عمر نملوز

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 01:27 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
منبر ناس الزقازيق
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-02-2010, 07:19 PM

مبارك جادين

تاريخ التسجيل: 09-13-2008
مجموع المشاركات: 350

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عمر نملوز (Re: محمد العبيد)

    يا نملوز طبعا زي ما قلت ليك كان اول اقتراب لي من ماركيز رواية مائة عام من الغزلة
    لكن قرات بعد داك خريف البطريريك فايقنت ان مائة عام لم تكن بنت صدفة ولكن هذا كاتب مبدع
    وكما درج الناس للاحتفاء برواية المرحوم الطيب صالح موسم الهجرة الي الشمال احتفيت انا بمريود وبندر شاه اكثر من الموسم
    وكذلك اندهشت من الخريف اكثر من مائة العزلة لذلك انظر الي مقتطع من الفصل الاول من تلك الرواية .


    أثناء عطلة نهاية الأسبوع اقتحمت النسور قصر الرئاسة ، متسللة عبر كوى فتحتها بمناقيرها في القضبان الحديدية المشبكة فوق الشرفة ، فحركت برفيف أجنحتها زمان القصر الراكد. ومع طلوع فجر يوم الإثنين نفضت المدينة عن عينيها سبات عدة قرون ، واستيقظت على نفحة رقيقة دافئة تنثال من بقايا ذكرى ذلك الكبير الذي قضى وتلك الأبهة التي بادت.
    حينئذ فقط ، تجاسرنا على دخول القصر ، وخلافا لتوقعات معظم الذين رسموا الخطة ، لم نكن بحاجة إلى دك الجدران المكينة الآخذة بالتفتت ولا إلى تحطيم البوابة برؤوس الثيران المكدونة ، خلافا لمقترحات آخرين . إذ انخلعت المصاريع المصفحة الثقيلة بدفعة من أول الداخلين ، وكانت من قبل قد استعصت على منجنيق "وليم دامبيه" خلال عصر البطولات الغابرة.
    في الداخل خيل إلينا أننا عبرنا إلى زمن آخر : فالهواء يبدو أقل كثافة ، والصمت أكثر رسوخا ، في الردهات الدارسة لهذا المعقل الحكومي الرحب. وبدت الأشياء غائمة الصورة من جراء سوء الإضاءة .. وعبر الفناء الخارجي ، حيث تشقق البلاط عن أعشاب طفيلية ، رأينا مربض الحراس الذين هربوا، يغرق في الفوضى ، وشاهدنا أسحلتهم مهجورة في الخزائن ، وعلى المائدة الخشنة الملمس الفارعة الطول ، أطباق ما زال فيها بقية من طعام غداء يوم الأحد ، الذي قوطع بسبب موجة الذعر الداهمة . وتحت ذؤابة ضوء باهت رأينا مكتب الخدمات والشكاوى ، وفيه نبتت زنابق شاحبة وفطريات بين عرائض الالتماس التي لم تنجز دراستها بعد ، بسبب روتين كان أبطأ من دبيب الحياة في الباب ، وفي وسط الفناء ، شاهدنا مذبح المعمودية ، الذي شهد تعميد خمسة أجيال متعاقبة قرابين نزوات عرفية . أما في قاع الفناء فقد رأينا إسطبل حكام الولايات ، وقد تحول إلى مرآب للعربات ، وبين أزهار الكاميليا والفراشات المحومة ، شاهدنا سيارة ترقى إلى عصر الصخب المدوي ، وعربة ترقى إلى عصر تفشي وباء الطاعون ، ومركبة عام ظهور النجم المذنب ، وعربة نقل الموتى التي وضعت في السير على إثر تطور بنية قوانين القمع ، وسيارة "الليموزين" المجهزة بمقصورة للمنامة ، والعائدة إلى القرن الأول للسلام ، وكانت كل هذه الأياء بحالة جيدة ومطلية بألوان العلم الوطني ، وقد نسج فوقها العنكبوت شباكه الغبراء.
    وفي الفناء الثاني ، وخلف أسلاك معدنية مشبكة ، كان قمر أغبر يضيء شتلات الورد التي كان يرقد في ظلالها المصابون بالجذام في زمان عز القصر، حتى إذا هجرها الجميع ولم يعتن بها أحد ، راحت تتكاثر ، فعبقت رائحتها في كل فجوة خالية في الجو ، واختلطت برائحة نتنة وافدة من طرف الحديقة المقابل.
    وبتنانة قنّ الدجاج، ورائحة روث الأبقار ، وتخمر بولها وبول الجنود الذين استعمروا القلعة قبل أن تتحول إلى اسطبل لتربية الأبقار الحلوب.
    وفيما نحن نشق طريقنا عبر دغل كثيف ، كنا نشاهد شرفات الرواق المعقودة والمغطاة بالقرنفل ، وأوراق "الاستر وملياس" . كما شاهدنا مقاصير الجواري تغطيها نباتات معرشة ، ولما رأينا قطع الأثاث المتنوعة وآلات الخياطة العديدة ، أدركنا أن أكثر من ألف محظية قد عشن في هذا المكان مع العديد من أطفالهن المجهولي الآباء. وفي المطابخ آثار فوضى العراك الذي كان ينشب بينهن ، وفي سطول ، تحت الشمس ، غسيل متعفن . وكانت فتحة مرحاض الجنول والمحظيات المشترك مفتوحة بلا غطاء.
    وشاهدنا في المؤخرة صفصافا باليا استقدم بحرا من آسيا الصغرى ، شجرا كاملا بجذوره وترتبه ، وجذوعه ، وأوراقه المغطاة برذاذ الندى ، في أحواض من الزجاج .. وخلف الصفصاف تبدى مركز الموظفين المدنيين الحرب مغلفا بمسحة من الكآبة . وعبر أطر نوافذه الملثمة كانت النسور تواصل التسل.
    لم نكن بحاجة إلى خلع البوابة ، كما كان مقررا ، ذلك أنها بدت قابلة للفتح بمجرد تعرضها لضغط الصوت! مما سهل صعودنا إلى الطابق الأول عبر درج حجري مفروش بسجادة استقدمت من دار الأوبرا، بدت رثة بالية لفرط ما داستها الأبقار باظلافها ، وفي بهو يقول إلى غرف النوم ، شاهدنا غرف المكاتب ، وصالات الاستقبال الرسمية خاوية إلا من الأبقار ، تذرعها جيئة وذهابا ، وتأكل مخمل الستائر وتجتر ساتان الأرائك دون مبالاة . كما شاهدنا لوحات رسمت في زمن البطولات ، تمثل قديسين ومحاربين ، ملقاة بين حطام الأثاث وبقع لزجة من روث البقر . ورأينا صالة الطعام أتت عليها الأبقار وطاولات الزهر والدومينو محطمة ، حتى مائدة البليار نهشتها الأبقار! ورأينا المراح مهجورة في أحد الأركان ، وهي التي طالما وفرت لسكان هذا المكان مزايا دولاب الهواء ذي الأضلاع الأربعة كي يكون بمقدورهم سلوان البحر ، وأبصرنا أقفاص الطيور معلقة هنا وهناك وكل منها مغطى بقماش "الكرتون" الكتاني الذي كان ، لليال خلت من ليالي الأسبوع الفائت ، يهدهد بفيئه نوم الطيور . وعبر النوافذ التي لا حصر لعددها رأينا في الخارج وحش المدينة مستسلما لسكينة يوم الإثنين التاريخي ، التي بدأت تخيم عليه . ووراء المدينة أبصرنا رمادا قمري اللون بذرات كبيرة انثالت عن فوهات البراكين الخامدة التي تحف بالسهل المترامي إلى ما لا نهاية ، حيث أنشئت بحيرة من قبل ، في هذه البقعة الحصينة ، وكانت محظورة لا يرتادها إلى قلة من المحظوظين ، من أصحاب الامتيازات.
    وفجأة، شممنا رائحة أجساد النسور وهبت عليها ثانية نفحة من غريزة التوثب المعهودة فيها ، وقادنا رفيف أجنحتها المنفوشة إلى قاعة المؤتمرات ، حيث جيف الأبقار ، وقد نخرتها الديدان ، فانكشفت عرواتها وواجهتنا بآلاف الصور تتكرر عبر المرايا الجدارية الكبيرة.
    **
    دفعنا مصراعي باب جانبي فافتحا على مكتب سري ، وهناك رأيناه ، هو، ببدلة من الكتان منزوعة النياشين ، ومنتعلا جزمته ذات المهماز الذهبي على كاحل ساقه اليسرى . بدا وكأنه أكبر المخلوقات المعمرة ، في اليابسة والماء ، سنا . كان ممددا على بلاط أرض ذلك المكتب متوسدا ذراعه ، تماما كما كان ينام كل ليلة من ليالي عمره المديد ، كطاغية أوحد . قلبنا الجثة وتفرسنا في الوجه ، فأدركنا استحالة التعرف إلى سحنته . على الرغم من أن النسور لم تكن قد نقرت وجهه وعينيه بعد ، ذلك أنه لم يسبق لأحد منا أن رآه من قبل . ولئن كانت صورته قد رسمت جانبية على وجهي العملة ، وعلى الطوابع البريدية ، وشهادات الحجر الصحي ، والأحزمة الواقية من الفتاق ، وكان تمثاله النصفي الذي يتقاطع على صدره العلم الوطني والتنين الذي اتخذ رمزا للوطن ، معروضها في كل مكان وعلى امتداد ساعات النهار والليل ، فإننا كنا متيقنين من أن الصورة والتمثال ليسا سوى نسخ طبق الأصل عن سحنته كما كانت في زمن النجم المذنب ، عندما كان آباؤنا يعرفون حقيقته نقلا عن آبائهم الذين نقلوا بدورهم عن آبائهم ، فاعتقدنا منذ ذلك الحين أنه كائن حي في قصر السلطة ، وبنينا اعتقادنا على ما نقل إلينا بالتواتر من أن واحدا من الناس شاهد المصباح البعيد المدى مضاءً ذات ليلة معلنا عن حفلة تقام في القصر ، أو على رواية يزعم راويها أنه رأى عبر هودج عربة الرئاسة المزخرف ، العينين الكئيبتين ، والشفتين الشاحبتين ، وأبصر اليد البلهاء تلوح راسمة إشارة التحية في الهواء. ونقل إلينا أنه في ذات يوم من أيام الآحاد الموغلة في التاريخ ، جيء بالأعمى الجوال إلى حضرته فألقى عليه أبياتا للشاعر المنسي "روبين داريو" مقابل "خمسة سانتافو" وعاد بعدها سعيدا بقطعة النقود ، التي كسبها مقابل الإنشاد في حضرة الجنرال الذي لم يبصره حتما ، لا لأنها كان أعمى فحسب ، بل لأن أحدا لم يلمح له وجها منذ سنة الكوليرا.. بيد أن الاعتقاد السائد مجمع على أنه كان يعيش فعلا في القصر . ذلك لأن الزمان كان يتواصل ، وكانت الحياة تتواصل ، والبريد يصل بانتظام ، وكانت جوقة البلدية تثابر كل يوم سبت على عزف مقطوعات الفالس الشعبية تحت أشجار النخيل المغبرة ، على ضوء القناديل الخافتة في ميدان العرض . وكلما مات موسيقي في الجوقة كان يحل محله آخر من الموسيقيين المحترفين .
    وفي الأعوام الأخيرة لم نعد نسمع أصواتا بشرية ولا تغريد طيور في الداخل ، وأوصدت البوابات المصفحة طويلا ، غير أننا كنا على يقين من أن ثمة أحدا ما في البيت الوطني ، إذ كنا نبصر في الليل أضواء تشبه أنوار المنارة البحرية تتلألأ من خلال النوافذ المطلة على الميناء ، وأفاد الذين تجاسروا واقتربوا من البيت ، أنهم سمعوا جلبة أظلاف وهمهمة حيوان كبير خلف الجدران الحصينة ! ولمحنا ذات مساء من شهر كانون الثاني ( يناير ) بقرة تحدق في الغسق من على شرفة القصر، تصوروا : بقرة في الشرفة الوطنية !! يا للقذارة! ياله من أمر فظيع ! وغرقنا في التأويلات.. أجل كيف تستطيع بقرة أن تعبر إلى شرفة ؟ وكلنا يعرف أن الأبقار لا تتسلق السلالم الحجرية، فكيف إذا كانت مفروشة بالسجاد! وكدنا بعد ذلك نكذب عيوننا، وملنا إلى الاعتقاد بأننا كنا في حلم حينما خيل إلينا أن بقرة تخطر على شرفة القصر ، حيث لم يشاهد من قبل مخلوق ، ولم يكن متوقعا أن يشاهد مخلوق إلى الأبد ، لولا أن حل فجر يوم الجمعة من الأسبوع الفائت ، فبدأت طلائع النسور تصل آتية من أوكارها في جدران مأوى العجزة المعوزين حيث كانت ترقد في سبات عميق منذ الأزل . وبعضها كان يأتي من ظلمات المأوى ، فتصل سربا بعد آخر تحلق فوق بحر غبار يغطي سماء السهل المترامي هناك،حيث أنشئت البحيرة ذات يوم وظلت تلك الأسراب تحوم طوال يوم كامل ، في دوران بطيء حول بيت السلطة ، إلى أن أصدر فيها ملك للنسور ، متوج بإكليل وعرف أحمر ، أمره السري ، فسمعت قرقعة زجاج يتحطم ، وصرير ريح ذلك الميت الكبير المقام!
    دخول النسور وخروجها من النوافذ ، يعني أن البيت فقد منعته ونفوذه فشجعنا ذلك على أن ندخله بدورنا ، فرأينا أطلال العز البائد في المعقل المقفر ، وفي الجسد المسجى ، والكفين الناعمتين ، ككفي امرأة يزينهما خاتم السلطان في البنصر .. كان جسده يتفتق عن بثور صغيرة ، وعن طفيليات تشبه الحيوانات التي تعيش في أعماق البحر ، تتركز تحت الإبطين فوفي ثنايا الفخذين. وضمادة من القطن تلف فتقا في جراب خصيتيه ، اللتين لم تنهشهما النسور ، رغم أنهما متورمتان ككليتي ثور.
    حتى هذه اللحظة لم تؤاتنا الجرأة على أن نجزم بحقيقة موته. إذ أنها المرة الثانية التي يشاهد فيها على هذه الصورة في مكتبه ، مرتديا ملابسه ومسجى كميت ، ثم يتبين أنه يغط في النوم ، محققا مصداقية نبوءة العرافين الذين كشفوا طالعه في مياه جفناتهم الراكدة ، ولما كانت أول مرة اكتشف فيها على هذه الصورة في مطلع خريفه ، وكان الشعب لمايزل آنذاك ينبض بقدر من الحياة كاف لجعله يترقب الموت يأتيه ، حتى في مخدعه . بيد أنه واصل الحكم كما لو أنه يعيش أبدا.
    لم يكن قصره شبيها بقصور الرؤساء ، بل كان أشبه ما يكون بسوق مكتظ بالجنود والوصفاء يأتونه حفاة بسلال الخضار وصناديق الطيور الداجنة ، يملؤون بها الأروقة . وبنساء ثرثارات يأتين بأطفالهن الجياع ينامون على وجوههم فوق جرجات القصر حالمين بالإحسان . وكان على رواد القصر أيضا تحاشي المياه الوسخة تسكب من أواني الزهور الليلية عندما تفرغها جواري السلطان ويملأنها ثانية بزهور النهار. وهن يرددن أغاني الحب الموهوم على إيقاع عيدان ينفضن بها ، فقط السجاد من على شرفاتهن..كل ذلك كان يختلط في القصر بثرثرة الموظفين الذين جلسوا ينتظرون أن تأتي "الدجاجات" لتضع بيضها في أدراج مكاتبهم ، وبتأوهات الجنود والعاهرات يمارسون الحب في المراحيض . وبجلبة الطيور ،و عراك الكلاب الضالة في قاعة المؤتمرات . ولم يكن بمقدور أحد أن يعرف سببا كافيا لوجوده أو لوجود سواه، في هذا القصر المشرع لهذه الفوضى ، التي يستحيل معها على الوافد أن يحدد مركز القرار .
    وكان سيد القصر لا يكتفي بالمشاركة في هذا الكرنفال الحزين فحسب ، بل كان يحرص عليه ويقوده : فما أن تضاء مصابيح غرفة نومه ، حتى يقرع نفير الحرس الرئاسي معلنا نوبة الفجر قبل صياح الديكة ، فتستنفر ثكنة "ديل كوندي" المجاورة استعدادا للنهار الجديد ، ومنها تعطى إشارة بدء النهار إلى قاعدة "سان خيرونيمو" ، التي تعطي بدورها الإشارة إلى قلعة الميناء ،التي تقرع نفيرها تكرارا ست مرات متعاقبة فتستيقظ المدينة أولا ، ثم البلاد بأسرها ، بينما يتباطأ هو ، في سريره يراقب خصيتيه المتورمتين ، محاولا أ، يوقف الطنين المدوي في أذنيه ، ليراقب بعد ذلك انعكاس أنوار البواخر في صفحة البحر الفيروزية التي لا تهدأ على حال ، والتي طالما ألهمت الشعراء قصائدهم الرومانسية في عصور الرخاء .
    وكان يحدد بنفسه كميات الحليب المخصصة للجنود في ثكناتهم ، فتنقلها إليهم عربات الرئاسة الثلاث . ثم يتناول قهوته مع فطيرة بالبيض ، دون أ، يفكر إلى أين ستقوده نزوات اليوم الجديد ، بل يكتفي بالإصغاء إلى ثرثرة الخد وأهل المنزل ، فيبادلهم ثرثرتهم ، ويثني على تملقهم وهو يعرف أنهم يكذبون ، وقبيل التاسعة كان يدلف إلى الحمام العابق بالأبخرة المضادة للفطريات الباكتيرية ، فيستقر طويلا في قاع حوض من الصوان ، أنشئ في باحة الحمام المظلل بأشجار اللوز . وبعيد الحادية عشرة فقط ، كان يتهيأ لمواجهة المصادفات ، بعد أن يكون قد سيطر على انفعالاته الصباحية.
    أما في الماضي ، وفي مرحلة احتلال المارينز للبلاد ، فقد كان ينزوي في مكتبه حيث يقرر مصير الوطن بالتنسيق مع قائد قوة الإنزال البحرية. ويوقع المراسيم والتعاميم بصما بإبهام يده اليمنى . لأنه لم يكن يحسن القراءة ولا الكتابة .. وعندما ذهب المارينز وخلفوه وحيدا ، في مواجهة أعباء حكم الوطن ، كف عن تبرمه المعتاد بالقوانين المكتوبة التي يعتبرها مجرد سخافات ، وراح يحكم بنفسه . وحل صوته الأجش محل القانون ، في كل مكان وزمان . وبدا مهووسا بالتفاصيل الثانوية ، حريصا على المال بالقياس إلى من هم في عمره ، متذمرا من العميان والمصابين بالجذام والمشلولين الذين كانوا يحتضرون على بابه ضارعين يطلبون ملح البرء على يديه ، ومنزعجا من السياسيين المتعلمين يأتونه متملقين ويبايعونه قائدا أعلى للزلازل وللكسوف والخسوف ، والسنين الكبيسة ، وكل مفارقات الطبيعة الأخرى ، فيجر أذياله في أنحاء القصر مثل فيه يخبط في الثلج ، ويحل قضايا الدولة بمثل البساطة التي يحل بها مشاكل الخدم ، عندما ينهرهم آمرا : "انزعوا هذا الباب من هنا." فيرفع الباب.. "ركّبوه هنا" فيركّب.. "أرجعوا عقارب ساعة الحائط إلى الوراء، عليها أن لا تعلن منتصف النهار عند الساعة الثانية عشرة ، بل عند الثانية ، كي تبدو الحياة أطول" وتؤخّر عقارب الساعة للتو ودون تردد.. فقط ساعة الموت لا تتأخر ، وساعة القيلولة حيث كان يلوذ بفيء محظياته ، ويقع اختياره على إحداهن ، فيثب فوقها دون أن يقفل الباب عليهما ، فلا يعريها ولا يتعرى ، ويتناهى إلى الجميع لهاث الحرام الصارخ وهرير المهماز الذهبي ، وعويل كعويل جرو صغير ، وذعر المحظية التي كانت تتشاغل عن مضاجعته محاولة صرف نظر أطفالها المستائين فتصرخ فيهم : "اغربوا عني ، اذهبوا والعبوا في البهو ، هذه ليست فرجة للأطفال"، ثم يخفت الصراخ ، كما لو أن جناحي ملاك رفرفا في سماء الوطن ، ويتوقف سير الحياة ، والجميع في ذهول ، كل يضع سبابته على شفتيه ، وقد حبس أنفاسه ، ويخيم الصمت ، فيطلق الجنرال طلقته . بيد أن اللواتي كن يعرفن حقيقته لم يكن يتوقعن خيرا من هدنة اللحظة المهيبة ، فالرجل كان دوما مزدوج الشخصية، ففي حين يرى في صالة الجلوس يلعب الدومينو عند الساعة السابعة مساء ، يشاهد ، في الوقت نفسه. يوقد النار في روث البقر المجفف ليطرد البرغش عن قاعة المؤتمرات.
    لم يكن أحد في القصر يمني النفس بالنجاة من أوامره ونواهيه المرتجلة ،ما دامت نوافذ غرفته لم تطفأ بعد ، وما لم يسمع الجميع قرقعة الرتاجات الثلاثة ، وصرير المزاليج الثلاثة ، وجلبة الدعامات الثلاث ، التي كانت تحصّن باب حجرة النوم ، وما ل يسمعوا ارتطام جسده المنهوك عندما ينهار على أرض الحجرة ، وتنفسه المحموم كتنفس طفل متوتر ، يزداد ارتفاعا كلما ارتفع المد البحري وتطاول حتى اللحظة التي تحجب فيها قيثارات الرياح الليلية طنين الصراصير في طبلتي أذنيه ، وتجتاح موجة الماء المزبد الأزقة العتيقة ، في مدينة حكام الولايات والمغامرين والقراصنة ، وتتدفق طوفانا في البيت السلطاني ، في ذات يوم سبت من شهر آب (أغسطس) . حيث ارتطمت الحيوانات البحرية بالمرايا التي عكست صورها أضخم مما هي عليه في الواقع ، وسقطت قاعة المؤتمرات تحت رحمة أسماك القرش الهائجة ، فجرفته المياه إلى أعلى ارتفاع عرفته محيطات ما قبل التاريخ ، فطفا على وجهه فوق الأرض ، وفوق السماء ، وفوق الزمان ، ووحده ظل يطفو فوق سطح مياه أحلامه القمرية ، أحلام غريق مستوحش ، ببزة جندي كتانية ، وجزمة جلدية ذات مهماز ذهبي . وبساعده الأيمن الذي ثناه تحت رأسه كالوسادة.
    ***

                  

العنوان الكاتب Date
عمر نملوز عمر نملة03-27-10, 07:08 PM
  Re: عمر نملوز جلال عثمان03-27-10, 07:20 PM
  Re: عمر نملوز عمر نملة03-27-10, 07:21 PM
    Re: عمر نملوز عمر نملة03-27-10, 07:32 PM
    Re: عمر نملوز محمد صديق03-27-10, 07:35 PM
      Re: عمر نملوز الرشيد بابكر03-27-10, 08:07 PM
        Re: عمر نملوز أبوبكر حامد الأمين03-27-10, 10:31 PM
          Re: عمر نملوز طارق جبريل03-27-10, 11:37 PM
            Re: عمر نملوز عصام دهب03-28-10, 11:09 AM
              Re: عمر نملوز عمر نملة03-28-10, 11:34 AM
              Re: عمر نملوز عبد الدائم سيد أحمد03-28-10, 11:41 AM
                Re: عمر نملوز عمر نملة03-28-10, 12:02 PM
                Re: عمر نملوز منصور عبد الرازق03-28-10, 12:06 PM
                  Re: عمر نملوز عمر نملة03-28-10, 12:21 PM
                    Re: عمر نملوز الرشيد بابكر03-28-10, 12:28 PM
                      Re: عمر نملوز الرشيد بابكر03-28-10, 12:31 PM
                  Re: عمر نملوز ميسرة سيد أحمد03-28-10, 12:32 PM
                    Re: عمر نملوز عمر المهدى03-28-10, 12:46 PM
                      Re: عمر نملوز مجتبي فاروق03-28-10, 01:23 PM
                        Re: عمر نملوز عمر نملة03-28-10, 01:36 PM
                          Re: عمر نملوز محمد آدم النور03-29-10, 06:37 AM
                            Re: عمر نملوز عمر نملة03-29-10, 05:22 PM
                              Re: عمر نملوز زهير الزناتي03-29-10, 05:46 PM
                                Re: عمر نملوز عمر نملة03-29-10, 06:21 PM
                                  Re: عمر نملوز زهير الزناتي03-29-10, 06:30 PM
                                    Re: عمر نملوز عمر نملة03-29-10, 07:21 PM
                                      Re: عمر نملوز ياسر نجيلة03-30-10, 11:33 AM
                                        Re: عمر نملوز عفاف علي ميرغني03-30-10, 08:13 PM
                                          Re: عمر نملوز أبوبكر حامد الأمين03-30-10, 10:23 PM
                                            Re: عمر نملوز Hatim Gubara03-31-10, 01:31 PM
                                              Re: عمر نملوز عمر نملة03-31-10, 07:20 PM
                                                Re: عمر نملوز عمر نملة03-31-10, 07:31 PM
                                                  Re: عمر نملوز عمر نملة03-31-10, 07:39 PM
                                                    Re: عمر نملوز عبد الدائم سيد أحمد04-01-10, 07:47 AM
                                                      Re: عمر نملوز محمد صديق04-01-10, 08:15 AM
                                                        Re: عمر نملوز عثمان الخير04-01-10, 10:27 AM
                                                          Re: عمر نملوز أبوبكر حامد الأمين04-01-10, 04:01 PM
                                                            Re: عمر نملوز عمر نملة04-03-10, 09:02 AM
                                                              Re: عمر نملوز عمر نملة04-03-10, 09:05 AM
                                                                Re: عمر نملوز عمر نملة04-03-10, 09:10 AM
                                                                  Re: عمر نملوز ياسر نجيلة04-04-10, 11:31 AM
                                                                    Re: عمر نملوز عمر نملة04-04-10, 06:06 PM
                                                                      Re: عمر نملوز عبد الدائم سيد أحمد04-05-10, 09:48 AM
                                                                        Re: عمر نملوز عمر نملة04-05-10, 12:49 PM
                                                                          Re: عمر نملوز عمر نملة04-05-10, 12:53 PM
                                                                            Re: عمر نملوز سامي عبد الوهاب إدريس04-07-10, 07:40 AM
                                                                              Re: عمر نملوز محمد عيد04-07-10, 08:53 AM
                                                                                Re: عمر نملوز عمر نملة04-08-10, 09:19 AM
                                                                                  Re: عمر نملوز عمر نملة04-08-10, 09:37 AM
                                                                                    Re: عمر نملوز عمر نملة04-08-10, 09:45 AM
                                                                                      Re: عمر نملوز أبوبكر حامد الأمين04-09-10, 04:43 AM
                                                                                        Re: عمر نملوز عبد الدائم سيد أحمد04-10-10, 07:32 AM
                                                                                          Re: عمر نملوز محمد صديق04-10-10, 08:04 AM
                                                                                          Re: عمر نملوز عمر نملة04-10-10, 07:46 PM
                                                                                        Re: عمر نملوز عمر نملة04-10-10, 07:38 PM
                                                                                          Re: عمر نملوز عمر نملة04-10-10, 07:54 PM
                                                                                            Re: عمر نملوز عمر نملة04-11-10, 06:26 AM
                                                                                              Re: عمر نملوز محمد صديق04-11-10, 06:52 AM
                                                                                                Re: عمر نملوز عبد الدائم سيد أحمد04-11-10, 07:43 AM
                                                                                                  Re: عمر نملوز عمر نملة04-11-10, 10:45 AM
                                                                                                    Re: عمر نملوز عمر نملة04-11-10, 10:56 AM
                                                                                                      Re: عمر نملوز عمر نملة04-11-10, 05:52 PM
                                                                                                        Re: عمر نملوز محمد صديق04-15-10, 04:05 PM
                                                                                                          Re: عمر نملوز عمر نملة04-17-10, 00:08 AM
                                                                                                            Re: عمر نملوز محمد صديق04-17-10, 06:34 AM
                                                                                                              Re: عمر نملوز عمر نملة04-17-10, 07:48 AM
                                                                                                                Re: عمر نملوز عمر نملة04-17-10, 10:44 AM
                                                                                                                  Re: عمر نملوز عبد الدائم سيد أحمد04-17-10, 11:29 AM
                                                                                                                    Re: عمر نملوز عمر المهدى04-17-10, 01:06 PM
                                                                                                                      Re: عمر نملوز عمر نملة04-18-10, 02:46 AM
                                                                                                                        Re: عمر نملوز عمر نملة04-18-10, 02:47 AM
                                                                                                                          Re: عمر نملوز ياسر نجيلة04-18-10, 07:03 AM
                                                                                                                            Re: عمر نملوز زهير الزناتي04-18-10, 03:55 PM
                                                                                                                              Re: عمر نملوز محمد صديق04-19-10, 12:18 PM
                                                                                                                                Re: عمر نملوز عمر نملة04-20-10, 07:14 AM
                                                                                                                              Re: عمر نملوز عمر نملة04-20-10, 07:11 AM
                                                                                                                            Re: عمر نملوز عمر نملة04-20-10, 07:10 AM
                                                                                                                              Re: عمر نملوز عمر نملة04-20-10, 08:44 AM
                                                                                                                                Re: عمر نملوز عمر نملة04-25-10, 08:44 AM
                                                                                                                                  Re: عمر نملوز محمد صديق04-25-10, 09:27 AM
                                                                                                                                    Re: عمر نملوز عمر نملة04-25-10, 11:00 AM
                                                                                                                                    Re: عمر نملوز منصور عبد الرازق04-25-10, 11:07 AM
                                                                                                                                      Re: عمر نملوز كمال الشادي04-25-10, 04:18 PM
                                                                                                                                        Re: عمر نملوز محمد صديق04-25-10, 04:32 PM
                                                                                                                                          Re: عمر نملوز عبد الدائم سيد أحمد04-26-10, 11:34 AM
                                                                                                                                            Re: عمر نملوز كمال الشادي04-26-10, 02:13 PM
                                                                                                                                              Re: عمر نملوز عمر نملة04-27-10, 06:53 PM
                                                                                                                                                Re: عمر نملوز عمر نملة04-27-10, 06:54 PM
                                                                                                                                                  Re: عمر نملوز عمر نملة04-27-10, 06:55 PM
                                                                                                                                                    Re: عمر نملوز عمر نملة04-27-10, 06:56 PM
                                                                                                                                                      Re: عمر نملوز محمد صديق04-28-10, 10:44 AM
                                                                                                                                                        Re: عمر نملوز عمر نملة05-01-10, 06:27 AM
                                                                                                                                                          Re: عمر نملوز عمر نملة05-02-10, 10:41 AM
                                                                                                                                                            Re: عمر نملوز عبد الدائم سيد أحمد05-02-10, 11:24 AM
                                                                                                                                                              Re: عمر نملوز زهير الزناتي05-02-10, 03:45 PM
                                                                                                                                                                Re: عمر نملوز كمال الشادي05-03-10, 07:42 AM
                                                                                                                                                                  Re: عمر نملوز عمر نملة05-03-10, 07:56 AM
                                                                                                                                                                    Re: عمر نملوز عمر نملة05-03-10, 07:58 AM
                                                                                                                                                                      Re: عمر نملوز عمر نملة05-03-10, 08:27 AM
                                                                                                                                                                        Re: عمر نملوز عمر نملة05-03-10, 08:29 AM
                                                                                                                                                                          Re: عمر نملوز عمر نملة05-03-10, 09:15 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de