السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 00:03 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة جمال عبد الرحمن(HOPEFUL & HOPELESS)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-26-2003, 09:45 AM

HOPELESS

تاريخ التسجيل: 04-22-2003
مجموع المشاركات: 2465

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: sentimental)


    كيف نقرأ ونتذوق شعر محمد عبد الحى

    في كتابه ( الرؤيا والكلمات ) ينطلق محمد عبد الحى في قراءته المتفردة لشعر التجانى يوسف بشير ، من فرضية نقدية تقول ، " علينا أن ننظر لشعر الشاعر في مجموعه ونقرأه في تكامله نحو نظام لغوى جمالي ، وكأننا نقرأ قصيدة واحدة متصلة ، ليست فروعها إلا مراحل في طريق الكشف . ومهمة الناقد أن يستخلص العناصر التي تتكون منها وحدة الرؤيا " (1

    ولعل هذه الفرضية النقدية لا تنطبق على شعر شاعر مثلما تنطبق على شعر محمد عبد الحى ذاته . فوحدة الرؤيا المبثوثة في دواوينه الشعرية تجعلنا نحس ونحن نقرأ قصائده وكأننا نقرأ قصيدة واحدة متصلة الحلقات . ولتذوق شعر عبد الحى تذوقا متبصرا علينا أن نعمل على استخلاص العناصر والنظم الجمالية التي تتجلى عبرها هذه الرؤيا . وكلمة ( الرؤيا ) هنا مقصودة لذاتها وهي غير الرؤية . والفرق بين الرؤيا والرؤية كالفرق بين البصر والبصيرة . ذلك أن " الكون الذي تولد فيه القصيدة كون وثيق الصلة بالوجود الحق الكامن تحت قشرة الواقع اليومي . هو امتداد للحياة لا انعكاس لها .. فالقصيدة من ناحية شبيهة الحلم ، ولكنها من ناحية أخرى تختلف عنه في إنها إشراق في أعماق الذات ينفتح به العالم ، في أنصح لحظات الوعي صحوا وحساسية " . (2) ومهمة النقد الانتقال بالقصيدة من مستوى الرؤيا / الحلم ، إلى مستوى الرؤية ، من مستوى المجاز إلى مستوى العقل والتأويل .

    وتعتمد الخطة في تأسيس هذه الرؤية المنهجية لقراءة شعر محمد عبد الحي على الاستعانة بعبد الحي الناقد لقراءة عبد الحي الشاعر . أن عظمة عبد الحي كناقد لا تقل عندي عن عظمته كشاعر – وتأتي أهمية كتاباته النقدية من أنها تصلح أن تشكل أساسا نظريا لاستجلاء وكشف النظم الجمالية التي تتكون منها وحدة الرؤيا في أعمالـه الشعرية . ومن كتاباته النقدية التي تصلح أن تكون مفاتيح رئيسية للولوج لعالمه الشعري والتي اعتمدنا عليها في هذه الدراسة هي :

    1- رسالة إلى خالد المبارك عن قصة كتابة العودة إلى سنار
    2- هوامش وحواشي دواوينه الشعرية .
    3- كتابه القيم ( الرؤيا والكلمات ) في دراسة شعر التجاني يوسف بشير .
    4- مقالته القيمة :الشيخ إسماعيل صاحب الربابة – النموذج الأسطوري للشاعر .

    ولعل وحدة الرؤيا لم تتجلى في هذه الأعمال الشعرية مثلـما تجـلت فـي
    قصيدة ( العودة إلى سنار ) حتى يمكنا القول أن هذه القصيدة الطويلة هي العمل الشعري المركزي الذي استقطب كل كتابات عبد الحي الشعرية الأخرى . هذـا لا يعنى التقليل من أهمية التجارب الشعرية الأخرى ولكن وحدة الرؤيا التي تجلت في العودة إلى سنار ، نجدها مبثوثة في بقية الدواوين اللاحقة لها . وقد وعى محمد عبد الحي مبكرا بهذه الحقيقة حتى قبل أن تظهر قصيدة العودة إلى سنار في ديوان مطبوع ، ففـي رسـالته إلى د. خالد المبارك في 5/7/1972 يشكو عبد الحي من استقطاب القصيدة له في سائر كتاباته ويقول " لقد أصبحت ديناصورا شعريا يصعب التحكم فيه فلا يشبع أبدا مهما ألقمته من كلمات وكلمات " (3

    حقا لقد ظلت العودة إلى سنار ، تجتذب عبد الحي في كل ما يكتب ، فقد أعاد كتابتها سبع مرات مختلفات منذ أن نشرت لأول مرة بجريدة " الرأي العام " سنة 1962 وفعل بها كما فعل تي . أس اليوت بمسودات ( الأرض الخراب ) وكما فعل عزرا باوند بأناشيده . ويبدو أنه جاهد كثيرا لوضع حدا لهذه ( المأساة ) . وعندما أراد التخلص منها دفع بها إلى المطبعة وكأنما كان يتخلص من إثم عظيم . (4)

    ولكن حتى صدور القصيدة في ديوان مطبوع لأول مرة عام 1973م لم يضع حدا لاجتذاب القصيدة لقوى الشاعر الإبداعية . فقد أعاد تنقيحها في الطبعة الثانية عام 1985م . بل ظلت القصيدة تجتذب الشاعر في بقية دواوينه اللاحقة مثل ( السمندل يغنى ) و ( حديقة الورد ) و ( معلقة الإشارات ) .

    ويمكن أن نعطى مثالا على وحدة الرؤيا الشعرية التـي تجلـت أولا فـي ( العودة إلى سنار ) ثم انتظمت سائر الأعمال الشعرية الأخرى . الحقيقة هنالك مثالان أو نموذجان يجسدان النظم الجمالية التي تكون وحدة الرؤيا . الناظم الجمالي الأول هو ، أسطورة ( السمندل ) والناظم الجمالي الثانـي هــو سيـرة ( الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ) . فلو أخذنا أسطورة السمندل ، نجد لها إشارات في ( العودة إلى سنار ) مثل قوله : " ويعبر السمندل في قميصه المصنوع من شرار " و " وارتفعت من الأرض طيور النار " و " حيث آلاف الطيور نبعت من جسد النار " . بل الحقيقة إلى العودة إلى سنار ، تبدأ الإشارة إلى طائر السمندل وإن لم تذكره بالاسم :

    أبصر كيف مر أول الطيور فوقنا
    ودار دورتين قبل أن يغيب
    في عتمة النور وفي حديقة المغيب


    ثم تتبلور رمزية السمندل أكثر في الرؤيا الشعرية لمحمد عبد الحي حتى أن الديوان الثاني يأتي حاملا اسم ( السمندل يغنى ) أما ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) فيضم بين تضاعيفه إشارات كثيرة إلى السمندل بجانب قصيدة طويلة بعنوان " السمندل ملك النهار " والسمندل مثله مثل طائر الفينيق ، يجدد شبابه كل مائة عام ، بالاحتراق في النار ا وهو من اكتشافات عبد الحي وقد أنفرد بتوظيفه دون غيره من شعراء الحداثة في تجربته الشعرية ولعله يمثل المعادل الجمالي لحلم الشاعر بالتجدد والاستمرارية والانتصار على الموت والصيرورة الزمنية .

    أما الناظم الجمالي الثاني أي الشيخ / إسماعيل صاحب الربابة فهو أحد متصوفة مملكة سنار القديمة ويتخذه الشاعر رمزا لوحدة الوجود الإنساني . وقد وردت الإشارة إليه في العودة إلى سنار وذكره الشاعر بالاسم في هوامش القصيدة وأحال إلى ترجمة سيرته بكتاب ، طبقات ود ضيف الله . أما في ( حديقة الورد الأخيرة ) نجد قصيدة طويلة تحتل نصف مساحة الديوان تقريبا ، تحمـل عنـوان ( حياة وموت الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ) . وتنفتح الدلالة الرمزية لأسطورة السمندل على الدلالة الرمزية لسيرة الشيخ إسماعيل بحيث تتكامل الدلالتان ويشكلان مع بقية النظم الجمالية الأخرى وحدة الرؤيا في تجربة عبد الحي الشعرية .

    مستويات الوجود الثلاث

    يعد نص ( العودة إلى سنار ) من أكثر نصوص عبد الحي الشعرية كثافة هذه الكثافة تصل به أحيانا إلى حد الغموض . ولكن لحسن الحظ أن عبد الحي يقترح علينا الطريقة التي يمكن أن نقرأ بها القصيدة . ففي رسالته إلى خالد المبارك المشار إليها آنفا ، يقول " لقد أراد دانتي أن تقرأ القصيدة وكأن أفقها منفتح على أربع دوائر متراكزة تشف عن : معنى حرفي – معنى مجازى – معنى أخلاقي – معنى إشراقي (5)

    وإذا أخذنا في الاعتبار أن المعنى الأخلاقي مضمن بالضرورة في كل عمل أدبي جاد ، فأنه يمكن أن تختزل دوائر دانتي الأربعة التي أشار إليها عبد الحي في رسالته ، في ثلاث دوائر من المعاني هي : المعنى الحرفي والمجازى والاشراقي – وبالتالي يمكن أن نقرأ القصيدة وكأن أفقها منفتح على ثلاث دوائر من المعاني . ومن حسن التوفيق أنه بالرجوع إلى الهوامش والحواش التي ذيل بها قصيدة ( العودة إلى سنار ) نجد الشاعر قد أعطى لسنار ثلاثة معاني ، هذه المعاني الثلاث تتماثل مع معاني دانتي وتحيل إلى ثلاث مستويات من الوجود . يقول محمد عبد الحي في هوامش ( العودة إلى سنار ) عن معاني سنار :

    1- سنار هي عاصمة السلطنة الزرقاء لثلاثة قرون حتى أوائل القرن التاسع عشر . لغة على اللسان وتاريخ ووطن . وحضور ذو حدين " ذلك يخطر في جلد الفهد ، وهذا يسطع في قمصان الماء " .
    2- في القصيدة ربما كانت سنار دفقة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب – كما رغب جيمس جويس قبله – في أن يشكل في مصهر روحه ضمير أمته الذي لم يخلق بعد .
    3- وربما كانت نقشا آخر على صخر آخر . بداءة أخرى – اسما يتجوهر في مملكة البراءة . الأشياء هنا هي كما في السماء " .

    هذه المعاني الثلاث التي أشار إليها الشاعر لسنار لا تلغى بعضها البعـض
    وإنما تنفتح على بعضها البعض في تكامل وتوحد فهي لا تشير إلى معاني مختلفة بقدر ما تشير إلى مستويات الذات الشاعرة في سلم الوجود . وكان عبد الحي قد أشار إلى هذه المعاني في رسالته إلى خالد المبارك في معرض حديثه عن دوائر دانتي التي تتكون منها معاني القصيدة بقوله : " إذا أخذنا في بالنا أن معاني دانتي الأربعة تعدد في وحدة شعرية أو دائرة واحدة تنداح في ماء الشعر يلقى فيه بالفكر والحدس ، رأينا أن أصل ما يقترحه ايمان عميق بوحدة عميقة في الكون بين ظواهر الأشياء وبواطنها وبين سلوك الواقع وأحوال الالهام " (6) .

    وعلى ضوء هذه المعاني يمكننا أن نقوم بمحاولة لقراءة القصيدة أو بالأحرى ملامسة بعض أطرافها في مستوياتها الثلاث :

    المعنى الحرفي - الوجود الظاهري

    سنار تعني في القصيدة في المعنى الحرفي ، أو المستوى الظاهري ، مملكة سنار أو السلطنة الزرقاء . وهي كما هو معروف أول مملكة سودانية شكلت نواة السودان الحاضر . وقد تأسست بتحالف من القبائل العربية والقبائل الأفريقية . فقد تحالفت قبيلة القواسمة وبعض القبائل العربية الأخرى بزعامة عبد الله جماع مع قبيلة الفونج الأفريقية بزعامة عمارة دنقس ، وقد تمكن هذا التحالف من إسقاط مملكة علوة المسيحية وتأسست أول مملكة سودانية بتحالف بين العرب والأفارقة عام 1505م واستمرت مملكة سنار تحكم وتسيطر على أجزاء كبيرة من السودان المعروف الآن حتى الغزو التركي المصري عام 1821م .

    المعنى المجازى - الوجود الرمزي

    هنا تنتقل القصيدة من المعنى الحرفي ، إلى المعنى المجازي ، من سنار السلطنة والتاريخ إلى سنار الرمز ، حيث تأخذ سنار معنا مجازيا يرمز إلى الذات والهوية والوطن . " في القصيدة ربما كانت سنار دفقة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب ، في أن يشكل في مصهر روحه ضمير أمته فيتداخل الرمز مع المرموز إليه فيغدو تاريخ الذات وتاريخ القبيلة شئ واحد " أو كما يقول في النشيد الرابع – الحلم :

    وتجئ أشباح مقنعة لترقص حرة
    وتستدير مدنية زرقاء في جسدي
    ويبدأ صوتها ، صوتي يجسد
    صوت شعبي
    صوت موتاي الطليق
    ماذا أكون بغير هذا الصوت
    هذا الرمز هذا العبء يخلقني وأخلقه
    على وجه المدينة تحت
    شمس الليل والحب العميق

    سنار هنا ( المدينة الزرقاء ) ترمز إلى رغبة الذات الشاعرة في البحث عن أصولها الوجودية والثقافية والعرقية وانصهار هذه الأصول المتعددة في الوطن البوتقة . ويوظف الشاعر رموز ثقافية وجغرافية للدلالة على هذا التعدد والتمازج والانصهار في الهوية السودانية مثل رمزي ( الغابة والصحراء ) والنخلة والأبنوس في إشارة إلى العنصريين العربي والأفريقي . ومثل بعض الشعائر الدينية كالمصلى والإبريق والمسبحة والثور المقدس . بالإضافة إلى طقوس وتقاليد أخرى : " ذلك يخطر في جلد الفهد وهذا يسطع في قمصان الماء " . وجلد الفهد كما يقول في الهوامش ، لباس قداسة وطقوس عند الدينكا . وقمصان الماء ، فيها إشارة كما يقول إلى درعيات أبى العلاء المعرى حيث يقول : " على أمم إني رأيتك لابسا قميصا يحاكى الماء إن لم يساوره " . وعن رمزية ( الغابة والصحراء ) للهوية السودانية ، يقول في النشيد الأول – البحر :

    وكانت الغابة والصحراء
    امرأة عارية تنام
    على سرير البرق في انتظار
    ثورها الإلهي الذي يزور في الظلام

    والثور الإلهي ، كما يقول في الهوامش ، هو الثور المقدس عند الدينكا . ولا تخفي إشارته إلى البعد الروحي في تكوين الوجدان السوداني .

    لكن الذات الشاعرة في سعيها للبحث عن أصولها الثقافية والأثنية لا تقف عند أعتاب مملكة سنار كما قد يظن البعض ، إنما تتخذ من سنار مرتكزا للانطلاق نحو جذور أبعد من ذلك حيث الحضارة المروية والحضارات النوبية القديمة وما قبلها ، وقد أشار إلى ذلك في قوله : " فأحتمى كالنطفة الأولي .. زهرة وثعبانا مقدسا " والزهرة والثعبان المقدس إشارة إلى الحضارات النوبية القديمة حيث " كانت الآلهة في بعض نقوش مروى القديمة تصور منبثقة من زهرة الثالوث المقدسة ، وهنالك نقوش كثيرة يظهر فيها الثعبان المقدس حارسا للموتى أو ملتفا على الأضرحة أو طالعا من تلك الزهرة " . (7)

    ولما كان سؤال الهوية في الثقافة السودانية سؤال مغرى ومثير للجدل ، فإن جل الحديث النقدى عن القصيدة انحصر في هذا المستوى من القصيدة بل كاد الحديث أن ينحصر فقط في حوار الذات الشاعرة مع نفسها : بدوي أنت ؟ - لا ، من بلاد الزنج ؟ - لا " ويغفل الحديث عن المستوى الثالث الذي لا تكتمل دائرة المعاني الا به إلا وهو المستوى ( الاشراقي ) على حد تعبير دانتي وهو المستوى الإنساني والوجودي الأشمل .

    المعني الاشراقي - الوجود الميتافيزيقي

    عن المعنى الاشراقي وهو المعنى الثالث الذي يورده الشاعر لسنار في الهوامش ، يقول عبد الحي : " .. ربما كانت سنار ، بداءة . الأشياء هنا هي كما في السماء " . (

    وكان الشاعر قد دبج القصيدة بخبر عن الشيخ الصوفي أبى يزيد البسطامى نقله عن ( الفتوحات الملكية ) للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي ، وقد جاء في الخبر :

    " يا أبا يزيد ، ما أخرجك عن وطنك ، قال : طلب الحق ، قال : الذي تطلبه قد تركته ببسطام فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتـح له " . هذا النص الذي أورده الشاعر عن أبى يزيد البسطامي يمثل مفتاحا رئيسيا ذو دلالة محورية للقصيدة . فهناك عودة وهنا عودة ، هنا عودة إلى بسطام وهناك عودة إلى سنار . فهل قصد الشاعر بإيراد خبر أبى يزيد تنبيهنا منذ البداية إلى أن العودة إلى بسطام مماثلة للعودة إلى سنار ؟ .

    وأوضح أن العودة إلى بسطام في مستواها الظاهري هي عودة إلى المكان الوطن . ولكنها في الحقيقة عودة إلى مستوى آخر ، فعند خروج أبى يزيد من وطنه طلبا للحق هتف له هاتف أن الحق الذي يبحث عنه قد تركه خلفه بوطنه بسطام . فعاد أبو يزيد أدراجه إلى بلده وسلك طريق التصوف بالمجاهدات والرياضيات الروحية حتى فتحت له أبواب العلوم وانكشفت له الحجب والأستار فعرف الحق ا


    وفي طلب الحق يقول سقراط " أعرف نفسك " فالمعرفة الحقة عنده معرفة النفس . وعند أفلاطون المعرفة مركوزة في النفس منذ الأزل ولكن النفس نسيت ما تعلمته بالسقوط في الزمن بالخطيئة – والتعلم ما هو إلا تذكر لهذه المعرفة الموروثة بإزالة الصدأ الذي تراكم عليها فحجبها . ويقول القرآن : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " .

    إذن العودة إلى بسطام / سنار في مستواها الأفقي ، أي مستوى " آيات الأفاق " حسب الآية القرآنية هي عودة إلى المكان / الوطن . أما في مستواها الرأسي ، مستوى " آيات النفوس " عودة إلى الذات أو النفس في أصلها الأول قبل سقوطها في سجن الجسد .

    فالنفس في الموروث الصوفي ، ذات أصل إلهي " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " فالله هنا والآن . والحقيقة كامنة في أعماق النفس البشرية وبعد سقوط الإنسان من ( مملكة البراءة ) بتعبير عبد الحي ، ووقوعه في الخطيئة بالتجربة ، انطمست تلك الحقيقة في قلبه . " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " وانبثاق شمس الحقيقة وتجليها مرة أخرى رهين بإزالة الرين أو الصدأ الذي علق بالقلب . ويكون ذلك عند المتصوفة بالمجاهدات الروحية فيحدث الكشف والشهود الذاتي ويكون بالتأمل عند الفلاسفة فيحدث الإشراق . وفي إشارة إلى ذلك يقول الشاعر في نشيد الصبح ، في نهايات القصيدة :-

    مرحى تطل الشمس هذا الصبح
    من أفق القبول
    وأقول يا شمس القبول
    توهجي في القلب
    صفيني ، وصفي من غبار داكن
    لغتي ، غنائي

    وبانبثاق شمس الحقيقة في القلب ، يتم القبول ويفتح للشاعر كما فتح لأبي يزيد البسطامي وتكون ( العودة ) إلى الوحـدة الأولى والحضـور الأنقـى . أن ( العودة إلى سنار ) في هذا المستوى الاشراقي ، إذا استعرنا عبد الحي الناقد في ( الرؤيا والكلمات ) هي : " استشفاف لرؤية فرودسية " (9) في أصل الوجود الإنساني . والعودة إليها عودة الذات إلى فردوسها الأول الذي انفصلت عنه بهبوطها من مملكة البراءة وسقوطها في الزمن بالخطيئة . القصيدة بهذا المعنى الاشراقي محاولة لاستعادة الفردوس المفقود ومحاولة لالتئام ذلك الانقسام الذي حدث في بنية الذات الشاعرة نتيجة انفصالها عن عالمها الأول حيث " الأشياء هنا هي كما في السماء " :

    الشمس تسبح في نقاء حضورها
    والأشياء تبحر في قداستها
    الحميمة وتموج في دعة ولا شئ نشاز
    كل شئ مقطع ، واشارة
    تمتد من وتر إلى وتر على قيثارة الأرض العظيمة .

    أن الشاعر كما يقول التجاني يوسف بشير " يفتح الكون بالقصيد .. " (10) وهذا الفتح الشعري كما يقول عبد الحي : " تأصيل للوجود الإنساني في الكون ، في اللغة . أنه سعى دائب لاكتشاف وعودة للوحدة الأصلية التي تصل فيها آفاق النفس مع آفاق العالم والكون اتصالا خلاقا ، مستمرا ، متجددا متولدا ، تلك العودة الدائمة للوحدة الأصلية ، نقيض لاغتراب الوعي وانقسامه " . (11)

    لذلك يمكن القول أن ( العودة إلى سنار ) في مستواها الظاهري الأفقي ، عودة إلى المكان ، الوطن ، والجذور . أما في مستواها الاشراقى أو الاستبطاني ، فهي عودة إلى الذات في وحدتها الأولي حيث تتصل آفاق النفس بآفاق العالم اتصالات خلاقا . وينفتح المستويان على بعضهما البعض " حيث تاريخ الذات هو تاريخ القبيلة " . (12)

    وكان أفق الوجه والقناع شكلا واحدا :
    يزهر في سلطنة البراءة
    وحمأة البداءة
    على حدود النور والظلمة
    بين الصحو والمنام

    الشيخ إسماعيل الوجه والقناع

    في طريق ( العودة إلى سنار ) في مستوياتها الثلاثة من الوجود تتلبس الذات الشاعرة قناعا خفيا . هذا القناع هو شخصية الشيخ صاحب الربابة . وكنا قد أشرنا في حديثنا عن النظم الجمالية التي تتكون منها وحدة الرؤيا ، إلى أسطورة الشيخ إسماعيل كأحد أهم النظم الجمالية لعالم عبد الحي الشعري . الحقيقة أن أسطورة الشيخ إسماعيل هي بالأهمية بمكان بحيث يمكن أن نعتبرها المفتاح الرئيسي ليس لقصيدة ( العودة إلي سنار ) فحسب بل لسائر عوالمه الشعرية .

    وكان عبد الحي الناقد قد لفت الأنظار إلى أهمية الدلالة المركزية لشخصية الشيخ إسماعيل في تجربته الشعرية في الدراسة القيمة التي كتبها تحت عنوان " الشيخ إسماعيل صاحب الربابة – التاريخ والنموذج الأسطوري لمفهوم الشاعر " . وبالرغم من أن الدراسة قد كتبت من وجهة نظر ميثلوجية وانثروبولوجية بحتة حيث لم يشر فيها إطلاقا إلى علاقة أسطورة الشيخ إسماعيل بقصيدة ( العودة إلى سنار ) أو بأي قصيدة أخرى من قصائده بل أنه لم يتحدث من قريب أو بعيد عن تجربته الشعرية في هذه الدراسة ، إلا أنه يبدو أن الدافع وراء كتابة هذه المقالة القيمة هو تنبيه الدارسين ولو بطريقة غير مباشرة إلى منابع عالمه الإبداعي .

    وعن قصة الشيخ إسماعيل ورد في كتاب ( الطبقات ) لمحمد النور ضيف الله ( 1727 – 1810م ) ما يلي : (13)

    "ولد للشيخ مكي الدقلاش ، أحد متصوفة سنار ، ابن من امرأة سقرناوية من تقلي ، اسمه إسماعيل . وقد تكلم الصبي وما يزال في المهد . كبر الصبي وحفظ القرآن وتعلم الفقه والتوحيد وشرع في تدريس علوم الدين .
    كان شاعرا وله قصائد في مدح النبي (ص) وله رؤي تجلى له فيـها النبي . وله كلام يتغزل فيه بمدح النساء من قبل تهجة مثل ليلى وسعدى في كلام المتقدمين .
    وكان إذا استبدت به حالة النشوة والجذب ، يجمع الصبايا وكل عروس ، للرقص في فناء داره . ويجئ هو بربابته التي عرف بها يضرب عليها ، كل ضربة لها نغمة يفيق بها المجنون ، وتذهل منها العقول وتطرب لها الحيوانات والجمادات . وكانت الربابة إذا تركت في الشمس تحس باقتراب صاحبها منها فترسل أنغامها دون أن يضرب عليها أحد .
    وقد يركب الشيخ فرسه المكسوة بالحرير ، المزينة بالأجراس ترقص به ويغنى لها ، وبالجملة هذا الرجل من ( الملاماتيه ) .
    وقد قتله الشلك أثناء عبوره نهر النيل الأبيض عند منطقة أليس - الكوه مع بعض مريديه الذين رباهم على نغمته . "

    وعن رؤيته الفكرية والفنية لشخصية الشيخ إسماعيل يقـول عبـد الحي :
    " الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، مثل كثير من الشخصيات المذكورة في كتاب الطبقات ، شخصية أمتزج فيها الواقع التاريخي بالأسطورة ، بل هو حقا شخصية كادت أن تتلاشى فيها العناصر إلى شخصية ميثولوجية تكونت في خيال الجماعة وخرجت معبرة عن نوع من التوازن الضروري للحياة واستمرار تلك الثقافة في تلك الجماعة " .

    لذلك فهو يقول أن هدفه من هذا البحث " ليس تحقيق الوجود التاريخي للشيخ إسماعيل بإثباته أو نقضه ، بل إظهار الوجود الأسطوري في شخصية واستشفاف الصورة الجوهرية التي تركزت فيها العناصر وأصبحت نموذجا أسطوريا أعلى لها " . (14)

    ومن الإشارات والإيحاءات الواردة عن سيرة الشيخ إسماعيل فـي قصيدة ( العودة إلى سنار ) قول الشاعر :

    أسمع صوت امرأة
    تفتح باب الجبل الصامت
    لتولد بين الحرحر والأجراس
    شفة ، خمرا ، قيثارا
    جسدا ينضج بين ذراعي شيخ
    يعرف خمر الله وخمر الناس

    وأهم ما يميز الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، هو أنه تجتمع فيه كل الخصائص الرمزية التي تجعله منه معادلا موضوعيا لرؤيا الذات الشاعرة وبالتالي تجعله نموذجا للخيال الجمعي والذاكرة الثقافية للأمة . فهو بجانب أنه صوفي وشاعر ، فأنه بحكم مولده مؤهل أيضا لتجسيد ازدواجية الهوية الأثنية للذات السودانية . فوالده الشيخ مكي الدقلاش من كبار متصوفة سنار وأمه من قبيلة السقارنج من جبال النوبة . وفي هذا النسق الرمزي للقصة ، يقول عبد الحي " يكتسب هذا الزواج العرقي مغزى ثقافيا ذا أهمية . فالثقافة تخلق في أساطيرها المعادلات التي تعبر عن جوهرها ، تكوينها ، وتحفظ التوازن بين عناصرها المختلفة والخروج بها من صراعاتها وتناقضاتها ، وترتفع بها المعادلات الرمزية على تناقضها وعدم النسق فيها " . وعلى هذا المستوى من الفهم نجد " في ميلاد الشيخ إسماعيل صاحب الربابة معادلة رمزية تعبر عن زواج الثقافة العربية بالثقافة الإفريقية الذي أنتج الثقافة السودانية . هذه المعادلة الكبرى يمكن أن تحلل إلي معادلات أصغر منها تعبر كل منها عن جانب من جوانب ذلك الـزواج الثقافي " . (15)

    ويقصد عبد الحي بالثقافة الأفريقية مجموع الثقافات التي كانت سائدة قبل الثقافة العربية الإسلامية والتي ما زالت تسود ، ويرى أن شخصية الشيخ إسماعيل نموذج رمزي استوعب كل الثقافات حيث تلتقي وتتقاطع عنده الثقافات النوبية القديمة بالثقافة الإغريقية والرومانية والمسيحية والإسلامية . لذلك فهو يرى أن سيرة الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ترجع إلى أصول في الثقافة السودانية أبعد من الثقافة السنارية . فيقيم الوشائج بينها وبين أسطورة أورفيوس ذات الأصول اليونانية والرومانية ويربط بينها وبين قصة مزامير داوود في ( الكتاب المقدس ) وبينها وبين قصة السيد المسيح في الإنجيل والقرآن الكريم . " فالشيخ إسماعيل صاحب الربابة أورفيوس إفريقي عربي ، تركزت في شخصيته صورة الشاعر في الثقافة السودانية التي الفت بين تلك العناصر المتنافرة المتصارعة وصهرتها حتى التحمت أجزاؤها نموذجا أعلى لها " . (16)

    وأورفيوس في الأسطورة اليونانية القديمة هو ابن أبوللو ، إله الشمس والفن وقد أشتهر بقيثارته ( ربابته ) التي أهداها إليه والده وألهمه الشعر والعزف على الموسيقى . كان يعزف على قيثارته فيسحر كل من يسمعه ويروض بها الحيوانات الآبدة ويحرك الأشجار والحجارة الصماء . تزوج أورفيوس من معشوقته ، يوربيدس ، التي ماتت من لدغة حية سامة أثناء هروبها من اريسايوس الذي أراد أن يقضى منا وطرا عنوة . ولكن أورفيوس نزل إلى مملكة الموتى واستطاع بموسيقاه الساحرة الحزينة أن يستميل عطف ملك الموتى فسمح له أن يأخذ يوريديس ويعود بها إلى ( عالم الشمس ) الدنيا مرة أخرى ، ولكن أشترط أن تتبع يوريدس أورفيوس ويسير هو أمامها دون أن يلتفت وراءه أبدا حتى يعبرا مملكة الموت إلى العالم ، ولكن ما أن كادا أن يخرجا إلى عالم الشمس حتى حانت من أورفيوس التفاته خلفه ليتأكد من أنها ما زالت تمشى وراءه ، فما كان منها إلا أن تلاشت من أمام ناظريه واختفت إلى الأبد .

    وكان أورفيوس بجانب أنه شاعر وموسيقى ساحر ، كان شيخ ديانـة سرية ( صوفية ) وكان له مريديون وقد وقتله أعداؤه ومزقوا أوصاله وألقوا برأسه في نهر ( هيبروس ) فظل طافيا فوق الأمواج يغنى للبحر العريض . أما بربابته فقد وارتفعت برجا بين أبراج النجوم . (17)

    وأوجه الشبه بين أسطورتي أورفيوس والشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، كما يقول عبد الحي ، " قوية ، فكل منهما شاعر وموسيقار ، لفنه قوة سحرية خارقة يسيطر بها على العالم . ولذلك القوة بعد ميتافيزيقي يتجلى في ديانة أورفيوس الصوفية " . أما موت الشيخ إسماعيل فيقول هو في جوهره موت أورفيوس . فالعلاقة بين نهر هيبروس الذي ألقى فيه برأس أورفيوس ونهر النيل الأبيض الذي ضم في أمواجه جسد الشيخ إسماعيل بعد أن قتله الشلك دليلا على الشبه القوى بين الأسطورتين . كما يشير إلى وجه شبه آخر قوى بين القصتين هو الشمس . فربابة الشيخ إسماعيل عندما توضع في الشمس وتسمع صوت صاحبها ترسل أنغامها دون أن يمسها أحد ، وهذا يأخذنا أخذا كما يقول إلى قيثارة أورفيوس التي أهداها له والده أبوللو إله الشمس .

    وعن موت الشيخ إسماعيل على النيل الذي يستدعى إلى الذاكرة موت أورفيوس على نهر هيبروس ، تأتي الإشارة في قصيدة ( العودة إلى سنار ) في قول الشاعر :

    أرواح جدودي تخرج من
    فضة أحلام النهر ومن
    ليل الأسماء
    تتقمص أجساد الأطفال
    تنفخ في رئة المداح
    وتضرب بالساعد
    عبر ذراع الطبال

    وتتكرر هذه الصورة الشعرية أيضا في ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) في قصيدة طويلة تحمل عنوان " حياة وموت الشيخ إسماعيل صاحب الربابة " حيث يقول الشاعر :

    الفرس البيضاء
    تميس في الحرحر والأجراس
    على حصى الينبوع يستفيق طفل الماء
    ويفتح الحراس
    أبواب ( سنار ) لكي يدخل موكب الغناء
    ويصعد النهر إلى السماء
    عبر براري جرحه الطويل

    وعلى الرغم من أن عبد الحي يقرر في مقالته أن أسطورة الشيخ إسماعيل أصولها إغريقية ورومانية نتيجة لانفتاح الحضارة المروية القديمة على الحضارة اليونانية إلا أنه يعود ويشير إلى معلومة في غاية الأهمية وهي أن صحت فأنه من شأنها أن تقلب الاعتقاد السائد بأولوية الحضارة اليونانية على الحضارات القديمة ولا سيما حضارات وادي النيل رأسا على عقب . يقول عبد الحي أن هيرودت المؤرخ اليوناني ذكر في تاريخه ، " أن الإله حورس ابن أوزيريس هو نفسه الإله ابوللو عند اليونان . وأوزيريس تقابل في اللغة اليونانية ديونيسوس . ويعتقد اليونان أن زيوس كبير الآلهة ، خاط في فخديه ديونيسوس وكنا وليد أتى به إلى مدينة ( نيسا ) التي تقع ما وراء مصر في نبته ، في جبل البركل المقدس " . ويضيف هيرودت أن سكان " مروي عاصمة الأثيوبيين أي النوبة يعبدون زيوس وديونيسوس المرويين " . (17)

    أما عن أثر الثقافة المسيحية التي ازدهرت في عهد مملكتي المقرة وعلوة السودانيتين ، في سيرة الشيخ إسماعيل ، فيقول أنه يظهر في قصتي النبي داوود في ( سفر المزامير ) بالكتاب المقدس وفي قصة تكلم السيد المسيح في المهد . وكذلك يظهر في قصة الشيخ مكي والد الشيخ إسماعيل الذي قطع البحر ( النيل ) مشيا على الماء هو وتلاميذه عندما لم يجد مركبا يعدى به . وقصة المشي على الماء واحدة من معجزات السيد المسيح التي ورد ذكرها في الإنجيل .

    أعتقد أنه وضحت الآن الدلالة الرمزية للشيخ إسماعيل كشخصية نموذجية امتزجت فيها كل العناصر الثقافية التي شكلت الثقافة السودانية عبر العصور . لذلك فأن على الذين يظنون أن صاحب ( العودة إلى سنار ) ورفاقه ، يعتقدون أن تاريخ السودان يبدأ مع دخول العرب المسلمين ، عليهم أن يراجعوا مواقفهم . وبالتالي فإن الذين يتساءلون : لماذا العودة إلى سنار وقد عرف تاريخ السودان أكثر من ماضي مجيد مثل مروي ودنقلا وسوبا ، فتساءلهم ليس له ما يبرره فسنار هي اللحظة الثقافية الحاضرة التي استوعبت اللحظات الثقافية السابقة لها اللحظات التي تشكلت والتي ما زالت في التشكل لذلك فإن العودة إلى مروي أو دنقلا أو سوبا المسيحية لا تتم إلا عبر بوابة العودة إلى سنار أولا ، وتجاهل سنار أو القفز فوقها هو تجاهل للحاضر وقفز فوقه ومغالطة للتاريخ والواقع .

    تقلبات الذات الشاعرة في العوالم :

    إذا كانت لسنار ، في الرؤيا الشعرية ، ثلاثة معاني تمثل ثلاث مستويات من الوجود ، فإن للشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، بوصفه الناظم الجمالي والمعادل الموضوعي لهذه الرؤيا ، أيضا ثلاثة مستويات من الوجود تتطابق مع المستويات الثلاثة لوجود سنار . ففي المستوى الحرفي هو صاحب السيرة الواردة في كتاب ( الطبقات ) وفي المستوى المجازى يرمز للتنوع الثقافي والاثني في الذات السودانية . أما في مستواه ( الاشراقي ) أو الميتافيزيقي من الوجود فيشير إلى أصل الوجود الإنساني . هذا الوجود الذي قال عنه عبد الحي فـي هوامـش ( العودة إلى سنار ) : " بداءة .. اسما يتجوهر في مملكة البراءة .. الأشياء هي كما في السماء " .

    في هذا المستوى الميتافيزيقي ( الاستيطاني ) من سلم الوجود الإنساني يكتب عبد الحي حاشية بمثابة مقدمة تعريفية قصيرة عن القصيدة الطويلة التي تحمل عنوان ( موت وحياة الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ) والتي تحتل نصف مساحة ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) تقريبا ، يقول : " الشيخ إسماعيل .. لعله النموذج الأول للشاعر ، المتجدد عبر العصور تاريخه ومستقبله في ذاته ، أرضه سماؤه ، أسماؤه أفعاله ، تتحد طفولته بطفولة الكون ، ميلاد الحضارة ، يشهد حيويتها وشخوصتها وتجددها .. ذلك المركز الذي يجمع في نفسه دائرة التاريخ الزماني والروحي للإنسان " (19) وهنا يتجاوز الشيخ إسماعيل حدود الزمان والمكان وينفتح على المطلق وهنا عبر قناع الشيخ إسماعيل تتجاوز الذات الشـاعرة ، حدود الزمان والمكان وتنفتح على المطلق وتحقق ، حسب المصطلح الصوفي ، مقام الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية ، التجلي الأولي للمطلق حيث تستعيد الذات وجودها الأول ، الوجود المحض في عالم الذر، قبل أن تسقط في الجسد الترابي . وتأتي الإشارة إلى ذلك في ( العودة إلى سنار ) في قوله :

    خرافة تعود
    وهلة وهلة
    إلى نطفتها الأشياء
    حيث يرجع النشيد
    لشكله القديم
    قبل أن يسمى أو يسمو
    في تجلى ذاته الفريد
    من قبل أن يكون
    غير ما يكون
    قبل أن تجوف الحروف شكله الجديد

    كأنما تطمع الذات الشاعرة من خلال تماهيها مع شخصية الشيخ إسماعيل " .. ذلك المركز الذي يجمع في نفسه دائرة التاريخ الزماني والروحي للإنسان " أن تعيد تمثيل واعادة إنتاج قصة خلق العالم حيث تتحول قصة الخلق إلى قصة عن تاريخ الذات الشاعرة تستعيد فيها الوحدة الأصلية للكون حيث تتصل آفاق النفس بآفاق العالم اتصالا خلاقا مستمرا متجددا . وتأتي الإشارة إلى ذلك صريحة في عناوين بعض القصائد بديوان ( حديقة الورد ) مثل قصيدة : ( الشيخ إسماعيل في منازل الشمس والقمر ) . وحتى الأناشيد الخمسة التي تتكون منها قصيدة العودة إلى سنار وهي ، البحر والمدينة والليل والحلم والصبح ، ما هي إلا مراحل مختلفة لأطوار الذات الشاعرة وتقلباتها في العوالم فالبحر ( الماء ) أصل الوجود ، والمدينة إشارة إلى بداية الحياة على الأرض ( اليابسة ) أما الليل والحلم والصبح بجانب أنها تشير إلى حركة الزمن ودورانه إلا أنها توحي في مستوى من مستوياتها إلى سعى الذات الشاعرة وتأرجحها بين النسبي والمطلق فـي طريـق ( العودة ) إلى تحقيق وحدتها الأصلية .

    وهنا تلتقي الدلالة الرمزية لأسطورة السمندل مع الدلالة الرمزية لشخصية الشيخ إسماعيل . فالسمندل بما لديه من قدرة على التجدد والاستمرارية يتماهى مع الذات الشاعرة ويتحول إلى نموذج إنساني منسرب في الوجود منذ بدء الخليقة، يشهد موكب الحياة المتدفق أبدا ، في صعوده وانحداره ، يشهد ميلاد الحضارات واندثارها . وتأتي الإشارة إلى ذلك في قصيدة ( السمندل ملك النهار ) من ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) .

    أنا السمندل
    يعرفني الغابر والحاضر والمستقبل
    مغنيا مستهترا بين مغاني
    العالم المندثرة
    وزهرة دامية
    في بطن أنثى في الدجى منتظرة

    ولارتباطه المصيري بالنار ( يجدد حياته بالاحتراق بالنار ) ينفتح السمندل في مستوى آخر على رمزية الشيخ إسماعيل حيث يرمز إلى المطلق فالنار في الأدب الصوفي ( نار موسى ) ترمز إلى تجلى الذات الإلهية . فالصوفي ، يفى جوهر ذاته بفناء الجسد واحتراقه بنار العشق الإلهي . والسمندل يجدد حياته ويضمن استمرارية باحتراقه في النار . النار هنا في كل الأحوال جواز ( العودة ) إلى عالم الخلود والحياة الكاملة ، " وأن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " فإماتة الجسد الترابي وفناء÷ في النار المقدسة ، ثمن الشعر والمعرفة الحقة المفضية إلى الحياة المطلقة ، وإلى ذلك تأتي الإشارة في قصيدة ( الشيخ إسماعيل ) بديوانه ( حديقة الورد ) :

    الشعر فقر ، والفقر إشراق
    والإشراق معرفة لا تدرك
    الا بين النطع والسيف

    والآن أرجو أن نكون قد وفقنا بهذه المساهمة المتواضعة في وضع أيدينا على المفاتيح الرئيسية التي تساعد على استخلاص العناصر الجمالية التي تتكون منها وخدة الرؤيا في التجربة الشعرية لمحمد عبد الحي . فالشعر بلا رؤيا ضوضاء فارغة وهو إن كان مقصودا لذاته لا يعول عليـه أو كمـا محمـد عبـد الحـي .

    المصادر :

    1- العودة إلى سنار – محمد عبد الحي – الطبعة الثانية 1985م
    2- السمندل يغنى – محمد عبد الحي – مصلحة الثقافة – الخرطوم 1977م
    3- معلقة الإشارات – محمد عبد الحي – مصلحة الثقافة – الخرطوم 1977م
    4- حديقة الورد الأخيرة – محمد عبد الحي – دار الثقافة للنشر – الخرطوم 1984م
    5- الرؤيا والكلمات – قراءة في شعر التجاني يوسف بشير – محمد عبد الحي دار الفكر – بيروت – الطبعة الأولي 1984م
    6- الشيخ إسماعيل صاحب الربابة – محمد عبد الحي – مجلة حروف – دار جامعة الخرطوم للنشر – العدد الأول – سبتمبر 1990م
    7- رسالة محمد عبد الحي للدكتور خالد المبارك – مجلة حروف – العدد الثاني 1991م



    الهوامش :

    (1) الرؤيا والكلمات – محمد عبد الحي – ص 10 .
    (2) المصدر السابق ص 47 .
    (3) رسالة محمد عبد الحي إلى د. خالد المبارك – مجلة حروف – العدد الأول.
    (4) المصدر السابق .
    (5) المصدر السابق .
    (6) المصدر السابق .
    (7) ديوان ( العودة إلى سنار ) ص 50 .
    ( المصدر السابق .
    (9) الرؤيا والكلمات – محمد عبد الحي ص 16 .
    (10) ديوان ( إشراقة ) – التجاني يوسف بشير – قصيدة الأدب القومي .
    (11) الرؤيا والكلمات – محمد عبد الحي ص 10 .
    (12) رسالة محمد عبد الحي إلى خالد المبارك .
    (13) الشيخ إسماعيل – محمد عبد الحي – مجلة حروف – العدد الأول ص 7 .
    (14) المصدر السابق .
    (15) المصدر السابق .
    (16) المصدر السابق .
    (17) المصدر السابق .
    (1 أثينا السوداء – مارثن برتال – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 1997م .
    (19) ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) صفحة 33 .
    عبد المنعم عجب الفيا


    ________________________________
    *نشرت بمجلة كتابات سودانية،العددالتاسع سبتمبر 1999-تحت عنوان:نحو رؤيا منهجية لقراءة
    شعر محمد عبدالحي




    --------------------------------------------------------------------------------
    عبده عبدالله
                  

العنوان الكاتب Date
السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-12-03, 12:32 PM
  Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-12-03, 12:38 PM
    Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-12-03, 12:40 PM
      Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-12-03, 12:43 PM
        العوده الي سنار HOPELESS08-12-03, 12:49 PM
          Re: العوده الي سنار HOPELESS08-12-03, 12:52 PM
            Re: العوده الي سنار HOPELESS08-12-03, 12:56 PM
              حديقة الورد الأخير HOPELESS08-12-03, 12:59 PM
                الله في زمن العنف HOPELESS08-12-03, 01:06 PM
                  Re: الله في زمن العنف HOPELESS08-12-03, 01:09 PM
                    Re: الله في زمن العنف HOPELESS08-12-03, 01:13 PM
                      Re: الله في زمن العنف HOPELESS08-12-03, 01:16 PM
                        Re: الله في زمن العنف HOPELESS08-12-03, 01:19 PM
                          Re: الله في زمن العنف HOPELESS08-12-03, 01:23 PM
                            Re: الله في زمن العنف HOPELESS08-12-03, 01:26 PM
                              Re: الله في زمن العنف HOPELESS08-12-03, 01:31 PM
  Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب sentimental08-12-03, 03:17 PM
    Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-13-03, 01:04 PM
      Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-13-03, 01:12 PM
        Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-13-03, 01:19 PM
          Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-13-03, 01:39 PM
            Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب bayan08-13-03, 03:02 PM
              Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-15-03, 06:10 PM
  Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب Remo08-15-03, 06:45 PM
    Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-15-03, 09:13 PM
  Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب sentimental08-19-03, 04:00 PM
    Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-24-03, 10:40 AM
      Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب bayan08-25-03, 04:02 AM
  Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب sentimental08-26-03, 08:57 AM
    Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب HOPELESS08-26-03, 09:45 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de