شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-28-2024, 09:25 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة العالم البروفسيراسامة عبد الرحمن النور
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-26-2005, 11:26 PM

Abdulgadir Dongos
<aAbdulgadir Dongos
تاريخ التسجيل: 02-09-2005
مجموع المشاركات: 2609

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛

    هذا المقال ستجدينه بداخل مجلة أركمناني الأكترونية، وللدكتور اسامة عبدالرحمن التحية والأحترام .



    http://www.arkamani.org/

    http://www.arkamani.org/vol_1/anthropology_vol_1/contents_anthropology.htm

    رؤية أنثروبولوجيـة لأزمة الســــودان الماثلة

    د. أسامة عبدالرحمن النور

    1999/11/25



    مقدمة

    السياسة الاستعمارية البريطانية فى السودان

    رؤيَّة أنثروبولوجية لصراع القوى السياسية

    حرب الجنوب الأولى 1955 – 1972

    حرب الجنوب الثانية 1983

    رؤية فى مشروع السودان الجديد












    مقدمة

    تبذل فى هذه الورقة محاولة لتتبع جذور الأزمة الحالية التى يمر بها السودان والتى تكاد تعصف بوحدته أرضاً وشعباً. وكان د. أسامة عبد الرحمن النور قد قدم هذه الورقة فى الملتقى الثقافي الذى يقيمه دورياً المركز القومي للبحوث والدراسات القومي فى طرابلس وذلك فى إطار تفعيل المبادرة الليبية التى تمخض عنها إعلان طرابلس فى أغسطس 1999. وكان من نتائج المحاضرة تشكيل لجنة تمهيدية للفاعليات الشعبية بالجماهيرية والدعوة الى ملتقى جماهيري تحت شعار "الوحدة فى التنوع" قدمت فيه أوراق عمل من قبل الأكادبمببن والباحثين والمثقفين السودانيين المتواجدين فى الجماهيرية دعماً للسلام فى السودان إنعقد بقاعة الشعب فى طرابلس فى الفترة 25-26 نوفمبر1999 بحضور السادة سفراء مصر ويوغندا واريتريا والسودان وأمين عام دول الساحل والصحراء والأخ سليمان الشحومى أمين الاتصال الخارجي بمؤتمر الشعب العام وما يزيد عن الألف من المواطنين السودانيين المتواجدين بالجماهيرية العظمى، وقد أصدر الملتقى بياناً ختامياً دعماً للمبادرة الليبية التى أصبحت لاحقاً الأساس القاعدي للمبادرة الليبية المصرية المشتركة.



    السياسة الاستعمارية البريطانية فى السودان

    فى عام 1955 بدأ ما صار يعرف بتمرد الجنوب وهو التمرد الذى أصبح بداية لحرب الجنوب الأولى التى استمرت مشتعلة من حينها حتى عام 1972، وكان الصادق المهدي قد قدم، فى محاضرة ألقاها فى كمبالا ، قراءة لما أسماه حرب الجنوب مفترضاً أن أسبابها تكمن فى السياسة الاستعمارية البريطانية. الحقيقة أنه لابدَّ من الاتفاق مع الصادق المهدي فى افتراضه، ففي عام 1919 وبعد اندلاع الثورة فى مصر قام البريطانيون بإضعاف الدور المصري وتقليصه فى إدارة السودان وأصبحوا أكثر تشدداً فى سياستهم الجديدة التى تبنوها بدءاً من عام 1920 باسم سياسة الجنوب التى دعت فيها الإدارة الاستعمارية الى ضرورة الفصل بين تطور شمال السودان عن جنوبه بما يؤدى الى استبعاد إمكانية وصول عملية التمثل الكامل بين الشطرين وعرقلة انتشار المد الوطني، وهكذا بدأ تشجيع فرض اللغة الإنجليزية لغةً رسميةفى الجنوب والاهتمام بالعادات والتقاليد المحلية الجنوبية، وفى هذا الإطار كتب ولسون كاش معبراً عن انزعاجه :"..تمثل الحكومة مرفقاً عادلاً ومناسباً لكل من المسلمين والوثنيين على حد سواء، وتتبنى فى الجوانب الدينية موقفاً غير منحاز بشكل صارم، ولا يشكل النشاط التبشيري جزءاً من عمل الحكومة وإنما يقع عبئه على الإرساليات وحدها، وهى التى تحدد إذا ما كان أولئك الجنوبيون الوثنيون سيتركون للوقوع فى قبضة الدين الإسلامي أم يمكن كسبهم للمسيحية".
    واكب إقرار سياسة الجنوب سّن إجراءات محددة: ففي عام 1921 تم إعفاء حكام المديريات الجنوبية البريطانيين (بحر الغزال والاستوائية وأعالي النيل) من حضور الاجتماعات السنوية التى تعقد فى الخرطوم لحكام مديريات السودان المختلفة، وسمح لهم بدلاً عن ذلك أن يقيموا صلات مباشرة مع نظرائهم فى كينيا ويوغندا. وفى عام 1922 صدر قانون الجوازات والاجازات الذى حدد دخول الأجانب الى السودان، وقانون المناطق المقفولة الذى حدد سفر السودانيين الشماليين الى الجنوب بطريقة تربط التصديق بذلك بمزاج السلطة المخولة. نص قانون المناطق المقفولة، الذى تم توضيحه لاحقاً بصورة جلية فى عام 1930 من قبل السكرتير الادارى بتوجيه من الحاكم العام على أن: "سياسة الحكومة فى جنوب السودان تهدف الى بناء مجموعة وحدات قبلية أو اثنية مستقلة بتركيب وتنظيم قائم على المعتقدات والعادات والتقاليد المحلية الى المدى الذى تتطلبه احتياجات العدالة والمساواة وقيام حكومة محترمة. إن حكومة السودان ستشجع، بقدر ما أمكن، التجار اليونانيين والسوريين أكثر من الجلابة (التجار السودانيين الشماليين). السماح للمجموعة الأخيرة يجب أن يقرر دون مجاملة، ولكن بشكل تدرجي، وفقط لأفضل الجلابة الذين ترتبط مصالحهم بشكل واضح بالعمل التجاري ويلتزمون بالطرق التجارية المشروعة، ومن المهم جداً تحديد تجارتهم فى المدن أو الطرق المعبدة، ويجب بذل الجهد لجعل اللغة الإنجليزية وسيلة الاتصال الرئيسة وسط السكان واستبعاد اللغة العربية كلياً".
    هكذا أصبح للسلطات المفوضة الحق بمنح إذن السماح بمزاولة العمل التجاري فى الجنوب بحكم القانون، ولها مطلق الحرية فى رفض الإذن أو تجديده بعد انتهاء صلاحيته دونما تحديد للأسباب، وفى الحالات المماثلة لها الحق فى إلغاء أي إذن دون إخطار وعلى المستفيد إنهاء أعماله فى المنطقة المحددة فى الإذن خلال وقت تحدده السلطات المختصة. وقد حاول الموظفون الاستعماريون تبرير منع السودانيين من أبناء الشمال الجغرافي مزاولة النشاط التجاري فى الجنوب بالادعاء، كما عبر عن ذلك هندرسون، بأن: "الشمالي بالنسبة للاداري البريطاني أما تاجر أو تاجر رقيق، فحتى منتصف العشرينات كان البقارة مستمرين فى جمع الرقيق فى مناطق جنوب النهر ليبيعونهم فى أسواق الشمال البعيدة، بالإضافة الى صيد الأفيال والزراف ونهب الماشية، وعندما يعملون فى التجارة البسيطة كانوا، فى الغالب، يخدعون أبناء القبائل النيلية البدائية ويغشونهم ويتعاملون معهم بطريقة مزيفة. فالتاجر الجلابي كان فى رأى البريطانيين شخصاً غير مرغوب فيه فى الجنوب لأنه يثرى على حساب القرويين ويبيع سلعاً تافهة بأرباح عالية وينشر الأمراض الجنسية، وكان دائماً يقوم بالاحتيال على الجنوبيين، ويهدد الآن بالمضاربة تماماً كما كان يفعل الهنود فى شرق أفريقيا عن طريق احتكار تجارة القطاعي والزراعة التجارية".
    واضح بما لا يدع المجال للشك أن قانون المناطق المقفولة هدف الى تلجيم عملية التثاقف بين شطري البلاد، غض النظر عن التبريرات التى يسوقها الإداريون البريطانيون الذين غادروا جزيرتهم البعيدة للإشراف على عملية استنزاف شعوب قارتنا الأفريقية.
    وفى عام 1946 قدمت الإدارة الاستعمارية البريطانية مشروعاً بديلاً يستبعد سياسة الجنوب ليحل محلها سياسة يتم من خلالها بقاء سكان الجنوب الجغرافي للسودان فى إطار سودان موحد على أن تتم تهيئتهم عبر الإدارة غير المباشرة والتعليم والتنمية الاقتصادية "ليقفوا أنداداً للشماليين" فى المستقبل، ومن ثم جاء انعقاد مؤتمر جوبا فى يونيو1947 ليُعلن بأن يكون الشمال والجنوب دولة واحدة على أساس الحكم الذاتي لجنوب السودان. وفى ديسمبر 1948 تم عقد أول اجتماع للجمعية التشريعية التى ضمت عشرة نواب منتخبين مباشرة عن المدن وعضوية اثنين وأربعين تم تعيينهم عن المناطق الريفية للشطر الشمالي واثني عشر عضواً من الشطر الجنوبي، وعين الحاكم العام عشر نواب، وتم اختيار مجلس تنفيذي من اثني عشر عضو سبعة منهم من البريطانيين.
    اعتقادنا أن إدراك السياسة الاستعمارية البريطانية فى السودان، كما هو الحال فى بقية المستعمرات البريطانية، وإقرار سياسة الجنوب فى عام 1920 ومن ثم الارتداد عنها وإحلال سياسة الحكم الذاتي فى عام 1946 بدلاً عنها، لابدَّ ألا يكون بمعزل عن التطور الذى شهدته الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، اذ من المعروف أن ذلك الفرع المعرفي كان قد حقق طفرة كبيرة فى الفترة 1860-1880 بظهور مؤلفات المدرسة التطورية الرائدة مثل حق الأم لباخوفن، والمجتمع البدائي لتايلور، ونظم القرابة والمجتمع القديم لمورغان، وخلال سنوات قليلة بدأ الانقلاب على أسس الاثنوغرافيا أو ما صار يعرف فى بريطانيا بالأنثروبولوجيا الكلاسيكية. فى تلك الفترة بالذات، كما هو معروف، بدأ الاستعمار أيضاً.
    قد لا يعنى مثل هذا التوافق الذى وددنا الإشارة إليه شيئاً فى البداية، إلا أن ثمة مبادئ توحى بأن مثل هذا التوافق ما كان محض صدفة، ذلك أنه مما لاشك فيه أن ثمة توافق قد نشأ فى تلك المرحلة بين الأيدولوجيا الاستعمارية والتوجهات الأيديولوجية لهذه الأنثروبولوجيا الناشئة، بمعنى أن هؤلاء المنظرين الأنثروبولوجيين كانوا بمعنى آخر بوعي أو بدونه منظرين للاستعمار، سواء ماين أو تايلور أو ليبوك، الاستثناء الوحيد هو مورغان الذى اختلف عنهم لا من حيث موقفه من التمدن بل من مجمل النظام البورجوازى كما تبلور فى القرن التاسع عشر. أصبحت الأنثروبولوجيا الناشئة ممارسة جديدة، تماماً كالاستعمار العلمي، ولا معنى لها إلا من داخل الاستعمار العلمي، غرضها هو إما وصف شروط الوجود البدائي للشعوب المستعمَرة فى المرحلة السابقة على وصول الاستعمار بحيث تقدم وصفاً لنمط هذا الوجود قبل أن يصار الى القضاء عليه، أو أنها ستتناول وصف هذا الوجود كما خلقه الاستعمار، هكذا نجد ليبوك يكتب: "ان لدراسة الحياة البدائيَّة أهمية خاصة بالنسبة لنا نحن الإنجليز مواطني إمبراطورية واسعة لها مستعمراتها فى كل ناحية من أنحاء العالم والتى يشكل أبناؤها مختلف درجات المدنية."
    ومن ثم ينقل ليبوك عن هونتر قوله: "لقد قمنا بدراسة شعوب الأراضي المنخفضة بشكل لم يقم به أى منتصر، وبشكل لم تدرس أو تفهم فيه قبيلة خاضعة للسيطرة ، فنحن نعرف تاريخهم وحاجاتهم وعاداتهم ونقاط ضعفهم بل وأحكامهم المسبقة، وهذه المعرفة الخاصة قد أتاحت لنا توفير قاعدة للإرشادات السياسية التى يمكن ترجمتها بالحذر الادارى والإصلاح اللازم فى حينه". هكذا ستحاول الأنثروبولوجيا، بوصفها أحد موجودات الاستعمار، القيام بواجبات عملية، ثم عليها أن تستعمل كل مواردها وأن تتحول الى أنثروبولوجيا تطبيقية فى خدمة الشعوب، وفى كل الأحوال فان لحظة يقين الغرب من ذاته هى أيضاً لحظة يقين الممارسة الأنثروبولوجيّة من ذاتها، إنها لحظة الضمير الإثنى الصادق.
    الواقع أن الأنثروبولوجيا لم تصبح علماً مستقلاً إلا حين بدأت مرحلة الأبحاث الميدانية، وتفترض ممارسة الأبحاث الميدانيَّة وجود الاستعمار، لكن استطاعت الأبحاث الميدانية أن توجد مسافة بينها وبين الاستعمار وأن تسهم فى تحويل الأيدولوجيا الاستعمارية ولو بدرجة نسبية. لاشك فى أن دور الأنثروبولوجيا فى الرؤية الاستعمارية للعالم من قبل الدول-المركز لم يتعد الدور الذى تقوم به كل بُنية فوقية، فالاستعمار ليس توسعاً وسيطرة اقتصادية، إنه سيطرة واثنية مركزية ثقافية ذلك أنه يفترض الإيمان بثقافة واحدة، وهو ما عبر عنه جاك بيرك بالقول " لقد فرضت الإمبريالية على العالم طريقة وعى فى الوقت الذى كانت تفرض فيه شكل الإدارة.
    فى عام 1902 ظهر عمل سوسير "علم نفس الاستعمار" الذى حاول فيه إسناد سياسة التماثل الاستعمارية الى مبادئ التطورية الخطية: "تقوم سياسة التماثل على حجج مغرية، اذ أظهر البدائيون مقاومة تجاه حسنات المدنية التى نحملها لهم، هكذا يقال لنا، وذلك يعود الى أحكامهم المسبقة التى لا تسمح لهم بفهم الحسنات التى يمكنهم الاستفادة منها، والأحكام المُسبقة هذه باقية فى حياتهم، وهى حصيلة وضعهم المتردي، حصيلة إيمانهم ولغتهم، فمن واجبنا أن نقضى اذا على هذه المخلفات التى تعود الى ماضي سحيق...حتى نتمكن من تحقيق التماثل مع أعراق تختلف عن أعراقنا علينا أن نكون مقتنعين بقابلية تلك الأعراق للتماثل، أي علينا الاعتقاد بالوحدة التكوينية للطبيعة الإنسانية".
    وعرَّف جيرولت، الذى انطلق من مواقف تطورية تنادى بالتماثل، التماثل باعتباره جعل الآخرين مشابهين له، ولكن التماثل عملية لا يمكن فرضها: "لأن البدائيين لا يريدون ذلك أولاً، ثم أنه لا مصلحة لنا فى فرضه عليهم، ومن ثم فان فرض شكل وحيد ليس وارداً، إلا لأن لمؤسساتنا الأوربية قيمة العقيدة المطلقة التى يجب أن تنتصر مهما كانت الظروف، وبالتالي علينا أن نبرهن أولاً فى العديد من الحالات على هذا التفوق".
    وفى عام 1911 انعقد المؤتمر العالمي الأول للأعراق فى لندن، وأبرزت إسهامات المشاركين مفهوماً جديداً تمثل فى ما اصطلح على تسميته احتكاك الثقافات الذى مثلَّ محاولة لنفى فرضية تفوق الغرب تحت تأثير ما عُدَّ اكتشافاً لما فى تعدد الثقافات من سحر وهو تعدد لابدَّ من الحفاظ عليه ما أمكن بإتباع سياسة أساسها احترام مؤسسات الشعوب الأصيلة، هكذا جاء إحلال مفهوم التثاقف بديلاً يحل محل التبشير الحامل للمدنية فكتب دوركايم فى عام 1912: "إن لكلمة المدنية بالنسبة لنا قيمة واحدة، ولا نريد بأن نقر بأن بإمكانها أن تتطور على أسس اجتماعية وسياسية مخالفة لما لدينا، علينا أن نسلم أولاً بضرورة إقناع الآخرين سلفاً بهذه المواضيع الجديدة"، وفى اعتقاده أيضاً بخصوص التبشير الحامل للمدنية أن الحكام والإداريين والقضاة جميعهم قد انطلقوا من القناعة التى لانثنى وهى التفوق الأصلي والثقة اللا محدودة بقيمة المبادئ التى تواجه بمبادئ الآخرين والتى لا تخذلها التجربة أبداً، وأن المقاومة التى تواجههم لا تعزى الى عدم اكتمال النظام، بل لعناد الشعوب الطفلة التى لم تدرك نوايا مربيها المُحسَّنة إليها". ومن ثم يستخلص دوركايم من ذلك ضرورة تكيف الاستعمار مع المؤسسات المحلية بإتباع سياسة بدائية متنورة تراعى الخصوصيات كافة.
    هكذا نرى كيف أنه لا يمكن عزل الأنثروبولوجيا الوظيفية المستقبلية عن تطوير المفاهيم الاستعمارية، وهى عملية قد تمت مع مطلع القرن العشرين ومن داخل الأيدولوجيا التطورية بالذات انطلاقاً من الصعوبات التى واجهت الاستعمار. كان لابدَّ لمثل هذه الطروحات الأنثروبولوجية أن تدفع بالسلطات الاستعمارية، بفعل الصعوبات والاعتراضات والتمردات المستمرة، لأن تعيد النظر فى سياسة الإدارة المباشرة بمساعدة الزعامات المحلية، وهكذا أخذت فى التبلور فكرة الإدارة غير المباشرة مكان الإدارة المباشرة، وهو ما صار يعنى ليس الاعتراف بشرعية الزعامات المحلية التقليدية، بل الاعتراف بإرادة الإداريين البريطانيين فى ترك الأمور الصغيرة للزعامات المحلية التقليدية (جمع الضرائب، وفض المنازعات وما الى ذلك). كان تطبيق الإدارة غير المباشرة قد بدأ فى نيجريا لأسباب محددة لن نخوض فيها هنا، على يد لوغارد الذى سجل لاحقاً خبرته فى تطبيق تلك السياسة فى كتابه المعنون "الانتداب المزدوج فى أفريقيا البريطانية الاستوائية" الذى صدر عام 1922. أشار فردريك لوغارد الى أنه إتبع هدفاً مزدوجاً تمثل فى الإبقاء على الحكم الاستعماري وتطويره، ومن ثم إقامة علاقات جديدة بين المستعمر والشعوب المستعمَرة الى جانب تطبيق سياسة فرق تسد. هكذا لم يكن لوغارد يسعى الى تهيئة نيجريا للاستقلال بل أراد، حسب رأيه، أن يقوم بما يناسب المؤسسات البدائية، ومن ثم تمثلت الخطوة الأولى برأيه فى إيجاد رجل صاحب تأثير وجعله زعيماً وإخضاع المزيد من القرى والأقاليم الى سلطته، ثم جعله يفهم الكيفية التى يمد بها سيطرته وجعله يفهم معنى السلطة ومعنى المسئولية.
    لا نعتقد بأنه يمكن إدراك أبعاد سياسة الجنوب فى السودان فى عام 1920 بمعزل عن التقرير الذى قدمه لوغارد الى إدارة المستعمرات البريطانية بعنوان مذكرة سياسية جاء فيه: "من الواضح أنه يجب تطبيق هذه السياسة المشار إليها (يقصد الإدارة غير المباشرة) بشكل متفاوت خاصة بالنسبة للقبائل التى لا تعرف إطلاقا أية قيادات عليا، علينا أن نفهم هذا التنظيم القبلي وأن نعده إطاراً يمكن مستقبلا البناء على أساسه. من الأفضل دراسة القيم البدائية بعناية، خاصة تلك التى تؤثر فى ذهنيتهم مع الأخذ بالحسبان إمكانية عدها عوامل مناسبة فى إيجاد نظام لدارى يتناسب مع وضعية تلك القبائل". كما لا يجوز عزل إقرار سياسة الجنوب عن سياسة الإمبراطورية البريطانية فى أفريقيا الشرقية حيث أخذ زملاء لوغارد فى تطبيق الإدارة غير المباشرة، بخاصة كاميرون الذى عدَّ الأنثروبولوجيا جزءاً هاماً من عدة الادارى الثقافية.
    هكذا يتضح أن مفهوم التثاقف صار مرتبطاً بالحقيقة الاستعمارية وبمحاولة المدرسة الوظيفية البريطانية لجعله مفهوماً مقبولاً، فالاستعمار بالنسبة للأنثروبولوجي الادارى ممارسة وسياسة لا بدَّ من إتباعها، من ثم تولدت الأنثروبولوجيا التطبيقية من رغبة المدرسة الوظيفية فى تطبيق عملها على السياسة الإدارية، ألم يكن مالينوفسكى أحد الذين ركزوا بشدة على القيمة التطبيقية للأنثروبولوجيا فكتب فى عام 1922: "يمكن استخدام كل فرع معرفي، بتطبيقه أول الأمر فى الإدارة العمليَّة، فى المجال الخاص به، وثانياً بفتحه أفقاً أرحب فى مجاله، يتيح لنا بناء نظرية أكثر تطابقاً مع الظاهرة قيد الدراسة. إن لدراسة القبائل المتوحشة والملونة قيمة عملية، فهى تعنى فى المقام الأول بغايات الإدارة الاستعمارية والعلاقات بين الشعوب البيضاء والشعوب الملونة، كما يمكن للدراسات الاثنية، ثانياً، أن توسع نظرتنا حول الطبيعة الإنسانية، مما يتيح لنا بناء نظرية اجتماعية عينية تتناول مستقبل السلوك العلمي للأعمال الإنسانية".
    الأمر كذلك لا يجوز عد الأنثروبولوجيا التطبيقية مدرسة أعقبت الوظيفية أو أنها مدرسة تأسست الى جانب التحليل الأكاديمي، بل أنها الوظيفية بقدر ما تعي نفسها علماً له طموحاته التطبيقية. الواقع أنه يجوز القول بأن معظم الأعمال الأنثروبولوجية التى تمت فى تلك الفترة قد ارتبطت بهذا الاتجاه الجديد، هكذا وضع سيلجمان فى عام 1932 بطلب من حكومة السودان الاستعمارية كتابه قبائل السودان النيلية الوثنية، كما كتب ايفانز برتشارد بطلب أيضاً من حكومة السودان كتاب النوير. ويجدر التنويه للإطراء الذى عبر عنه مالينوفسكى لقيام الأنثروبولوجيا التطبيقية فى أفريقيا معلناً بذلك عن تأييده لسياسة الإدارة غير المباشرة ومبادئها العامة قائلاً: "إن النتيجة الحاسمة للخلاف بين الإدارة المباشرة والإدارة غير المباشرة هى إتاحة المجال لدراسة الصيرورات المختلفة التى يبلغ بها التأثير الأوربي قبيلة أصلية، إن الفارق الحقيقي بين الإدارة المباشرة والإدارة غير المباشرة يتمثل فى افتراض الأولى امتلاكها القدرة على خلق نظام جديد وبضربة واحدة، وعلى تحويل الأفارقة الى أوربيين مزيفين أو متمدنين مزيفين فى سنوات قليلة. أما الإدارة غير المباشرة فهي عل يقين من استحالة تحقيق تحول سحري من هذا النوع والواقع أن كل تطور اجتماعي هو تطور بطئ تدريجي نابع من الداخل".



    ما هى المستجدات التى أدت الى التحول من سياسة الجنوب الى سياسة الحكم الذاتي فى السودان؟

    فى عام 1944 نشر هرسكوفيتز بحثه الهام عن الحكم الذاتي الوطني الذى وجه فيه نقداً لاذعاً للطروحات الاستعمارية مهاجماً بشدة سياسة الإدارة غير المباشرة الليبرالية والإمبريالية المتنورة التى دافعت عنها المدرسة الوظيفية. أشار هرسكوفيتز الى أن المدرسة الوظيفية أبرزت وجود مؤسسات سياسية فى المجتمعات كلها (مشيراً الى عمل ايفانز برتشارد عن النوير والى كتاب النظم السياسية الأفريقية الذى أشرف عليه فورتس بالتعاون مع برتشارد)، إلا أن الوظيفيين لم يستنتجوا، فى رأيه، من ذلك النتائج الممكنة كلها، فالمجتمعات الأفريقية قادرة على حكم ذاتها بذاتها طبقاً لتقاليدها السياسية الخاصة، ويقول بأنه "مهما كانت هذه الأنظمة السياسية، معقدة أو غير معقدة، مرتبطة بمجتمعات كبيرة أو صغيرة، فهى قادرة على ملئ وظائف الدولة كما تفهمها، أي قادرة على مراقبة علاقات الإنسان بنظرائه، وعلى تنظيم المعركة نحو السلطة وظيفياً".
    يعود الفضل الى هرسكوفيتز فى اختراع مصطلح نسبية الثقافة الذى وجه ضربة للأنثروبولوجيا التطبيقية الاستعمارية. فمنذ عام 1925 اقترح الأنثروبولوجيون الأمريكيون من أمثال سابير، وبواس، وكرويبر تمييزاً بين ثقافات أصلية وثقافات غير أصلية تعيش الأولى منسجمة ومتوازنة فى تطابق كلى مع ذاتها، على عكس الثانية التى تحيل الإنسان الى حالة من الصدأ، كما تولد الكبت والاغتراب. ونجح هرسكوفيتز فى كتابه الإنسان وأفعاله من تطوير هذا المفهوم الذى لم يكن سوى خطوط لدى زملائه الأمريكيين: "كيف يمكن إطلاق أحكام قيمية على هذه الثقافة أو تلك، أو على الثقافة البدائية بشكل عام طالما أن هذه الأحكام مبنية على التجربة، وطالما أن كل فرد يفسر التجربة بحدود تثاقفه الخاص".
    هكذا فان هرسكوفيتز يقول بعدم وجود تجربة حسية كانت أم فنية أو دينية الخ. بذاتها طالما أن كل تجربة هى نسبية بالنسبة لنسق المجتمع الثقافي، وطالما أن كل مجتمع هو نظام تجربة وأحكام. هكذا أعلنت الأنثروبولوجيا هجومها على الاستعمار ومدرسته الوظيفية وما سمي بالإدارة غير المباشرة بوصفها تنطلق من وهم إطلاق أحكام معللة على ثقافات أخرى، أحكام أصبحت قاعدة للممارسات الاستعمارية.

    أحالت الأنثروبولوجيا التطبيقية فى العشرينات الحقيقة الاستعمارية الى نوع من الاحتكاك الثقافي بين ثقافات مختلفة. أما بعد تبلور الأنثروبولوجيا الجديدة فلا أحد يتكلم عن تغير ثقافي بل عن تغير اجتماعي، وليس الاستعمار أكثر من مجرد مظهر من مظاهر التغير الاجتماعي. وفيما انصب التركيز سابقاً على التواترات والمتناقضات التى يخلفها الاحتكاك الثقافي، جرى فى نهاية الثلاثينات التركيز على عالمية التغير الاجتماعي وطبيعته، هكذا رأى فورتس فى الاحتكاك الثقافي "نمطاً من أنماط صيرورات التفاعل الإجتماعى الأخرى سواء أكانت فى المجتمعات التى تعرف الكتابة أم فى مجتمعات لا تعرفها، فهو مستمر فى المناطق الأفريقية التى طرقها البيض منذ قرون، وفى تلك التى لم تدخل إلا منذ الأمس القريب مجال اهتمامهم".
    تحت وطأة التغير الذى أصاب الفكر الأنثروبولوجى بعد الحرب العالمية الثانية اضطر المسئولون الاستعماريون البريطانيون الى إجراء مراجعة كاملة لسياساتهم والى البحث فى مسألة الإدارة غير المباشرة بالذات، وكانت المراجعة قد بدأت بعد تولى حكومة العمال السلطة فى بريطانيا فى عام 1945، فما أن وصل العمال الى سدة الحكم حتى تم تحويل الإدارة غير المباشرة الى حكم ذاتي "إن مبدأ الإدارة بواسطة السكان المحليين وبواسطة مؤسساتهم القديمة أو الجديدة مبدأ لا يمكن التخلي عنه. كما يجب الاعتراف أيضاً بأن التطور غير ممكن إلا بتطعيم طموحات الأفارقة بإسهام العنصر الأكثر دينامية والأكثر مرونة تجاه شروط التغير الراهنة. لا يعنى ذلك كبح هذه السياسة بواسطة المحافظة التقليدية التى تتميز بها المجتمعات الأفريقية، تلك المحافظة التى كانت فى مبدأ الإدارة غير المباشرة. يجب على السياسة أن تتخطى رغبات التغير والتكيف الخاصة بالأفارقة. على جهاز الإدارة المحلية أن يضع المشاريع التى تسهم بتقدم اجتماعي واقتصادي فى الوقت الذى ننمى فيه أيضاً وعى الشعب السياسي. لذلك لا يمكن القبول بالجهاز التقليدي ما لم يتم تطويره".

    انطلاقاً من إعلان المبادئ هذا شرعت الحكومة العمالية فى تطبيق سياسة الإدارة الذاتية فى أفريقيا، وتحت ضغط الانتفاضات المستمرة فى جنوب السودان (الدينكا، والزاندى، والنوير، والنواك، والبويا بدءاً من 1901 حتى 1929، وانتفاضة التبوسا التى قضى عليها فقط فى 1926، والانتفاضات المستمرة فى جبال النوبا حتى عام 1948 حين تمت تصفية آخر جيوب مقاومة الليري فى جبال ثلش) اضطرت الإدارة الاستعمارية الى إلغاء سياسة الجنوب وإعلان مشروع الحكم الذاتي فى إطار سودان موحد.

    رؤية أنثروبولوجية لصراع القوى السياسية

    انطلاقاً مما قلناه عن طبيعة التركيبة الاثنية الثقافية وعن السياسة الاستعمارية، بإمكاننا الآن أن نلقى نظرة أكثر عمقاً على السجال السياسي- الأيديولوجي فى السودان شماله وجنوبه. نقول بداية أن رؤيتنا ترفض النظرة التقليدية لما يسمى قضية الجنوب أو مشكلة الجنوب، ومن ثم سيتم تناول السجال السياسي-الأيديولوجي السوداني كلاً موحداً فى الجنوب والشمال، سجالاً يشمل قوى نسميها تفكيكية فى الشمال والجنوب فى آن معاً ، وقوى نسميها توحيدية شمالية وجنوبية على حد سواء.
    نود أولاً أن نشير الى أن هذا التصنيف الذى سنعتمده كما هو مبين أعلاه لا يعبر عن الواقع الفعلي وسط الجماهير السودانية عموماً، لكننا نشير به الى الواقع السائد وسط النخبة المتعلمة والفاعلة فى الحركة السياسية والفكرية والتى قامت بدور رئيس فى بلورة وجدان شعبي يظهر قدراً من ما يعرف فى الأنثروبولوجيا بمصطلح الاثنية المركزية التى تمثل نزعة تتلخص بموقف من يعتقد أن نمط حياته أفضل من الأنماط الأخرى كلها، إنها نزعة تتميز بالسذاجة ولا تجد لها مبرراً، ونقول بأن مثل هذه النزعة الفردية فى احتقار أو سوء تقدير الثقافات الأخرى أمر لازم كل الثقافات ولا يميز، أنثروبولوجياً، ثقافة دون غيرها. إلا أن هذه النزعة الاثنية الضيقة، بفعل سلوكيات النخبة السياسية والفكرية فى السودان، أصبحت قضية لا يجوز إغفالها وتجاهلها لدى محاولة إلقاء نظرة أنثروبولوجية لأزمة السودان الماثلة. الأمر كذلك نعتقد أنه آن لنا وقد أصبحت وحدة الأمة السودانية فى خطر أن ننظر الى الأزمة بتجرد علمي انطلاقاً من مقولة فرانسيس دينق "ما يفرق السودانيين هو ما لا يقال". أثناء تحضير هذه المحاضرة حظيت باستلام نسخة من كتاب منصور خالد الجديد "جنوب السودان فى المخيلة العربية"، أشار فيه محقاً الى أننا اذا "كنا حقاً نسعى للتصالح مع النفس، فان التصالح مع النفس يستوجب الصراحة والوضوح كما يستلزم الأمانة الفكرية والسماحة نحو الآخر، ولأهل الفكر دور فى هذا. التصالح مع النفس أيضاً يزيل التناقض الداخلى الذى هو مبعث حيرة أهل الجنوب والشمال أغلبهم، حول ماهيتهم". ويستمر منصور ليقول بصدق أن هذه الأمور لا يجوز تركها لأهل السياسة رغم أثرها على السياسة لاعتقاده بأن "السياسة أهم من أن تترك للسياسيين ويتوجب على المفكرين والمثقفين الحقيقيين أن يبحثوا عن الدلالات المتسامية للتاريخ".
    اعتقادنا أنه يمكن تحديد نشوء تيارين فكريين رئيسين فى السودان مع تفرعات لهما، تمَّ تبلورهما منذ سنوات سابقة للاستقلال، التيار الأول ننعته هنا بصفة تعبر عن محتواه الفعلي..التفكيكى، بلورته سلوكيات وكتابات نخبة من المثقفين فى الشمال الجغرافي انطلاقاً من نزعة مركزة عروبية إسلامية، فى حين تبلور فى الجنوب الجغرافي فى سلوكيات و كتابات النخبة المنطلقة من نزعة مركزة أفريقانية. ينطلق دعاة النزعة العروبية الإسلامية من حقيقة أن الغالبية من أهل الشمال الجغرافي هم من الكوشيين المستعربين والعرب والذين يمثل الدين الإسلامي القاسم المشترك الأعظم بينهم، ومن ثم يدعى دعاة هذه النزعة المنغلقة أن الهُويَّة الغالبة فى السودان هى هُويَّة عربية إسلامية، فى حين يؤلف السودانيون الآخرون الذين لم تتم عملية استعرابهم أقليات غير محددة الهُويَّة يستحقون المعاملة كأهل عهد، على حد تعبير الصادق المهدي فى مقابلة له مع محطة شبكة الأخبار العربية فى يوليو 2000 الماضى، فى سودان عربي مسلم. وهكذا يفترض دعاة هذا التيار وجوب رضوخ تلك الأقليات للأمر الواقع المتمثل فى هيمنة الأغلبية الحاملة للثقافة العربية الإسلامية مع التأكيد بالاحتفاظ لهم، بهذا القدر أو ذاك، بحقوق تقرها الأغلبية العربية والمستعربة المسلمَّة، وهى حقوق يختلف حول مداها دعاة هذا التيار، لكنه وفى كل الحالات فان الهدف النهائي لدعاة هذا التيار على اختلاف مدارسهم هو استكمال عملية التمثل الأحادية (تعريب) الأقليات وذوبانها نهائياً فى الأغلبية العربية والمستعربة المسلمة بضربة واحدة، على حد تعبير مالينوفسكى، وفى أسرع وقت الشئ الذى يفرض اللجوء الى إتباع كافة وسائل العنف والقسر، وهو ما يميز برنامج حزب الأقلية السياسية الحاكم فى السودان حالياً والذى يحاول من خلال مشروعه المسمى التوجه الحضاري الإسلامي فرض عمليَّة التعريب والأسلَّمة فوراً عن طريق الجهاد المُدعى. أما الليبراليون من دعاة تيار النزعة العروبية الإسلامية فإنهم ينظرون الى استكمال عملية التمثل بمفهوم مالينوفسكى للتثاقف.."ان كل تطور اجتماعي هو تطور بطئ ومن الأفضل تحقيقه بتغير بطئ متدرج نابع من الداخل". تتبدى النزعة العروبية الإسلامية ذات المسحة الليبرالية فى كتابات الكثيرين من مفكريها والتى صدرت منذ سنوات سبقت الاستقلال، هكذا نجد محمد أحمد محجوب، أحد أميز قادة الفكر السياسي فى حزب الأمة يكتب فى عام 1941 "إن المثل الأعلى للحركة الفكرية فى هذه البلاد هو أن تكون حركة تحترم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وأن تكون ذات مظهر عربي فى تعبيرها اللغوي، وأن تستلهم التاريخ القديم والحديث لأهل هذه البلاد وتقاليد شعبها. هكذا يمكننا أن نخلق أدباً قومياً، وسوف تتحول هذه الحركة الأدبية فيما بعد الى حركة سياسية تفضي الى الاستقلال السياسي والاجتماعي والثقافي".
    هكذا تبدو اطروحات الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية واضحة فى خطاب المحجوب الذى لم يدرك مفهوم الاستقلال إلا من خلال ذاته وهُويته العروبية الإسلامية، ففات عليه أن الاستقلال بالنسبة للمجموعات السودانية الاثنية الأخرى، التى لا بدَّ وأن تؤلف جزءاً من الأمة السودانية، كان مرتبطاً بنمط وجود مختلف منذ أزمان سبقت الهجرات العربية الوافدة فى أوقات لاحقة الى السودان، فات عليه أن الاستقلال هو الإصرار على إرادة عيش حسب قيم خاصة، قيم لذاتها وليس بحال غرس تفوق قيم عربية إسلامية، تجاهل المحجوب حقيقة أن جوهر الاستعمار هو العنف فى حالته الطبيعية وان إزالة الاستعمار التى يطمح إليها السودانيون تعنى النفي الفعلي لهذه الواقعة، فلو أدرك المحجوب ذلك لعرف أنه نتيجة هذا العنف الذى يرفض السيطرة لا يمكن اعتبار إزالة الاستعمار مجرد إعادة امتلاك للسلطة السياسيَّة والثروات الاقتصادية، فات عليه أن على السودان أن يعيد بدء تاريخه من حيث أهمله البريطانيون.
    فى الوجه الآخر لعملة النزعة العروبية الإسلامية تنطبع النزعة الإسلاموية الأصولية المنبتة الجذور، على حد قول أديبنا الكبير الطيب صالح الذى أذهله وصولهم اللا شرعي الى السلطة عبر انقلابهم العسكري المشئوم على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً، فصاح بأعلى صوته متسائلاً من أين أتى هؤلاء؟ يكفى أن نكرر ما قاله عبدالله بولا من أن هذا النظام الاسلاموي الأصولي هو الوحيد من بين كافة الأنظمة الانقلابية فى السودان الذى تجرأ معلناً أنه جاء قسراً بالرغم عن إرادة الشعب لأن الشعب متخلف وجاهل بأمر دينه وأنه شعب فاسد العقائد فى معنى أن إسلامه مدخول بعقائد وثنية وخرافات لا مكان لها من الإعراب فى العقيدة السليمة المستقيمة، كما أن قطاعات كبيرة منه ليست على دين أصلاً.
    تتجلى الملامح العامة للفكر السياسي للجبهة الإسلامية القومية الحاكمة فى كتابات مرشدها ومنظرها الأول حسن الترابي، ثم فى برنامجها الذى صيغ فى فترة الديمقراطية الثالثة على ضوء أفكاره. يرى الترابي فى التعدد الاثنى والثقافي الهائل الذى حبا الله السودان به قدراً سيئاً وابتلاءً من الله فيقول: "كان قدَّرنا فى السودان أن نبتلى ببلد معقد البناء يكاد يمثل كل الشعوب الأفريقية بلغاتها وسحناتها وأعراقها وأعرافها". مثل هذا الخطاب الاستعلائي لا يمكن أن يقود إلا الى نفى كامل للثقافات السودانية الأخرى غير العربية.
    يتكرر هذا التيار التفكيكى بصورة معاكسة فى الجنوب الجغرافي داعياً الى نفى الثقافة العربية الإسلامية انطلاقاً من نزعة مركزة أفريقانية، يرى دعاته ، بفعل السياسة الاستعمارية من جانب وكرد فعل لتيار النزعة العروبية الإسلاموية من جانب ثان، ضرورة فصل الشطر الجنوبي عن الشمال حفاظاً على هُويَّة المجموعات الاثنية الثقافية الأفريقية النيلية والسودانية المهددة والتى تؤلف فى اعتقاد دعاة هذا التيار مركباً اثنيا ثقافياً يتباين تماماً عن المركب الاثنى الثقافي فى الشمال الجغرافي للسودان.
    التيار الثانى الذى نسميه هنا التوحيدي يمثله فى الشمال والجنوب معاً دعاة النزعة السودانوية الذين يرون فى الهُويَّة السودانية ناتج عمليات تماثل غير أحادى بين الثقافات الكوشية الأصيلة فى الشمال الجغرافي للسودان مع الثقافة العربية الإسلامية الوافدة، وناتج عملية التثاقف بين الثقافات النيلية الأصيلة فى الجنوب الجغرافي والثقافات الناشئة فى الشمال الجغرافي بفعل عمليات التماثل التى تمت. أدت عمليتا التماثل والتثاقف الى نشوء مركب اثنى ثقافي متنوع وفريد فى طبيعته يؤلف الهُويَّة السودانية الحالية والتى تمتلك القدرة على صياغة مشروع لبناء الأمة السودانية.
    نظرياً يبدو ممكناً القول بأن دعاة التيار التوحيدي فى الشمال الجغرافي ينتمون الى مدرستين، الأولى ذات طابع يبدو لنا توفيقياً الى حد ما ويحاول أتباعها، على حد تعبير عبدالله بولا، تقويم اعوجاج منهجية رؤية إشكالية الهُويَّة. خير مثال لهذه المدرسة نجد التعبير عنه فى كتابات وأشعار محمد المكى ابراهيم، والراحل محمد عبدالحى، والنور عثمان أبكر وغيرهم من شعراء ما صار يعرف بمدرسة الغابة والصحراء والذين انطلقوا من قول محمد المهدي المجذوب :

    عندي من الزنج أعراقٌ معاندة وإن تشدَّق فى أشعاري العربُ

    فاختاروا سنار مصهراً لهم لصياغة الهُويَّة السودانية ومرجعاً ونموذجاً لاستعادة الأصالة الكوشية الأفريقية

    سأعود اليوم يا سنار حيث الرمز خيط

    من بريق أسود ، بين الصدى والصوت

    بيت الثمر الناضج والجذر القديم

    بدوى أنت ؟

    لا،

    من بلاد الزنج ؟

    لا،

    أنا منكم ، تائه

    عاد يغنى بلسان

    ويصلى بلسان

    العودة الى سنار تحمل لدى هؤلاء من أرباب هذه المدرسة معنىً كامناً يشير الى التمازج الاثنى والثقافي، فسنار هى عاصمة أول مملكة إسلامية فى السودان، ملوكها من الفونج الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام وارتضوه ديناً وادعوا لأنفسهم نسباً أموياً وهمياً سطره لهم السمرقندى الفقيه القادم من آسيا الوسطى كما أشرنا إليه فى حينه. إلا أن خطاب شعراء الغابة والصحراء يقدم، فى حالة النظر إليه بتمعن، مشروعاً أنثروبولوجياً لا مجال فيه لمشروعية الاختلاف ثم الاستمرار فى البقاء فى إطار الأمة السودانية الواحدة كما أشار الى ذلك فى وقت سابق عبدالله بولا، إنه مشروع يفترض اكتمال عملية التمثل شرطاً للهُويَّة والثقافة السودانية التى تصبح هجيناً أفرو- عربياً. وكان عبدالله على ابراهيم قد ذهب الى القول بأن ضرورات التساكن القومي قد تلزم الجنوبيين الى اكتساب اللغة العربية أو عادة عربية إسلامية غير أنهم، على حد تعبيره "سيقاومون كل ميل لجعلهم يتبنون نسباً عربياً الى جانب نسبهم الأصيل الأفريقي المؤكد، وستبدو لهم الدعوة الى إعادة إنتاجهم عبر التمازج الثقافي كطبعة لاحقة لإنسان سنار نوعاً من الغش الثقافي لا الحوار".
    كانت مملكة سنار، السلطنة الزرقاء، قائمة على أساس تحالف كونفدرالى بين الفونج فى الجزيرة والعرب العبدلاب فى الشمال بعاصمتهم فى قرى، ووصف تريمنجهام السلطنة الزرقاء بأنها "كانت كونفدرالية هشة الترابط أكثر منها دولة، ما كان هناك تمركز للسلطة ولا كانت هناك مؤسسات مشتركة، فقط الأرض بين النيلين (الأبيض والأزرق) كانت تحت الحكم المباشر لسنار، اذ احتفظ الفونج بحكام الأقاليم ملوكاً تابعين وسمحوا للمؤسسات المحلية بالاستمرار".
    فالآفرو-عربية بنموذجها السناري قد تحمل معنى البنية السياسية القائمة على أساس الكونفدرالية، رغم أن شعراء الغابة والصحراء ما عبروا عن ذلك مطلقاً. اللافت للانتباه أن دعاة العروبية الإسلاموية الأصولية، كعادتهم دوماً فى إفراغ المفاهيم من محتواها حين تجد لها رواجاً، أخذوا هم أيضاً فى التعبير عن حنين العودة الى سنار لكن بمعنى جد مختلف، هكذا انبرى حسن مكي- أحد أبرز مفكري الجبهة الإسلامية القومية- ليقول فى كتابه "الثقافة السنارية" برفض كل ما قبلها من ثقافات بحسبانها مجرد ثقافات جهل وانحطاط. ويحاول حسن مكي وشيخه حسن الترابي فى الآونة الأخيرة، تحت الإحساس بالإحباط بالفشل الكامل الذى تعرض له مشروعهما الحضاري السياسوإسلامى الذى أسساه لا فكراً بل بطشاً وتنكيلاً بالرأي الآخر، الحديث والدعوة الى مشروع التمازج الثقافي الإسلامي. إلا أنه لا يمكننا عد مثل هذا المشروع الاسلاموي الأصولي فى ظل هيمنته عنصراً مؤلفاً للكلية بمكنته أن يؤدى الى تمازج ثقافي، فثمة هوة خلقيَّة وثقافيَّة تفصل الحسنين وغيرهما من دعاة هذا المشروع عن الأقليات غير المسلمة وعن المسلمين غير المنضوين إليه. لا يمكننا التحدث عن مزج إسلاموي أصولي مع الثقافات السودانية، بل الحديث ممكن عن الموقع المتعالي لممارسات مُسيطرة وممارسات خاضعة. أساس التغير الثقافي فى منظور الحسنين واخو انهما من دعاة التيار الاسلاموي الأصولي، مهما بذل البروفسور وشيخه من ممارسة الخداع الفكري، هو السيطرة. يجب مراعاة عدم الخلط بين تغير يفرض من خارج المركب الثقافي، وتغير هو بحد ذاته وسيلة لغاية: السيادة الثقافية. صحيح أنه ليس لإرادة الحفاظ على الجزئيات الثقافية فى ظل مجتمع خاضع سلطوياً للمشروع الاسلاموي الأصولي أية دلالة (وليس هذا مؤكداً) لا لأن سياسة السلطة الإسلاموية للجبهة القوميَّة هى سياسة محافظة، بل لأن التغيير يجب أن يتم من الداخل، يجب أن يكون ثمرة سيادة الوحدة فى التنوع. لهذا يظل التناقض قائماً بين ما يزعم الإسلاميون فعله وما يقومون به فى الواقع، وبدلاً عن أن يدفعوا عجلة التغير الثقافي فانهم يعرفون فى الحقيقة كيفية إيقافها لمصلحة مشروعهم حين تتعارض معه. إن وصف الثقافة بطريقة من الطرق على أنها جوهر يحتاج للتطوير شئ هو من تبرير السياسوإسلامويين: ضرورة تربية الشعب إسلاميا، وهذا لمصلحة الشعب! إن كل عنصر فى المركب الكلى للتثاقف السياسوإسلاموي الكلى: تربية وفن ودين وموسيقى ولغة وسلم القيم المتبدلة إنما هو متأثر بالفعل بما تفرضه هيمنة المشروع الاسلاموي الأصولي.
    المدرسة الثانية للتيار التوحيدي هى ما نسميه بتيار التثاقف والتى ينطلق دعاتها من مفهوم الوحدة فى التنوع رافضين جملة وتفصيلاً مختلف مشاريع التمثل الداعية الى وضع الثقافات السودانية تحت جناح ثقافة مهيمنة واحدة رافضين اطروحات التيار التفكيكى المتزمت والليبرالي الشمالي الداعي الى فرض هيمنة عنصر بعينه من عناصر المركب الإثنى الثقافي المؤلف للهُوية السودانية على العناصر المكونة الأخرى، والجنوبي الداعي الى رفض الوحدة فى التنوع مقاتلاً من أجل فصل عنصر من عناصر المركب الإثنى الثقافي المكون لفسيفساء الأمة السودانية. هكذا يرفض دعاة مدرسة التثاقف جملة وتفصيلاً مفهوم غالبية سائدة وأقليات بحسبانه مفهوماً يفضى الى تفكيك السودان وعرقلة مشروع بناء الأمة السودانية يتضمن مشروع التثاقف إبراز الظواهر التى تنشأ عن الاحتكاك المباشر والمتواصل بين الثقافات والمجموعات الاثنية المختلفة فى السودان (1).

    [ حالياً تم القضاء على هذا المتحف بخلعه عن جسم الإدارة العامة للآثار والمتاحف القومية، وخصخصته تحت إدارة ما يعرف بمعهد الحضارة السودانية]



    هوامش ومراجع

    (1) عندما كنت مديراً عاماً للإدارة العامة للآثار والمتاحف القومية إبان الحكومة الديمقراطية الأخيرة قامت الإدارة، بدعم مادي قدمته سكسونيا السفلى مشكورة، بتنفيذ إعادة تنظيم متحف التراث وعدل اسمه ليصبح متحف السودان القومي للاثنوغرافيا وفق مفهوم الوحدة فى التنوع، وهو المشروع الذى تسبب فى المشكلة المشهورة التى نشبت بين الإدارة العامة للآثار والمتاحف القومية ووزير الثقافة والإعلام حينها المدعو عبدالله محمد أحمد الاسلاموي الأصولي المندس حينها فى حزب الأمة، والذى وقف معارضاً لرؤية تيار السودانوية الذى عبرت عنه سياسات قيادات الإدارة العامة للآثار والمتاحف القومية حينها والقائل بأن وحدة السودان إنما تتجسد فى ثقافاته المتنوعة التى تمارس عمليات أخذ وعطاء فيما بينها دون أفضلية أو سيادة أو هيمنة واحدة منها على بقية الثقافات وسعت الى أن تستجيب أساليب العرض المتحفي الى هذا التوجه الفكري. هذا وقد أصدر السيد رئيس الجمهورية عمر حسن البشير العام الماضى قراراً بخلع المتحف القومي للإثنوغرافيا عن جسم الإدارة العامة للآثار والمتاحف القومية وخصخصتة لما صار يعرف بمعهد الحضارة السودانية الذى "يمتلكه" الاسلامويون فى شخصية متخصص فى اللغة العربية والدراسات الإسلامية هو السيد جعفر ميرغنى... استبعادا لمفهوم الوحدة فى التنوع وإقراراً لأحادية الهُويَّة السودانية العربية الإسلامية.



















    دنـقس .
                  

العنوان الكاتب Date
شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ Abdulgadir Dongos04-26-05, 11:26 PM
  Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ Mohamed Suleiman04-27-05, 03:18 AM
    Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ معتز تروتسكى04-27-05, 03:50 AM
      Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ Abdulgadir Dongos04-27-05, 11:54 PM
      Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ Abdulgadir Dongos04-28-05, 00:05 AM
  Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ ست البنات04-29-05, 05:58 AM
    Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ Abdulgadir Dongos04-29-05, 07:11 AM
  Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ ست البنات04-29-05, 08:18 AM
    Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ Mohamed Suleiman04-29-05, 09:02 AM
      Re: شــئ مـــن التـــاريــــخ ، هــــديـــة لـســــت الـبنـات؛؛؛ Abdulgadir Dongos05-04-05, 09:41 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de