|
من حكاوي الأرض
|
الحكاية الأولى: أكل الواطة
كثيراً ما كنت اسمع عبارة "تاكل الواطة"، و غالباً ما كانت تأتي إثر غضبة تعقب مسألة تتعلق بالأكل في معظم إن لم أقل كل الأوقات التي سمعتها فيها. مثلاً، أم حانقة على طفل مشاكس تلهّى عن تناول طعامه بلعبة لا ترى فيها الأم ما يشغل عن الطعام: يا ولد ما تجي تاكل، تاكل الواطة. أو أب يحاول تمرين ابنه البِكِرْ المراهق على تأدية إلتزاماته الإجتماعية المرتقبة: - يا ولد ما قُتلك أرح بسراع نلحق دافنة ناس حاج حسين دي،السترة و الفضيحة متباريات - يابا ما يتبارن كان متباريات، خليني الناكل لي لقمة بعدين نمش - يا ولد تاكل الواطة ، الناس ديل ماشين يرجوك لامن تحشي بطنك المغلباك دي؟
سمعتها كثيراً من أهلي في شمال السودان أو قل بعضاً منهم هرباً من التعميم، كنت آخذها كذا على علاتها دون هواجس تُذْكَر لتشريح العبارة أو محاولة التفكير في ما يمكن أن تنطوي عليه من بلاغة إلا أن التقيتُ واحداً من أعمامي غير المباشرين و هم كُثْر، أحمد الشّرِقْ. إسمه أحمد حسن علوب، لقب بأحمد الشّرِقْ لأنه كان يعبر البحر(نهر النيل) يومياً ليعمل في قرية تقع في جهته الشرقية. شرق النيل يمتد علي امتداد نهر النيل ولكن أهل القرية التي يقطنها أحمد الشّرِقْ في ذلك الجزء الشمالي من البلاد، عرَّفوا شرق تلك المنطقة بالألف و اللام وكأنه الشرق الأوحد. زارنا عم أحمد لأيام خلال شهر رمضان. كانت الأجساد التي ابتلت عروقها للتو تتمدد منهكة على بروش السعف الخشنة بعد الإفطار و تتحلق حولها الحكايات. بجانب حبه للحكي، لاحظت إن عمي أحمد يحب الشاي السادة و التمباك بصورة لافتة للانتباه، إستمتعت جداً بحكاياته في تلك الأيام. كان يكشح سفة تمباك كبيرة من حقته النحاسية و يسجنها في فمه لمدة تفوق كثيراً متوسط الزمن الذي عادةً ما تسكنه السفة في الفم قبل أن يقرر صاحبها التخلص منها. في واحدة من حكاياته الشيقة تلك، جاءت العبارة! تاكل الواطة، قالها أحمد الشّرِقْ وكأنه هو الذي صكها، مما جعلني أسأل عن ما الذي تعنيه هذه السبة بالضبط. فاجأ السؤال عمي أحمد فسكت برهة قبل أن يستجمع وجهه التعابير التي تصاحب جل حكاياته مجدداً ثم استرسل باسماً: الواطة يا ابن ابن عمتي -هكذا كان يحب ان يناديني- ما بملحوها و يدوك ياها في صحن فشان تاكلا، لكن تتابكك المشاكل لامن تبيع واطاتك، تاكل قروشا وبعداك تبقا حايم في الحلة زي اُم روباً عفن* أردف أحمد الشّرِقْ هذا الشرح بحكاية ليدلل بها على صحة تعريفه وأيضاً كيف أن إمتلاك جزء من الأرض و لو صغير لشخص متعسر في معيشته، يجعل هذا الشخص يشعر بأنه أفضل من آخر ميسور الحال و لكنه في الأصل بلا أرض يملكها.
___________________________ *لـ"اُم روباً عفن" حكاية أيضاً لكنها لا تمت لحكايات الأرض بصلة
|
|
|
|
|
|
|
|
|