (اسماعيل ورقبه الجمل) في السعي لتنظيف الأرض مهرا لزواج القمرة. وكان هناك عدد من الجعارين ذات الملمس الناعم والألوان الزاهية التي تتراوح بين البني والأزرق والكحلي والأخضر وكنا نقوم باصطياد بعضها ، وكانت من بين الحشرات جرادة بطيئة الحركة سهلة الاصطياد جميلة المنظر خاصة النقاط البيضاء والسوداء على بطنها وكنا نطلق سراحها فور إلقاء القبض عليها ونسميها جرادة فاطنة بت الرسول ولا أدري لهذه التسمية سببا إلا إذا كان ذلك حماية من رب العالمين لهذه الحشرة المسالمة. شاهدت في البتكوبة ولأول مرة في حياتي ثعبانا يبتلع فأرا وكنت أعتقد أن العملية سهلة وسريعة كما هو الحال بالنسبة للأكل عندنا ولكن الموضوع كان يستغرق وقتا طويلا للغاية فيما يبدو والثعبان يبسط ويقبض عضلاته بينما يتحرك الفأر للداخل ، وكان الثعبان في حالة يرثى لها من قلة الحيلة وكان بإمكاننا قتله بسهولة ولكن الرهبة من شكله حالت دون ذلك. غني عن القول بالطبع أننا قد تلقينا في ذلك اليوم علقة ساخنة غير أن منظر الثعبان وهو يبتلع الفأر كان حريا بأن يتحمل الإنسان في سبيله ما يأتي من يحيى أفندي. كانت هذه الغابة مقرا دائما لعائلة السناجب أو الصبرة كما كنا نسميها ، وبعض سكان شمال السودان يطلقون اسم الصبرة على بعض أنواع الثعالب. وصبرة كسلا حيوان حذر وسريع للغاية ويبدو أن والدة الصبرة قد أوصتها وصية الغراب لإبنه فهي ما أن ترانا حتى تندفع بسرعة شديدة نحو جحورها ، وكنا في الكثير من الأحيان نحمل ذخيرتنا من الحجارة قبل دخول البتكوبة لاصطياد هذا الحيوان الحذر ولكن هيهات. والغابة غنية كما هو متوقع بكل أنواع الطيور وكانت شقشقة العصافير ونحن في الطريق للمدرسة من الأصوات التي ستظل عالقة بالذهن دائما. وأذكر أننا وجدنا في الغابة يوما صقرا كبير الحجم غريب الشكل يبدو عليه الإرهاق الشديد وفي إحدى ساقيه علقت حلقة كتب عليها عنوان في السويد أو النرويج ويبدو أنه كان من الطيور المهاجرة. وفي الغابة حسبما أذكر كان هناك ميدانا للاسكواش وقد شاهدت بعض موظفي الحكومة يمارسون هذه الرياضة في ذلك المكان ولا أدري إن كان لا يزال الميدان قائما في مكانه أو إن كان هناك من لا زال يمارس هذه الرياضة في مدينتي الحبيبة. كم كانت طفولتنا مدهشة وكم أرثى لحال أطفالنا الذين لا يشاهدون مثل هذه الأشياء إلا في القنوات الفضائية. وفعلا أيام زمان كانت أيام.